ج3. الفرج بعد الشدة
المؤلف : القاضي أبو علي المحسن بن علي التنوخي
ووقع إلي
هذا الخبر، من طريق آخر، فحدثني طلحة بن محمد بن جعفر الشاهد، وقرأته بالإجازة عن
طلحة، قال: حدثني أبو الحسين عبد الواحد بن محمد الخصيبي، قال: حدثني أبو علي أحمد
بن إسماعيل نطاحة، قال: حدثني أبو سهل الرازي القاضي، قال: حدثنا أبو حسان الزيادي
القاضي، قال: أضقت إضاقة بلغت بها إلى الغاية، حتى ألح علي الخباز، والقصاب،
والبقال، وسائر المعاملين، ولم تبق لي حيلة.
فإني يوماً من الأيام على تلك الحال، مفكراً في أمري،
كيف أعمل، وكيف أحتال، إذ دخل علي غلامي، فقال: بالباب حاج يستأذن عليك.
فقلت: أدخله.
فدخل علي رجل خراساني، فسلم، وقال: أنت أبو حسان ؟ قلت:
نعم، فما حاجتك ؟ قال: أنا رجل غريب، أريد الحج، ومعي جملة مالي، وهو عشرة آلاف درهم،
وقد أحضرته في بدرة معي أسألك أن تقبضها وتدعها قبلك، إلى أن قضي حجي، وأرجع، فإني
غريب، وما أعرف أحداً في هذا البلد.
فقلت: هات البدرة.
فسلمها إلي، وخرج بعد أن وزن ما فيها.
فلما خرج، فتحتها على الفور، وأحضرت المعاملين، فقضيت
جميع ديوني، واتسعت بالباقي، وقلت: أضمنها في مالي إلى أن يعود من الحج، وإلى أن
يجيء، يأتي الله بفرج من عنده.
فكنت في يومي ذاك، في سعة، وأنا فرح، لست أشك في خروج
الخراساني.
فلما أصبحت من الغد، دخل علي الغلام، فقال: الخراساني
الذي أودعك البدرة، بالباب.
فقلت: أدخله.
فدخل، وقال: اعلم أني كنت عازماً على الحج، ثم ورد علي
خبر وفاة أبي، وقد عزمت على الرجوع إلى بلدي فتفضل علي بإعادة البدرة التي أعطيتك
أمس.
فورد علي أمر عظيم، لم يرد علي مثله قط، وتحيرت، ولم أدر
بما أجيبه، ثم فكرت، فقلت: ماذا أقول له ؟ إن جحدته، قدمني إلى القاضي، واستحلفني
فكانت الفضيحة في الدنيا والآخرة والهتك، وإن دافعته، صاح وهتكني.
فقلت له:
نعم، عافاك الله، إن منزلي هذا ليس بالحريز، ولما أخذت
منك البدرة، أنفذتها إلى موضع أحرز منه، فتعود إلي غداً، لأسلمها إليك.
فانصرف، وبقيت متحيراً، لا أدري ما أعمل، وعظم علي الأمر
جداً، فأدركني الليل، وفكرت في بكور الخراساني، فلم يأخذني النوم، ولا قدرت على
الغمض.
فقمت إلى الغلام، فقلت: أسرج البغلة.
فقال:
يا مولاي، هذا أول الليل، إلى أين تمضي ؟ فرجعت إلى
فراشي، فإذا النوم ممتنع علي، فلم أزل أقوم إلى الغلام، وهو يردني، حتى فعلت ذلك
مرات، وأنا لا يأخذني القرار.
وطلع الفجر، فأسرج الغلام البغلة، فركبت، وأنا لا أدري
إلى أين أتوجه، فطرحت عنان البغلة، وأقبلت أفكر وهي تسير، حتى بلغت الجسر فعدلت بي
إليه، فتركتها، فعبرت.
ثم قلت: إلى أين أعبر، إلى أين أتوجه ؟ ولكن إن رجعت،
رأيت الخراساني على بابي، ولكن أدعا تمضي حيث شاءت، فمضت البغلة.
فلما عبرت البغلة الجسر، أخذت بي يمنة، ناحية دار
المأمون، وتركتها، ومرت، فلم أزل كذلك إلى أن قربت من دار المأمون، والدنيا بعد
مظلمة.
فإذا فارس قد تلقاني، فنظر في وجهي، ثم سار وتركني، ثم رجع،
وقال: ألست أبا حسان الزيادي ؟ فقلت: بلى.
قال: إليك بعثت.
فقلت: ما تريد، رحمك الله، ومن بعث بك ؟ فقال: الأمير
الحسن بن سهل.
فقلت: وما يريد مني الحسن بن سهل ؟، ثم قلت: امض بنا،
فمضى حتى استأذن على الحسن بن سهل، فدخلت إليه.
فقال: يا أبا حسان، ما خبرك، وكيف حالك، ولم انقطعت عنا
؟ فقلت: لأسباب، وذهبت لأعتذر عن التخلف.
فقال: دع هذا عنك، أنت في لوثة، وفي أمر ما هو، فإني
رأيتك في النوم، في تخليط كثير.
فشرحت له قصتي، من أولها إلى أن لقيني صاحبه، ودخلت عليه.
فقال: لا يغمك الله يا أبا حسان، هذه بدرة للخراساني،
مكان بدرته، وهذه بدرة أخرى تتسع بها، فإذا نفدت، أعلمنا.
فرجعت من ساعتي، فدفعت للخراساني بدرته، واتسعت بالباقي،
وفرج الله عني، فله الحمد.
وحدثني بهذا الحديث أيضاً، أبو الفرج محمد بن جعفر، من
ولد صالح صاحب المصلى قال: حدثنا أبو القاسم علي بن محمد بن أبي حسان الزيادي، وكان
محدثاً ببغداد، ثقة، مشهوراً، قال: حدثني أبي، عن أبيه، قال:
كنت وليت
القضاء من قبل أبي يوسف القاضي رحمه الله، ثم صرفت، وتعطلت، وأضقت إضاقة شديدة، وركبني
دين فادح، لخباز، وبقال، وقصاب، وعطار، وبزاز، وغيرهم، حتى قطعوا معاملتي لكثرة
مالهم علي، وإياسهم من أن أقضيهم، فتضاعفت إضاقتي، واشتدت حيرتي.
فإني يوماً بمسجدي، قد صليت بأهله الغداة، ثم انفتلت
أدرس أصحابي الفقه إذ جاءني رجل خراساني، وذكر الحديث على نحو ما ذكره طلحة، إلا
أنه لم يقل فيه حملة: فإلى....
وقال أبو الفرج في حديثه: فلما بلغت مربعة الخرسي، استقبلني
موكب فيه شموع ونفاطات، قد أضاء منه الطريق، فصار كالنهار، فطلبت زقاقاً أستخفي
فيه، حتى يجوز الموكب، فلم أجد، فإذا برجل من الموكب، يقول: أبو حسان والله،
فتأملته، فإذا هو دينار بن عبد الله، فسلمت عليه.
فقال: إليك جئت، أرسل إلي أمير المؤمنين الساعة، وأمرني
أن أركب إليك بنفسي، وأحضره إياك.
فمضيت معه، حتى أدخلني على المأمون.
فقال لي المأمون: ما قصتك ؟ فإني رأيتك في النوم
البارحة، والنبي صلى الله عليه وسلم، يأمرني بإغاثتك.
فحدثته بحديثي.
فقال المأمون: أعطوا أبا حسان ثلاث بدر، وولاني الري،
وأمرني بالخروج إليها.
قال: فعدت إلى بيتي وما طلع الفجر، فلما كان وقت صلاتي في مسجدي،
خرجت، وإذا بالخراساني، فلما قضيت الصلاة، أدخلته إلى البيت، فأخرجت إليه البدر.
فلما رآها، قال: ما هذا ؟ فقصصت عليه القصة، وأعطيته
بدرة منها، فأخذها وانصرف.
وذكر محمد بن عبدوس، في كتاب الوزراء، في أخبار دينار بن
عبد الله: أن رسوله لقي أبا حسان في الطريق، فقال له: قسمت شيئاً على عيالنا،
فذكرت عيالك، فأنفذت إليك عشرة آلاف درهم، فأخذها، ورجع من الطريق، وباكره
الخراساني، فأعطاه إياها كلها، لأنه كان قد أنفق جميع مال الخراساني، ثم عاد من غد
إلى دينار، فعرفه، وشكره، وعرفه الحديث.
فقال: فكأنما قضينا الخراساني في ماله، ثم أمر له بعشرة
آلاف درهم أخرى، ولم يذكر ابن عبدوس في خبره ذكر المنام.
وحدثني أبي هذا الحديث في المذاكرة، قال: حدثني شيخ -
ذكره أبي وأنسيته أنا، عن أبي حسان الزيادي، بنحو ما ذكره محمد بن جعفر في حديثه،
إلا أنه قال فيه: إن الخراساني قال في حديثه لأبي حسان: إن رجع الحجاج ولم ترني
قد رجعت إليك، فاعلم أني هلكت، والبدرة هبة مني إليك، وإن رجعت فهي لي، ثم يتقارب لفظ
الحديثين، إلى أن لقيه في الجانب الشرقي قوم فلما رآهم تنحى عن طريقهم، فلما رأوه
بطيلسان، بادروا إليه، وقالوا له: أتعرف منزل رجل يقال له أبو حسان الزيادي ؟
فقال: أنا هو.
فقالوا له: أجب أمير المؤمنين، وحمل فأدخل إلى المأمون.
فقال له: من أنت ؟ فقال: رجل من أصحاب أبي يوسف القاضي
من الفقهاء وأصحاب الحديث.
قال: بأي شيء تكنى ؟ فقال: بأبي حسان.
فقال: بماذا تعرف ؟ فقال: بالزيادي، ولست منهم، وإنما
نزلت فيهم، فنسبت إليهم.
فقال: قصتك، فشرحت له قصتي.
فبكى بكاء شديداً، وقال: ويحك، ما تركني رسول الله أن
أنام بسببك، أتاني في أول الليل فقال: أغث أبا حسان الزيادي، فانتبهت ولم أعرفك،
واعتمدت السؤال عنك، وأثبت اسمك ونسبك ونمت، فأتاني، فقال كمقالته، فانتبهت
منزعجاً، ثم نمت، فأتاني، وقال: ويحك، أغث أبا حسان، فما تجاسرت على النوم، وأنا
ساهر، وقد بثثت في طلبك، ثم أعطاني عشرة آلاف درهم، وقال: هذه للخراساني، ثم أعطاني
عشرة آلاف درهم أخرى، وقال: اتسع بهذه، وأصلح أمرك، وعمر دارك، واشتر مركوباً
سرياً، وثياباً حسنة، وعبداً يمشي بين يدي دابتك، ثم أعطاني ثلاثين ألف درهم،
وقال: جهز بها بناتك، وزوجهن، فإذا كان يوم الموكب، فصر إلي، حتى أقلدك عملاً
جليلاً، وأحسن إليك.
فخرجت والمال بين يدي محمول، حتى أتيت مسجدي، فصليت
الغداة، والتفت فإذا الخراساني بالباب، فأدخلته إلى البيت، وأخرجت بدرة فدفعتها
إليه.
فقال: ليس هذه بدرتي، أريد مالي بعينه.
فقصصت عليه قصتي، فبكى، وقال: والله لو صدقتني في أول
الأمر عن خبرك لما طالبتك، وأما الآن، فوالله لا دخل مالي شيء من مال هؤلاء، وأنت
في حل، وانصرف.
فأصلحت أمري، وبكرت يوم الموكب إلى باب المأمون، فدخلت،
وهو جالس جلوساً عاماً.
فلما مثلت
بين يديه استدناني، ثم أخرج عهداً من تحت مصلاه، وقال: هذا عهدك على قضاء المدينة
الشرقية من الجانب الغربي من مدينة السلام، وقد أجريت عليك في كل شهر كذا وكذا،
فاتق الله تدم عليك عناية رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فعجب الناس من كلام المأمون وسألوني عن معناه، فأخبرتهم
الخبر، فانتشر.
فما زال أبو حسان قاضي الشرقية، إلى آخر أيام المأمون.
حبسه المهدي وأطلقه الرشيد
أخبرني محمد
بن الحسن بن المظفر، قال: حدثني أبو عمر محمد ابن عبد الواحد، قال: حدثني بشر بن موسى الأسدي، قال: أخبرني
بعض الهاشميين، قال: حبس المهدي يعقوب بن داود وزيره، فطال حبسه، فرأى في منامه،
كأن قائلاً يقول له: قل: يا رفيق، يا شفيق، أنت ربي الحقيق، ادفع عني الضيق، إنك على كل
شيء قدير.
قال: فقلتها، فما شعرت إلا بالأبواب تفتح، ثم أدخلت على
الرشيد، فقال: أتاني الذي أتاك، فاحمد الله عز وجل.
وخلى سبيلي.
وقد روي هذا الخبر، على خلاف هذا، فحدثنا علي بن أبي
الطيب، قال: حدثنا ابن الجراح، قال: حدثنا ابن أبي الدنيا، قال: حدثني خالد بن
يزيد الأزدي.
وأخبرني محمد بن الحسن بن المظفر، قال: أنبأنا أبو بكر
محمد بن محمد السرخسي، قال: حدثنا أبو عبد الله المقدمي القاضي، قال: حدثنا أبو محمد
المعي، قال: حدثنا خالد بن يزيد، قال: حدثنا عبد الله بن يعقوب بن داود، قال: قال لي أبي:
حبسني المهدي في بئر بنيت عليها قبة، فكنت فيها خمس عشرة سنة، حتى مضى صدر من
خلافة الرشيد، وكان يدلى لي في كل يوم رغيف وكوز ماء، وأؤذن بأوقات الصلاة، فلما
كان رأس ثلاث عشرة سنة، أتاني آت في منامي، فقال:
حنا على يوسفٍ ربٌّ فأخرجه ... من قعر جبّ وبئر حولها
غمم
فحمدت الله تعالى، وقلت: أتاني الفرج، ثم مكثت حولاً لا
أرى شيئاً، فلما كان رأس الحول، أتاني ذلك الآتي، فقال:
عسى فرجٌ يأتي به اللّه إنّه ... له كلّ يوم في خليقته
أمر
ثم أقمت حولا لا أرى شيئاً، ثم أتاني ذلك الآتي، بعد
الحول، فقال:
عسى الكرب الّذي أمسيت فيه ... يكون وراءه فرج قريب
فيأمن خائف ويفكّ عانٍ ... ويأتي أهله النائي الغريب
فلما أصبحت، نوديت، فظننت أني أؤذن بالصلاة، فدلي إلي
حبل وقيل لي: شد به وسطك، ففعلت، فأخرجوني، فلما تأملت الضوء، غشي بصري، فأخذ من
شعري، وألبست ثياباً، وأدخلت إلى مجلس، فقيل لي: سلم على أمير المؤمنين.
فقلت: السلام عليك يا أمير المؤمنين المهدي، ورحمة الله
وبركاته.
فقال: لست به.
فقلت: السلام عليك يا أمير المؤمنين الهادي، ورحمة الله
وبركاته.
فقال: لست به.
فقلت: السلام عليك يا أمير المؤمنين الرشيد، ورحمة الله
وبركاته.
فقال:
وعليك السلام، يا يعقوب بن داود، والله ما شفع أحد فيك
إلي، غير أني حملت الليلة صبية لي على عنقي، فذكرت حملك إياي على عنقك، فرثيت لك
من المحل الذي كنت فيه، فأخرجتك، ثم أكرمني، وقرب مجلسي.
ثم إن يحيى بن خالد تنكر لي، كأنه خاف أن أغلب على
الرشيد دونه، فخفته، فاستأذنت في الحج، فأذن لي.
فلم يزل مقيماً بمكة، حتى مات بها.
حدثني أبي في المذاكرة بإسناد له، وكان في الخبر: أن
المهدي حبسه في بئر، ووكل أمره إلى خادم له، واستحلفه أن لا يخبر بخبره أحداً من
الخلق كلهم، فكان الخادم الموكل به، يزل إليه في كل يوم رغيفين، ودورق ماء، منه
شربه وطهوره، وفي البئر موضع يتطهر فيه، فكان كذلك خمس عشرة سنة.
فلما كان بعد خمس عشرة سنة سأل عنه الرشيد فقيل له: سلم
إلى فلان الخادم، وذكر أنه مات.
فأحضر الخادم، وسأله عنه، فقال: إنه مات.
فاستثبته، فرأى كلاماً مختلفاً، فجد به، فقال: لا أعرف
غير موته، فهدده، فأقام على الإنكار، إلى أن استحضر الرشيد المقارع.
فقال: أنا أصدق، استحلفني أمير المؤمنين المهدي، ألا
أخبر بخبره أحداً من الخلق أبداً.
فأكرهه الرشيد، فدل على البئر التي هو فيها، ثم تتفق
الروايات.
قال: فلما وقف بين يدي الرشيد، وسلم، قال له الرشيد -
مخفياً كلامه - من أمير المؤمنين ؟ فقال: المهدي.
قال: قد مضى لحال سبيله، فسلم على أمير المؤمنين، فسلم.
فقال: قولوا له من أمير المؤمنين ؟ قال: الهادي
قال: قد
مضى لحال سبيله، فسلم على أمير المؤمنين، فسلم.
فقال: قولوا له، من أمير المؤمنين ؟ فقال: هارون، ثم
تتفق الروايتان.
وروي لي هذا الخبر على وجه آخر، وهو أضعف عندي، غير أني
أجيء به كما بلغني، فحدثت بروايات مختلفة، قالوا حدث عبد الله بن أيوب، قال: رأيت
يعقوب بن داود في الطواف، فقلت له: كيف كان سبب خروجك ؟ قال: كنت في المطبق حتى
خفت على بصري، فأتاني آت في منامي، فقال لي: يا يعقوب كيف ترى مكانك ؟ فقلت: وما سؤالك ؟ أما
ترى ما أنا فيه، أليس يكفيك هذا ؟ فقال: أسبغ الوضوء، وصل أربع ركعات، وقل: يا
حسن، يا مجمل، يا منعم، يا مفضل، يا ذا الفضل والنعم، يا عظيم، يا ذا العرش
العظيم، اجعل لي مما أنا فيه فرجاً ومخرجاً.
فانتبهت، وقلت في نفسي: هذا في النوم، ورجعت إلى نفسي،
فحفظت الدعاء، وقمت، فتوضأت، وصليت، ودعوت به، فلما أسفر الصبح، جاؤوني، فأخرجوني.
فقلت: ما دعاني إلا ليقتلني.
فلما رآني، أومأ إليهم، اذهبوا به إلى الحمام، فنظفوه،
وأتوني به، فطابت نفسي، وسجدت شكراً لله تعالى، فأطلت السجود.
فقالوا لي: قم.
فقال لهم الرشيد: دعوه ما دام ساجداً، ثم رفعت رأسي، ثم
مضى بي إلى الحمام.
فلما خرجت خلع علي، ثم ضرب بيده على ظهري، وقال لي: يا
يعقوب، لا يمنن عليك أحد بمنة، فما زلت منذ الليلة قلقاً بأمرك.
المهدي يطلق علوياً من حبسه لمنام رآه
وجدت في بعض الكتب: أن المهدي استحضر صاحب شرطته ليلاً،
وقد انتبه من نومه فزعاً، فقال له: ضع يدك على رأسي، واحلف بما أستحلفك به.
قال: فقلت: يدي تقصر عن رأس أمير المؤمنين، ولكن علي
وعلي، وحلفت بأيمان البيعة أني أمتثل ما تأمر به.
فقال:
صر إلى المطبق، واطلب فلاناً العلوي الحسيني، فإذا وجدته
فأخرجه وخيره بين الإقامة عندنا مطلقاً مكرماً محبوراً، وبين الخروج إلى أهله، فإن
اختار الخروج قدت إليه كذا وكذا، وأعطيته كذا وكذا، وإن اختار المقام أعطيته كذا وكذا،
وهذه توقيعات بذلك.
فأخذتها وصرت إلى من أزاح علتي في الجميع، وجئت إلى
المطبق، فطلبت الفتى، فأخرج إلي وهو كالشن البالي، فعرفته أمر أمير المؤمنين،
وعرضت عليه الحالين، فاختار الخروج إلى أهله بالمدينة، فسلمت إليه الصلة والحملان.
فلما جاء ليركب ويمضي، قلت: بالذي فرج عنك، هل تعلم ما
دعا أمير المؤمنين إلى إطلاقك ؟ قال: إني والله، كنت الليلة نائماً، فرأيت النبي
صلى الله عليه وسلم، في منامي، وقد أيقظني، وقال: يا بني ظلموك ؟ قلت: نعم، يا
رسول الله.
قال: قم، فصل ركعتين، وقل بعد الفراغ: يا سابق الفوت،
ويا سامع الصوت، ويا ناشز العظام بعد الموت، صل على محمد وعلى آل محمد، واجعل لي
من أمري فرجاً ومخرجاً، إنك تعلم ولا أعلم، وتقدر ولا أقدر، وأنت علام الغيوب، يا
أرحم الراحمين.
قال: فقمت، وصليت، وجعلت أكرر الكلمات، حتى دعوتني.
قال: فحمدت الله على توفيقي لمسألته، وعدت إلى المهدي،
فحدثته بالحديث.
فقال: صدق والله، لقد أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم
في النوم، فأمرني بإطلاقه.
وفي خبر آخر: لقد أتاني زنجي في فراشي، بعمود حديد، فال
لي: أطلق فلاناً العلوي الحسيني وإلا قتلتك، فانتبهت فزعاً، فما جسرت على النوم،
حتى جئتني، فأمرت بإطلاقه.
المعتمد يطلق بريئين من حبسه لمنام رآه
حدثني أبو
بكر محمد بن يحيى الصولي، فيما أجاز لي روايته عنه، بعدما سمعته منه، قال: حدثني
أحمد بن يزيد المهلبي، قال: كنا ليلة بين يدي المعتمد على الله، فحمل عليه النبيذ
فجعل يخفق برأسه نعاساً.
فقال: لا يبرحن أحد، ثم نام مقدار نصف ساعة، وانتبه،
وكأنه ما شرب شيئاً.
فقال: أحضروا لي من الحبس رجلاً يعرف بمنصور الجمال،
فأحضر.
فقال له: منذ كم أنت محبوس ؟ فقال: منذ ثلاث سنين.
قال: فأصدقني عن خبرك ؟ قال: أنا رجل من أهل الموصل، كان لي جمل
أعمل عليه وأعود بكرائه على عيلتي، فضاق الكسب علي بالموصل، فقلت: أخرج إلى سر من رأى
فإن العمل ثم أكثر، فخرجت.
فلما قربت
منها، إذا جماعة من الجند قد ظفروا بقوم يقطعون الطريق، وكتب صاحب البريد بعددهم،
وكانوا عشرة، فأعطاهم واحد من العشرة مالاً على أن يطلقوه، فأطلقوه وأخذوني مكانه،
وأخذوا جملي، فسألتهم بالله عز وجل، وعرفتهم خبري، فأبوا، ثم حبسوني، فمات بعض
القوم، وأطلق بعضهم، وبقيت وحدي.
فقال المعتمد: أحضروني خمسمائة دينار، فجاؤوه بها.
فقال: ادفعوها إليه، وأجرى عليه ثلاثين ديناراً في كل
شهر، وقال: اجعلوا أمر جمالنا إليه.
ثم أقبل علينا، فقال: رأيت الساعة النبي صلى الله عليه
وسلم، في النوم، فقال: يا أحمد، وجه الساعة إلى الحبس، وأخرج منصوراً الجمال، فإنه
مظلوم، وأحسن إليه، ففعلت ما رأيتم.
قال: ثم نام من وقته، وانصرفنا.
ووقع إلي هذا الخبر، بطريق آخر، بأتم من هذه الرواية،
فحدثني أبو محمد الحسن بن محمد الصلحي، الذي كان كاتب أبي بكر بن رائق، ثم كتب
لسيف الدولة، ثم كان آخر تصرف تصرفه، أن كتب للمطيع لله، رحمه الله، على ضياع
الخدمة، وخاص أمره، في وزارة أبي محمد المهلبي لمعز الدولة، قال: حدثني أبو علي
الأوارجي الكاتب، قال: حدثني أبو محمد عبد الله بن حمدون النديم، قال: كان المعتمد
مع سماحة أخلاقه، وكثرة جوده وسخائه، شديد العربدة على ندمائه إذا سكر، لا يكاد
يسلم له من العربدة مجلس إلا في الأقل، فاشتهى يوماً أن يصطبح على أترج، فاتخذ له
منه شيء كثير، مفرط العدد، وعبي، وحزم بعضه، فاصطبح عليه، ولم يدع شيئاً من الخلع
والصلات والحملان، إلا وعمله مع ندمائه في ذلك اليوم، وخصني منه بالكثير، وكان
كثير الشرب، وكانت علامته إذا أراد أن ينهض جلساؤه، أن يلتفت إلى سرير لطيف، كان
إذا جلس يستند إليه، ويشيل رجليه، كأنه يريد أن يصعد، فيقوم جلساؤه، فإذا كان يريد
النوم صعده، فنام، وإن لم يرد النوم، رد رجله، إذا قمنا، وأتم شربه مع بعض خدمه،
أو حرمه.
فلما كان ذلك اليوم، جلسنا بحضرته نهارنا أجمع، وقطعة من
الليل، ثم رد رجله إلى السرير في أول الليل، فقمنا، وانصرف الجلساء إلى حجرة
مرسومة بهم، وانصرفت إلى حجرة مرسومة بي من بينهم.
فلما انتصف الليل، إذا بالخدم يدقون باب حجرتي، فانتبهت
مرعوباً، فقالوا: أجب أمير المؤمنين.
فقمت، وقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، مضى يومنا وبعض
ليلتنا، أحسن مضي، وقدرت أني أفلت من عربدته، فقد عن له أن يعربد علي، فاستدعاني
في هذا الوقت.
فأتيته وأنا في نهاية الجزع، أفكر كيف أشاغله عن
العربدة، إلى أن صرت بحضرته.
فلما رآني قائماً لم يستجلسني، وقال لخادمه: علي بصاحب
الشرطة الساعة.
فمت جزعاً، وقلت في نفسي وأنا واقف بين يديه: لم تجر
عادته في العربدة باستدعاء صاحب الشرطة، وما هذا إلا لبلية قد احتيل بها علي عنده.
فأقبلت أنظر إليه طمعاً في أن يفاتحني بكلمة، فأداريه في
الجواب، وهو لا يرفع رأسه عن الأرض، إلى أن جاء صاحب الشرطة، فرفع رأسه إليه، وقال
له: في حبسك رجل يعرف بفلان بن فلان الجمال ؟ وفي رواية: يعرف بمنصور الجمال ؟ قال: نعم.
قال: أحضرنيه الساعة.
فمضى ليحضره، فسهل علي الأمر قليلاً، ووقفت، وهو لا
يخاطبني بشيء، إلى أن أحضر الرجل.
فقال له المعتمد: من أنت ؟ قال: أنا منصور بن فلان
الجمال.
قال: وما قصتك ؟ قال: أنا مظلوم، حبست منذ كذا وكذا سنة،
وأنا رجل من أهل الجبال، كان لي جمال أعيش من فضل أجرتها.
وكان يتقلد بلدنا فلان العامل، فاستدعي إلى الحضرة، فأخذ
جمالي غصباً يستعين بها في جمل متاعه.
فتظلمت إليه وصحت، فلم ينفعني ذلك، وقال: إذا صرت
بالحضرة رددتها عليك.
فخرجت معه لئلا تذهب الجمال أصلاً، فكنت مع جمالي أخدمها
في الطريق.
فلما قربنا من حلوان سل الأكراد منها حملاً محملاً،
فبلغه الخبر، فأحضرني، وقال: أنت سرقت الجمل بما عليه، فقلت: غلمانك يعلمون أن
الأكراد سلوه.
فقال: الأكراد إنما جاءوا بمواطأة منك، ثم أمر بضربي،
وتقييدي، وطرحي على بعض جمالي.
فلما وردنا الحضرة، أنفذت إلى الحبس، وأخذ الجمال، ولم
يكن لي متظلم، ولا مذكر ولا متكلم، فطال حبسي، وطالت بي المحنة إلى الآن.
فقال لبعض
الخدم: امض الساعة إلى فلان العامل، واقعد على دماغه، ولا تبرح، أو يرد عليه جماله
أو قيمتها على ما يريد، فإذا قبض ذلك، فاحمله إلى الخزانة، واكسه كسوة حسنة، وادفع
إليه كذا وكذا ديناراً، واصرفه مصاحباً.
ثم قال لصاحب الشرطة: في حبسك رجل يعرف بفلان بن فلان
الحداد ؟ قال: نعم، قال: أحضرنيه الساعة، فأحضره.
فقال له: ما قصتك ؟ قال: أنا رجل حبست بظلم، أنا رجل من
أهل الشام، وكانت لي نعمة فزالت، فهربت من بلدي واتصلت محنتي إلى أن وافيت الحضرة
طلباً للتصرف، فتعذر علي حتى كدت أتلف جوعاً.
فسألت عن عمل أعمله ليلاً لأتوفر نهاراً على طلب التصرف،
وأنفق في النهار ما أكسبه ليلاً، فأرشدت إلى حداد يعمل ليلاً، فقصدته، فاستأجرني
بدرهم في كل ليلة، وكنت أعمل معه، وكان معه غلام آخر يضرب بالمطرقة، فأفسد ذلك
الغلام على الحداد نعلاً كان يضربها، فاغتاظ عليه، ورماه بالنعل الحديد على قلته،
فتلف للوقت، فهرب الحداد، وبقيت أنا في الموضع متحيراً لا أدري إلى أين أمضي، وأحس
الحارس في الحال بما رابه في الدكان، فهجم علي فوجدني قائماً، والغلام ميتاً فلم يشك
أني القاتل، فقبض علي ورفعني، فحبست إلى الآن، فقال لصاحب الشرطة: خل عنه.
وقال لخادم آخر: خذه فغير حاله، وادفع إليه خمسمائة
دينار، ودعه ينصرف مصاحباً.
ثم رفع رأسه إلي، وقال: يا ابن حمدون، الحمد لله الذي
وفقني لهذا الفعل.
ففرج عني، فقلت: كيف تكلف أمير المؤمنين النظر في هذا
بنفسه، في مثل هذا الوقت ؟ فقل: ويحك إني رأيت في منامي رجلاً يقول لي: في حبسك
رجلان مظلومان، يقال لأحدهما: منصور الجمال، والآخر: فلان بن فلان الحداد،
فأطلقهما الساعة وأحسن إليهما وأنصفهما، فانتبهت مذعوراً، ثم نمت.
فما استثقلت حتى رأيت الشخص بعينه، يقول لي: ويلك آمرك
أن تطلق رجلين مظلومين في حبسك، قد طال مكثهما، وأن تنصفهما وتحسن إليهما، فلا
تفعل، وترجع تنام ؟ لقد هممت أن أوجعك، فكاد يمد يده إلي.
فقلت له: يا هذا من أنت ؟ فقال: أنا محمد رسول الله،
فكأني قبلت يده، وقلت: يا رسول الله، ما عرفتك، ولو عرفتك ما تجاسرت على تأخير
أمرك.
قال: قم، فاعمل في أمرهما الساعة، بما أمرتك به، فانتبهت
مذعوراً، فاستدعيتك لتشاهد ما يجري.
فقلت:
هذه عناية من رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمير
المؤمنين، واهتمام بما يصلح دينه، ويثبت ملكه، ومنة عظيمة عليه، لله عز وجل
ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
فقال: امض فقد أزعجناك، فعدت إلى حجرتي.
فلما كان من الغد عشياً، دخلت إليه وهو جالس على الرسم
فأحببت أن أعرف الجلساء ما جرى البارحة، ليسر هو بذلك، وكنت أعرف من طبعه أنه يحب
الإطراء والمدح، ونشر ما هذا سبيله، فإنه إذا عمل جميلاً أكثر من ذكره، وتبجح به،
وإن كان صغيراً.
فقلت له: إن رأى أمير المؤمنين أن يخبر خدمه، بما كان من
المعجزة البارحة، وعناية رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بخلافته.
فقال:
وما ذاك ؟ فقلت: إحضاري البارحة، وإحضار صاحب الشرطة،
والجمال، والحداد، ورؤياه النبي صلى الله عليه وسلم، وما أمره به فيهما، وما تقدم
به إلى أمير المؤمنين من إنصافهما.
فقال: والله ما أذكر من هذا شيئاً، وما كنت إلا سكران، نائماً
طول ليلتي، وما انتبهت.
فقلت: بلى يا سيدي.
فتنكر، وقال: يا ابن حمدون قد صرت تغالطني وتخادعني
بالكذب ؟ فقلت: أعيذ أمير المؤمنين بالله، هذا أمر مشهور في الدار عند الخدم
الخاصة وصاحب الشرطة نفسه، وقصصت عليه القصة، وشرحتها.
فاستدعى الخدم، فتحدثوا بمثل ما ذكرته، فأظهر تعجباً
شديداً، وحلف بالله العظيم، وبالبراءة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالنفي
من العباس، أنه لا يذكر شيئاً من ذلك، ولا يعلم إلا أنه كان نائماً، ولا رأى
مناماً، ولا انتبه، ولا جلس، ولا استدعى أحداً، ولا أمر بأمر.
فما رأيت أعجب من هذا المنام والحال، ولا أطرف من هذا
الاتفاق في نسيانه بعد ذلك.
ووجدت في خبر آخر، قريب من هذا، ولا يذكر فيه حديث الأترج، وذكر فيه أن اسم الجمال، كان نصراً، وأنه كان من نهاوند، وله جمال يكريها، وأن صاحب المعونة، اكترى منه عشرين جملاً، وحمل عليها عشرين رجلاً من الأكراد أسرى، ليحملهم إلى الحضرة، فسار الجمال معهم، فهرب منهم في بعض الطريق، واحد، فوقع لصاحب المعونة أن نصراً الجمال هربه، فقيده، وحمله مكانه، فلما دخلوا الحضرة، أنفذ الجمال مع القوم، إلى الحبس، وأخذ صاحب المعونة جماله.
السكر
السكر، في
اللغة: حالة تعترض بين المرء وعقله المنجد، والسكر من الخمر عند أبي حنيفة، أن لا
يعلم الأرض من السماء، وعند الشافعي وأبي يوسف ومحمد، أن يختلط كلامه، وعند آخرين،
أن يختلط في مشيته إذا تحرك التعريفات 81.
والسكر موجب للحد، أي العقوبة المقررة، ويعتبر حقاً من
حقوق الله تعالى التعريفات 57، وقد جلد رسول
الله صلوات الله عليه في الخمر أربعين جلدة، وكذلك فعل أبو بكر الصديق، أما
الفاروق عمر، فجلد ولده عبد الرحمن، حد الخمر، ثمانين جلدة، وأقيم الحد في عهد
عثمان على الوليد بن عقبة، أمير العراق، وأخي عثمان لأمه، فجلد أربعين جلدة ابن
الأثير 3 - 107 ومروج الذهب للمسعودي 1 - 533، 546.
أما في عهد الأمويين، فإن يزيد بن معاوية كان يدمن شرب الخمر،
فلا يمسي إلا سكران، ولا يصبح إلا مخموراً، وكان عبد الملك يسكر في كل شهر مرة،
حتى لا يعقل في السماء هو أو في الماء، وكان الوليد بن عبد الملك يشرب يوماً، ويدع
يوماً، وكان سليمان ابن عبد الملك، يشرب في كل ثلاث ليال ليلة، وكان هشام يكسر في
كل جمعة، وكان يزيد بن عبد الملك والوليد بن يزيد يدمنان الشرب واللهو، وكان مروان
بن محمد يشرب ليلة الثلاثاء وليلة السبت.
أما العباسيون، فقد كان أبو العباس يشرب عشية الثلاثاء
وحدها، وكان المهدي، والهادي يشربان يوماً، ويدعان يوماً، وكان الرشيد يشرب في كل
جمعة مرتين، وكان المأمون في أول أيامه يشرب الثلاثاء والجمعة، ثم أدمن الشراب عند
خروجه إلى الشام في السنة 215 إلى أن توفي، وكان المعتصم لا يشرب يوم الخميس ولا
يوم الجمعة، وكان الواثق ربما أدمن الشراب وتابعه، غير أنه لم يكن يشرب ليلة
الجمعة، ولا في يومها التاج في أخلاق الملوك 151 - 153.
أقول: الذي قرأته في الأغاني 6 - 77 أن هشام بن عبد
الملك لم يكن يشرب، ولا يسقي أحداً بحضرته مسكراً، وكان ينكر ذلك ويعاقب عليه، وأن
أبا جعفر المنصور لم يكن يشرب غير الماء التاج 33 ومحاضرات الأدباء 2 - 694، وكان
المهدي لا يشرب الأغاني 5 - 160 لا تحرجاً ولكن كان لا يشتهيه الطبري 8 - 160، وأن
موسى الهادي وهارون الرشيد كانا مستهترين بالنبيذ نهاية الأرب 4 - 330، وأن الأمين
كان لا يبالي مع من قعد ولا أين قعد التاج 42، أما المتوكل، فكان منهمكاً في
اللذات والشراب تاريخ الخلفاء 349 وكان يعربد على جلسائه إذا سكر الطبري 9 - 167
أما المهتدي، محمد بن الواثق، فقد كان زاهداً ورعاً تاريخ الخلفاء 361، وكان
المعتمد منهمكاً في اللهو واللذات تاريخ الخلفاء 363 وكان المقتدر مؤثراً للشهوات والشراب
تاريخ الخلفاء 384 أما القاهر فكان لا يصحو من السكر تاريخ الخلفاء 386 أما
المقتفي فلم يشرب النبيذ قط تاريخ الخلفاء 394 وكذلك القادر بالله تاريخ الخلفاء
412 والقائم ابنه تاريخ الخلفاء 417 والمقتدي حفيد القائم تاريخ الخلفاء 423.
أما بشأن رجال الدولة، فقد ذكر أن الفضل بن يحيى
البرمكي، لم يكن يشرب الخمر، وعتب عليه الرشيد، وثقل عليه مكانه لتركه الشرب معه،
وكان الفضل يقول: لو علمت أن الماء ينقص من مروءتي ما شربته الطبري 8 - 293، وكان
سيف الدولة الحمداني لا يشرب النبيذ الملح للحصري 266، وكذلك كان سيف الدولة
الأسدي صدقة بن دبيس، فإنه لم يشرب مسكراً المنتظم 9 - 159.
أبو بكر المادرائي يولي عاملاً وهو على صهوة جواده
وحدثني أبو محمد الصلحي، قال: حدثني أبو بكر محمد بن علي
المادرائي بمصر، وكان شيخاً جليلاً، عظيم الحال والنعمة والجاه، قديم الرياسة
والولايات الكبار للأعمال، وقد وزر لخمارويه بن أحمد بن طولون، وتقلد مصر مرات،
وعاش ستاً وتسعين سنة، ومات في سنة نيف وأربعين وثلثمائة، قال:
كنت أكتب
لخمارويه بن أحمد بن طولون، في حداثتي، فركبتني الأشغال وقطعني ترادف الأعمال، عن
تصفح أحوال المتعطلين.
وكان ببابي شيخ من شيوخ الكتاب قد طالت عطلته، وقد غفلت
عن تصريفه.
فرأيت ليلة في منامي، أبي، وكأنه يقول لي: ويحك يا بني
أما تستحي من الله، أن تتشاغل بأعمالك والناس ببابك يتلفون ضراً وهزالاً ؟ هوذا
فلان، شيخ من شيوخ الكتاب، قد أفضى أمره إلى أن تقطع سراويله، فما أمكنه أن يشتري
بدله، أحب أن لا تغفل أمره أكثر من هذا.
فانتبهت متعجباً، واعتقدت الإحسان إلى الشيخ من غد،
ونمت، فأصبحت وقد أنسيت أمره.
فركبت إلى دار خمارويه بن أحمد، فإني لأسير إذ تراءى لي
الشيخ على دويبة له ضعيفة، فأهوى ليترجل لي، فانكشف فخذه، فإذا هو لابس خفاً بلا
سراويل.
فحين وقعت عيني على ذلك، ذكرت المنام، فقامت قيامتي،
فوقفت في موضعي، واستدعيته، فقلت له: يا هذا، ما حل لك ما صنعت بنفسك من تركت
إذكاري بأمرك، أما كان في الدنيا من يوصل لك رقعة، أو يخاطب في أمرك ؟ الآن قد قلدتك
الناحية الفلانية، ورزقتك رزقها وهو في كل شهر مائتا دينار، وأطلقت لك من خزانتي
ألف دينار معونة، وأمرت لك من الثياب والحملان بكذا وكذا، فاقبض ذلك واخرج، فإن
حسن أثرك في عملك، زدتك، وفعلت بك وصنعت.
وضممت إليه من يتنجز له ذلك.
أدرك أبا محمد الأزرق الأنباري
حدثني أبو
الحسن أحمد بن يوسف الأزرق بن يعقوب بن إسحاق بن البهلول الأنباري التنوخي، قال:
خرج أخي أبو محمد الحسن بن يوسف، يقصد أخانا أبا يعقوب إسحاق ابن يوسف وهو حينئذ
بمصر، ومعه زوجة كانت لأبي يعقوب إسحاق ببغداد، وبنية له منها، ومضى.
فلما عاد حدثني أنه سلك في قافلة كبيرة، من هيت على طريق
السماوة، يريد دمشق، قال: فلما حصلنا في أعماق السماوة، أخفرتنا خفراؤنا، وجاء قوم
من الأعراب، فظاهروهم علينا، وأظهروا أنهم من غيرهم، وقطعوا علينا، فاستاقوا
ركائبنا، فبقيت أنا والناس مطرحين على الماء الذي كنا نزلنا عليه بلا جمل، ولا
زاد، ولا دليل، فأيسنا من الحياة.
فقلت للناس: إن الموت لا بد منه على كل حال، أقمنا في
أماكننا أم سرنا، فلأن نسير طلب الخلاص فلعل الله أن يرحمنا ويخلصنا، أولى من أن
نموت ها هنا، وإن متنا في سيرنا كان أعذر.
فساعدوني، وسرنا يومنا وليلتنا، وأنا أحمل الصبية ابنة
أخي، لأن أمها عجزت عن حملها، وكلما طال علينا الطريق، ولم نر إنساناً ولا محجة،
أحسسنا بالهلاك، ومات منا قوم، وأنا خلال ذلك، قد بدأت بقراءة ختمة، وأنا متشاغل
بها، وبالدعاء.
إلى أن وقعنا في اليوم الثاني، على حلة أعراب، فأنكرونا،
فلم أعمل عملاً، حتى ولجت بيت امرأة منهم، فأمسكت ذيلها، وكنت سمعت أن الإنسان إذا
عمل ذلك أمن شرهم، ووجب حقه عليهم، ثم تفرقنا في البيوت.
واختلفت أحوال الناس، فأما أنا، فإن صاحب البيت الذي
نزلت عليه، لما رأى هيبتي ودرسي للقرآن، أكرمني، ولم أزل أحادثه وأرفق به.
فقال لي: ما تشاء ؟ فقلت: تركبني وهذه المرأة، وهذه
الصبية، راحلة، وتسير معنا إلى دمشق على راحلة أخرى، بزاد وماء، حتى أعطيك ثمن
راحلتك وأهبها لك، وأقضي حقك بعد هذا.
قال: فتذمم واستحيا، وقدرت أني إذا دخلت دمشق، وجدت بها
من أصدقاء أخي، من آخذ منه ما أريد.
فكساني الأعرابي، وكسا المرأة والصبية، ووطأ لي راحلة،
وحمل معنا من الماء والزاد كفايتنا، وركب هو راحلة أخرى، وكان أكثر من وصل معنا
إلى ذلك الموضع، قد تأتى له مثل ما تأتى لي، فصرنا رفقة صالحة العدد.
فلما كان بعد أيام، شارفنا دمشق مع طلوع الشمس، فإذا
بأهلها قد خرجوا يستقبلوننا، وكل من له صديق أو معرفة، يسأل عنه، وقد بلغهم خبر
القطع، فما شعرت إلا بإنسان يسأل عني، بكنيتي ونسبي.
فقلت: ها أنا ذا.
فعدل إلي، وقال: أنت أبو محمد الأزرق الأنباري ؟ فقلت:
نعم.
فقال: إلي، وأذ بخطام راحلتي، وتبعني الأعرابي براحلته،
حتى دخلنا مع الرجل دمشق.
فجاء بنا الرجل، إلى دار حسنة سرية، تدل على نعمة حسنة،
فأنزلنا، ولم أشك أنه صديق لأخي.
فنزلت، وأنزلت الأعرابي معي، وأخذت جمالنا، وأدخلنا
الحمام وألبست خلعة نظيفة، وفعل بالمرأة والصبية مثل ذلك، وأقمت عنده يومين في خفض
عيش، لا أسأله عن شيء، ولا يسألني.
فلما كان في
اليوم الثالث، قال: ما صورة هذا الأعرابي معك ؟ فأخبرته بما أخذنا منه.
فقال لي: خذ ما تريد من المال.
فقلت: أريد كذا وكذا ديناراً، فأعطاني ذلك، فدفعته إلى
الأعرابي، وسلمت إليه جمليه.
وسألت الرجل أن يزوده زاداً كثيراً لا يكون مثله في
البادية، فأخرج له شيئاً كثيراً، وخرج الأعرابي شاكراً.
فقال لي الرجل: إلى أين تريد من البلاد، وكم يكفيك من
النفقة ؟ فلما قال لي ذلك، ارتبت به، وقلت: لو كان هذا من أصدقاء أخي الذين كاتبهم
بتفقدي، لكان يعرف مقصدي.
فقلت له: كم كاتبك أخي أن تدفع إلي ؟ قال: ومن أخوك ؟
قلت: أبو يعقوب الأزرق الأنباري، الكاتب بمصر.
فقال: والله، ما سمعت بهذا الاسم قط، ولا أعرفه.
فورد علي أعجب مورد، وقلت له: يا هذا، إني ظننتك صديقاً
لأخي، وأن ما عاملتني به من الجميل من أجله، فانبسطت إليك بالطلب، ولو لم أعتقد
هذا لانقبضت فما السبب فيما عاملتني به ؟ فقال: أمر هو أوكد من أمر أخيك، يجب أن
يكون انبساطك إليه أتم.
فقلت: ما هو ؟.
قال: إن خبر الوقعة بالقافلة التي كنت فيها، بلغنا في
يوم كذا وكذا، فما بقي كبير أحد بدمشق، إلا وردت عليه مصيبة عظيمة، إما بذهاب مال،
أو بغم على صديق، غيري، فإني لم يكن لي شيء من ذلك يتعلق قلبي به، واتعد الناس
للخروج، لتلقي المنقطعين، وإصلاح أحوالهم، ولم أعزم أنا.
فلما كان في الليل، رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في
النوم، وهو يقول لي: أدرك أبا محمد الأزرق الأنباري، وأغثه، وأصلح شأنه بما يبلغه
مقصده، فلما أصبحت، خرجت مع الناس، فسألت عنك، فكان ما رأيت، والآن اذكر ما تريده.
فبكيت بكاء شديداً، لم أقدر معه على خطابه مدة، ثم نظرت
إلى ما يبلغني مصر، فطلبته منه، فأخذته، وأصلحت أمري، وسألت الرجل عن اسمه، فقال:
أنا فلان بن فلان الصابوني ذكره أبو محمد، وأنسيه أبو الحسن.
قال: فلما بلغت إلى مصر، حدثت أخي بالحديث، فعجب منه،
وبكى.
قال أبو الحسن: وضرب الدهر ضربه، وورد أبو يعقوب أخي إلى
بغداد بعد سنين، فتذاكرنا هذا الحديث.
فقال أخي: لما عرفني أخي أبو محمد، ما عامله به ابن
الصابوني الدمشقي هذا، جعلته صديقاً لي، فكنت أكاتبه.
فلما وردت إلى دمشق، وجدت حاله قد اختلت، لمحن لحقته،
فوهبت له ضيعتي بدمشق، وكانت جليلة الغلة والقيمة، فسلمتها إليه، مكافأة لما عامل
به أبا محمد أخي.
اعتقلهم الوزير ابن الزيات وأطلقوا لموت الواثق
قال محمد
بن عبدوس، في كتاب الوزراء، حدثني الحسين بن علي الباقطائي، قال: حدثني أبي، قال: قال لي أحمد بن
المدبر: لما أمر محمد بن عبد الملك بحبسي، أدخلت محبساً فيه أحمد بن إسرائيل،
وسليمان بن وهب، وهما يطالبان، فجعلت في بيت ثالث، فكنا نتحدث ونأكل جميعاً، وربما
أدخل إلينا النبيذ، فنشرب.
وكان أحمد بن إسرائيل شديد الجبن، وكان ينكر علينا،
ويمنعنا أن نتحدث بشيء، أو نرجو لأنفسنا.
فجاءني يوماً سليمان بن وهب، فقال لي: رأيت البارحة في
نومي، كأن قائلاً يقول لي: يموت الواثق إلى ثلاثين يوماً، فقم بنا إلى أبي جعفر نحدثه.
فقلت: والله، إن سمع بهذا أبو جعفر، ليشقن ثوبه، وليسدن
أذنه خوفاً.
فقال لي: قم على كل حال، فقمنا فدخلنا عليه، فأخبره
سليمان بما رأى.
فقال له: يا هذا، أنت أجسر الناس، وأشدهم جناية على نفسك
وعلينا، إنما تريد أن يسمع هذا فنقتل.
فقال له: فتكتب هذه الرؤيا عندك، لتمتحن صدقها.
فنفر، وقال: أنا لا أكتب مثل هذا، فكتبته أنا في رقعة صغيرة.
فلما كان يوم الثلاثين، دخل علي أحمد بن إسرائيل فقال لي: يا أبا الحسن، هذا يوم الثلاثين،
فأخرجت الرقعة، فإذا هو قد حفظ اليوم، ومضى يومنا إلى آخره.
فلما كان الليل، لم نشعر إلا والباب يدق دقاً شديداً،
وصاح بنا صائح: البشرى، قد مات الواثق، اخرجوا.
فقال أحمد بن إسرائيل: قوموا بنا، فقد حقق الله الرؤيا،
وأتانا بالفرج، وصدقت الرؤيا.
فقال سليمان بن وهب: كيف نمشي مع بعد منازلنا ؟ ولكن
نوجه من يجيئنا بما نركب.
فاغتاظ أحمد بن إسرائيل، وقال: نعم، نقعد، حتى يجلس
خليفة آخر، فيقال له: إن في الحبس جماعة من الكتاب عليهم أموال، فيأمر بالتوثق
منا، إلى أن ينظر في أمرنا، قم عافاك الله، حتى نمر.
فخرج، وخرجنا على أثره.
فقبل أن
نخرج من باب الهاروني، سمعنا رجلين يقول أحدهما للآخر: سأل الخليفة جعفر المتوكل
عمن في الحبس، فقيل: فيه جماعة من الكتاب، فقال: يكونون فيه إلى أن ننظر في أمورهم.
فجددنا في المشي وقصدنا غير منازلنا، واستترنا.
وبحثنا عن الأخبار، فبلغنا إقرار الخليفة محمد بن عبد
الملك، فكتبت إليه رقعة عن جماعتنا، نعرفه خبرنا، واتساع آمالنا فيه، ونستأذنه
فيما نعمل.
فلما وصلت إليه الرقعة، وقع على ظهرها: لم استخفيتم ؟
وليس منكم إلا من عنايتي تخصه، ورأبي فيه جميل، أما أبو أيوب فقد تكلم في حقه أبو
منصور إيتاخ، واستوهبه، فوهب له، وأمرت باحضاره ليخلع عليه، فليحضر، وأما أبو جعفر
فإنه طولب بما لا يلزمه، وقد وضحت حجته في بطلانه، فليصر إلي، وأما أبو الحسن فإن
قذف بباطل، فاظهروا جميعاً، واثقين بما عندي من حياطتكم ورعايتكم.
فصرنا إليه جميعاً، وزال عنا ما كنا فيه، فخلع على
سليمان خاصة.
النبيذ
النبيذ: الخمر المعتصر من التمر، أو العنب، أو
العسل، وسمي نبيذاً، لأن الذي يتخذه يأخذ تمراً أو زبيباً، فيلقيه في وعاء ويصب
عليه الماء، وينبذه حتى يفور، ويصير مسكراً، والمطبوخ منه هو الذي يعرض على النار،
وخير أنواع النبيذ هو القطربلي، من نتاج قطربل إحدى ضواحي بغداد، وهي مشهورة
بخمرها معجم البلدان 4 - 133.
وللاطلاع على أنواع النبيذ راجع ما كتبه أبو الحسن علي
بن أبي الحزم القرشي المتطبب المعروف بابن النفيس في مطالع البدور 1 - 140، ولزيادة التفصيل راجع كتاب الأشربة
لابن قتيبة.
ومما يلاحظ أن العراقيين كانوا لا يرون بشرب النبيذ
بأساً، أما الآن فهم يرون حرمته، والقليل منهم من يشربه، وقد كان عند أهل العراق
لشرب النبيذ آيين، وصفه القاضي التنوخي في القصة 8 - 109 من كتاب نشوار المحاضرة،
فيما يتعلق بترتيب مجلس الشراب، وما فيه من تماثيل العنبر، وأجاجين ماء الورد، والصواني،
والمغاسل، والمراكن، والخرداذيات، والمدافات التي تشتمل على الأنبذة، وكيف يختار
النبيذ، ومن يختاره، وكيف يتم السقي، ومن يكون الساقي.
وفي القصة 3 - 69 أورد التنوخي قصة أشار فيها إلى آيين
المنادمة الذي يفرض على النديم أن يقبل يد الملك أولاً، ثم يقبل القدح ثانياً،
ويشرب، وإذا قدم للملك شراباً، أو مأكلاً، فإن عليه أن يتناول منه قبل الملك.
كما أورد التنوخي في نشواره وصفاً لأحد مجالس شرب
المقتدر القصة 1 - 158 ولأحد مجالس شرب الراضي القصة 1 - 159 ولأحد مجالس شرب
المتوكل القصة 1 - 162 ولأحد مجالس شرب عضد الدولة القصة 4 - 44 ولأحد مجالس شرب
أبي القاسم البريدي القصة 1 - 164 ولأحد مجالس شرب الوزير المهلبي، وزير معز
الدولة القصة 1 - 163، وفي معجم الأدباء 5 - 334 وصف لمجلس من مجالس شرب الوزير المهلبي،
كان يجتمع فيها بأصحابه من شيوخ القضاة، في كل أسبوع مرتين، فيلبسون المصبغات،
ويوضع أمام كل واحد منهم طاس من الذهب وزنه ألف مثقال، مملوء شراباً قطربلياً
عكبرياً، فيشربون، ويطربون، ويرقصون، وإلى هذا المجلس أشار السري الرفاء في قوله
ديوان السري الرفاء 246:
إذا سقى اللّه منزلاً فسقى ... بغداد ما حاولت من الديم
يا حبّذا صحبة العلوم بها ... والعيش بين اليسار والعدم
كيف خلاصي من العراق وقد ... أثرت فيها معادن الكرم
رأيت فيها خلاعة وصلت ... أطرافها بالعلوم والحكم
مجالس يرقص القضاة بها ... إذا انتشوا في مخانق البرم
كأنّهم من ملوك حمير ما ... أوفت أكاليلهم على اللمم
وصاحبٍ يخلط المجون لنا ... بشيمة حلوة من الشيم
تخضب بالراح شيبه عبثاً ... أنامل مثل حمرة العنم
راجع في كتاب مطالع البدور ما ورد في الراح، وفي آنيتها،
واستعمالها، وما يجب على شاربيها، ومستهديها، ووصافها، والمتنادمين عليها،
ومسامراتهم، وغنائهم 1 - 128 -
229.
ومن أراد التوسع في الاطلاع على مجالس شرب الخلفاء والأمراء والشعراء، فعليه بكتاب الديارات للشابشتي تحقيق كوركيس عواد، وكتاب قطب السرور في أوصاف الخمور للرقيق النديم، فهما جامعان للكثير من هذه الأخبار، وفي العقد الفريد 6 - 352 - 373 بحث عن النبيذ، وتحليله، وتحريمه، وعن الفرق بين النبيذ والخمر.
من شعر سليمان بن وهب لما حبس
قال: وفي
هذه الحبسة كتب سليمان بن وهب إلى أخيه الحسن بن وهب فيما حكاه محمد بن عبدوس:
هل رسولٌ وكيف لي برسول ... إنّ ليلي ليل السقيم العليل
هل رسول إلى أخي وشقيقي ... ليت أنّي مكان ذاك الرّسول
يا أخي لو ترى مكاني في الحب ... س وحالي وزفرتي وعويلي
وعثاري إذا أردت قياماً ... وقعودي في مثقلات الكبول
لرأيت الّذي يغمّك في الأع ... داء أن يسلكوا جميعاً
سبيلي
هذه جملة أراني غنّياً ... معها عن أذاك بالتفصيل
ولعلّ الإله يأتي بصنعٍ ... وخلاصٍ وفرجة عن قليل
وذكر أبياتاً أخر، تماماً لهذه الأبيات، لم أذكرها،
لأنها ليست من هذا المعنى، ثم قال: وقد ذكر محمد بن داود، في كتابه المسمى كتاب
الوزراء من خروج سليمان بن وهب من حبس الواثق غير هذا، قال في كتابه: حدثني أبو
القاسم عبيد الله بن سليمان، واقتص محمد بن عبدوس، قصة طويلة، ليس فيها ذكر منام، فذكرتها
أنا في كتابي هذا، في باب من خرج من حبس أو أسر أو اعتقال، إلى سراح وسلامة وصلاح
حال، ورويتها عن علي بن عيسى، عن عبيد الله بن سليمان، بألفاظ قوية، أقوى من
الألفاظ التي أوردها ابن عبدوس، ولم أذكرها ها هنا، لأن هذا الخبر، مختص
بالمنامات، فجعلته في بابه، وأوردت تلك القصة في الباب المفرد لأمثالها.
بين الوزير المهلبي والحسين السمريحدثني علي بن محمد
الأنصاري الخطمي، قال: حدثني أبو عبد الله الحسين بن محمد السمري كاتب الديوان
بالبصرة، قال: كان أبو محمد المهلبي، في وزارته، قبض علي بالبصرة، وطالبني بمال،
وحبسني حتى يئست من الفرج، فرأيت ليلة في المنام، كأن قائلاً يقول لي: اطلب من ابن
الراهبوني دفتراً خلقاً عنده، على ظهره دعاء، فادع الله به، فإنه يفرج عنك، وكان
ابن الراهبوني هذا، صديقاً لي من تناء أهل واسط، مقيماً بالبصرة.
فلما كان من غد، جاءني، فقلت له: عندك دفتر على ظهره
دعاء.
فقال لي: نعم.
قلت: جئني به، فجاءني به، فرأيت مكتوباً على ظهره: اللهم أنت أنت،
انقطع الرجاء إلا منك، وخابت الآمال إلا فيك، صل على محمد وعلى آل محمد، ولا تقطع
اللهم منك رجائي؛ ولا رجاء من يرجوك في شرق الأرض وغربها، يا قريباً غير بعيد، ويا
شاهداً لا يغيب، ويا غالباً غير مغلوب، اجعل لي من أمري فرجاً ومخرجاً، وارزقني
رزقاً واسعاً من حيث لا أحتسب، إنك على كل شيء قدير.
قال: فواصلت الدعاء بذلك، فما مضت إلا أيام يسيرة، حتى أخرجني
المهلبي من الحبس، وقلدني الإشراف على أحمد الطويل، في أعماله بأسافل الأهواز.
قال لي أبو الحسن الأنصاري: قال لي أبو علي زكريا بن
يحيى الكاتب النصراني، حدثني بهذا الحديث أبو عبد الله السمري، وكتبت عنه الدعاء،
ونقلته، وحفظته، وتقلبت بي الأحوال، فكتبت لأبي جعفر ممله، صاحب مائدة معز الدولة،
فاعتقلني بعد مدة، ونكبني، فواصلت الدعاء به، فأطلقني بعد أيام يسيرة.
رأى في المنام أن غناه بمصرحدثني أبو الربيع سليمان بن
داود البغدادي، صاحب كان لأبي، وكان قديماً يخدم القاضيين أبا عمر محمد بن يوسف،
وابنه أبا الحسين في دورهما، وكانت جدته تعرف بسمسمة، قهرمانة كانت في دار القاضي
أبي عمر محمد بن يوسف رحمه الله، قال: كان في جوار القاضي قديماً، رجل انتشرت عنه
حكاية، وظهر في يده مال جليل، بعد فقر طويل، وكنت أسمع أن أبا عمر حماه من
السلطان، فسألت عن الحكاية، فدافعني طويلاً، ثم حدثني، قال: ورثت عن أبي مالاً
جليلاً، فأسرعت فيه، وأتلفته، حتى أفضيت إلى بيع أبواب داري وسقوفها، ولم يبق لي من
الدنيا حيلة، وبقيت مدة بلا قوت إلا من غزل أمي، فتمنيت الموت.
فرأيت ليلة في النوم، كأن قائلاً يقول لي: غناك بمصر،
فاخرج إليها.
فبكرت إلى
أبي عمر القاضي، وتوسلت إليه بالجوار، وبخدمة كانت من أبي لأبيه، وسألته أن يزودني
كتاباً إلى مصر، لأتصرف بها، ففعل، وخرجت.
فلما حصلت بمصر، أوصلت الكتاب، وسألت التصرف، فسد الله
علي الوجوه حتى لم أظفر بتصرف، ولا لاح لي شغل.
ونفدت نفقتي، فبقيت متحيراً، وفكرت في أن أسأل الناس،
وأمد يدي على الطريق، فلم تسمح نفسي، فقلت: أخرج ليلاً، وأسأل، فخرجت بين
العشاءين، فما زلت أمشي في الطريق، وتأبى نفسي المسألة، ويحملني الجوع عليها، وأنا
ممتنع، إلى أن مضى صدر من الليل.
فلقيني الطائف، فقبض علي، ووجدني غريباً، فأنكر حالي،
فسألني عن خبري، فقلت: رجل ضعيف، فلم يصدقني، وبطحني، وضربني مقارع.
فصحت: أنا أصدقك.
فقال: هات.
فقصصت عليه قصتي من أولها إلى آخرها، وحديث المنام.
فقال لي: أنت رجل ما رأيت أحمق منك، والله لقد رأيت منذ
كذا وكذا سنة، في النوم، كأن رجلاً يقول لي: ببغداد في الشارع الفلاني، في المحلة
الفلانية - فذكر شارعي، ومحلتي، فسكت، وأصغيت إليه - وأتم الشرطي الحديث فقال: دار يقال
لها: دار فلان - فذكر داري، واسمي - فيها بستان، وفيه سدرة، وكان في بستان داري
سدرة، وتحت السدرة مدفون ثلاثون ألف دينار، فامض، فخذها، فما فكرت في هذا الحديث،
ولا التفت إليه، وأنت يا أحمق، فارقت وطنك، وجئت إلى مصر بسبب منام.
قال: فقوي بذلك قلبي، وأطلقني الطائف، فبت في بعض المساجد،
وخرجت مع السحر من مصر، فقدمت بغداد، فقطعت السدرة، وأثرت تحتها، فوجدت قمقماً فيه
ثلاثون ألف دينار، فأخذته، وأمسكت يدي، ودبرت أمري، فأنا أعيش من تلك الدنانير، من
فضل ما ابتعت منها من ضيعة وعقار إلى اليوم.
خزيمة بن هازم يصرف الحراني ويعقد له على طريق الفرات
وجدت في
كتاب أبي الفرج عبد الواحد المخزومي الحنطبي، عن علي ابن العباس النوبختي، قال:
حدثني أحمد بن عبد الله التغلبي، قال: كان من بقايا شيوخ خراسان، ممن يلزم دار
العامة بسر من رأى، شيخ يكنى أبا عصمة، وكان يحدثنا كثيراً، بأخبار الدولة وأهلها
فحدثنا يوماً: أن خزيمة بن خازم، كان يجلس في داره للناس، في كل يوم ثلاثاء، فلا
يحجب عنه أحد، ولا يستأذن لمن يدخل، إنما يدخلون أرسالاً، بغير إذن، فمن كان من
الأشراف ووجوه الناس، سلم وانصرف، ومن كان من طلاب الحوائج، أو خطاب التصرف، دفع
رقعته إلى الحاجب، فيجتمع الناس ويدخلون، فيعرض رقاعهم عليه.
وكان قد أفرد لهذا كاتباً حصيفاً يقال له: الحسن بن
مسلمة، يتصفح الرقاع قبل عرضها عليه، فما كان يجوز أن يوقع عنه فيه بخطه، وقع
وسلمه إلى أربابه، وما كان لا بد من وقوفه عليه، وتوقيعه فيه بخطه، أوقفه عليه،
ومن كان من الناس زائراً، أو مسترفداً، عرضت رقعته عليه، فيكون هو الموقع فيها بما
يراه فلا يكاد ينصرف أحد من ذلك الجمع العظيم المفرط، إلا وهو مسرور بقضاء حاجته.
قال أبو عصمة: وكان ممن يتصرف في الأعمال، رجل من
الأعراب، ذو لسان وفصاحة، يقال له: حامد بن عمرو الحراني، وكان فيه إلحاح شديد،
وملازمة تامة إذا تعطل، فيؤذي بذلك ويبرم.
وكان يخاطب خزيمة في أيام الثلاثاء، ولا يقنع بذلك، حتى
يلازم بابه كل يوم، وإذا ركب خاطبه على الطريق، وربما تعرض له في دار الخليفة
فخاطبه، ولم يكن في طبع خزيمة احتمال مثل ذلك.
قال أبو عصمة:
فحدثني الحسن بن مسلمة، كاتب خزيمة، قال: نظر خزيمة إلى
هذا الرجل في داره، وكان قد لقيه في الطريق، فخاطبه قبل ذلك بيوم، وأضجره، ووافق
من خزيمة ضجراً بشيء حدث من أمور المملكة، مع ما فيه من الجبروتية والكبر.
فحين خاطبه الرجل، صاح فيه، وأمر بإخراجه من داره
إخراجاً عنيفاً، ثم دعاني، فقال: والله، لئن دخل هذا داري، لأضربن عنقه، ولئن وقف
لي على طريق، أو كلمني في دار السلطان، لأضربن عنقه، فأخبره بذلك، وحذره، وتقدم
إلى البوابين والحجاب بمنعه، وكان خزيمة إذا وعد أو توعد، فليس إلا الوفاء.
فخرجت إلى الحجاب والبوابين وأصحاب المقارع، فبالغت في
تحذيرهم، وتهديدهم، وعرفتهم ما قال، وأنه حلف أن تضرب أعناقهم إذا خالفوا، وأكدت
الوصية بجهدي، مستظهراً لنفسي.
وخرجت إلى
خارج الدار، فوجدت الرجل قائماً، فأعلمته أن دمه مرتهن بنظرة ينظرها إليه خزيمة في
دار السلطان، أو على بابه، أو في الطريق، وحذرته تحذيراً شديداً، وخوفته من سفك
دمه، وأن لا يجعل عليه سبيلاً، فشكرني على تحذيره، وانصرف كئيباً.
فلما أصبحنا من الغد، غدوت إلى دار خزيمة على رسمي،
للملازمة، فلما دنوت من الباب، إذا بالرجل واقفاً كما كان يقف منتظراً لركوبه.
فعظم ذلك علي، وقلت: يا هذا، أما تخاف الله ؟ أتحب أن
تقتل نفسك ؟ أما تعرف الرجل ؟ فقال: والله، ما أتيت هذا عن جهل مني ولا اغترار، بل
أتيته على أصل قوي، وسبب وثيق، وسترى من لطف الله ما يسرك، وتعجب منه.
قال الحسن:
فزاد عجبي منه، ودخلت الدار، فصادفت خزيمة في صحن الدار
يريد الركوب، فحين نظر إلي، قال: ما فعل حامد بن عمرو ؟ قلت: رأيته الساعة بالباب،
وقد تهددته، فلما رأيته اليوم بالباب تعجبت من جهله وعوده، مع ما أعذرت إليه من
الوعيد، وأمرته بالانصراف، فأجابني بجواب لا أدري ما هو، فأنا بريء من فعله.
فقال: بأي شيء أجابك ؟ فأخبرته، فسكت خزيمة، وخرج فركب،
فحين رآه حامد ترجل له.
فصاح به: لا تفعل، والحقني إلى دار أمير المؤمنين وسار
خزيمة، فدخل دار الرشيد، ودخلنا معه إلى حيث جرت عادتنا أن نبلغه من الدار، فجلسنا
فيه، ومضى خزيمة يريد الخليفة، وجاء حامد فجلس إلى جانبي.
فقلت له: أصدقني عن خبرك، والسبب في جسارتك على خزيمة،
ولينه لك بعد الغلظة، وعرفته ما جرى بيني وبين خزيمة ثانياً.
فقال: طب نفساً، فما أبدي لك شيئاً إلا بعد بلوغ آخر
الأمر.
فبينا نحن كذلك، إذ دعي حامد إلى حيث كان مرسوماً بأن
يدخله من يخلع عليه، فتحيرت فلم يكن بأسرع من أن خرج وعليه الخلع، وبين يديه لواء
قد عقد له على طريق الفرات بأسره، فقمت إليه وهنأته.
وقلت: ولا الساعة تخبرني الخبر ؟ فقال: ما فات شيء،
وودعني ومضى، فأقمت بمكاني إلى أن خرج خزيمة، فسرت معه إلى داره، فلما استقر،
دعاني، فسألني عن أمور جرت.
وقال: أظنك أنكرت ما جرى من أمر حامد ؟ قلت: إي والله،
أيها الأمير.
قال: فاسمع الخبر، اعلم أني كنت في نهاية الغيظ عليه، وأمرت فيه بما
علمته أمس، فلما كن البارحة، رأيته في النوم، كأنه قائم يصلي، وقد رفع يديه إلى
الله يدعو علي.
فصحت به: لا تفعل، لا تفعل، وادن مني، فانفتل من صلاته،
وجاء حتى وقف بين يدي.
فقلت له: ما يحملك على أن تدعو علي ؟ فقال: لأنك أهنتني،
واستخففت بي، وهددتني بالقتل ظلماً، وقطعت أملي من طلب رزقي وقوتي، وأنا أشكوك إلى
الله، وأستعينه عليك.
وكأني أقول له: طب نفساً، ولا تدع علي، فإني أحسن إليك
غداً، وأوليك عملاً، واستيقظت.
فعجبت من المنام، وعلمت أني قد ظلمت الرجل، وقلت في
نفسي: شيخ من العرب، له سن وشرف، أسأت إليه بغير جرم، وأرعبته، وماذا عليه إذا لج
في طلب الرزق ؟ وعلمت أن الذي رأيته في منامي موعظة في أمره، وحث على حفظ النعم،
وأن لا أنفرها بقلة الشكر، واستعمال الظلم.
فاعتقدت أن أوليه، كما وعدته في النوم، فكان ما رأيت.
قال الحسن بن مسلمة: فقويت رأيه في هذا، ودعوت له،
وانصرفت، فجاءني من العشي حامد، مسلماً، ومودعاً، ليخرج إلى عمله.
فقلت له: هات الآن خبرك.
فقال:
نعم، انصرفت من باب خزيمة موجع القلب، قلقاً، مرتاعاً،
فأخبرت عيالي، فصار في داري مأتم، وبكاء عظيم، ولم أطعم أنا، ولا هم، شيئاً، يومنا
وليلتنا، وأمسيت كذلك.
فلم هدأت العيون، توضأت، واستقبلت القبلة، فصليت ما شاء الله،
وتضرعت إلى الله، ودعوته بإخلاص نية، وصدق طوية، وأطلت، فحملتني عيني، فنمت وأنا
ساجد في القبلة.
فرأيت في منامي، كأني على حالي في الصلاة والدعاء، وكأن
خزيمة قد وقف علي، وأنا أدعو، فصاح بي: لا تفعل، لا تفعل، وأغد علي، فإني أحسن
إليك، وأوليك، فانتبهت مذعوراً، وقد قويت نفسي، فقلت: أبكر إليه، فلعل الله أن
يطرح في قلبه الرقة، فغدوت إليه، فكان ما رأيت.
قال الحسن: فكثر تعجبي لاتفاق المنامين، فقلت لحامد: لقد
أخبرني الأمير بمثل ما ذكرته، لم يخرج منه حرفاً، وبكرت إلى خزيمة، فحدثته بالحديث،
فعجب منه، وأحضر حامداً حتى سمع منه ذلك، وأمر له بكسوة وصلة وحملان، ولم يزل بعد
ذلك يتعمد إكرامه.
بين الوزير علي بن عيسى والعطار الكرخي
ويقارب هذا
حديثان، حدثني بأحدهما بعض أهل بغداد.
أن عطاراً من أهل الكرخ، كان مشهوراً بالستر والأمانة،
فركبه دين، وقام من دكانه، ولزم بيته مستتراً، وأقبل على الدعاء والصلاة، إلى أن
صلى ليلة الجمعة صلاة كثيرة، ودعا، ونام، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه،
وهو يقول له: اقصد علي بن عيسى، وكان إذ ذاك وزيراً، فقد أمرته أن يدفع إليك
أربعمائة دينار، فخذها وأصلح بها أمرك.
قال الرجل: وكان علي ستمائة دينار ديناً، فلما كان من
الغد، قلت: قد قال النبي صلى الله عليه وسلم، من رآني في منامه فقد رآني، فإن
الشيطان لا يتمثل بي، فلم لا أقصد الوزير.
فلما صرت ببابه، منعت من الوصول إليه، فجلست إلى أن ضاق
صدري، وهممت بالانصراف، فخرج الشافعي صاحبه، وكان يعرفني معرفة ضعيفة، فأخبرته الخبر.
فقال: يا هذا، الوزير والله في طلبك منذ السحر إلى الآن،
وقد سألني عنك فأنسيتك، وما عرفك أحد، والرسل مبثوثة في طلبك، فكن بمكانك، ثم رجع
فدخل، فلم يكن بأسرع من أن دعي بي، فدخلت إلى علي بن عيسى.
فقال لي: ما اسمك ؟ قلت: فلان بن فلان العطار.
قال: من أهل الكرخ ؟ قلت: نعم.
قال: أحسن الله إليك في قصدي إياي، فوالله ما تهنأت بعيش منذ
البارحة، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاءني البارحة في منامي، فقال: أعط
فلان بن فلان العطار من أهل الكرخ أربعمائة دينار يصلح بها شأنه، فكنت اليوم في
طلبك، وما عرفك أحد.
فقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاءني البارحة،
فقال لي كيت وكيت.
قال: فبكى علي بن عيسى، وقال: أرجو أن تكون هذه عناية من
رسول الله صلى الله عليه وسلم بي.
ثم قال: هاتوا ألف دينار، فجاءوه بها عيناً.
فقال: خذ منها أربعمائة دينار، امتثالاً لأمر رسول الله
صلى الله عليه وسلم، وستمائة دينار هبة مني لك.
فقلت: أيها الوزير ما أحب أن أزداد على عطاء رسول الله
صلى الله عليه وسلم شيئاً، فإني أرجو البركة فيه، لا فيما عداه.
فبكى علي بن عيسى، وقال: هذا هو اليقين، خذ ما بدا لك.
فأخذت أربعمائة دينار، وانصرفت، فقصصت قصتي على صديق لي،
وأريته الدنانير، وسألته أن يقصد غرمائي، ويتوسط بيني وبينهم، ففعل.
وقالوا: نمهله بالمال ثلاث سنين.
فقلت:
لا، ولكن يأخذون مني الثلث عاجلاً، والثلثين في سنتين،
في كل سنة ثلثاً، فرضوا بذلك، وأعطيتهم مائتي دينار، وفتحت دكاني بالمائتي دينار
الباقية.
فما حال الحول إلا ومعي ألف دينار، فقضيت ديني، وما زال
مالي يزيد، وحالي يصلح، والحمد لله.
طاهر بن يحيى العلوي وجرايته من الحاج الخراساني
والخبر الآخر،
ما حدثني به أحمد بن يوسف الأزرق، عن أبي القاسم ابن أماجور المنجم، قال: كنت إذا
حججت، دخلت على طاهر بن يحيى العلوي، فرأيت عنده خراسانياً، كان يحج في كل سنة،
فإذا دخل المدينة، جاء إلى طاهر بن يحيى فأعطاه مائتي دينار، فكانت كالجراية له
منه.
فلما كان في بعض السنين، جاء يريد داره، ليعطيه المائتي
دينار، فاعترضه رجل من أهل المدينة، فشنع بطاهر عنده، وقال له: تضيع دنانيرك التي
تدفعها إلى طاهر، وهو يأخذها منك ومن غيرك، فيصرفها فيما يكرهه الله تعالى، ويفعل
ويصنع، وتكلم فيه بقبيح.
قال الخراساني: فانصرفت عنه، وتصدقت بالدنانير، وخرجت من
المدينة، ولم ألق طاهراً.
فلما كان في العام الثاني، دخلت المدينة، فتصدقت بالمال،
وطويت طاهراً.
فلما كان في العام الثالث، تأهبت للحج، فرأيت النبي صلى
الله عليه وسلم في منامي، يقول لي: ويحك قبلت في ابني طاهر قول أعدائه، وقطعت عنه
ما كنت تبره به ؟ لا تفعل، فاقصده، وأعطه ما فاته، ولا تقطعه عنه ما استطعت.
قال: فانتبهت فزعاً، ونويت ذلك، وأخذت صرةً فيها ستمائة دينار،
وحملتها معي، فلما صرت بالمدينة، بدأت بدار طاهر، فدخلت عليه وجلست، ومجلسه حفل.
فحين رآني، قال: يا فلان، لو لم يبعث بك إلينا ما جئتنا،
فقلت: كلمة وافقت أمراً، ليس إلا أن أتغافل، فقلت: ما معنى هذا الكلام أصلحك الله
؟ فقال: قبلت فيّ قول عدو الله، وعدو رسوله، وقطعت عادتك عني، حتى لامك رسول الله صلى
الله عليه وسلم في منامك وأمرك أن تعطيني الستمائة دينار، هاتها، ومد يده إلي.
فتداخلني
من الدهش ما ذهلت معه، فقلت: أصلحك الله، هكذا والله كانت القضية، فمن أعلمك بذلك
؟ فقال لي: بلغني خبر دخولك المدينة في السنة الأولى، فلما رحل الحاج ولم تأتني،
أثر ذلك في حالي، وسألت عن القصة، فعرفت أن بعض أعدائنا لقيك، فشنع بي عندك،
فآلمني ذلك.
فلما كان في الحول الثاني، بلغني دخولك، وخروجك، وأنك قد
عملت على قوله فيّ، فازددت غماً لذلك.
فلما كان منذ شهور، ازدادت إضاقتي، وامتنع مني النوم
غماً لما دفعت إليه، ففزعت إلى الصلاة، فصليت ما شاء الله، وأقبلت أدعو بالفرج،
فحملتني عيني في المحراب، فنمت، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في منامي وهو يقول
لي: لا تهتم، فقد لقيت فلاناً الخراساني، وعاتبته على قبوله فيك قول أعدائك، وأمرته
أن يحمل إليك ما فاتك، ولا يقطع عنك بعدها ذلك، ويبرك ما استطاع، وانتبهت، فحمدت الله
وشكرته، فلما رأيتك، علمت أن المنام جاء بك.
قال: فأخرجت الصرة التي فيها ستمائة دينار، فدفعتها
إليه، وقبلت يده، وسألته أن يحلني من قبول قول ذلك الرجل فيه.
قصة العلوية الزمنة
حدثني أبو
محمد يحيى بن محمد بن سليمان بن فهد الأزدي، قال: كان في شارع دار الرقيق، جارية
علوية، أقامت زمنةً خمس عشرة سنة، وكان أبي في جوارها أيام نزولنا بدرب المعوج من
هذا الشارع، في دار شفيع المقتدري، التي كان اشتراها، يتفقدها، ويبرها، وكانت
مسجاة، لا يمكنها أن تنقلب من جنب إلى جنب، أو تقلب، ولا تقعد، أو تقعد، وكان لها
من يخدمها في ذلك، وفي الإنجاء، والأكل، لقصور أطرافها، وأعضائها، وكانت فقيرة،
إنما قوتها وقوت خادمتها من بر الناس.
فلما مات أبي اختل أمرها، وبلغ تجني، أم ولد الوزير
المهلبي خبرها، فكانت تقوم بأمرها، وأجرت عليها جراية في كل شهر، وكسوة في كل سنة.
فباتت ليلة من الليالي على حالها، وأصبحت من الغد، وقد
برأت، ومشت، وقامت، وقعدت.
وكنت مجاوراً له، وكنت أرى الناس يأتون باب دارها،
فأنفذت امرأة من داري، ثقة، حتى شاهدتها، وسمعتها تقول: إني ضجرت بنفسي ضجراً
شديداً، فدعوت الله تعالى بالفرج مما أنا فيه، أو الموت، وبكيت بكاء شديداً متصلاً،
وبت، وأنا متألمة، قلقة، ضجرة، وكان سبب ذلك، أن الجارية التي كانت تخدمني، تضجرت بي،
وخاطبتني بما ضاق صدري معه.
فلما استثقلت في نومي، رأيت كأن رجلاً دخل علي، فارتعت
منه، وقلت له: يا هذا، كيف تستحل أن تراني ؟ فقال: أنا أبوك، فظننته أمير المؤمنين.
فقلت: يا أمير المؤمنين، هوذا ترى ما أنا فيه.
فقال: أنا محمد رسول الله.
فبكيت، وقلت: يا رسول الله، ادع لي بالفرج والعافية.
فحرك شفتيه بشيء لا أفهمه، ثم قال: هاتي يديك، فأعطيته
يدي، وأخذهما، وجذبني بهما، فقمت.
فقال: امشي على اسم الله.
فقلت: كيف أمشي ؟ فقال: هاتي يديك، فأخذهما، وما زال
يمشي بي، وهما في يديه ساعة، ثم أجلسني، حتى فعل ذلك ثلاث مرات.
ثم قال لي: قد وهب الله لك العافية، فاحمديه واتقيه،
وتركني ومضى.
فانتبهت، وأنا لا أشك أنه واقف، لسرعة المنام، فصحت
بالخادم، فظنت أني أريد البول، فتثاقلت.
فقلت لها: ويحك، أسرجي، فإني رأيت رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فانتبهت، فوجدتني مسجاة، فشرحت لها المنام.
فقالت: أرجو أن يكون الله تعالى قد وهب لك العافية، هاتي
يدك، فأعطيتها يدي، فأجلستني.
ثم قالت لي: قومي، فقمت معها، ومشيت متوكئة عليها، ثم
جلست، ففعلت ذلك ثلاث مرات، الأخيرة فيهن مشيت وحدي.
فصاحت الخادمة سروراً بالحال، وإعظاماً لها، فقدر
الجيران أني قد مت، فجاؤوا، فقمت أمشي بين أيديهم.
قال أبو محمد: وما زالت قوتها تزيد، إلى أن رأيتها قد
جاءت إلى والدتي في خف وإزار، بعد أيام،، ولا داء بها، فبررناها، وهي إلى الآن
باقية، وهي من أصلح وأورع أهل زماننا، وقد تزوجت برجل علوي موسر، وصلحت حالها، ولا
تعرف إلى الآن، إلا بالعلوية الزمنة.
فمضى على
هذا الحديث، سنون كثيرة، وجرى بيني وبين القاضي أبي بكر محمد بن عبد الرحمن،
المعروف بابن قريعة، مذاكرة بالمنامات، فحدثني بحديث منام هذه العلوية، وقصتها،
وعلتها، على مثل ما حدثني به أبو محمد، وقال: وأنا كنت أحمل إليها جرايتها من عند
تجني، جارية الوزير أبي محمد المهلبي، وكسوتها على طول السنين، وسمعت منها هذا
المنام، ورأيتها تمشي بعد ذلك صحيحة، بلا قلبة، وتجيء إلى تجني، وتجني زوجتها بالعلوي،
وأعطتني مالاً، فقمت بتجهيزها، وأمرها، حتى أعرس بها زوجها، وهي إلى الآن من خيار
النساء.
قال مؤلف الكتاب: وحدثني بعد هذا، جماعة أسكن إليهم من
أهل شارع دار الرقيق، بخبر هذه العلوية، على قريب من هذا، وهي باقية إلى حين
معرفتي بخبرها في سنة ثلاث وسبعين وثلثمائة.
ثم كنت في سنة سبع وسبعين وثلثمائة عند أبي الفتح أحمد
بن علي بن هارون المنجم، فرأيت في داره بدرب سليمان من شارع دار الرقيق، وأنا
عنده، امرأة عجوزاً، قد دخلت، فأعظمها.
فقلت: من هذه ؟ فقال: العلوية الزمنة، صاحبة المنام،
وكانت تمشي بخفها وإزارها.
فسألتها أن تجلس: ففعلت، واستخبرتها، فحدثتني، فقالت:
اعتللت من برسام، وأنا في حدود عشرين سنة من عمري، ثم انجلى عني، وقد لحق حقوي شيء
أزمنني، فكنت مطروحة على الفراش سبعاً وعشرين سنة، لا أقدر أن أقعد، ولا أقوم
أصلاً، وأنجو في موضعي، وأغسل، وكنت مع ذلك، لا أجد ألماً.
ثم بعد سنين كثيرة من علتي، رأيت النبي صلى الله عليه
وسلم، في منامي وأنا أقول له: يا جدي، ادع الله عز وجل أن يفرج عني.
فقال: ليس هذا وقتك.
ثم رأيت أمير المؤمنين رضي الله عنه، فقلت له: أما ترى
ما أنا فيه، فاسأل رسول الله أن يدعو لي، أو ادع لي أنت، فكأنه قد دافعني.
ثم توالت علي بعد ذلك، رؤيتي لهما في النوم، فجرى بيني
وبينهما قريب من هذا، ورأيت الحسن والحسين رضي الله عنهما، وكأني أسأل كل واحد
منهما الدعاء بالعافية، فلا يفعل.
فلما مضت سبع وعشرون سنة، لحقني ألم شديد، أياماً في
حقوي، فقاسيت منه شدة شديدة، فأقبلت أبكي، وأدعو الله بالفرج.
فرأيت ليلة في منامي، النبي صلى الله عليه وسلم، فعرفته،
لأني كنت أراه طول تلك السنين على صورة واحدة، وكأني أقول له: يا جدي، متى يفرج
الله عني ؟ فكأنه أدخل يده في طرف كمي، وجس بدني، من أوله إلى آخره، حتى بلغ حقوي،
فوضع يده عليه، وتكلم بكلام لا أفهمه، ثم ردني على قفاي، كما كنت نائمة، وقال: قد فرج
الله عنك، فقومي.
فقلت: كيف أقوم ؟ فقال: هاتي يدك، فأعطيته يدي، فأقعدني.
ثم قال: قومي على اسم الله.
فقمت، ثم خطا بي خطوات يسيرة، وقال: قد عوفيت.
فانتبهت، وأنا مستلقية على ظهري، كما كنت نائمة، إلا
أنني فرحانة، فرمت القعود، فقعدت لنفسي وحدي، ودلت رجلي من السرير، فتدلتا، فرمت
القيام عليهما، فقمت، ومشيت، فقلت للمرأة التي تخدمني: لست آمن أن يشيع خبري،
فيتكاثر الناس علي، فيؤذوني، وأنا ضعيفة من الألم الذي لحقني، إلا أني كنت لما انتبهت،
لم أحس بشيء من الألم، ولم أجد غير ضعف يسير.
فقلت: اكتمي أمري يومين، إلى أن صلحت قوتي فيهما، وزادت
قدرتي على المشي والحركة، وفشا خبري، وكثر الناس علي، فلا أعرف إلى الآن، إلا
بالعلوية الزمنة.
فسألتها عن نسبها، فقالت: أنا فاطمة بنت علي بن الحسن بن
القاسم ابن عبد الله بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب
رضي الله عنهم، لم تذكر لي غير هذا، ولا سألتها عنه.
أبو القاسم السعدي يرى مناماً فيتوب عن فعل المنكر
حدثني أبو محمد يحيى بن محمد بن سليمان بن فهد الأزدي
الموصلي، قال: سمعت أبا القاسم السعدي، يحدث أبي ببغداد، قال: كنت وأنا حدث السن،
مشغوفاً بغلام لي شغفاً شديداً، منهمكاً معه في الفساد، فكان ربما هجرني، فأترضاه
بكل ما أقدر عليه، حتى يرضى.
قال: وإنه غضب علي مرة غضباً شديداً، فهرب، واستتر عني
خبره، فلحقني من الحيرة والوله، ما قطعني عن النظر في أمري، وصيرني كالمجنون،
واجتهدت في صرف ذلك عني فما انصرف.
وحضر وقت
خروج الناس إلى الحائر، على ساكنه أفضل الصلاة والسلام، فكتبت رقعة أسأل الله عز
وجل فيها الفرج مما أنا فيه، وأتوسل إلى الله تعالى بالحسين ابن علي رضي الله
عنهما، ودفعتها إلى بعض من خرج، وسألته أن يدفعها في ناحية من القبر.
وكانت ليلة النصف من شعبان، ففزعت إلى الله، في كشف ما
بي، وتفردت بالصلاة والدعاء، قطعة من الليل، ثم حملني النوم.
فرأيت في منامي كأني في مقابر قريش، والناس مجتمعون
فيها، إذ قيل: قد جاء الحسين بن علي، وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم،
للزيارة.
فتشوفت لرؤيتهما، فإذا بالحسين في صورة كهل، حسن الوجه،
بدراعة، وعمامة، وخف، قد أقبل، ومعه فاطمة عليهما السلام، متنقبة بنقاب أبيض،
وملحفة بيضاء.
فاعترضت الحسين، وقلت: يا ابن رسول الله، كتبت إليك رقعة
في حاجة لي، فإن رأيت أن تعمل فيها ؟ فلم يجبني، ودخل إلى القبة التي فيها محمد بن
علي بن موسى رضي الله عنهم، ودخلت فاطمة عليها السلام معه، وكأن قوماً قد وقفوا
يمنعون الناس من الدخول إليها، فلم أزل أكابس وأتوصل، إلى أن دخلت، فأعدت عليه الخطاب،
فلم يجبني.
فقلت لفاطمة: يا سيدة النساء، إن رأيت أن تعملي في أمري.
فقالت: على أن تتوب ؟ فقلت: نعم.
فقالت: الله ؟ فقلت: الله.
فكررت ذلك علي ثلاثاً، ثم أومأت إلى جماعة ممن كانوا
قياماً، فقالت: خذوه، فأخذوني، ونزعت خاتماً من يدها فدفعته إليهم،، وخاطبتهم بما
لم أفهمه، فحملوني حتى غبت عن عينها، وأضجعوني وحلوا سراويلي وشدوا ذكري بخيط
حلبي، ووضعوا على الشد طيناً، وختموه بالخاتم، فورد علي من الألم أمر عظيم، أنبهني،
فانتبهت وقد أثر الخيط في الموضع، وصار أثر الخاتم كأنه الجديري، مستديراً حول
الموضع.
ثم قال لأبي: إن شئت كشفت لك فأريتك، فقد أريته لجماعة.
فقال: لا أستحل النظر إلى ذلك.
قال السعدي: فأصبحت من غد، وما في قلبي البتة من الغلام
شيء، وابتعت الجواري، فكنت أطأهن، لا أنكر من جماعي شيئاً.
ثم طالبتني بالغلمان، فدافعتها مدة، ثم غلبتني الشهوة،
فاستدعيت غلاماً، فلم أقدر عليه، واسترخى العضو، وبطل، فلما فارقته، أنعظت،
فعاودته، فاسترخى، فجربت ذلك على عدة غلمان، فكانت صورتي واحدة.
فجددت توبةً ثانية، وما نقضتها بعد ذلك.
قال أبو محمد: وكان أبو علي القارىء الضرير، قد سمع معي
هذا الخبر من السعدي، فأخبرني بعد مدة طويلة - وحلف لي على ذلك - أنه رأى فاطمة
رضي الله عنها، في النوم، فقلت لها يا سيدتي، منام السعدي الذي حكاه صحيح ؟ فقالت:
نعم.
أبو جعفر بن بسطام له قصة في رغيف
حدثنا أبو
علي الحسن بن محمد الأنباري الكاتب، قال: كان ابن الفرات، يتتبع أبا جعفر بن بسطام
بالأذية، ويقصده بالمكاره، فلقي منه في ذلك شدائد كثيرة.
وكانت أم أبي جعفر قد عودته منذ كان طفلاً، أن تجعل له
في كل ليلة، تحت مخدته التي ينام عليها، رغيفاً من الخبز، فإذا كان في غد، تصدقت
به، عنه.
فلما كان بعد مدة من أذية ابن الفرات له، دخل إلى ابن
الفرات في شيء أحتاج إلى ذلك فيه، فقال له ابن الفرات: لك مع أمك خبر في رغيف ؟
قال: لا.
فقال: لا بد أن تصدقني.
فذكر أبو جعفر الحديث، فحدثه به على سبيل التطايب بذلك
من أفعال النساء.
فقال ابن الفرات: لا تفعل، فإني بت البارحة، وأنا أدبر
عليك تدبيراً لو تم لاستأصلتك، فنمت، فرأيت في منامي، كأن بيدي سيفاً مسلولاً، وقد
قصدتك لأقتلك به، فاعترضتني أمك بيدها رغيف تترسك به مني، فما وصلت إليك، وانتبهت.
فعاتبه أبو جعفر على ما كان بينهما، وجعل ذلك طريقاً إلى
استصلاحه، وبذل له من نفسه ما يريده من حسن الطاعة، ولم يبرح حتى أرضاه، وصارا
صديقين.
وقال له ابن الفرات: والله، لا رأيت مني بعدها سوءاً
أبداً.
بينما كان يترقب القتل وافاه الفرج في مثل لمح البصرذكر محمد
بن عبدوس في كتابه، كتاب الوزراء، عن أبي العباس ابن الفرات، عن محمد بن علي بن
يونس، عن أبيه، أنه كان يكتب لرجاء ابن أبي الضحاك، وهو بدمشق، وأن علي بن إسحاق
بن يحيى بن معاذ، كان يتقلد خلافة صول أرتكين على المعونة بدمشق، فوثب على رجاء،
فقتله، وقبض على جماعة من أسبابه، وأمر بحبسي، فحبست في يدي سجان كان جاراً لي،
فكان يأتيني بالخبر ساعةً بساعة.
فدخل إلي،
وقال: قد أخرج راس صاحبك رجاء على قناة.
ثم جاءني وقال: قد قتل مطببه، ثم جاءني فقال: قد قتل ابن
عمه، ثم جاءني فقال: قد قتل كاتبه الآخر.
ثم قال: الساعة، والله، يدعى بك لتقتل، فقد سمعت نبأ
ذلك، فنالني جزع شديد، وخرج السجان، فأقفل الباب علي.
فدعي بي، فدافع عني، وقال: البيت الذي هو فيه مقفل،
والمفتاح مع شريكي، والساعة يجيء، وبعث في طلبه.
فنالني في تلك الساعة نعاس، فرأيت في منامي، كأني ارتطمت
في طين كثير، وكأني قد خرجت، وما بل قدمي منه شيء، فاستيقظت، وتأولت الفرج، وسمعت
حركة شديدة، فلم أشك أنها لطلبي، فعاودني الجزع.
فخل السجان، فقال: أبشر فقد أخذ الجند علي بن إسحاق
فحبسوه.
فلم ألبث حتى جاءني الجند، فأخرجوني، وجاؤوا بي إلى مجلس
علي بن إسحاق الذي كان فيه جالساً، وقدامه دواة وكتاب قد كان كتبه إلى المعتصم في
تلك الساعة، يخبره بخبر قتله رجاء، وجعل له ذنوباً، ولنفسه معاذير، وسماه رجاء المجوسي،
والكافر، فخرقت الكتاب، وكتبت بالخبر كما يجب إلى المعتصم.
فحبس طويلاً، ثم أظهر الوسواس، وتكلم فيه أحمد بن أبي
دؤاد، فأطلق.
المنصور يرى مناماً فيرفع الظلامة عن محبوس
وجدت في بعض الكتب: أن المنصور استيقظ من منامه ليلة من
الليالي، وهو مذعور لرؤيا رآها، فصاح بالربيع، وقال له: صر الساعة إلى الباب
الثاني الذي يلي باب الشام فإنك ستصادف هناك رجلاً مجوسياً مستنداً إلى الباب
الحديد، فجئني به، فمضى الربيع مبادراً، وعاد والمجوسي معه.
فلما رآه المنصور، قال: نعم، هو هذا، ما ظلامتك ؟ قال:
إن عاملك بالأنبار، جاورني في ضيعة لي، فسامني أن أبيعه إياها، فامتنعت، لأنها
معيشتي، ومنها أقوت عيالي، فغصبني إياها.
فقال له المنصور: فبأي شيء دعوت قبل أن يصير إليك رسولي
؟ قال: قلت: اللهم إنك حليم ذو أناة، ولا صبر لي على أناتك.
فقال المنصور للربيع: أشخص هذا العامل، وأحسن أدبه،
وانتزع ضيعة هذا المجوسي من يده، وسلمها إلى هذا المجوسي، وابتع من العامل ضيعته،
وسلمها إليه أيضاً.
ففعل الربيع ذلك كله في بعض نهار يوم، وانصرف المجوسي،
وقد فرج الله عنه، وزاده، وأحسن إليه.
صاحب الشرطة ببغداد يرى مناماً يرشده إلى القاتل ويبرىء
فيجاً مظلوماً
وجدت في كتاب: حدث القاسم بن كرسوع، صاحب أبي جعفر
محبرة، قال: كان ابن أبي عون، صاحب الشرطة، قد وعد محبرة أنه يجيئه للإقامة عنده،
والشرب مصطبحاً على ستارته في يوم الثلاثاء، فأبطأ عليه، وتعلق قلب محبرة بتأخره،
فبعث غلاماً له يطلبه ويعرف خبره في تأخره.
فعاد إلى محبرة، وقال: وجدته في مجلس الشرطة، يضرب رجلاً
بالسياط، وذكر أنه يجيء الساعة، فلما كان بعد ساعة، جاء ابن أبي عون.
فقال له أبو جعفر: أفسدت صبوحنا، وشغلت قلبي بتأخرك، فما
سبب ذلك ؟ فقال: إني رأيت البارحة في منامي، كأني بكرت بلبل لأجيك، وليس بين يدي
إلا غلام واحد، فسرت في خراب إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، لأجيء إلى رحبة الجسر،
فإني لأسير في القمر، إذ رأيت شيخاً بهياً، نظيف الثوب، على رأسه قلنسوة لاطية، وفي
يده عكاز، فسلم علي، وقال: إني أرشدك إلى ما فيه مثوبة: في حبسك فيج مظلوم، وافى
من المدائن، في وقت ضيق، فاتهم بأنه قتل رجلاً، وهو بريء من دمه، وقد ضرب وحبس،
وقاتل الرجل غيره، وهو في غرفة وسطى من ثلاث غرف مبنية على طاق العكي بالكرخ،
واسمه فلان بن فلان، ابعث من يأخذه، فإنك ستجده سكران، عريان، بسراويل، وفي يده
سكين مخضبة بالدم، فاصنع به ما ترى، وأطلق الفيج البائس.
قلت: أفعل، وانتبهت، فركبت، وسرت، حتى وافيت رحبة الجسر.
فقلت: ما حدث في هذه الليلة ؟ فقالوا: وجدنا هذا القتيل،
وهذا الفيج معه، فضربناه، ولم يقر.
فرأيت به أثر ضرب عظيم، فسألته عن خبره، فقال: أنا معروف
بالمدائن بسلامة الطريقة، ومعاشي التفيج، أنفذني فلان بن فلان من المدائن، إلى
فلان بن فلان من أهل بغداد، بهذه الكتب، وأخرج إضبارة، فدخلت أوائل بغداد وقت العتمة،
فوجدت في الطريق رجلاً مقتولاً، فجزعت، ولم أدر أين آخذ، فأنا على حالي إذ أدركني
الأعوان، فظنوني قتلته، ووالله ما أعرفه، ولا رأيته قط، وقد حبسوني وضربوني،
فالله، الله، في دمي.
فقلت: قد فرج الله عنك، انطلق حيث شئت، ثم أخذت الرجالة، ومضيت إلى طاق العكي، فإذا الثلاث غرف مصطفة، فهجمت على الوسطى، فإذا فيها رجل سكران عليه سراويل فقط، وفي يده سكين مخضب بالدم، وهو يقول: أخ عليك، والك، نعم يا سيدي، أنا جرحته، أخو القحبة، وأن مات فأنا قتلته، فأنزلته مكتوفاً، وبعثت به إلى الحبس، وانحدرت إلى الموفق، فأعلمته بالحديث، فتعجب، وتقدم إلي أن أضرب القاتل بالسياط إلى أن يتلف، وأصلبه في موضع جنايته، فتشاغلت بذلك إلى أن فرغت منه، ثم جئتك.
الرحبة
الرحبة:
الأرض الواسعة، وكانت الكلمة تطلق على المدينة أو القرية، أو الفضاء الكائن بين
الأبنية، مما يسمى الآن ساحة، أو ميداناً.
وذكر ياقوت في كتابه المشترك وضعاً والمفترق صقعاً ص 203
ستة مواضع تسمى الرحبة، بضم الراء، وتسعة مواضع تسمى الرحبة، بفتح الراء.
فمن المدن: رحبة مالك بن طوق، بناها مالك، ونسبت إلى
بانيها، وهي بين الرقة وبغداد على شاطىء الفرات على بعد 8 أيام من دمشق معجم
البلدان 2 - 764.
ومن القرى: الرحبة، قرية بحذاء القادسية، على مرحلة من
الكوفة، قال عنها ياقوت إنها على يسار الحاج المتوجهين إلى مكة، وقد خربت الآن
لكثرة طروق العرب، لأنها على ضفة البرية، ليس بعدها عمارة معجم البلدان 2 - 762
والمفترق صقعاً ص 203.
أقول: مررت على الرحبة في السنة 1935 لما كنت قاضياً في منطقة
أبي صخير المجاورة للنجف، وكانت الحيرة، ورحبة القادسية تابعة لمحكمة أبي صخير،
وقد أبصرت أهالي الرحبة يقيمون في حصن، وقد اتخذوا في باطنه مساكن لهم، وهم يزرعون
الخضر والبطيخ الأحمر المعروف ببغداد بالرقى، وماؤهم من عين ثرة هناك، تسمى عين
الرحبة.
وأما الرحبة بمعنى الساحة، أو الميدان، أو الفضاء الكائن
بين الأبنية، فقد كان لكل جامع رحبة، وفي كل رأس جسر رحبة، هذا ما عدا الرحبات
الأخرى الكائنة في داخل المدينة، وقد سميت إحدى رحبات مسجد المدينة، رحبة القضاء،
إذ كانت داراً لعبد الرحمن بن عوف، قضى فيها لعثمان بالخلافة الطبري 4 - 237،
ورحبة القصابين بالبصرة، وقعت فيه معركة بين أنصار يزيد بن المهلب، وبين أتباع
الأمويين في السنة 101 العيون والحدائق 3 - 57، وكان لمسجد البصرة رحبة الطبري 5 -
518 ولجامع المنصور بالمدينة المدورة رحبة الطبري 9 - 358، وكانت إحدى الرحبات في
سامراء، اسمها رحبة زيرك وهي بالقرب من باب الفراعنة تاريخ بغداد للخطيب 6 - 368.
وكان لجامع القصر ببغداد رحبة، وهو الجامع الذي كان الخلفاء
العباسيون يقيمون فيه ببغداد صلاة الجمعة، ينفذون إليه من قصر الخلافة، عبر ممرات
تحت الأرض، وهذا الجامع، تعاورته أيدي الغصب فلم يبق منه إلا مئذنته، واسمها الآن
منارة سوق الغزل.
أما رحبة جامع القصر، فهي واقعة خارج الجامع، مما يلي
المئذنة، في شرقيها، وما تزال إلى الآن رحبة يحتلها القصابون الذين يبيعون لحم
البقر، وتفصل هذه الرحبة الآن بين سوق الشورجة حيث تباع الغلال، وبين سوق الدهانة،
حيث دكاكين العطارين، والبقالين، والحلوانيين، ويسميهم البغداديون الشكرجية.
وكانت رحبة الجسر من أنزه المواضع ببغداد، بحيث أن الناس
كانوا يجتمعون فيها للفرجة، وفي بغداد أغنية شائعة نظمها بغدادي أضاق، فقال يسلي
نفسه:
لا بدّ ما تنقضي ... والفقر ما هو عيب
وأقف برأس الجسر ... وأخرخشك يا جيب
وحدثوا أن أعرابياً قدم بغداد، فأطعم اللوزينج اسمه الآن
ببغداد: بقلاوه، فارسية: باقلاوا، فاستطابه، وقال: سمعت الأشياخ من أهلي، يذكرون أن من
طيبات بغداد: الحمام، ورأس الجسر، وهذا الذي أكلته، لا بد أن يكون واحداً منهما.
عزم على قتله ثم من عليه وأطلقه ثم يمن عليه ويطلقهحدثني
علي بن محمد بن إسحاق بن إبراهيم بن موسى، وكان ابن أخي موسى بن إسحاق القاضي
الأنصاري، قال: كنت خرجت مع أبي وهو يكتب لأبي جعفر الكرخي محمد بن القاسم، لما
تقلد الموصل والديارات، وكان قد ضم إلى أبي جعفر من قواد السلطان، فلما صرنا
بنصيبين كان أبي قد مضى وأنا معه إلى أبي العباس أحمد ابن كشمرد مسلماً عليه،
فتحدثا، فسمعته يحدثه، قال:
لما أسرني
أبو طاهر القرمطي، فيمن أسره بالهبير، حبسني وأبا الهيجاء، والغمر، في ثلاث حجر متقاربة،
ومكننا أن نتزاور، ونجتمع على الحديث.
فمكن أبا الهيجاء خاصة، واختص به، وعمل على إطلاقه،
وشفعه على أشياء.
فسألت أبا الهيجاء أن يسأله إطلاقي، فوعدني، واستدعاه
القرمطي، فمضى إليه وعاد إلى حجرته، فجئت وسألته: هل خاطبه ؟ فدافعني.
فقلت:
لعلك أنسيت ؟ فقال: لا والله، ولوددت أني ما ذكرتك له،
إني وجدته متغيظاً عليك، فقال: والله، لأضربن عنقه عند طلوع الشمس في غد.
ورحل أبو الهيجاء، فورد علي أمر عظيم، وعدت إلى حجرتي
وقد يئست من الحياة، فلما كان في الليل، رأيت في منامي كأن قائلاً يقول لي: اكتب
في رقعة: بسم الله الرحمن الرحيم، من العبد الذليل، إلى المولى الجليل، مسني الضر
والخوف، وأنت أرحم الراحمين، فبحق محمد وآل محمد، اكشف همي وحزني، وفرج عني، واطرح
هذه الرقعة في هذا النهر، وأومأ إلى ساقية كانت تجري هناك في المطبخ.
فانتبهت من نومي، وكتبت الرقعة، وطرحتها في الساقية.
فلما كان السحر استدعاني القرمطي، فلم أشك أنه القتل،
فلما دخلت إليه أدناني وأجلسني، وقال: قد كان رأيي فيك غير هذا، إلا أني قد رأيت
تخليتك.
فخرجت، فإذا على الباب راحلة، ورجل يصحبني، فربكت، ودخلت
البصرة سالماً، ولحقت أبا الهيجاء بها، فدخلنا معاً إلى بغداد
محمد بن سليمان الكاتب دخل مصر أجيراً ثم دخلها أميراً
قال أبو الحسن علي بن زكي: كنت مع صاحبي عيسى النوشري،
وكان مضافاً لمحمد بن سليمان الكاتب على حرب الطولونية، إلى أن افتتحت مصر،
فتقلدها عيسى.
قال: قال عيسى: خرج يوماً محمد بن سليمان إلى ظاهر الفسطاط، فانتهى
به السير إلى قبة كانت لأحمد بن طولون، يقال لها: قبة الهواء، مطلة على النيل وعلى
البر، فجلس فيها ومعه الحسين بن حمدان وجماعة من القواد، ثم قال: الحمد لله الذي
بيده الأمر كله يفعل ما يشاء.
فقال له الحسين بن حمدان: لا شك أن تجديدك الحمد لأمر.
قال: نعم، وهو عجيب طريف ذكرته الساعة، وهو أني نزعت إلى مصر وأنا
في حال رثة، في زي صغار الأتباع، فضاق علي المعاش بها ؟ فاتصلت بلؤلؤ الطولوني،
فأجرى علي دينارين في كل شهر، وصيرني مشرفاً في إصطبله على كراعه، فكنت هناك من حيث
لا يعرف وجهي جيداً، ولا أقدم على الوقوف بين يديه.
فلما كان في بعض الأيام أحضرني، فقال: ويحك، من أين
يعرفك الأمير ؟ يعني أحمد بن طولون.
فقلت: والله، ما رآني قط، ولا وقعت عينه علي إلا في
الطريق، ولا محلي محل من يتصدى للقائه.
فقال: دعاني الساعة، وهو في قبة الهواء، فقال: معك رجل
أشقر أشهل، يقال له: محمد بن سليمان.
فقلت: ما أعرفه.
فقال:
بل هو في جنبتك، فأبعده عنك، فإني رأيته البارحة وفي يده
مكنسة يكنس داري بها، فتوق ويحك، ولا تتعرف إلى أحد من حاشيته، وأقرني على أمري،
فامتثلت أمره.
ومضت لهذا الحديث شهور، ثم دعاني ثانية، فقال: ويحك،
ماذا بليت به منك، وبليت أنت به من هذا الأمير ؟ دعاني بعدة من أصحاب الرسائل، فوافيته
وأنا في غاية الوجل، فقال. أليس أمرتك بصرف محمد بن سليمان الأزرق الأشقر ؟ فقلت:
قد عرفتك يا سيدي أني ما استخدمت من هذه سبيله، ولا وقعت لي عليه عين.
فقال: كذبت، هو معك في إصطبلك، فأخرجه الساعة عن البلد، فإني
قد رأيته البارحة في النوم، وفي يده مكنسة، وهو يكنس بها سائر حجري وداري، ونسأل
الله الكفاية.
فقلت للؤلؤ: وأي ذنب لي يا سيدي في الأحلام ؟ فقال لي:
صدقت، فاستتر إلى أن يتناسى الأمير ذكرك، ففعلت، وكان يجري علي ذلك الرزق، وأنا لا
أعمل شيئاً.
فلما تهيأ من إنفاذ لؤلؤ إلى الشام ما تهيأ، نهضت معه،
وتخلف عنه كتابه، لما كانوا علموه من تغير حاله عند صاحبه، فأدناني، وقربني، وأجرى
علي في كل شهر عشرة دنانير، وحملني على دابة وبغل، فلزمت خدمته، وكفيته، واستحمدت
إليه، فزادني من رأيه، ولم ينته إلى العريش، حتى تنبه أحمد بن طولون على استيحاش
لؤلؤ، فكتب إليه بالرجوع إلى مصر، فشاورني، فأشرت عليه بالانحدار إلى نواحي ديار
مضر، وأخذ ما يستهدف له من المال، ولم أترك غايةً إلا أتيتها في تضريبه وتأليبه،
حتى أوردته مدينة السلام.
ثم تقلبت
بي الأحوال في خدمة السلطان، وخدمة الدول، وتوفي أحمد بن طولون، وقتل أبو الجيش،
وجيش ابنه، وتولى بعدهم هارون بن خمارويه، فاختصصت أنا بالقاسم بن عبيد الله،
فقلدني ديوان الجيش. ثم
ندبني لمحاربة هارون، وضم إلي القواد والرجال، وكان فيهم لؤلؤ صاحبي، وكان أصغر
الجماعة حالاً، وأحقرهم شأناً، خالياً من الرجال والكراع، فلم أقصر في إصلاح حاله،
والإحسان إليه، ومعرفة حقه.
فلم أدن من الشام حتى تلقاني بدر الحمامي، وتلاه طغج بن
جف مسرعاً، وصرت إلى مصر، فلما شارفتها وثب شيبان بن أحمد بن طولون ومن تابعه من
جند مصر، فقتلوا هارون، وتولى شيبان الأمر بعده، وانثال إلي القواد في الأمان،
ولحق بهم شيبان، وتخلف الرجالة وقطعة من الفرسان، وأظهروا الخلاف، فأوقعت بهم،
وأفنيتهم قتلاً وأسراً، ودخلت فسطاط مصر عنوةً، وحويت النعم والمهج، وأشخصت
الطولونية عن البلد إلى الحضرة، حتى لم يبق منهم أحد.
وصح بذلك منام أحمد بن طولون، فسبحان الذي ما شاء فعل،
وإياه نسأل خير ما تجري به أقداره، وأن يختم لنا بخير برحمته.
شفاه منام رآه أحد أصحابه
حدثني أبو
الفرج عبد الواحد بن نصر الكاتب المعروف بالببغاء، قال: اعتللت بحلب علةً، جف منها
بدني كله، فكنت كالخشبة، لا أقدر على أن أتحرك أو أحرك، ونحل جسمي، وتقلبت بي
أعلال متصلة متضادة صعبة، فمكثت حليف الفراش سنين، وآيسني الأطباء من البرء، وقطعوا
مداواتي.
وكان لي صديق شيخ يعرف بأبي الفرج بن دارم، من أهل بلدي
- يعني نصيبين - مقيم بحلب، مواظب على عيادتي، وملازم لي، وكان لفرط اغتمامه بي،
وأن الأطباء قد آيسوه مني، يظهر لي من الجزع علي أمراً يؤلم قلبي، ويؤيسني من
نفسي، ثم تجاوز ذلك إلى التصريح باليأس، وتوطيني عليه، ثم تعدى هذا إلى أن صار لا
يملك دمعته إذا خاطبني.
فضعفت عن تحمل هذا، وتضاعفت به علتي، وخارت معه قوتي،
فاعتقدت أن أقول لغلامي أن يترصده، فإذا جاء الرجل إلي قال له عني: إني لا أستحسن
حجابه، وإن علتي تضاعفت مما أشاهده، وأسمعه منه، ويسأله أن ينقطع عني، أو يقطع
مخاطبتي بما فيه إياس لي، وقررت عزمي على هذا في ليلة من الليالي، ولم أخاطب به
غلامي.
فلما كان في صبيحة تلك الليلة، باكرني ابن دارم، فحين
وقعت عيني عليه، تثاقلت به خوفاً من أن يسلك معي مذهبه، وهممت أن أفتتح خطابه بما
كنت عزمت على مراسلته به، فسبقني بأن قال لي: جئتك مبشراً.
فقلت: بماذا ؟ قال: رأيت البارحة في منامي، كأني بالرقة،
والناس يهرعون إلى زيارة قبور الشهداء.
قال أبو الفرج: وهم جماعة ممن قتل بصفين، مع علي بن أبي
طالب رضي الله عنه، منهم عمار بن ياسر، حملوا إلى ظاهر الرقة، فدفنوا بها، والحال
في ذلك مشهور، والقبور إلى الآن مغشية معمورة.
قال لي ابن دارم: ورأيت كأن أكثر الناس مطيفون بقبة،
فسألت عنها، فقيل لي: هي على قبر عمار بن ياسر رضي الله عنه، فقصدتها، وطفت بها،
فإذا القبر مكشوف، وفيه رجل شيخ، بثياب بيض، وفي رأسه ضربات بينة دامية، وعلى
لحيته دم، والناس يسألونه فيجيبهم، فلحقتني حيرة، ولم أدر عما أسأله.
فقلت له: يا سيدي، لعلك عارف بأبي الفرج عبد الواحد بن
نصر المخزومي المعروف بالببغاء.
فقال: نعم، أنا عارف به.
فقلت: أيعيش أم لا ؟ فقال: نعم، يعيش، ويبرأ، ولكن أنت
لك ابن فاحذر عليه من علة تلحقه قريباً، واستيقظت.
وأخذ يهنيني بالعافية، ويقول: سرني ما جرى، ولكن قد
أوحشني في أمر ابني، وأسأل الله تعالى الكفاية.
قال أبو الفرج: وكان للرجل ابن، له نحو الثلاثين سنة،
وهو في الحال معافى، فلما مضت خمسة أيام من الرؤيا حم الفتى، وتزايدت علته، فمات
في اليوم الرابع عشر من يوم حم، فقويت نفسي في صحة المنام، وما مضى على موت الفتى إلا
أيام يسيرة، حتى أدبر مرضي، ولم تزل العافية تقوى إلى أن عوفيت، وعادت صحتي كما
كانت بعد مدة يسيرة.
رأى الإسكندر رؤيا تبعها انتصاره على دارا ملك الفرسوجدت
في بعض الكتب: أنه لما اشتدت الحرب بين الإسكندر، وبين دارا بن دارا، استظهر دارا
عليه، وأشرف الإسكندر على الهلاك، وأيس من النصر، وحال الشتاء بينهما، فانصرف
الإسكندر إلى معسكره، مغموماً مهموماً ليلته، ثم نام.
فرأى في
منامه، كأنه صرع دارا، فصرعه دارا، فانتبه وقد كربه ذلك، وزاد في همه وغمه.
فقص رؤياه على بعض فلاسفته، فقال: أبشر أيها الملك
بالغلبة والنصر، فإنك تغلب دارا على الأرض، لأنك كنت تليها لما صرعك.
فلما كان بعد أيام يسيرة، انهزم دارا، وقتل، وجاؤوا
برأسه إلى الإسكندر.
رؤيا عبد الله بن الزبير وتعبيرها
قال مؤلف
هذا الكتاب: ومثل هذا ما هو مشهور في روايات أصحاب الأخبار والسير، أن عبد الله
ابن الزبير رأى في منامه، كأنه صارع عبد الملك بن مروان، فصرع عبد الملك، وسمره
على الأرض بأربعة أوتاد.
فأرسل راكباً إلى البصرة، وأمره أن يلقى محمد بن سيرين،
ويقص الرؤيا عليه، ولا يذكر له من أنفذه.
فأتاه وقص عليه المنام، فقال له ابن سيرين: من رأى هذا ؟
قال: أنا رأيته في رجل بيني وبينه عداوة.
فقال: ليس هذه رؤياك، هذه رؤيا ابن الزبير أو عبد الملك،
أحدهما في الآخر.
فسأله الجواب، فقال: ما أفسرها أو تصدقني، فلم يصدقه،
فامتنع من التفسير، فانصرف الراكب إلى ابن الزبير، فأخبره بما جرى.
فقال له: ارجع إليه، واصدقه، أنني رأيته في عبد الملك.
فرجع الراكب إلى ابن سيرين، وصدقه، فقال له: قل له يا
أمير المؤمنين، إن عبد الملك يغلبك على الأرض، ويلي هذا الأمر من ولده لظهره
أربعة، بعدد الأوتاد التي سمرته بها على الأرض.
رأى في منامه أنه قد صرع خصمه فكان تعبير رؤياه أن الخصم
هو المنتصرحدثني أبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي، الكاتب، المقيم - كان - بالبصرة،
إلى أن مات، قال: لما سعى أبو أحمد طلحة بن الحسن بن المثنى، مع جيش أبي القاسم بن
أبي عبد الله البريدي، في أن يقبضوا عليه، ويحبسوه عند أبي أحمد، إلى أن يرد
المطيع لله، أو جيش له إلى البصرة، فيملكوها، ويتسلمون منه أبا القاسم البريدي،
وكانت القصة المشهورة في ذلك.
فبلغني ذلك، فخلوت بأبي أحمد، وكنت أكتب له حينئذ، وكان
لا يحتشمني في أموره، وثنيته عن هذا الرأي، وعرفته وجوه الغلط فيه، والمخاطرة بدمه
ونعمته، وهو غير قابل لمشورتي، إلى أن أكثرت عليه.
فقال لي: اعلم أنني قد رأيت رؤيا أنا بها واثق في تمام
ما قد شرعت فيه من القبض على هذا الرجل.
فعجبت في نفسي من رجل يخالف الحزم الظاهر، والرأي
الواضح، من أجل منام، ثم قلت له: ما الرؤيا ؟ فقال: رأيت كأن حية عظيمة، قد خرجت
علي من حائط هذا العرضي.
قال: وكان جالساً في عرضي داره، قال: فكأني قد رميتها،
فأثتبها في الحائط.
فحين قال أبو أحمد: أثبتها في الحائط، ذكرت تأويل منام
ابن الزبير، وقص المنام الذي ذكرته، فسبق إلى قلبي، أن تأويل منام أبي أحمد، أنه
قد أثبت عدوه في حائطه، وأن عدوه سيغلبه على البلد.
قال: فأمسكت، وقطعت الكلام، فما مضت إلا مدة يسيرة، حتى
شاع التدبير، وصح الخبر به عند أبي القاسم البريدي، فبادر إلى القبض على فائق
الأعسر، وكان هو الذي ندبه أبو أحمد للقبض على البريدي، وأن يكون أمير البلد، إلى
أن يرد جيش الخليفة، فأقر بالخبر على شرحه، فقبض أبو القاسم على أبي أحمد بعد قبضه
على فائق بيومين أو ثلاثة، فاستصفاه، وأهله، وولده، ثم قتله بعد ذلك بأيام.
الرشيد يولي أخاه إبراهيم بن المهدي دمشقبلغني عن
إبراهيم بن المهدي، قال: كنت في جفوة شديدة من أخي الرشيد، أثرت في جاهي، ونقصت
حالي، وأفضيت معها إلى الإضافة بتأخير أرزاقي، وظهور اطراحه إياي، فاختلت لذلك
أحوالي، وركبني دين فادح، فبلغ بي القلق والفكر فيه ليلة من الليالي، مبلغاً
شديداً، ونمت فرأيت في النوم كأني واقف بين يدي أبي المهدي، وهو يسألني عن حالي،
وأنا أشكو إليه ما نكبني به الرشيد، وأنهيت إليه حالي، وأنا أقول: ادع الله عليه
يا أمير المؤمنين.
فكأنه يقول: اللهم أصلح ابني هارون، يكررها ثلاثاً.
فكأني أقول: يا أمير المؤمنين أشكو إليك ظلم هارون لي،
وأسألك أن تدعو عليه، فتدعو له.
فقال:
وما عليك، إن أصلحه الله لك وللكافة، أن يبقى على حاله،
هوذا أمضي إليه الساعة، وآمره أن يرجع لك، ويقضي دينك، ويوليك جند دمشق.
فكأنني أومي إليه بسبابتي، وأقول له: دمشق، دمشق،
استقلالاً لها.
فيقول لي: حركت مسبحتك استقلالاً لدمشق، فكلما خف منها
حظك، كان في العاقبة أجود لك.
فانتبهت، وأحضرت
رجلاً كان مؤدبي في أيام المهدي، فسألته عن المسبحة، فقال: كان عبد الله بن
العباس، يسمي السبابة: المسبحة، فما سؤال الأمير لي عنها ؟ فقصصت عليه الرؤيا،
وامتنع النوم عني، فأخذ يحدثني وأنا جالس في فراشي، إذ جاءني رسول الرشيد، فارتعت له
ارتياعاً شديداً، ولم أعبأ بالمنام، وخفت أن يريدني لسوء يوقعه بي.
فقلت: أدافعه إلى أن تطلع الشمس، ثم يكون دخولي الدار
نهاراً، فإن كان أرادني لغيلة لم تتم.
فتقاطرت رسله حتى أعجلوني عن الرأي، واضطروني إلى الركوب
في الحال، فدخلت إليه وأنا شديد الجزع، وهو جالس في فراشه ينتحب.
فلما رآني، قال: سألتك بالله يا أخي هل رأيت الليلة في
منامك شيئاً ؟ فقلت: نعم، الساعة رأيت أمير المؤمنين المهدي.
فلما قلت له ذلك ازداد بكاؤه، ثم قال لي: ويحك، بالله،
شكوتني إليه وسألته أن يدعو علي ؟ فقلت: قد كان ذلك، ولكنه قال كذا وكذا، وشرحت له
ما قال.
فقال:
الساعة والله، جاءني في منامي، فقص علي جميع ما ذكرت،
وقد وفى بوعد، والله لأمتثلن أمره، ولأصلن رحمك، كم دينك ؟ قلت: كذا وكذا، فأمر
بقضائه.
وقال:
لا تبرح، حتى أصلي وأخرج، فأعقد لك على دمشق، فانتظرت
حتى وجبت الصلاة، فصلى، وجاء وقت جلوسه، فجلس، واستدعاني فأظهر تكرمتي، وعقد لي
لواء على دمشق، وأمر الناس، فساروا معي إلى منزلي، فعاد جاهي، وصلحت حالي.
المسبحة
التسبيح، في
اللغة: الصلاة، والدعاء، وفي الاصطلاح: قول سبحان الله، تمجيداً وتنزيهاً له، والمسبحة:
الإصبع التي تلي الإبهام، لأنها يشار بها عند التسبيح لسان العرب، مادة: سبح.
وكان التسبيح يجري باليد، ثم بالحصى، وكانت ساحات
المساجد في الكوفة والبصرة والموصل، مفروشة بالحصى، يسبح به المصلون، ويحصبون به
الولاة والخطباء، إذا سمعوا منهم ما لا يرضيهم الطبري 5 - 234 و 235 و 6 - 203 والأغاني 17 -
135 و 136 والإمامة والسياسة لابن قتيبة 2 - 16 و 25 و 26 والعقد الفريد 4 - 8
والهفوات النادرة 100 و 101.
وكان عبد الملك بن هلال، عنده زنبيل حصى ملآن، فكان يسبح
بواحدة، واحدة، فإذا مل شيئاً، طرح اثنتين، اثنتين، فإذا مل، قبض قبضةً، وقال:
سبحان الله بعدد هذا، فإذا ضجر، أخذ بعروتي الزنبيل، وقلبه، وقال: سبحان الله بعدد
هذا كله، وإذا بكر لحاجة، وكان مستعجلاً، لحظ الزنبيل، لحظة، وقال: سبحان الله عدد
ما فيه البيان والتبيين 3 - 228.
ثم اتخذت السبحة بضم السين، أو المسبحة بكسر الميم، وهي
خرزات منظومة في سلك، يجري التسبيح بها، وكان حمل السبحة، دلالة على التقوى، قال
ابن أبي عتيق، لسلامة: احملي معك سبحة، وتخشعي القصة 227 من هذا الكتاب، والأغاني
8 - 342.
ثم تعدى الأمر إلى اتخاذ السبحة للتسلية، وأصبح للسبحة
هواة، يجمعون أصنافاً منها، ويغالون في أثمانها، وكانت سبحة زبيدة، قد اشترتها
بخمسين ألف دينار البصائر والذخائر م 1 - ق 3 - ص 145ن و 146. وكان للمقتدر
العباسي، سبحة قومت بمائة ألف دينار، حدثنا عنها الأمير أبو محمد الحسن بن عيسى بن
المقتدر، وذكر أن والدته عمرة، جارية المقتدر، أخبرته، بأن المقتدر استدعى بجواهر،
فاختار منها مائة حبة، ونظمها سبحة يسبح بها، وأن هذه السبحة عرضت على الجوهريين،
فقوموا كل حبة منها بألف دينار وأكثر القصة 7 - 147 من نشوار المحاضرة.
وأعطى المقتدر، قهرمانته زيدان، سبحة لم ير مثلها تاريخ
الخلفاء 384 وكان يضرب بها المثل، فيقال: سبحة زيدان المنتظم 6 - 70.
ولما وزر علي بن عيسى للمقتدر، قال: ما فعلت سبحة جوهر،
قيمتها ثلثمائة ألف دينار، أخذت من ابن الجصاص ؟، قال: في الخزانة، فقال: تطلب،
فطلبت، فلم توجد، فأخرجها الوزير من كمه، وقال: عرضت علي، فاشتريتها، فإذا كانت الجوهر
لا تحفظ، فما الذي يحفظ ؟، فاشتد ذلك على المقتدر المنتظم 6 - 70.
ولما عاد الخليفة القائم في السنة 451 من منفاه في
الحديثة، إلى بغداد، بعثت إليه زوجته أرسلان خاتون، اثنتي عشرة حبة لؤلؤ كباراً
مثمنة، وسألته أن يتخذ منها سبحة يسبح بها المنتظم 8 - 207.
ولما سمل توزون، الخليفة المتقي، في السنة 333، ونصب
المستكفي خليفة بدلاً منه، وجه المستكفي إلى توزون سبحة جوهر في قد واحد، خاتمتها
ياقوتة حمراء، لم ير مثل ذلك الدر والخاتمة، وقومت بخمسين ألف دينار تجارب الأمم 2
- 75.
وكان لأبي
الحسن محمد بن عمر العلوي الكوفي 315 - 390 سبحة جوهر، قيمتها مائة ألف دينار، طوق
بها قنينة بلور للشراب المنتظم 7 - 212.
وكانت سبحة نصر الدولة، صاحب ميافارقين ت 453 من اللؤلؤ،
عدد حباتها مائة وأربعون لؤلؤة، وزن كل حبة مثقال، وفي وسطها الجبل الياقوت، وقطع
بلخش، قدرت قيمتها بثلثمائة ألف دينار الوافي بالوفيات 1 - 122.
ولما استولى أمير المسلمين، يوسف بن تاشفين، على غرناطة
في السنة 479، وجد لصاحبها سبحة جوهر، من أربعمائة حبة، وقومت كل حبة بمائة دينار
ابن الأثير 10 - 155.
أقول: وقد زرت في السنة 1968 عندما كنت في طهران، متحف
الجواهر، في قبو عمارة البنك الملي الإيراني، فوجدت من جملة الجواهر المعروضة
فيها، سبحة من اللؤلؤ، عدد حباتها قليل، إلا أن كل حبة منها، كانت بقدر الجوزة، ولم
تكن الحبات تامة التكوير، وسألت عنها، فقالوا: إنها سبحة فتح علي شاه.
وفي أيامنا هذه، تتخذ المسابح المعدة للتسبيح، من الطين
أو الخشب، أما التي تتخذ للتسلية، فلا حصر لها، فهي تتخذ من أنواع المعادن،
والحجارة، والزجاج، والعظام، والجواهر، واللآلىء، ولعل أكثرها استعمالاً، التي
تتخذ من معدن الكهرمان، ويسمى ببغداد: الكهرب.
ومن أطرف ما سمعناه عن أصناف المسابح، مسبحة من
الباقلاء، اتخذها أحد طلبة الفقه في النجف، ليغيظ بها أهالي الحلة، وتفصيل القصة:
أن الحليين، يكثرون من زرع الباقلاء وأكلها، وهم يعيرون بذلك، ويغضبون إذا ذكرت في
مجالسهم، لا فرق بين صغيرهم وكبيرهم، وكان الشيخ محمد طه نجف، أحد كبار علماء
الشيعة، يقضي شهرين من فصل الصيف في قرية الجمجمة من ضواحي الحلة، وكان موكبه يشق
الحلة ليصل إلى تلك القرية، فكان إذا مر بسوق الحلة، يسمع من خلفه الشتائم، فيعجب،
ثم تبين له أن أحد تلاميذه يتحرش بأهل الحلة، ويعيرهم بالباقلاء، فيسبونه، فأنذر
الشيخ تلميذه بأن لا يصحبه في رحلة الصيف، فاعتذر هذا وأظهر التوبة، وحلف لشيخ أنه
سوف لا يفتح فمه، ولا ينبس بحرف عند مروره بالحلة، ولكن ما إن مر موكب الشيخ إلا
وأخذت الشتائم تترى، فالتفت، فود تلميذه صامتاً كما وعد، ولكنه كان قد رفع كفه
حاملاً مسبحة من الباقلاء يسبح بها أمام الناس.
يرى مناماً وهو محبوس فيطلق من حبسه
حدثني أبو القاسم طلحة بن محمد بن جعفر، المقرىء،
الشاهد، قال: حدثني أبو الحسين عبد الواحد بن محمد الخصيبي، قال: حدثني أبو الفضل
ميمون بن هارون، قال: حدثني موسى بن عبد الملك، قال: رأيت وأنا في الحبس، كأن قائلاً
يقول لي:
لا زلت تعلو بك الجدود ... نعم وحفّت بك السّعود
أبشر فقد نلت ما تريد ... يبيد أعداءك المبيد
لم يمهلوا ثمّ لم يقالوا ... بل يفعل اللّه ما يريد
فاصبر فصبر الفتى حميدٌ ... واشكر ففي شكرك المزيد
فانتبهت، وقد طفىء السراج، فطلبت شيئاً، حتى كتبت
الأبيات على الحائط، وأصبحت وقد قويت نفسي.
قال: فما مضى على ذلك إلا أيام يسيرة، حتى أطلقت.
يكره شخصاً على العمل ثم يحبسه ويعذبه
وذكر المدائني في كتابه، كتاب الفرج بعد الشدة والضيقة،
قال: قال توبة العنبري: أكرهني يوسف بن عمر على العمل، فلما رجعت حبسني حتى لم يبق في
رأسي شعرة سوداء.
فأتاني آت في منامي فقال لي: يا توبة أطالوا حبسك ؟ قلت:
أجل.
فقال:
سل الله عز وجل العفو والعافية، في الدنيا والآخرة،
ثلاثاً، فاستيقظت، فكتبتها، وتوضأت، وصليت ما شاء الله، ثم جعلت أدعو، حتى وجبت
صلاة الصبح، فصليتها.
فجاء حرسي، فقال: أين توبة العنبري، فحملني في قيودي،
فأدخلني عليه وأنا أتكلم بهن، فلما رآني بإطلاقي.
قال توبة: فعلمتها في السجن رجلاً، فقال: إني لم أدع إلى
عذاب قط، فقلتهن، إلا خلوا عني، فجيء بي يوماً العذاب، فجعلت أتذاكرهن، فلا
أذكرهن، حتى جلدت مائة سوط، فذكرتهن بعد، فدعوت بهن، فخلوا عني.
حدثنا علي بن الحسن، بن أبي الطيب، قال: حدثنا ابن
الجرح، قال: حدثنا ابن أبي الدنيا، قال: حدثنا حاتم بن عبد الله أنه حدث عن سيار
بن حاتم، قال: حدثنا عثمان بن مطر، قال:
حدثنا توبة العنبري، فذكر مثله، وزاد فيه، فقيدني، فما
زلت في السجن، حتى لم يبق في رأسي شعرة سوداء.
رأى في منامه أن قد أخرجت من داره اثنتا عشرة جنازة
وروى المدائني
في كتابه أيضاً، عن معمر بن المثنى، عن علي بن القاسم، قال: حدثني رجل قال: رأيت في المنام، أيام الطاعون، أنهم أخرجوا من
داري اثنتي عشرة جنازة، وأنا وعيالي اثنا عشر نفساً، فمات عيالي، وبقيت وحدي، فاغتممت،
وضاق صدري.
فخرجت من الدار ثم رجعت في الغد، فإذا لص قد دخل ليسرق،
فطعن في الدار، فمات، وأخرجت منها جنازته.
وسري عني ما كنت فيه، ووهب الله العافية والسلامة.
وهب بن منبه يصاب بالإملاق ثم يعطيه الله من فضلهذكر القاضي
أبو الحسين، في كتابه الفرج بعد الشدة: أن وهب بن منبه، قال: أملقت، حتى قنطت، أو كدت، فأتاني آت في
منامي، ومعه شبيه بالفستقة، فدفعها إلي.
وقال: افضض، ففضضتها فإذا حريرة.
فقال: انشر، فنشرتها، فإذا فيها ثلاثة أسطر ببياض: لا
ينبغي لمن عرف عن الله عدله، أو عقل عن الله أمره، أن يستبطىء الله في رزقه.
قال: فأعطاني الله بعدها، فأكثر.
درس في الإيثاروذكر أيضاً عن الواقدي، أنه قال: أضقت
إضاقة شديدة، وهجم شهر رمضان، وأنا بغير نفقة، فضاق ذرعي بذلك، فكتبت إلى صديق لي
علوي، أسأله أن يقرضني ألف درهم، فبعث إلي بها في كيس مختوم، فتركتها عندي.
فلما كان عشي ذلك اليوم، وردت علي رقعة صديق لي، يسألني
إسعافه لنفقة شهر رمضان، بألف درهم، فوجهت إليه بالكيس بخاتمه.
فلما كان في الغد، جاءني صديق الذي اقترض مني، والعلوي
الذي اقترضت منه، فسألني العلوي عن خبر الدراهم، فقلت: صرفتها في مهم.
فأخرج الكيس بختمه، وضحك، وقال: والله لقد قرب هذا الشهر
وما عندي إلا هذه الدراهم، فلما كتبت إلي، وجهت بها إليك، وكتبت إلى صديقنا هذا،
أقترض منه ألف درهم، فوجه إلي بالكيس، فسألته عن القصة، فشرحها، وقد جئناك
لنقتسمها، وإلى أن ننفقها يأتي الله بالفرج.
قال الواقدي: فقلت لهما، لست أدري أينا أكرم، فقسمناها،
ودخل شهر رمضان، فأنفقت أكثر ما حصل منها، وضاق صدري، وجعلت أفكر في أمري.
فبينما أنا كذلك، إذ بعث إلي يحيى بن خالد البرمكي في
سحرة يوم، فصرت إليه.
فقال: يا واقدي، رأيتك البارحة فيما يرى النائم، وأنت
على حال دلتني على أنك في غم شديد وأذى، فاشرح لي أمرك.
فشرحته، إلى أن بلغت حديث العلوي، وصديقي والألف درهم،
فقال: ما أدري أيكم أكرم، وأمر لي بثلاثين ألف درهم، ولهما بعشرين ألف، وقلدني
القضاء.
الباب السابع
من استنقذ من كرب وضيق خناق
بإحدى حالتي عمد أو اتفاق
محمد بن
زيد العلوي يضرب مثلاً عالياً في النبل
حدثنا أبو الفرج علي بن الحسين المعروف بالأصبهاني
الكاتب، قال: كان محمد بن زيد العلوي، الداعي بطبرستان، إذا افتتح الخراج نظر ما
في بيت المال من خراج السنة التي قبلها، ففرق في قبائل قريش قسطاً، على دعوتهم،
وفي الأنصار، وفي الفقهاء، وأهل القراءات، وسائر طبقات الناس، حتى يفرق جميع ما
بقي.
فجلس سنة من السنين، يفرق المال، على ما كان يفعل، فلما
فرغ من بني هاشم، دعا بسائر بني عبد مناف، فقام رجل، فقال له: من أي بني عبد مناف
أنت ؟، فسكت.
قال: لعلك من ولد معاوية ؟ قال: نعم.
قال: فمن أي ولده أنت ؟ فسكت.
قال: لعلك من ولد يزيد ؟ قال: نعم.
قال: بئس الاختيار لنفسك، من قصدك بلداً من ولايته لآل أبي طالب،
وعندك ثأرهم في سيدهم وإخوته وبني عمه، وقد كانت لك مندوحة عنهم بالشام والعراق،
عند من يتولى جدك، ويحب رفدك، فإن كنت جئت عن جهل بهذا منك، فما يكون بعد جهلك شيء،
وإن كنت جئت متمرياً بهم، فقد خاطرت بنفسك.
فنظر إليه العلويون نظراً شديداً، فصاح بهم محمد وقال:
كفوا عافاكم الله، كأنكم تظنون أن في قتل هذا دركاً أو ثأراً بالحسين بن علي رضي
الله عنهما، وأي جرم لهذا ؟، إن الله عز وجل قد حرم أن تطالب نفس بغير ما اكتسبت،
والله، لا يعرض له أحد إلا أقدته به، واسمعوا حديثاً أحدثكم به، يكون قدوة لكم
فيما تستأنفون من أموركم.
حدثني أبي، عن أبيه، قال: عرض على المنصور، سنة حج، جوهر
فاخر، فعرفه، وقال: هذا كان لهشام بن عبد الملك، وهذا بعينه، قد بلغني خبره، عند
ابنه محمد، وما بقي منهم أحد غيره.
ثم قال
للربيع: إذا كان غداً، وصليت بالناس في المسجد الحرام، وحصل الناس فيه، فأغلق
الأبواب كلها، ووكل به ثقاتك من الشيعة، واقفلها، وافتح للناس باباً واحداً، وقف عليه،
فلا يخرج إلا من عرفته.
فلما كان من الغد، فعل الربيع ما أمره به، وتبين محمد بن
هشام القصة، فعلم أنه هو المطلوب، وأنه مأخوذ، فتحير.
وأقبل محمد بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب
عليهم السلام على أثر ذلك، فرآه متحيراً، وهو لا يعرفه، فقال له: يا هذا، أراك
متحيراً فمن أنت ؟ ولك أمان الله التام العام، وأنت في ذمتي حتى أخلصك.
فقال: أنا محمد بن هشام بن عبد الملك، فمن أنت ؟ قال:
أنا محمد بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب.
فقال محمد بن هشام: عند الله احتسب نفسي.
قال: لا بأس عليك، فإنك لست قاتل زيد، ولا في قتلك إدراك ثأره، وأنا
الآن بخلاصك، أولى مني بإسلامك، ولكن تعذرني في مكروه أتناولك به، وقبيح أخاطبك به،
يكون فيه خلاصك بمشيئة الله تعالى.
قال: أنت وذاك.
قال: فطرح رداءه على رأسه ووجهه، ولببه به، وأقبل يجره.
فلما وقعت عين الربيع عليه، لطمه لطمات، وجاء به إلى
الربيع، وقال: يا أبا الفضل، إن هذا الخبيث جمال من أهل الكوفة، أكراني جماله
ذاهباً وراجعاً، وقد هرب مني في هذا الوقت، وأكرى بعض القواد الخراسانية، ولي عليه
بذلك بينة، فتضم إلي حرسيين يصيران به معي إلى القاضي، ويمنعان الخراساني من عراره.
فضم إليه حرسيين، وقال: امضيا معه.
فلما بعد عن المسجد، قال له: يا خبيث، تؤدي إلي حقي ؟
قال: نعم يا ابن رسول الله.
فقال للحرسيين: انصرفا، وأطلقه محمد.
فقبل محمد بن هشام رأسه، وقال: بأبي أنت وأمي، الله أعلم
حيث يجعل رسالاته، ثم أخرج جوهراً له قدر، فدفعه إليه، وقال: تشرفني يا سيدي بقبول
هذا مني.
فقال:
يا ابن عم، إنا أهل بيت، لا نقبل على المعروف مكافأة،
وقد تكرت لك دم زيد، وهو أعظم من متاعك، فانصرف راشداً، ووار شخصك، حتى يخرج هذا
الرجل، فإنه مجد في طلبك، فمضى، وتوارى.
قال: ثم أمر محمد بن زيد، الداعي بطبرستان، للأموي، بمثل
ما أمر به لسائر بني عبد مناف، وضم إليه جماعة من مواليه، وأمرهم أن يخرجوا معه
إلى الري، ويأتوه بكتاب بسلامته.
فقام الأموي، فقبل رأسه، ومضى ومعه القوم، حتى وصل إلى
مأمنه، وجاءوه بكتاب بسلامته.
يزيد بن معاوية
أبو خالد
يزيد بن معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب الأموي 25 - 64: ثاني ملوك الدولة الأموية
بالشام، فرضه أبوه على الناس فرضاً، وشدد في بيعته بالرغبة والرهبة، ففتح بذلك على
المسلمين باباً من أبواب الفتنة، راجع خبر ذلك في الأغاني 16 - 197 وفي مروج الذهب
2 - 21 وفي ترجمة معاوية القصة 309 من هذا الكتاب.
ولد يزيد بالشام ونشأ بها في ظل والده الذي حكم الشام حكماً
مستمراً دام ما يزيد على أربعين سنة، فنشأ نشأة الأمراء الأرستقراطيين، يشرب
الخمر، ويسمع الغناء، ويمارس الصيد، ويتخذ القيان، ويتفكه بما يلهو به المترفون من
اللعب بالقرود، والمعافرة بالكلاب والديكة الأغاني 17 - 300 و 301 والبصائر
والذخائر م 4 - 266 وأنساب الأشراف ج 4 ق 2 ص 1 و 3 حتى وصفه أبو حمزة الخارجي،
بأنه: يزيد الخمور، ويزيد الصقور، ويزيد الفهود، ويزيد الصيود، ويزيد القرود
السيادة العربية 143.
وكان تصرفه وهو ولي عهد، يستره لين أبيه مع الناس، فلما
مات انكشفت أعماله للناس فلم يحتملها أحد منهم، لقرب عهدهم بأيام الخلفاء الراشدين
11 - 40 فاضطروا إلى قتاله.
وكانت
أيام حكمه ثلاث سنوات لم تخل واحدة منها، من عظيمة من العظائم، ففي السنة الأولى
قتل الحسين عليه السلام وأهل بيت رسول الله صلوات الله عليه، فضحى بالدين يوم الطف
الأغاني 9 - 22 وفي السنة الثانية استباح مدينة رسول الله صلوات الله عليه وانتهك
حرمات أهلها ذبحاً ونهباً وانتهاك حرمات اليعقوبي 2 - 253 فشفى بذلك غيظه من
الأنصار الذين عاونوا في انتصار المسلمين في موقعة بدر حيث قتل في مبارزة واحدة
أبو جدته هند، وعمها، وأخوها الأغاني 4 - 189 ذلك الغيظ الذي لم يطق كتمانه وهو أمير،
فطلب من كعب بن جعيل أن يهجو الأنصار، فأبى وأشار عليه بالأخطل العقد الفريد 5 -
321 فهجاهم، ووصفهم باللؤم، وعيرهم بأنهم يهود، فلما ذبح أهل المدينة، كان جند
يزيد يقاتلونهم ويقولون لهم: يا يهود أنساب الأشراف 4 - 2 - 37 ولما عرضت على يزيد جريدة بأسماء قتلى أهل المدينة، تملكه العجب
من كثرتهم، وقال: يا عجباً، قاتلني كل أحد، حتى ابن خالتي، وقال: ما أرى أنه بقي
بالمدينة أحد الأغاني 8 - 325 و 14 - 240، ثم تمثل بقول ابن الزبعري، الذي شمت
بقتل المسلمين في يوم أحد، فقال: رسائل الجاحظ 19 - 20:
ليت أشياخي ببدر شهدوا ... جزع الخزرج من وقع الأسل
لاستطالوا واستهلّوا فرحاً ... ثم قالوا: يا يزيد لا تشل
قد قتلنا الغرّ من ساداتهم ... وعدلناه ببدر فانعدل
وفي السنة الثالثة، استباح الكعبة، حرم الله سبحانه
وتعالى، وسفك فيها الدماء، وأحرقها اليعقوبي 2 - 253 وأنساب الأشراف ج 4 ق 2 ص 1
والفخري 123، وقضى في سنة حكمه الثالثة، فختم بهلاكه صحيفة سوداء ملوثة، حتى أن
رجلاً ذكره في مجلس الخليفة الصالح عمر بن عبد العزيز، فقال: أمير المؤمنين يزيد، فقال
له عمر: تقول أمير المؤمنين، وأمر به، فضرب عشرين سوطاً تاريخ الخلفاء 209.
بين الإسكندر وملك الصين
حدثني أبو
الفرج المعروف بالأصبهاني، إملاء من حفظه، قال: قرأت في بعض الأخبار للأوائل، أن الإسكندر
لما انتهى إلى الصين، وحاصر ملكها، أتاه حاجبه، وقد مضى من الليل شطره، فقال له:
هذا رسول ملك الصين بالباب، يستأذن عليك.
فقال: أدخله.
فوقف بين يدي الإسكندر، وسلم، وقال: إن رأى الملك أن
يخليني، فعل.
فأمر الإسكندر من بحضرته بالانصراف، وبقي حاجبه، فقال:
إن الذي جئت له لا يحتمل أن يسمعه غيرك.
فقال: فتشوه، فلم يوجد معه شيء من السلاح.
فوضع الإسكندر بين يديه سيفاً مسلولاً، وأخرج حاجبه، وكل
من كان عنده، وقال له: قف بمكانك، وقل ما شئت.
فقال له: إني أنا ملك الصين، لا رسوله، وقد جئت أسألك
عما تريده، فإن كان مما يمكن الانقياد إليه، ولو على أشق الوجوه، قبلته، وغنيت أنا
وأنت على الحرب.
قال الإسكندر: وما آمنك مني ؟ قال: علمي بأنك رجل عاقل،
وليس بيننا عداوة، ولا مطالبة بذحل، وأنت تعلم أنك إن قتلتني لم يكن ذلك سبباً لأن
يسلم إليك أهل الصين ملكهم، ولم يمنعهم قتلي من أن ينصبوا ملكاً غيري، ثم تنسب أنت
إلى غير الجميل، وضد الحزم.
فأطرق الإسكندر، وعلم أنه رجل عاقل، فقال: الذي أريده
منك، ارتفاع مملكتك لثلاث سنين عاجلاً، ونصف ارتفاعها في كل سنة.
قال: هل غير ذلك شيء ؟ قال: لا.
قال: قد أجبتك.
قال: فكيف يكون حالك حينئذ ؟ قال: أكون قتيل أو محارب،
وأكلة أول مفترس.
قال: فإن قنعت منك بارتفاع ثلاث سنين، كيف يكون حالك ؟
قال: أصلح مما كانت، وأفسح مدة.
قال: فإن قنعت منك بارتفاع سنة ؟ قال: يكون ذلك كمالاً
لأمر ملكي، وموفياً لجميع لذاتي.
قال: فإن اقتصرت منك على ارتفاع السدس ؟ قال: يكون السدس
موفراً، ويكون الباقي للجيش ولسائر الأسباب.
قال: قد اقتصرت منك على هذا، فشكره، وانصرف.
فلم طلعت الشمس، أقبل جيش ملك الصين حين طبق الأرض،
وأحاط بجيش الإسكندر حتى خافوا الهلاك، وتواثب أصحابه فركبوا، واستعدوا للحرب.
فبينما هم كذلك إذ طلع ملك الصين، وعليه التاج، وهو
راكب، فلما رأى الاسكندر، ترجل.
فقال له الاسكندر: غدرت ؟ قال: لا والله.
قال: فما هذا الجيش ؟
قال: إني أردت أن أريك أنني لم أطعك من قلة
ولا من ضعف، وأنت ترى هذا الجيش، وما غاب عنك منه أكثر، ولكني رأيت العالم الأكبر
مقبلاً عليك، ممكناً لك ممن هو أقوى منك، وأكثر عدداً، ومن حار العالم الأكبر غلب،
فأردت طاعته بطاعتك والذلة لأمره بالذلة لك.
فقال الإسكندر: ليس مثلك من يؤخذ منه شيء، فما رأيت بيني
وبينك أحداً يستحق التفضيل، والوصف بالعقل، غيرك، وقد أعفيتك من جميع ما أردته
منك، وأنا منصرف عنك.
فقال ملك الصين: أما إذ فعلت ذلك، فلست تخسر.
فلما انصرف الإسكندر، أتبعه ملك الصين، من الهدايا، بضعف
ما كان قرره معه.
بين إسحاق الموصلي وغلامه فتح
أخبرني أبو
بكر محمد بن يحيى الصولي - فيما أجاز لي روايته عنه، بعد ما سمعته منه - قال: حدثني الحسن بن يحيى، قال: كان
لإسحاق الموصلي غلام يقال له: فتح، يسقي الماء لأهل داره على بغلين من بغاله
دائماً.
قال إسحاق: فقلت له يوماً: أيش خبرك يا فتح ؟ قال: خبري
أن ليس في هذه الدار أشقى مني ومنك، أنت تطعم أهل الدار الخبز، وأنا أسقيهم الماء.
فاستظرفت قوله، وضحكت منه، وقلت له: فأي شيء تحب ؟ قال:
تعتقني، وتهب لي البغلين، لأستقي عليهما لنفسي.
ففعلت.
أنسب بيت قالته العربأخبرني أبو الفرج، قال: حدثني خلف
بن وضاح، قال: حدثني عبد الأعلى بن عبد الله بن محمد بن صفوان الجمحي، قال: حملت
ديناً بعسكر المهدي، فركب المهدي يوماً بين أبي عبيد الله، وعمر بن بزيع، وأنا
وراءه في موكبه على برذون قطوف، فقال: ما أنسب بيت قالته العرب ؟ فقال أبو عبيد
الله: قول امرىء القيس:
وما ذرفت عيناك إلاّ لتضربي ... بسهميك في أعشار قلبٍ
مقتّل
فقال: هذا أعرابي قح.
فقال عمر بن بزيع: قول كثير يا أمير المؤمنين:
أريد لأنسى ذكرها فكأنّما ... تمثّل لي ليلى بكلّ سبيل
فقال: ما هذا بشي، وما له يريد أن ينسى ذكرها، حتى تمثل
له ؟ فقلت: عندي حاجتك يا أمير المؤمنين.
قال: الحق بي.
فقلت: لا لحاق بي، ليس ذلك في دابتي.
فقال: احملوه على دابة.
قلت: هذا أول الفتح، فحملت على دابة، فلحقته.
فقال: ما عندك ؟ فقلت: قول الأحوص يا أمير المؤمنين:
إذا قلت إنّي مشتفٍ بلقائها ... فحمّ التلاقي بيننا
زادني سقما
فقال: أحسنت، حاجتك ؟ قلت: علي دين.
قال: اقضوا دينه.
فقضي ديني.
تقلد الإنفاق على عسكرين فأفاد في أقل من شهر سبعمائة
ألف درهمذكر ابن عبدوس في كتابه، كتاب الوزراء: حدث أحمد بن محمد بن زياد، قال:
قال لي الريان بن الصلت: كنت في خدمة الفضل بن سهل، فيما كنت فيه، من ثقته واستنامته،
على ما كنت عليه.
فدعاني في وقت من الأوقات، إلى أن يضم إلي أربعة آلاف من
الشاكرية والجند، ويقودني عليهم، ويجريني مجرى قواده، فامتنعت عليه من ذلك،
وأعلمته أني لا أقوم بذلك، ولا آمن أن أتقلد منه ما يقع فيه التقصير، فيسقط حظي
عنده، ومنزلتي لديه.
فأنكر ذلك علي أشد الإنكار، وعاودني فيه مراراً، فلم
أجبه إليه، فلما رأى إقامتي على الإمتناع، جفاني، وأعرض عني، وامتدت الأيام على
هذا، حتى أداني ذلك إلى الاختلال الشديد الذي أضر بي.
فدخل إلي غلامي يوماً، فأعلمني أنه لا نفقة عنده، ولا
مضطرب له في احتيالها، لامتناع التجار عن إعطائه، لتأخر مالهم علينا عنهم، وأنه لا
علف لدوابنا، ولا قوت لنا.
فأومأت إلى عمامة ملحم كانت بحضرتي، وأمرته ببيعها، وصرف
ثمنها فيما يحتاج إليه، فباعها بثمانية دراهم.
وورد علي في ذلك اليوم كتاب وكيلي على أهلي، بمدينة
لاسلام، يعلمني ضيق الأمر عليه فيما يحتاج إلى إقامته للعيال، وإنه التمس من
التجار مقدار ألفي درهم، فلم يجيبوه إليها، فعظم علي ما ورد من ذلك، وضاقت بي
المذاهب.
فبينما أنا قاعد في عشية يومي ذلك، إذ أتاني رسول الفضل
يأمرني بحضور الدار، والمقام فيها، إلى عند خروجه من دار المأمون، فحضرتها بعد
صلاة العتمة، فأقمت، إلى أن خرج الفضل في وقت السحر، فلقيته، وبين يديه خرائط كثيرة
محمولة.
فقال: صليت صلاة الليل ؟ قلت: نعم.
فقال: لكني ما صليت، فكن ها هنا إلى أن أصلي، فصلى، ثم
انفتل من صلاته، فدعاني.
فقال: أتدري ما هذه الخرائط ؟ قلت: لا.
قال: هذه
ثماني وستون خريطة وردت، وقرأتها، وأجبت عنها بخطي، فدعوت الله له بحسن المعونة
والتوفيق.
ثم قال لي: يا ريان، إن أبا محمد الحسن بن سهل قد دفع
إلى واسط، ورأى أمير المؤمنين أن يمده بدينار بن عبد الله ونعيم بن خازم في عشرة
آلاف رجل، وأن يقلدك الإنفاق عليهم في عسكريهما، وأن يجرى لك في كل شهر عشرة آلاف
درهم، ولكاتبك ثلاثة آلاف درهم، ولقراطيسك ألف درهم، وأن يوظف لك على كل عسكر عشرة
أجمال لحملك، أو مائة دينار عوضاً عنها، ثم أمر لي في ذلك الوقت، أن تحمل إلي
أرزاق ثلاثة أشهر، فما صليت الصبح حتى حمل إلي اثنان وأربعون ألف درهم، وأخذ في
تجهيز العسكرين.
قال: وبعث إلي الفضل بفرس من دوابه وأمرني أن أبعث به
إلى نعيم بن خازم، وأعمله أنه خصه به، وأنه من خيله التي يركبها، فوجهت به إلى
نعيم بن خازم، فأظهر السرور والابتهاج بذلك، والتعظيم له، ووهب لغلامي عشرة آلاف
درهم، وبعث إلي بخمسين ألف درهم.
فكتبت بذلك إلى الفضل، فكتب على رقعتي: أردد على نعيم ما
بعث به إليك، وما وهب لغلامك، واقبض لنفسك عوضاً منه، مائة وعشرين ألف درهم.
ثم أمر بعد أيام لدينار، بسبعمائة ألف درهم صلة ومعونة،
ولنعيم بن خازم بخمسمائة ألف درهم، فبعثت بها إليهما، فبعث إلي كل واحد منهما
بخمسين ألف درهم.
فكتبت إلى الفضل رقعة، فأعلمته فيها بما فعلاه، فوقع على
ظهرها: إقبل من دينار ما بعث به إليك، واردد إلى نعيم ما بعث به، واقبض لنفسك عوضاً
من ذلك مائة ألف درهم.
قال: وسرنا عن مرو، فلما صرنا في الطريق، ورد علي كتاب
الفضل، يأمرني فيه، أن أحمل إلى دينار ألف ألف درهم وخمسمائة ألف درهم، وإلى نعيم
ألف ألف درهم، ففعلت، فحمل إلي دينار مائة ألف درهم، وخمسين ألف درهم، وبعث إلي
نعيم مائة ألف درهم، فقبلت من دينار ما بعث به، ورددت على نعيم ما بعث به، حسبما
حد لي في رقعتي الأولى والثانية، ولم أكتب بالخبر في ذلك إلى الفضل، لئلا يتوهم
علي استدعاء العوض، وكتب له بذلك صاحب خبر، كان له في السر علينا، فوقع على ظهر
كتابه إلي، قد علمت أنك أمسكت عن الكتابة إلي بما فعله نعيم ودينار، وما كان من
ردك على نعيم ما بعث به، لئلا أتوهم عليك الاستدعاء للصلة، وقد رأيت أن تقبض لنفسك
عوضاً عن ذلك مائتي ألف درهم.
قال الريان: فلم تمض سبعة وعشرون يوماً، حتى حصل عندي
سبعمائة ألف درهم.
المأمون بخراسان ينقلب حاله من أشد الضيق إلى أفسح الفرج
وذكر في
كتابه عن جبريل بن بختيشوع، في خبر طويل، أنه سمع المأمون يقول: كان لي بخراسان
يوم عجيب، فأولى الله فيه بإحسانه جميلاً، لما توجه طاهر بن الحسين إلى علي بن
عيسى بن ماهان، كما قد عرفتموه من ضعف طاهر وقوة علي، وقر في نفوس عسكري جميعاً،
أن طاهراً ذاهب، ولحق أصحابي إضاقة شديدة، وظهرت فيهم خلة عظيمة، ونفد ما كان معي،
فلم يبق منه لا قليل ولا كثير، وأفضيت إلى حال كان أصلح ما فيها الهرب، فلم أدر
إلى أين أهرب، ولا كيف آخذ، وبقيت حائراً متفكراً.
فأنا - والله - كذلك وكنت نازلاً في دار أبوابها حديد،
ولي مستشرفات أجلس فيها إذا شئت، وعدد غلماني ستة عشر غلاماً، لا أملك غيرهم، وإذا
بالقواد والجيش جميعاً قد شغبوا، وطلبوا أرزاقهم، ووافوا جميعاً يشتموني، ويتكلمون
بكل قبيح.
فكان الفضل بن سهل بين يدي، فأمر بإغلاق الأبواب، وقال
لي: قم فاصعد إلى المجلس الذي يستشرف فيه، إشفاقاً علي من دخولهم، وسرعة أخذهم
إياي، وتعليلاً لي بالصعود.
فقلت: القوم يدخلون الساعة، فيأخذوني، فلأن أكون بموضعي،
أصلح.
فقال لي: يا سيدي اصعد، فوالله، ما تنزل إلا خليفة.
فجعلت أهزأ به، وأعجب منه، وأحسب أنه إنما قال ما قال،
ليسمعني، وأركنت للهرب من بعض أبواب الدار، فلم يكن إلى ذلك سبيل، لإحاطة القوم
بالدار والأبواب كلها.
فالح علي أن أصعد، فصعدت وأنا وجل، فجلست في المستشرف،
وأنا أرى العسكر.
فلما علموا
بصعودي اشتد كلبهم، وشتمهم، وضجيجهم، وبادروني بالوعيد والشتم، فأغلظت على الفضل
بن سهل وقلت له: أنت جاهل، غررتني، لوم تدعني أعمل برأيي، وليس العجب إلا ممن قبل
منك، وهو في هذا كله، يحلف أنني لا أنزل إلا خليفة، وغيظي عليه، وتعجبي من حمقه،
ومواصلة الأيمان أنني لا أنزل إلا خليفة، مع ما أشاهده، والحال يزيد، أشد علي مما
أقاسيه من الجند.
ثم وضع القوم النار في شوك جمعوه، وأدنوه من الدار،
ونقبوا في سورها عدة نقوب، وثلموا منه قطعة، فذهبت نفسي خوفاً وجزعاً، وعلمت أني
بين أن أحترق، وبين أن يصلوا إلي فيقتلوني، فهممت بأن ألقي نفسي إليهم، وقدرت أنهم
إذا رأوني استحيوا مني، وأقصروا.
وجعل الفضل بن سهل يقبل يدي ورجلي، ويناشدني أن لا أفعل،
ويحلف لي أني لا أنزل إلا خليفة، وفي يده الإسطرلاب، ينظر فيه في الوقت بعد الوقت.
فلما اشتد علي الأمر، واستحكم اليأس، قال لي: يا سيدي،
قد - والله - أتاك الفرج، أرى شيئاً في الصحراء قد أقبل، ومعه فرجنا، فازددت من
قوله غيظاً، وأمرت غلماني بتأمل الصحراء، فلم أر، ولم يروا شيئاً.
وجد القوم في الهدم والحريق، حتى هممت - لما داخلني - أن
أرمي بالفضل إليهم.
فقال الغلمان: إنا نرى في الصحراء شيئاً يلوح، فنظرت فإذا
شبح، وجعل يزيد تبياناً، إلى أن تبينوا رجلاً على بغلة، ثم قرب، فإذا هو يلوح،
وقرب من العسكر، وقويت له قلوبنا، ورأى الجند ذلك فتوقفوا، وخالطهم، فإذا هو يقول: البشرى، هذا رأس
علي بن عيسى بن ماهان معي في المخلاة، فلما رأوا ذلك أمسكوا عنا، وانقلبوا
بالدعاء، والسرور بالظفر والفتح.
فقال لي الفضل بن سهل: يا سيدي، إئذن لي في إدخال بعضهم،
فأذنت له، فشرط عليهم أن لا يدخل إلا من يريد، فأجابوا إلى ذلك، وسمى قوماً من
القوم، فأدخلهم.
فكان أول من دخل علي، عبد الله بن مالك الخزاعي، فقبل
يدي، وسلم علي بالخلافة، ثم أدخل القواد بعده، واحداً، واحداً، ففعلوا مثل ذلك،
فأطفأ الله - عز وجل - النائرة، ووهب السلامة، وقلدني الخلافة، فظفرت من أموال علي
بن عيسى بن ماهان، وما في عسكره، بما أصلحنا به أمور جندنا.
ثم ذكر تمام الحديث.
وحدثني بهذا الخبر، أبو محمد الحسن بن محمد الصلحي، قال:
حدثني أبو سعيد سنان بن ثابت بن قرة، قال: قال الفضل بن مروان: كنت مع المأمون،
وقد خرج إلى نواحي الإسحاقي ليتصيد في جماعة من عسكره قليلة، فذكر هذا الخبر
بطوله، وصدره وعجزه على ما في كتاب ابن عبدوس، مما لم أذكره، فذكر فيه هذه القطعة
من الخبر، على قريب مما هي مذكورة ها هنا.
طلب الولاية على بزبندات البحر وصدقات الوحش
وذكر أيضاً
في كتابه، قال: حدثني محمد بن مخلد، وكان يلقب لبد، لطول عمره، وروى عنه المدائني
الكاتب، عن أبيه مخلد بن يزيد أن المأمون، أول ما قدم العراق، خطر له أن يقلد الأعمال،
الشيعة الذين قدموا معه من خراسان، فطالت عطلة كتاب السواد وعماله، وكانوا يحضرون
داره في كل يوم، حتى ساءت أحوالهم.
فخرج يوماً بعض مشايخ الشيعة، وكان مغفلاً، فتأمل
وجوههم، فلم ير فيهم أسن من مخلد بن يزيد، فجلس إليه، وقال له: إن أمير المؤمنين
أمرني أن أتخير ناحية من نواحي الخراج، صالحة المرفق، ليوقع بتقليدي إياها، فاختر
لي ناحية.
فقال: لا أعرف لك عملاً أولى بك من بزبندات البحر،
وصدقات الوحش.
فقال له: أكتبه لي، فكتبه له مخلد، فعرض الشيعي الرقعة
على المأمون، وسأل تقليده ذلك العمل.
فقال له: من كتب لك هذه الرقعة ؟ فقال: شيخ من الكتاب،
يحضر الدار في كل يوم.
فقال: هلمه.
فلما دخل، قال له المأمون: ما هذا يا جاهل ؟ تفرغت
لأصحابي ؟ فقال له: يا أمير المؤمنين، أصحابنا هؤلاء ثقات يصلحون لحفظ ما يصل إلى
أيديهم من الخزائن والأموال، وأما شروط الخراج، وحكمه، وما يجب تعجيل استخراجه،
وما يجب تأخيره، وما يجب إطلاقه، وما يجب منعه، وما يجب إنفاقه، وما يجب الإحتساب به،
فلا يعرفونه، وتقليدهم يعود بذهاب الإرتفاع، فإن كنت يا أمير المؤمنين لا تثق بنا،
فضم إلى كل واحد منهم رجلاً منا، فيكون الشيعي يحفظ المال، ونحن نجمعه.
فاستطاب المأمون رأيه وكلامه، وأمر بتقليد عمال السواد وكتابه،
وأن يضم إلى كل واحد منهم، واحداً من الشيعة، وضم مخلد إلى ذلك الشيخ، وقلده ناحية
جليلة.
المنصور يقتل مؤدب ولده جعفر ظلما
ً
وذكر في كتابه: أن المنصور ضم رجلاً يقال له فضيل بن
عمران الكوفي إلى جعفر ابنه، يكتب له، ويقوم بأمره.
وكانت لجعفر حاضنة تعرف بأم عبيدة، فثقل عليها مكان
فضيل، فسعت به إلى أبي جعفر، وادعت عنده أنه يلعب بجعفر، فبعث المنصور، مولاه
الريان، وهارون بن غزوان، مولى عثمان بن نهيك، إلى الفضيل، وأمرهما بقتله، وكتب
لهما منشوراً بذلك، فصارا إليه فقتلاه.
وكان الفضيل ديناً، عفيفاً، فقيل للمنصور في ذلك، وأنه
أبرأ الناس مما قرف به، فأحضر المنصور غلاماً من غلمانهن وجعل له عشرة آلاف درهم،
إن أدركه قبل أن يقتل، فصار إليه، فوجده قد قتل، ولم يجف دمه.
واتصل خبر قتله بجعفر بن أبي جعفر، فطلب الريان، فلما
جيء به، قال له: ويلك، ما يقول أمير المؤمنين في قتل رجل مسلم بغير جرم ؟ فقال له الريان:
هو أمير المؤمنين، يفعل ما يشاء.
فقال له جعفر: يا ماص بظر أمه، أكلمك بكلام الخاصة،
فتكلمني بكلام العامة ؟ جروا برجله، فألقوه في دجلة.
قال الريان: فأخذوا - والله - برجلي، فقلت: أكلمك بكلمة،
ثم اعمل ما شئت.
فقال: ردوه، فرددت، فقال: قل.
فقلت له: أبوك إنما يسأل عن قتل فضيل بن عمران وحده ؟
ومتى يسأل عنه، وقد قتل عمه عبد الله بن علي، وقتل عبد الله بن الحسن، وعشرات من
أولاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قتل من أهل الدنيا ما لا يحصى ولا يعد،
هو إلى أن يسأل عن فضيل بن عمران جوشانة تحت خصى فرعون.
قال: فضحك، وقال: خلوا عنه، لعنه الله، فأفلت منه.
مالك بن طوق يتزوج المهناة بنت الهيثم الشيبانيوجدت في
كتاب أبي الفرج الحنطبي المخزومي الكاتب: أن محمد بن عبد الحميد الجشمي قال: حججت
سنة ثلاث وأربعين ومائتين، فأنا في بعض المنازل راجعاً، إذ رأيت فقراء بالبادية
يستميحون، فوقفت منهم علي جارية تتصدق، بوجه كأنه القمر حين استدار، أو كقرن الشمس
حين أنار، فرددت طرفي عنها، واستعذت بالله من الفتنة بها، فلم تزل تذهب وتجيء،
فيما بين رجال الحج، وتعود إلى رحلي، فوقفت.
فقلت لها: أما تستحين أن تبدين هذا الوجه في مثل هذا
الموضع، بحضرة الخلائق.
فلطمت وجهها، وقالت:
لم أبده حتّى تقضّت حيلتي ... فبذلته وهو الأعزّ الأكرم
ويعزّ ذاك عليّ إلاّ أنّه ... دهرٌ يجور كما تراه ويظلم
قد صنته وحجبته حتّى إذا ... لم يبق لي طمع ومات الهيثم
أبرزته من حجبه مقهورةً ... واللّه يشهد لي بذاك ويعلم
كشف الزمان قناعه في بلدة ... قلّ الصديق بها وعزّ
الدرهم
أصبحت في أرض الحجاز غريبة ... وأبو ربيعة أسرتي ومحلّم
قال: فأعجبني ما رأيت من جمالها، وفصاحتها، وأدبها، وشعرها،
فبررتها، وقلت لها: ما اسمك؟ قالت: أنا المهناة بنت الهيثم الشيباني، وكان أبي
جاراً لبني فزارة، فاعتل، واستنفد ماله، وتوفي، وتركني فقيرة، فاحتجت إلى التكفف.
قال: ورحلنا، فلما صرنا بالرحبة، دخلت إلى مالك بن طوق مسلماً،
فسألني عن طريقي وسفري، وما رأيته من الأعاجيب فيه، فحدثته بحديث الجارية، فأعجب
به، واستطرف الأبيات، وكتبها مني، ورحلت إلى منزلي بالشام.
فلما كان بعد أيام من اجتماعنا، أتاني رسوله يستزيرني،
فصرت إليه، فبينما أنا جالس عنده يوماً، فإذا خادمان قد جاءا معهما أكياس مختومة،
وتخوت ثياب مشدودة، فوضعاها بين يدي.
فقلت لمالك: ما هذا ؟ قال: هذا حق دلالتك على المهناة بنت
الهيثم الشيباني، التي أظفرني الله منها بما كانت أمنيتي تقصر عنه، وهي أنفذت إليك
بهذا من مالها، ولك من مالي ضعفه.
فقلت: كيف كان خبرها ؟ فقال: إنك لما انصرفت، أنفذت
رسلاً إلى البادية، أثق بعقولهم وأمانتهم، فما زالوا يسألون عنها، حتى ظفروا بها،
فحملوها، ووليها معها، فتزوجتها، فرأيت منها ما زاد على ما كان زرعه حديثك عنها في
نفسي، وقد افضت عليها من دنياي، بحسب تمكنها من قلبي، فسألتني عن سبب طلبي إياها،
فأخبرتها بخبرك، وكتبت أستزيرك لأعرفك هذا، وأقضى حقك، وقد أمرت لك بعشرين ألف
درهم، وعشر تخوت ثياب.
قال عبد الحميد: وكانت أم عدة من أولاده.
بين ابن أبي البغل عامل أصبهان وأحد طلاب التصوف
حدثني أبو
القاسم سعد بن عبد الرحمن الأصبهاني، قال: كان أبو الحسين بن أبي البغل يتقلد
بلدنا، فقدم عليه شيخ من الكتاب يطلب التصرف، وأورد عليه كتباً من الحضرة، يذكرون
فيها طول عطلته، ومحله من الصناعة، ويسألونه تصريفه، فسلم إليه الكتب، فتركها ابن
أبي البغل بين يديه، وكانت كثيرة، وكان فيه حدة وضجرة، فاستكثرها، وفض منها
واحداً، فقرأه، وأقبل على شغله، من غير أن يقرأ باقي الكتب.
فقال له الرجل: إن رأيت أن تقف على باقي الكتب.
فضجر، وتغيظ، وقال: أليس كلها في معنى واحد ؟ قد - والله
- بلينا بكم يا متعطلين، كل يوم يصير إلينا منكم واحد يريد تصرفاً، لو كانت خزائن
الأرض لي، لكانت قد نفدت، يا هذا، مالك عندي تصرف، ولا عمل شاغر فأرده إليك، ولا في
مالي فضل فأبرك، فدبر أمرك بحسب ذلك، هذا والرجل ساكت.
فلما سكن ابن أبي البغل، قام الرجل، وقال: أحسن الله
جزاءك وفعل بك وصنع، وأسرف في الشكر والدعاء له، وولى منصرفاً.
فقال ابن أبي البغل، ردوه، فرجع.
فقال له: يا هذا، هوذا تسخر مني، على أي شيء تشكرني ؟
على إياسي لك من التصرف، أو على قطع رجائك من الصلة، أو قبيح ردي لك، أو ضجري عليك
؟ أم تريد خدعتي بهذا الفعل؟.
فقال: والله، ما أريد خداعك، وما كان منك من قبيح الرد فغير
منكر، لأنك سلطان، ولحقك ضجر، ولعل الأمر كما ذكرته من كثرة الواردين عليك، وقد
بعلت بهم، واتفق لقوه نحسي، أن كان هذا الرد القبيح وقع في بابي، ولم أشكرك إلا في
موضع الشكر، لأنك صدقتني عما في نفسك من أول وهلة، وأعتقت عنقي من رق الطمع،
وأرحتني من التعب بالغدو والرواح إليك، وخدمة قوم أستشفع بهم إليك، وكشفت لي ما
أدبر به نفسي، وكسوتي جديدة، وبقية نفقتي معي، ولعلي أتحمل بها إلى بلد آخر، في
وجه أحد سواك.
قال: فأطرق ابن أبي البغل، ومضى الرجل، فرفع رأسه،
فاستدعاه، واعتذر إليه، وأمر له بصلة، وقال له: خذ هذه، إلى أن قلدك ما يصلح لك،
فإني أرى فيك مصطنعاً.
فلما كان بعد أيام قلده عملاً جليلاً، وصلحت حال الرجل
معه.
بين جحظة البرمكي ومحبرة بن أبي عباد الكاتب
حدثني أبو
الفرج الأصبهاني، عن جحظة، أنه قال: اتصلت علي إضاقة، حتى بعت فيها كل ما أملك،
وبقيت وليس في داري غير البواري، فأصبحت يوماً أفلس من طنبور الأوتار، ففكرت في
الحيلة، فوقع لي أن أكتب إلى محبرة الكاتب، وكنت أجاوره بالبصرة، وكان منقرساً،
يلازم بيته، حتى صار لا يمكنه الحركة، إلا أن يحمل في محفة، وكان ظريفاً، عظيم
النعمة، كثير الشرب والقصف، فأتطايب عليه، ليدعوني، أو يبرني بشيء، فكتبت إليه:
ماذا ترى في جديّ ... وبرمةٍ وبوارد
وقهوة ذات لون ... يحكي خدود الخرائد
ومُسمعٍ يتغنّى ... من آل يحيى بن خالد
إنّ المضيع لهذا ... نزر المروءة بارد
قال: فما شعرت إلا بحفة محبرة، يحملها غلمانه، إلى داري،
وأنا جالس على بابها.
فقلت: لم جئت، ومن دعاك ؟ قال: أنت.
قلت: إنما قلت ماذا ترى، وعنيت في منزلك، ولم أقل أنه
عندي، وبيتي - والله - أفرع من فؤاد أم موسى.
فقال: قد جئت الآن، ولا أرجع، ولكن أحضر من داري، ما
أريد.
فقلت: ذاك إليك، فدخل الدار، فلم ير فيها إلا بارية.
فقال: يا أبا الحسن، هذا والله فقر مدقع.
فقلت: هو ما ترى.
فانفذ إلى داره، فجاءوه بفرش حسنة، وآلة، وقماش، وآنية،
وطعام كثيرة من مطبخه، وألوان الأشربة، والفواكه، والمشام، وعبي المجلس، وفرش
الفرش، وجلس يومه يشرب على غنائي وغناء مغنية دعوتها له كانت تألفني.
فلما كان من الغد، سلم إلي غلامه كيساً فيه ألفا درهم،
ورزمة ثياب صحاحاً ومقطوعة، من فاخر الثياب، واستدعى محفته فجلس فيها، وشيعته.
فلما بلغ آخر الصحن، قال: مكانك يا أبا الحسن، فكل ما في
دارك هو لك، فلا تدع أحداً يأخذ منه شيئاً.
وقال للغلمان: اخرجوا بين يدي، فخرجوا، وأغلقت بابي على
قماش يساوي ألوفاً كثيرة.
تاجر خراساني يجد الفرج عند صاحبه الكرخيحدثني عبيد الله
بن محمد العبقسي، عن بعض تجار الكرخ ببغداد، قال: كنت أعامل رجلاً من الخراسانية،
أبيع له في كل موسم متاعاً، فأنتفع من سمسرته بألوف دراهم.
فلما كان
سنة من السنين تأخر عني، فأثر ذلك في حالي، وتواترت علي محن، فأغلقت دكاني وجلست
في بيتي، مستتراً من دين لحقني، أربع سنين.
فلما كان في وقت الحاج، تتبعت نفسي خبر الخراساني، طمعاً
في إصلاح أمري به، فمضيت إلى سوق يحيى، فلم أعط له خبراً، فرجعت، فنزلت الجزيرة
وأنا تعب مغموم.
وكان يوماً حاراً، فنزلت إلى دجلة، فتغسلت، وصعدت، فابتل
موضع قدمي، فقلعت رجلي قطعة من الرمل، انكشفت عن سير.
فلبست ثيابي، وجلست مفكراً أولع بالسير، فلم أزل أجره
حتى ظهر لي هميان موصول به، فأخذته، فإذا هو مملوء دنانير، فأخفيته تحت ثيابي،
ووافيت منزلي، فإذا فيه ألف دينار.
فقويت نفسي قوة شديدة، وعاهدت الله عز وجل، أنه متى صلحت
حالي، وعادت، أن أعرف الهميان، فمن أعطاني صفته، رددته عليه.
واحتفظت بالهميان، وأصلحت أمري مع غرمائي، وفتحت دكاني،
وعدت إلى رسمي من التجارة والسمسرة، فما مضت إلا ثلاث سنين حتى حصل في ملكي ألوف
دنانير.
وجاء الحج، فتتبعتهم لأعرف الهميان، فلم أجد من يعطيني
صفته، فعدت إلى دكاني.
فبينما أنا جالس، إذا رجل قائم حيال دكاني، أشعث، أغبر،
وافي السبال، في خلقة سؤال الخراسانية وزيهم فظننته سائلاً، فأومأت إلى دريهمات
لأعطيه، فاسرع الإنصراف، فارتبت به، فقمت، ولحقته، وتأملته، فإذا هو صاحبي الذي
كنت أنتفع بسمسرته في السنة بألوف دراهم.
فقلت له: يا هذا، ما الذي أصابك ؟ وبكيت رحمة له.
فبكى، وقال: حديثي طويل.
فقلت: البيت، وحملته إلى منزلي، فأدخلته الحمام، وألبسته
ثياباً نظافاً، وأطعمته، وسألته عن خبره.
فقال:
أنت تعرف حالي ونعمتي، وإني أردت الخروج إلى الحج في آخر
سنة جئت إلى بغداد، فقال لي أمير البلد: عندي قطعة ياقوت أحمر كالكف، لا قيمة لها عظماً
وجلالةً، ولا تصلح إلا للخليفة، فخذها معك، فبعها لي ببغداد، واشتر لي من ثمنها
متاعاً طلبه، من عطر، وطرف، بكذا وكذا، وأحمل الباقي مالاً.
فأخذت القطعة ياقوت، وهي كما قال، فجعلتها في هميان جلد،
من صفته كيت وكيت، ووصف الهميان الذي وجدته، وجعلت في الهميان ألف دينار عيناً من
مالي، وحملته في وسطي.
فلما جئت إلى بغداد، نزلت أسبح عشياً في الجزيرة التي
بسوق يحيى، وتركت الهميان وثيابي بحيث ألاحظها.
فلما صعدت من دجلة، لبست ثيابي عند غروب الشمس، وأنسيت
الهميان، فلم أذكره إلى أن أصبحت، فعدت أطلبه، فكأن الأرض ابتلعته.
فهونت على نفسي المصيبة، وقلت: لعل قيمة الحجر ثلاثة
آلاف دينار، أغرمها له.
فخرجت إلى الحج، فلما رجعت، حاسبتك على ثمن متاعي،
واشتريت للأمير ما أراده، ورجعت إلى بلدي، فأنفذت إلى الأمير ما اشتريته، وأتيته،
فأخبرته بخبري.
وقلت له: خذ مني تمام ثلاثة آلاف دينار، عوضاً عن الحجر.
فطمع فيّ، وقال: قيمته خمسون ألف دينار، وقبض علي، وعلى
جميع ما أملكه من مال ومتاع، وأنزل بي صنوف المكاره، حتى أشهد علي في جميع أملاكي،
وحبسني سبع سنين، كنت يردد علي فيها العذاب.
فلما كان في هذه السنة، سأله الناس في أمري، فأطلقني.
فلم يمكنني المقام ببلدي، وتحمل شماتة الأعداء، فخرجت
على وجهي، أعالج الفقر، بحيث لا أعرف، وجئت مع الحج الخراساني، أمشي أكثر الطريق،
ولا أدري ما أعمل، فجئت إليك لأشاورك في معاش أتعلق به.
فقلت: قد رد الله عليك بعض ضالتك، هذا الهميان الذي
وصفته، عندي، وكان فيه ألف دينار أخذتها، وعاهدت الله تعالى، أنني ضامنها لمن
يعطيني صفة الهميان، وقد أعطيتني أنت صفته، وعلمت أنه لك، وقمت، فجئته بكيس فيه
ألف دينار.
وقلت له: تعيش بهذا في بغداد، فإنك لا تعدم خيراً إن شاء
الله.
فقال لي: يا سيدي الهميان بعينه عندك، لم يخرج عن يدك ؟
قلت: نعم.
فشهق شهقة، ظننت أنه قد مات معها، وغشي عليه، فلما أفاق
بعد ساعة، قال لي: أين الهميان؟ فجئته به، فطلب سكيناً، فأتيته بها، فخرق أسفل
الهميان، وأخرج منه حجر ياقوت أحمر، أشرق منه البيت، وكاد يأخذ بصري شعاعه، وأقبل
يشكرني، ويدعو لي.
فقلت له: خذ دنانيرك.
فحلف بكل يمين، لا يأخذ منها إلا ثمن ناقة، ومحمل، ونفقة
تبلغه، فبعد كل جهد أخذ ثلثمائة دينار، وأحلني من الباقي، وأقام عندي، إلى أن عاد
الحاج، فخرج معهم.
فلما كان العام المقبل، جاءني بقريب مما كان يجيئني به
سابقاً من المتاع.
فقلت له:
أخبرني خبرك.
فقال: مضيت، فشرحت لأهل البلد خبري، وأريتهم الحجر، فجاء
معي وجوههم إلى الأمير، وأعلموه القصة، وخاطبوه في إنصافي.
فأخذ الحجر، ورد علي جميع ما كان أخذه مني، من متاع،
وعقار، وغير ذلك، ووهب لي من عنده مالاً.
وقال: اجعلني في حل مما عذبتك وآذيتك، فأحللته.
وعادت نعمتي إلى ما كانت عليه، وعدت إلى تجارتي ومعاشي،
وكل هذا بفضل الله تعالى وبركتك، ودعا لي.
وكان يجيئني بعد ذلك، حتى مات.
أضاع هميانه في طريق الحج ووجده أحوج ما يكون إليه
حدثني عبيد
الله بن محمد الصروي: قال حدثني أبي: أن رجلاً حج، وفي وسطه هميان فيه دنانير
وجواهر، قيمة الجميع ثلاثة آلاف دينار، وكان الهميان ديباج أسود.
فلما كان في بعض الطريق، جلس يبول، فانحل الهميان من
وسطه وسقط، ولم يعلم بذلك غلا بعد أن سار من الموضع فراسخ.
واتفق أن رجلاً جاء على أثره، فجلس يبول مكانه، فرأى
الهميان، فأخذه، وكان له دين، فحفظه.
قال الرجل: فلم يؤثر في قلبي ذهابه، لكثرة مالي،
فاحتسبته عند الله تعالى، وتغافلت.
وكان معي تجارة بأموال عظيمة، فقضيت حجي، وعدت إلى بلدي.
فلما كان بعد سنين، افتقرت لمحن توالت علي، حتى لم يبق
لي شيء، فهربت على وجهي من بلدي، وقد أفضيت إلى الصدقة علي، وزوجتي معي، فأويت إلى
بعض القرى، فنزلت في خان خراب.
فأصاب زوجتي الطلق، وما أملك غير دانق ونصف فضة، وكانت
ليلة مطيرة، فولدت.
فقالت: يا هذا، الساعة أموت، فأخرج، وخذ لي شيئاً أتقوى
به.
فخرجت أتخبط في الظلمة والمطر، حتى جئت إلى بقال فوقفت
عليه، فكلمني بعد كل جهد، فشرحت له حالي، فرحمني، وأعطاني بتلك القطعة حلبة،
وزيتاً، أغلاهما عنده، وأعارني غضارة جعلته فيهان فمشيت أريد موضعي، فزلقت،
فانكسرت الغضارة، وذهب ما فيها.
فورد علي أمر عظيم، ما ورد علي مثله قط، وأقبلت ألطم، وأبكي،
وأصيح، فإذا برجل قد أخرج رأسه من شباك في دار، وقال: ويلك، مالك تبكي، ما تدعنا
ننام، فشرحت له قصتي.
فقال: هذا البكاء كله بسبب دانق ونصف ؟ فتداخلني من الغم
أكثر من الأول، فقلت: يا هذا، والله، ما لما ذهب عندي محل، ولكن بكائي رحمة لنفسي
مما دفعت إليه، وإن زوجتي وولدي الساعة يموتان جوعاً، ووالله، وإلا فعلي وعلي،
وحلفت بأيمان مغلظة، لقد حججت في سنة كذا، وأنا أملك من المال، ما ذهب مني هميان
فيه دنانير وجواهر بثلاثة آلاف دينار، ما فكرت فيه، وهو ذا تراني الآن أبكي بسبب
دانق ونصف فضة، فاسأل الله العافية والسلامة، ولا تعيرني فتبتلي بمثل بلواي.
فقال لي:
بالله عليك، ما كان صفة هميانك ؟ فلطمت رأسي، وقلت: ما
يقنعك ما خاطبتني به وما تراه من صورتي، وقيامي في الطين والمطر، حتى تتلهى بي،
وأي شيء ينفعني وينفعك من صفة همياني، وقد ضاع من كذا وكذا سنة، ومشيت.
وإذا هوة قد خرج يصيح بي: تعال خذ هذا، فقدرته يتصدق
علي، فجئته.
فقال: أيش صفة هميانك ؟ وقبض على يدي، فلم أقدر أتخلص
منه، فوصفت له همياني.
فقال لي: أدخل، فدخلت منزله.
فقل: أين زوجتك ؟ فقلت: في الخان الفلاني.
فأنفذ غلمانه، فأتوا بها، فأدخلها إلى حرمه، فأصلحوا
أمرها، وأطعموها ما احتاجت إليه، وكساني كسوة حسنة، وأدخلني الحمام، وأصبحت عنده
في عيشة طيبة.
فقال لي: أقم عندي أياماً لأضيفك، فأقمت عنده عشرة أيام،
فكان يعطيني في كل يوم عشرين ديناراً، وأنا متحير من عظيم بره، بعد شدة جفائه.
فلما كان بعد ذلك، قال لي: أي شيء تتصرف فيه ؟ فقلت: كنت
تاجراً.
فقال: أقم عندي، وأنا أعطيك رأس مال فتتجر في شركتي.
فقلت: أفعل.
فدفع إلي مائتي دينار، وقال لي: أتجر بها ها هنا.
فقلت: هذا معاش، قد أغناني الله تعالى به، يجب أن ألزمه،
فلزمته.
فلما كان بعد شهور، ربحنا، فجئته، فقلت له: خذ ربحك.
فقال لي: اجلس، فجلست.
فأخرج إلي همياني، وقال: أتعرف هذا ؟ فحين رأيته، شهقت
شهقة غشي علي منها.
ثم أفقت بعد ساعة، فقلت له يا هذا، أملك أنت أم نبي ؟
فقال: لا، ولكني ممتحن بحفظ هميانك منذ كذا
وكذا سنة، فلما سمعتك تلك الليلة تقول ما قلته، وأعطيتني علامته، أردت أن أعطيك
هو، فخشيت أن تنشق مرارتك من الفرح، فأعطيتك تلك الدنانير التي أوهمتك أنها هبة
لك، وإنما أعطيتك ذلك كله من هميانك، والدنانير المائتان، قرض، فخذ هميانك واجعلني
في حل.
فأخذته، ودعوت له، ورددت عليه القرض، ورجعت إلى بلدي،
وبعت الجوهر وأضفت ثمنه إلى الدنانير، واتجرت بها، فما مضت إلا سنيات، حتى صرت
صاحب عشرة آلاف دينار، وصلحت حالي، فأنا في فضل الله تعالى، أعيش إلى الآن.
الوزير علي بن عيسى يقول ليتني تمنيت المغفرة
حدثني أبو
سهل بن زياد القطان، صاحب علي بن عيسى، قال: كنت مع علي بن عيسى بمكة، حين نفي
إليها، فدخلنا في حر شديد، وقد كدنا نتلف، فطاف علي بن عيسى، وسعى، وجاء فألقى
نفسه كالميت من الحر والتعب، وقلق قلقاً شديداً.
وقال: أشتهي على الله عز وجل، شربة ماء بثلج.
فقلت له: يا سيدنا، تعلم أن هذا ما لا يوجد بهذا المكان.
فقال: هو كما قلت، ولكن نفسي ضاقت عن ستر هذا، فاستروحت
إلى المنى.
قال: وخرجت من عنده، فرجعت إلى المسجد الحرام، فما استقررت فيه، حتى
نشأت سحابة، فأبرقت، وأرعدت رعداً متصلاً شديداً، ثم جاءت بمطر يسير، وبرد كثير.
فبادرت إلى الغلمان، فقلت: اجمعوا، فجمعنا شيئاً كثيراً،
وكان علي بن عيسى نائماً.
فلما كان وقت المغرب، خرج إلى الصلاة، فقلت له: أنت
والله مقبل، والنكبة زائلة، وهذه علامات الإقبال، فاشرب الثلج كما طلبت.
وجئته إلى المسجد الحرام بأقداح مملوءة بالأشربة
والأسوقة، مكبوسة بالبرد، فأقبل يسقي ذلك من كان بقربه من الصوفية والمجاورين
والضعفاء، ويستزيد، ونحن نأتيه بما عندنا من ذلك، وكلما قلت له: اشرب، يقول: حتى
يشرب الناس.
فخبأت من البرد مقدار خمسة أرطال، وقلت له: لم يبق شيء.
فقال: الحمد لله، ليتني كنت تمنيت المغفرة، بدلاً من
تمني الثلج، فلعلي كنت أجاب.
فلما رجع إلى بيته حلفت عليه أن يشرب، فما زلت أداريه
حتى شرب منه بقليل ماء وسويق، وتقوت به باقي ليلته.
المسجد الحرامالمسجد الحرام: المسجد، بفتح الجيم: ما يمس
الأرض من الأعضاء عند السجود، وبكسر الجيم: الموضع الذي يسجد فيه، والجمع في
كليهما: مساجد المنجد، والحرام:
المقدس، ومنه سميت مكة والمدينة: المنطقة الحرام،
والحرمان دائرة المعارف الإسلامية 7 - 361 والمسجد الحرام هو الكعبة، سميت الكعبة،
لتربيعها معجم البلدان 4 - 616 - 626.
ولم يكن للمسجد الحرام في أيام النبي صلوات الله عليه
وأبي بكر سور يحيط به، فضيق الناس على الكعبة، وألصقوا دورهم بها، فاشترى عمر تلك
الدور، وهدمها، وزادها في المسجد، واتخذ للمسجد جداراً دون القامة، كانت المصابيح
توضع عليه، ولما استخلف عثمان زاد في سعة المسجد، واتخذ فيه الأروقة حين وسعه معجم
البلدان 4 - 525 - 526 ثم وسعه المنصور أحسن التقاسيم 75.
وأقصى ما وصلت إليه سعة المسجد الحرام ثلاثين ألف متراً
مربعاً، فأقدمت الحكومة العربية السعودية على عمل من أشرف الأعمال وأكرمها عند
الله والناس، إذ زادت في سعة المسجد إلى خمسة أضعاف مساحته الأولى، فبلغت مساحته
مائة وخمسين ألف متر مربع، وشيدت حوله أروقة محيطة بالمسجد على طابقين بلغ من
علوها أن سقف الطابق الثاني منها، قارب في علوه رؤوس المآذن القديمة في المسجد،
وسقفت المسعى بين الصفا والمروة، وشادت عليه طابقين، وكان البناء جميعه بالرخام
البديع، فاكتسى المسجد الحرام رداء من الجمال والبهاء، لم أشاهد مثله في أي مكان
من أماكن العبادة الأخرى، فإني شاهدت الفاتيكان، وكنائس روما، والإسكوريال، وجامع قرطبة،
وجامع دمشق، وجوامع القسطنطينية، وجوامع أصبهان، والمراقد المقدسة في العراق
وإيران وفي جميعها ما يبهر الناظر، ولكنها لا تماثل بناء المسجد الحرام ولا
تقاربه، وأدارت بسور المسجد الحرام، رحبة عظيمة السعة أحاطت به من جميع جهاته،
تنفذ منها طرق إلى خارج مكة، إضطرت لانفاذ بعضها أن نحتت الصخور، فصح في ذلك المثل
القائل: همم الرجال، تقلع الجبال.
فتى ورث مالاً فأتلفه ثم آل أمره إلى صلاح
حدثني عبيد الله بن محمد الصروي، أيضاً، عن أبيه، قال:
كان يجاورنا
ببغداد فتى من أولاد الكتاب، ورث مالاً جليلاً، فأتلفه في القيان، وأكله إسرافاً،
حتى لم يبق منه شيء، واحتاج إلى نقض داره، فلم يبق منها غير بيت يكنه.
فحدثني بعض من كان يعاشره وانقطع عنه لما افتقر، قال: قصدته يوماً بعد
انقطاعي عنه نحو سنة، لأعرف خبره، فدخلت إليه، فوجدته نائماً في ذلك البيت، في يوم
بارد، على حصير خلق، قد توطأ قطناً كأنه حشو فراش، وتغطى بقطن كان في لحاف، فهو
بين ذلك القطن كأنه السفرجل.
فقلت له: ويحك، بلغت إلى هذا الحد.
فقال: هو ما ترى.
فقلت: فهل لك حاجة.
قال: أو تقضيها ؟ فظننت أنه يطلب مني شيئاً أسعفه به،
فقلت: إي والله.
فقال: أشتهي أن تحملني إلى بيت فلانة المغنية، حتى
أراها، وهي التي كان يتعشقها، وأتلف ماله عليها.
وبكى، فرحمته، فمضيت إلى منزلي، فأتيته من ثيابي بما
لبسه، وأدخلته الحمام، وحملته إلى بيتي، فأطعمته، وبخرته، وذهبنا إلى دار المغنية.
فلما رأتنا، لم تشك أن حاله قد صلحت، وأنه قد جاءها
بدراهم، فبشت في وجهه، وسألته عن حاله، فصدقها عن حاله، حتى انتهى إلى ذكر الثياب،
وأنها لي.
فقالت له في الحال: قم، قم.
فقال:
لم ؟ فقالت: لئلا تجيء ستي، فتراك، وليس معك شيء، فتحرد
علي، لم أدخلتك، فاخرج برا، حتى أصعد فأكلمك من فوق، فخرج، وجلس ينتظر أن تخاطبه
من روزنة في الدار، إلى الطريق، فأقبلت عليه مرقة سكباج، فصيرته آية، ونكالاً.
فبكى، وقال لي: بلغ أمري إلى هذا ؟ أشهد الله، وأشهدك،
أني تائب.
فضحكت منه، وقلت: أي شيء تنفعك التوبة الآن وقد افتقرت ؟
فرددته إلى بيته، ونزعت ثيابي عنه، وتركته بين القطن، كما كان أولاً، وحملت ثيابي
فغسلتها وانقطعت عنه، فما عرفت له خبراً.
وبعد نحو ثلاث سنين، بينما أنا ذات يوم بباب الطاق، إذا
أنا بغلام يطرق لرجل راكب، فرفعت رأسي، فإذا به على برذون فاره، بمركب فضة، خفيف،
مليح، وثياب حسنة، وكان أولاً يركب من الدواب أفخرها، ومن المراكب أثقلها.
فلما رآني، قال لي: يا فلان، فعلمت أن حاله قد صلحت،
فقبلت فخده.
وقلت: سيدي أبو فلان.
قال: نعم، قد صنع الله تعالى، وله الحمد، البيت، البيت، فتبعته إلى
منزله، فإذا بالدار الأولة، قد رمها، وجصصها، من غير بياض، وطبقها، وبنى فيها
مجلسين متقابلين، وخزائن، ومستراح، وجعل باقي ما كان فيها، صحناً كبيراً، وقد صارت
حسنة، غير أنها ليست بذلك الأمر الأول.
فأدخلني إلى حجرة منها، كان يخلو فيها قديماً، قد أعادها
كأحسن ما كانت، وفيها فرش حسنة، وفي داره ثلاثة غلمان، قد جعل كل خدمتين إلى واحد
منهم، وقد أقام على حرمه خادماً كان لأبيه، وله سائس هو شاكريه، وشيخ بواب كان
يصحبه قديماً، ووكيل يتسوق له.
فجلس، وأجلسني، وأحضر فاكهة قليلة، في آلة مقتصدة مليحة،
وجاءوا بعدها بطعام نظيف، كاف، غير مسرف ولا مقصر، فأكلنا، ثم نام، ولم تكن تلك عادته،
ومدت ستارة، وأحضرت مشام ورياحين، في صواني وزبديات، والجميع متوسط مليح، غير
مسرف، فانتبه، فصلى، وتبخر بقطعة ند، وبخرني بقطعة عود مطرى، وقدم بين يديه صينية
فيها من مطبوخ العنب شيء حسن، وقدم بين يدي صينية فيها نبيذ التمر، جيد.
فقلت: يا سيدي ما هذه الترتيبات التي لست أعرفها.
فقال:
دع ما مضى، فإن الحال لا تحتمل الإسراف، فأقبل يشرب،
وأنا أساعده، فتغنى من وراء الستارة، ثلاث جواري في نهاية طيب الغناء، كل واحدة
منهن أطيب من التي أنفق عليها ماله.
فلما طابت أنفسنا، قال لي: تذكر أيامنا الأولة ؟ قلت:
نعم.
قال: أنا الآن في نعمة متوسطة، وما قد أفدته من العقل، والعلم بأمر
الدنيا وأهلها، يسليني عما ذهب مني، وهوذا ترى فرشي، وآلتي، ومركوبي، وإن لم يكن ذلك
بالعظيم المفرط، ففيه جمال، وبلاغ، وتنعم، وكفاية، وهو مغن عن الإسراف، والتخرق،
والتبذير، وقد تخلصت من تلك الشدة، تذكر يوم عالمتني فلانة المغنية، بما عاملتني ؟
قلت: نعم والحمد لله الذي كشف ذلك عنك، فمن أين هذه النعمة ؟
قال: مات
مولى لأبي، وابن عم لي، في يوم واحد بمصر، فحصل لي من تكرتهما أربعون ألف دينار،
فوصل أكثرها إلي، وأنا بين القطن كما رأيتني، فحمدت الله، واعتقدت التوبة من التبذير،
وأن أدبر ما رزقته، فعمرت هذه الدار بألف دينار، واشتريت الفرش، والآلة، والجواري بتسعة
آلاف دينار، وسلمت إلى بعض التجار الثقات، ألفي دينار، يتجر لي بها، وأودعت بطن
الأرض عشرة آلاف دينار، للحوادث، وابتعت بالباقي ضيعة تغل لي في كل سنة نفقتي هذه
التي شاهدتها، فما أحتاج إلى قرض، ولا استزادة، ولا تقبل غلة، إلا وعندي بقية من
الغلة الأولة، فأنا أتقلب في نعمة الله، عز وجل، كما ترى، ومن تمام النعمة، إني لا
أعاشرك، ولا أحداً ممن كان يحسن لي السرف، يا غلمان، أخرجوه.
قال: فأخرجت، فوالله ما أذن لي بعدها في الدخول عليه.
أبو يوسف القاضي يأكل اللوزينج بالفستق
وحدثني أبي،
قال: بلغني أن أبا يوسف صحب أبا حنيفة، ليتعلم العلم، على فقر وشدة، وكانت أمه
تحتال له فيما يتقوته يوماً بيوم، فطلب يوماً ما يأكل، فجاءته بغضارة مغطاة،
فكشفها، فإذا فيها دفاتر.
فقال: ما هذا ؟.
فقالت: هذا الذي أنت مشتغل به نهارك أجمع، فكل منه.
فبكى، وبات جائعاً، وتأخر عن المجلس من الغد، حتى احتال
فيما أكله، ثم مضى إلى أبي حنيفة، فسأله عن سبب تأخره، فصدقه.
فقال له: ألا عرفتني فكنت أمدك ؟ ولا يجب أن تغتم، فإنه
إن طال عمرك، فستأكل اللوزينج بالفستق.
قال: فلما خدمت الرشيد، واختصصت به، قدم بحضرته يوماً، جام فيه
لوزينج بفستق، فدعاني إليه، فحين أكلت منه، ذكرت أبا حنيفة، فبكيت، وحمدت الله
تعالى، فسألني الرشيد عن قصتي، فأخبرته.
الشيخ الخياط وأذانه في غير وقت الأذانحدثني أبو الحسن
محمد بن عبد الواحد الهاشمي: أن شيخاً من التجار، كان له على بعض القواد، مال جليل
ببغداد، فماطله به، وجحده إياه، واستخف به.
قال: فعزمت على التظلم إلى المعتضد، لأني كنت تظلمت إلى
عبيد الله بن سليمان الوزير، فلم ينفعني ذلك.
فقال لي بعض إخواني: علي أن آخذ لك المال، ولا تحتاج إلى
أن تتظلم إلى الخليفة، قم معي الساعة، فقمت معه.
فجاء بي إلى خياط في سوق الثلاثاء، يخيط، ويقرىء القرآن
في مسجد، فقص عليه قصتي، فقام معنا.
فلما مشينا، تأخرت، وقلت لصديقي: لقد عرضت هذا الشيخ،
وإيانا، لمكروه عظيم، هذا إذا حصل على باب الرجل، صفع، وصفعنا معه، هذا لم يلتفت
إلى شفاعة فلان، وفلان، ولم يفكر في الوزير، فكيف يفكر في هذا الفقير ؟ فضحك،
وقال: لا عليك، إمش، واسكت.
فجئنا إلى باب القائد، فحين رأى غلمانه الخياط، أعظموه
وأهووا التقبيل يده، فمنعهم من ذلك، وقالوا: ما جاء بك أيها الشيخ، فإن صاحبنا
راكب، فإن كان لك أمر يتم بنا بادرنا إليه وإلا فادخل، واجلس إلى أن يجيء، فقويت
نفسي بذلك، ودخلنا وجلسنا.
وجاء القائد، فلما رأى الشيخ أعظمه إعظاماً تاماً، وقال:
لست أنزع ثيابي، أو تأمرني بأمرك.
فخاطبه في أمري، فقال: والله، ما عندي إلا خمسة آلاف
درهم تسأله أن يأخذها، وأعطيه رهناً في باقي ماله.
فبادرت إلى الإجابة، فأحضر الدراهم، وحلياً بقيمة
الباقي، فقبضت ذلك منه، وأشهدت عليه الرجل، وصديقي، أن الرهن عندي إلى أجل، فإن حل
الأجل ولم يعطني، فقد وكلني في بيعه، وقبض مالي من ثمنه، فخرجنا، وقد أجاب إلى ذلك.
فلما بلغنا مسجد الخياط، قلت له: قد رد الله تعالى علي
هذا المال بسببك، فأحب أن تأخذ منه ما أحببت، بطيبة من قلبي.
فقال: ما أسرع ما كافأتني على الجميل بالقبيح، إنصرف،
بارك الله لك في مالك.
فقلت: قد بقيت لي حاجة.
قال: قل.
قلت: تخبرني عن سبب طاعته لك، مع تهاونه بأكثر أهل
الدولة.
فقال: قد بلغت مرادك، فلا تقطعني عن شغلي، وما أعيش به.
فألححت عليه، فقال: أنا رجل أصلي بالناس في هذا المسجد،
وأقرىء القرآن، منذ أربعين سنة، ومعاشي من هذه الخياطة، لا أعرف غيرها.
وكنت منذ
دهر، قد صليت المغرب، وخرجت أريد منزلي، فاجتزت بتركي كان في هذه الدار، وامرأة
جميلة مجتازة، وقد تعلق بها وهو سكران، ليدخلها داره، وهي ممتنعة تستغيث، وليس من
أحد يغيثها، أو يمنعه منها، وتقول في جملة كلامها: إن زوجي قد حلف علي بالطلاق، أن لا أبيت برا، فإن بيتني، خرب
بيتي، مع ما يرتكبه مني من الفاحشة.
قال: فرفقت به وسألته تركها، فضرب رأسي بدبوس كان في
يده، فشجني، ولكمني، وأدخل المرأة بيته.
فصرت إلى منزلي، وغسلت الدم، وشددت الشجة، واسترحت،
وخرجت لصلاة العشاء الآخرة.
فلما صلينا، قلت لمن معي في المسجد: قوموا بنا إلى عدو
الله، هذا التركي، لننكر عليه، ولا نبرح، أو نخرج المرأة.
فقاموا، وجئنا فضججنا على بابه، فخرج إلينا في عدة
غلمان، فأوقع بنا، وقصدني من بين الجماعة، فضربني ضرباً عظيماً كدت أتلف منه،
فحملني الجيران إلى منزلي كالتالف، فعالجني أهلي، ونمت نوماً قليلاً، وقمت نصف
الليل، فما حملني النوم، للألم، والفكر في القصة.
فقلت: هذا قد شرب طول ليلته، ولا يعرف الأوقات، فلو
أذنت، لوقع له أن الفجر قد طلع، وأطلق المرأة، فلحقت بيتها قبل الفجر، فسلمت من
أحد المكروهين.
فخرجت إلى المسجد متحاملاً، وصعدت المنارة، فأذنت، وجلست
أطلع منها إلى الطريق، أترقب خروج المرأة، فإن خرجت، وإلا أقمت الصلاة، لئلا يشك
في الصباح، فيخرجها.
فما مضت إلا ساعة، والمرأة عنده، حتى رأيت الشارع قد
امتلأ خيلاً، ورجالاً، ومشاعل، وهم يقولون: من أذن الساعة ؟ ففزعت، وسكت.
ثم قلت: أخاطبهم، لعلي أستعين بهم على إخراج المرأة،
فصحت من المنارة: أنا أذنت.
فقالوا لي: إنزل، وأجب أمير المؤمنين.
فقلت: دنا الفرج، فنزلت، فإذا بدر، وعدة غلمان، فحملني،
وأدخلني على المعتضد، فلما رأيته، هبته، وارتعت، فسكن مني.
وقال:
ما حملك على أن تغر المسلمين بأذانك في غير وقته، فيخرج
ذو الحاجة في غير وقتها، ويمسك المريد للصوم، في وقت قد أباح الله له الأكل فيه،
وينقطع العسس والحرس عن الطواف ؟ فقلت: يؤمنني أمير المؤمنين، لأصدقه.
فقال: أنت آمن.
فقصصت عليه قصة التركي، وأريته الآثار.
فقال: يا بدر، علي بالغلام الساعة والمرأة، وعزلت في
موضع.
فمضى بدر، وأحضر الغلام والمرأة، فسألها المعتضد عن
الصورة، فأخبرته بمثل ما أخبرته.
فقال لبدر: بادر بها الساعة إلى زوجها، مع ثقة يدخلها
دارها، ويشرح لزوجها القصة، وبأمره عني بالتمسك بها، والإحسان إليها.
ثم استدعاني، فوقفت بازائه، فجعل يخاطب الغلام، وأنا
واقف أسمع.
فقال له: كم جرايتك ؟ قال: كذا وكذا.
قال: وكم عادتك ؟ قال: كذا وكذا.
قال: وكم صلاتك ؟ قال: كذا وكذا.
قال: وكم جارية لك ؟ قال: كذا وكذا، فذكر عدة جواري.
قال: أفما كان فيهن، وفي هذه النعمة العريضة، كفاية عن ارتكاب معصية
الله تعالى، وخرق هيبة السلطان، حتى استعملت ذلك، وجاوزته إلى الوثوب بمن أمرك بالمعروف
؟ فأسقط الغلام في يده، ولم يحر جواباً.
فقال: هاتوا جوالقاً، ومداق الجص، وأدخلوه الجوالق،
ففعلوا ذلك به.
وقال للفراشين، دقوه، فدقوه، وأنا أسمع صياحه، إلى أن
مات، فأمر به، فطرح في دجلة، وتقدم إلى بدر، أن يحمل ما في داره.
ثم قال لي: يا شيخ، أي شيء رأيت من أجناس المنكر، كبيراً
كان أو صغيراً، أو أي أمر عن لك، فمر به، وأنكر المنكر، ولو على هذا - وأومأ إلى
بدر - فإن جرى عليك شيء، أو لم يقبل منك، فالعلامة بيننا أن تؤذن في مثل الوقت
الذي أذنت فيه، فإني أسمع صوتك، وأستدعيك، وأفعل هذا بمن لا يقبل منك.
فدعوت له، وانصرفت.
وانتشر الخبر في الأولياء والغلمان، فما خاطبت أحداً
بعدها في إنصاف أحداً، أو كف عن قبيح إلا أطاعني كما رأيت، خوفاً من المعتضد.
وما احتجت إلى الأذان في مثل ذلك الوقت.
أحيحة بن الجلاح أكب على إصلاح ضيعته
وجدت في بعض الكتب: أن أحيحة بن الجلاح، أسرع في ماله فأتلفه مع إخوان له، حتى افتقر، فهجروه وقطعوه، واحتاج إليهم في الشيء اليسير فمنعوه، فلحقته شدة، وضر وجهد.
فمات بعض
أهله، فورثه مالاً، وضيعة خراباً، تعرف بالزوراء، فأخذ المال، وخرج إلى الضيعة
يعمرها به، فطمع فيه القوم الذين أنفق ماله عليهم، فكتبوا إليه يعتذرون مما جرى،
ويرغبونه في مواصلتهم، ومعاشرتهم، وكان أديباً، فكتب إليهم:
إنّي مكبّ على الزوراء أعمرها ... إنّ الكريم على
الإخوان ذو المال
كلّ النداء إذا ناديت يخذلني ... إلاّ ندائي إذا ناديت
يا مالي
فأيسوا منه، وكفوا عنه، وثابت حاله، وحسنت ضيعته.
مجلس غناء بمحضر الرشيد
وروى حماد،
عن أبي صدقة، وكان يحضر مجلس الرشيد مع المغنين، فربما غنى، وربما لم يغن، قال:
فدعانا الرشيد يوماً، فدخلنا، والستارة دونه، وهو من خلفها جالس، فقال خادم من
خلفها: غنّ يا ابن جامع، فاندفع يغني بهذا الصوت:
قف بالمنازل ساعة فتأمّل ... هل بالديار لزائر من منزل
أولا ففيم توقّفي وتلدّدي ... وسط الديار كأنّني لم أعقل
ما بالديار من البلى ولقد أرى ... أن سوف يحملني الهوى
في محمل
وأحقّ بمن يبكي بكلّ محلّة ... عرضت له في منزل للمعول
عانٍ بكلّ حمامة سجعت له ... وغمامة برقت بنوء الأعزل
يبكي فتفضحه الدموع فعينه ... ما عاش مخضلة كفيض الجدول
فقال الخادم: ليغن هذا الصوت منكم من كان يحسنه، فغنى كل
من أحسنه منهم، فكأنه لم يطرب له.
فأقبل الخادم علي، فقال: إن كنت تحسن أن تغنيه، فغنه.
فقلت: نعم، فعجبوا من إقدامي على صوت لم يستطب من
جماعتهم، فغنيته.
فقال الخادم: أحسنت، والله، فأعده، فأعدته، وأعاد
الاستحسان، والأمر بإعادته على ذلك سبع مرات.
ثم قال لي الخادم: قم يا أبا صدقة، فادخل، حتى تغني أمير
المؤمنين بحيث يراك، فدخلت، والمغنون كلهم محجوبون، فغنيته إياه، ثلاث مرات، فطرب
في جميعهن.
وقال: أحسنت يا أبا صدقة.
فلما سمعت ما خصني به من استحسانه، قلت: يا أمير
المؤمنين، إن لهذا الصوت حديثاً عجيباً، أفلا أحدثك به يا أمير المؤمنين، لعله
يزداد حسناً.
فقال: بلى، هات.
فقلت:
كنت يا سيدي، عبداً لبعض آل الزبير، وكنت خياطاً مجيداً،
أخيط القميص بدرهمين، والسراويل بدرهم، وأؤدي ضريبتي إلى سيدي في كل يوم درهمين،
وآخذ ما فضل عن ذلك، فبينما أنا ذات يوم منصرفاً، وقد خطت قميصاً لبعض الطالبيين،
وقد أخذت منه درهمين، وانصرفت إلى موضع يجتمع فيه المغنون، كنت أقصده إذا فرغت من
شغلي، لشغفي بالغناء، فلما صرت بحذاء بركة المهدي، إذا أنا بسوداء على رقبتها جرة،
تريد أن تملأها من ماء العقيق، وهي تغني بهذا الصوت، أحسن غناء يكون، فأصابني من
الطرب بغنائها ما أذهلني عن كل شيء.
فقلت لها: فداك أبي وأمين ألقي علي هذا الصوت.
فقالت: استحسنته ؟ فقلت: إي والله.
فقالت: وحق القبر ومن فيه، لا أعدته إلا بدرهمين.
فدفعت الدرهمين إليها، فأحدرت جرتها عن رقبتها فارغة،
فوضعتها على الأرض، وجلست عليها، وكأني أنظر إلى فقحتها وقد برزت عن الجرة نحو
ذراع، وأقبلت تلقيه علي، وتوقع على الجرة، حتى أخذته، ثم أخذت الجرة على رقبتها،
وانصرفت.
فحين انصرفت، أنسيت الصوت ولحنه، حتى كأني لم أسمعه قط،
فبقيت متحيراً لا أدري ما أصنع، وانصرفت إلى سيدي بأسوء حال، وأكسف بال.
فلما رآني، قال: هات ضريبتك.
فلجلجت في كلامي، وقلت: يا سيدي، اسمع حديثي.
فقال:
يا ابن اللخناء، أبي تتعرض ؟ فبطحني، وضربني مائة مقرعة،
وحلق رأسي ولحيتي، ومنعني قوتي، وكان أربعة أرغفة، فلم يكن شيء من ذلك، أشد علي،
من ذهاب الصوت مني، وبت ليلتي أسوء خلق الله حالاً، وأنا لا أعرف الجارية، ولا
موضعها، ولا لمن هي.
فلما أصبحنا، خرجت ولها أطلبها في الموضع الذي لقيتها
فيه، وأسأل الله أن يحوج أهلها إلى الماء، حتى تخرج لتأتيهم به، فأراها، فلم أزل
أطلبها، لا أعمل شيئاً إلى العصر.
فبينما أنا كذلك، وإذا بها قد أقبلت، فلما رأتني، وما بي
من الوله، قالت لي: مالك، أنسيت الصوت ؟ فقلت: إي والله، وضربت مائة مقرعة، ومنعت
قوتي ليلتي، وحلقت رأسي ولحيتي.
فقلت: دع هذا عن، فورب الكعبة، لاسمعته مني، فضلاً عن
أخذه، إلا بدرهمين.
فقلت:
الله، الله، فيّ، فيمرن علي الليلة مثل ما مر علي البارحة، فارحميني.
فقالت: قد سمعت اليمين، وذهبت لتمضي.
فقلت: اصبري، وجئت إلى بقال كان يعاملني، فرهنت عنده
الجلمين، على درهمين، وجئت بهما إليها، فأخذتهما، وجعلتهما في فيها.
فلما بدأت بالصوت، ذكرته، فقلت: الله، الله، ردي علي
الدرهمين، فلا حاجة بي إلى غنائك.
فقالت:
أنت أحمق، ولست تعرف هذا الأمر، لئن لم أردهه عليك مائة
مرة ما حصل لك منه شيء، وجلست على الجرة، فغنته مائة مرة، أعدها عليها حتى فهمته،
وصرت به أمهر منها، وانصرفت.
فساعة فارقتها، لحقتني الندامة، وقلت: سيلحقني الليلة
أكثر مما لحقني البارحة، لفقد الجلمين.
فرجعت إلى مولاي، فجين رآني، قال: هات ضريبتك.
فقلت له: اسمع مني.
قال: أي شيء أسمع، يا ابن الفاجرة، أما كفاك ما مر بك
أمس، ووثب إلى السوط.
فقلت له: اسمع، واصنع ما شئت.
فقال: هات، فغنيته الصوت.
فقال:
أحسنت، والله، يعز علي ما أصابك، أما الضرب فقد مضى، ولا
حيلة فيه، وأما قوتك فمردود، وأما ضريبتك، فساقطة عنك ما عشنا ولو مت أنا وعيالي
جوعاً، فأنت اليوم واحداً منا أبداً ما بقينا، فهذا خبر الصوت.
وكان المغنون الذين حضروا، إبراهيم الموصلي، وابنه
إسحاق، وابن جامع، ومسلم بن سلام.
فأمر لكل واحد منهم بألف دينار، وأمر لي بعشرة آلاف
دينار، مثل ما أمر لجماعتهم، ثم استدعى ألف دينار، فقال: خذ هذه بدل المائة مقرعة
التي ضربت.
فانصرفت، والمغنون يتعجبون مما جرى.
الوليد بن يزيد يستقبل البريد بموت هشام
وحدث المنذر
بن عمرو، وكان كاتباً للوليد بن يزيد بن عبد الملك، قال: أرسل إلي الوليد صبيحة
اليوم الذي أتته فيه الخلافة، فقال لي: يا أبا الزبير، ما أتت علي ليلة أطول من
البارحة، وعرضت لي أمور حدثت نفسي فيها بأمور، وهذا الرجل قد جد بنا، فاركب بنا.
فركبنا جميعاً، وسرنا نحو ميلين، فوقف على تل، فجعل يشكو
إلي هشاماً، إذ نظر إلى رهج قد أقبل، وقعقعة البريد.
فتعوذ بالله من شر هشام، وقال: إن هذا البريد، قد أقبل،
بموت حي، أو هلك عاجل.
فقلت:
لا يسؤك الله أيها الأمير، بل يسرك وينفعك، إذ بدا رجلان
على البريد مقبلان، أحدهما مولى لآل أبي سفيان بن حرب، فلما رأيا الوليد نزلا،
وسلما عليه بالخلافة، فوجم، فجعلا يكرران عليه السلام بالخلافة.
فقال لهما: ويحكما ما الخبر، أمات هشام ؟.
قالا: نعم.
قال: فمرحباً بكما، ما معكما ؟.
قالا: كتاب مولاك سالم بن عبد الرحمن، فقرأ الكتاب،
وانصرفنا.
وسأل عن عياض بن سالم، كاتبه الذي كان هشام قد حبسه،
وضربه، فقالا، لم يزل محبوساً، حتى نزلت بهشام مصيبة الموت، فلما بلغ إلى حال لا
يرجى معها الحياة له، أرسل عياض إلى الخزان: احتفظوا بما في أيديكم، ولا يصل أحد
إلى شيء منه، فأفاق هشام إفاقة، فطلب شيئاً، فمنعه الخزان، فقال: أرانا كنا خزاناً
للوليد، وقضى من ساعته.
فخرج عياض لوقته من السجن عندما قضى هشام، فغلق الأبواب،
وختمها، وأمر بهشام، فأنزل عن فراشه، ومنعهم أن يكفنوه من الخزائن، فكفنه غالب
مولاه، ولم يجدوا قمقماً يسخن فيه الماء، حتى استعاروه.
وذكر باقي الحديث مما لا يتعلق بهذا الباب.
/ابن جامع المغني يأخذ صوتاً بثلاثة دراهم فيفيد منه
ثلاثة آلاف دينار حدث محمد بن صلصال، عن إسماعيل بن جامع، أنه قال: ضامني الدهر
ضيماً شديداً بمكة، فأقبلت منها بعيالي إلى المدينة، فأصبحت يوماً، وما معي إلا
ثلاثة دراهم، لا أملك غيرها، وإذا بجارية على رقبتها جرة، تريد الركي، وهي تتغنى
بهذا الصوت:
شكونا إلى أحبابنا طول ليلنا ... فقالوا لنا ما أقصر
اللّيل عندنا
وذاك لأنّ النوم يغشى عيونهم ... سريعاً ولا يغشى لنا
النوم أعينا
إذا ما دنا اللّيل المضرّ بذي الهوى ... قلقنا وهم
يستبشرون إذا دنا
فلو أنّهم كانوا يلاقون مثلما ... نلاقي لكانوا في
المضاجع مثلنا
قال: فأخذ الغناء بقلبي، ولم يدر لي منه حرف.
فقلت: يا جارية ما أدري أوجهك أحسن، أم غناؤك، فلو شئت،
لأعدت.
فقالت: حباً وكرامة، ثم أسندت ظهرها إلى جدار
قريب منها، ورفعت إحدى رجليها، فوضعتها على الأخرى، ووضعت الجرة على ساقها، ثم
انبعثت، فغنته، فوالله ما دار لي منه حرف.
فقلت: قد أحسنت، فلو تفضلت، وأعدته مرة اخرى.
ففطنت، وكلحت.
وقالت: ما أعجب أمركم، لا يزال أحدكم يجيء إلى الجارية
عليها الضريبة، فيحبسها.
فضربت يدي إلى الثلاثة دراهم، فدفعتها إليها، وقلت:
أقيمي بهذه وجهك اليوم، إلى أن نلتقي.
فأخذتها كالكارهة، وقالت: أنت الآن تريد أن تأخذ مني
صوتاً، أحسبك ستأخذ به ألف دينار، وألف دينار، وألف دينار، وانبعثت تغني.
فأعملت فكري في غنائها، حتى دار لي الصوت، وفهمته،
فانصرفت مسروراً إلى منزلي، وأنا أردده، حتى خف على لساني.
ثم إني خرجت إلى بغداد، فدخلتها، فطرحني المكاري بباب
محول، لا أدري أين أتوجه، فلم أزل أمشي مع الناس، حتى أتيت الجسر، فعبرته، ثم
انتهيت إلى شارع الميدان، فرأيت مسجداً بالقرب من دار الفضل بن الربيع مرتفعاً،
فقلت: هذا مسجد قوم سراة، فدخلته، وحضرت صلاة المغرب، فصليت، وأقمت بمكاني إلى أن
صليت العشاء، وبي من الجوع والتعب أمر عظيم.
فانصرف أهل المسجد، وبقي رجل يصلي، وخلفه جماعة خدم
وفحول، ينتظرون فراغه، فصلى ملياً، ثم انصرف إلي بوجهه، وقال: أحسبك غريباً.
قلت: أجل.
قال: فمتى كنت في هذه المدينة ؟ قلت: دخلتها آنفاً، وليس لي بها
منزل ولا معرفة، وليست صناعتي من الصنائع التي يمت بها إلى أهل الخير.
فقال: وما صناعتك ؟ قلت: أغني.
فقام، وركب مبادراً، ووكل بي بعض من كان معه، فسألت
الموكل بي عنه، فقال لي: هذا سلام الأبرش، ثم عاد، فأخذ بيدي، فانتهى بي إلى قصر
من قصور الخليفة، فأدخلني مقصورة في آخر الدهليز، ودعا بطعام من طعام الملوك على
مائدة، فأكلت، فإني لكذلك، إذ سمعت ركضاً في الدهليز، وقائلاً يقول: أين الرجل ؟ فقيل:
هوذا.
فدعي لي بغسول، وطيب، وخلعة، فلبست، وتطيبت، وحملت إلى
دار الخليفة على دابة، فعرفتها بالحرس، والتكبير، والنيران، فجاوزت مقاصير عدة،
حتى صرت إلى دار قوراء، وسطها أسرة، قد أضيف بعضها إلى بعض، فأمرت بالصعود، فصعدت،
فإذا رجل جالس، وعن يمينه ثلاث جواري، وإذا حياله مجالس خالية، قد كان فيها قوم
قاموا عنها.
فلم ألبث أن خرج خادم من وراء الستر، فقال للرجل: تغن،
فغنى صوتاً لي وهو:
لم تمش ميلاً، ولم تركب على جمل ... ولم تر الشمس إلاّ
دونها الكلل
تمشي الهوينا كأنّ الشمس بهجتها ... مشي اليعافير في
جيآتها الوهل
فغنى بغير إصابة، وأوتار مختلفة الدساتين، وعاد الخادم
إلى الجارية التي تليه، فقال لها: غني، فغنت أيضاً، صوتاً لي، كانت فيه أحسن
حالاً، وهو:
يا دار أمست خلاءً لا أنيس بها ... إلاّ الظباء وإلاّ الناشط
الفرد
أين الّذين إذا ما زرتهم جذلوا ... وطار عن قلبي التشواق
والكمد
قال: ثم عاد إلى الثانية، فغنت صوتاً لحكم الوادي، وهو:
فواللّه ما أدري أيغلبني الهوى ... إذا جدّ جدّ البين أم
أنا غالبه
فإن أستطع أغلب، وإن يغلب الهوى ... فمثل الّذي لاقيت
يغلب صاحبه
ثم عاد إلى الثالثة، فقال لها غني، فغنت بصوت لحنين، وهو:
مررنا على قيسيّة عامريّة ... لها بشرٌ صافي الأديم هجان
فقالت وألقت جانب الستر دونها ... لأيّة أرض أو لأيّ
مكان
فقلت لها إمّا تميم فأسرتي ... هديت، وإمّا صاحبي فيماني
رفيقان ضمّ السفر بيني وبينه ... وقد يلتقي الشتّى
فيأتلفان
ثم عاد إلى الرجل، فغنى صوتاً لي، فشبه فيه، من شعر عمر
بن أبي ربيعة:
أمسى بأسماء هذا القلب معمودا ... إذا أقول صحا يعتاده
عيدا
كأنّ أحور من غزلان ذي رشأ ... أعارها سنة العينين
والجيدا
ومشرقاً كشعاع الشمس بهجته ... ومسطرّاً على لبّاته سودا
ثم عاد إلى الجارية الأولى، فغنت صوتاً لحكم الوادي، وهو:
تعيّرنا أنّا قليل عديدنا ... فقلت لها إنّ الكرام قليل
وما ضرّنا أنّا قليلٌ وجارنا ... عزيزٌ وجار الأكثرين
ذليل
وإنّا
أناس لا نرى القتل سبّة ... إذا ما رأته عامر وسلول
يقرّب حبّ الموت آجالنا لنا ... وتكرهه آجالهم فتطول
ثم عاد إلى الثانية، فغنت صوتاً، تقول فيه:
وددتك لّما كان ودّك خالصاً ... وأعرضت لما صار نهباً
مقسّما
ولا يلبث الحوض الجديد بناؤه ... إذا كثر الورّاد أن
يتهدّما
ثم عاد إلى الجارية الثالثة، فغنت بشعر الخنساء وهو:
وما كرّ إلاّ كان أوّل طاعنٍ ... وما أبصرته العين إلاّ
اقشعرّت
فيدرك ثاراً وهو لم يخطه الغنى ... فمثل أخي يوماً به
العين قرّت
فلست أرزّى بعده برزيّة ... فأذكره إلاّ سلت وتجلّت
وغنى الرجل في الدور الثالث، بهذه الأبيات:
لحى اللّه صعلوكاً مناه وهمّه ... من الدّهر أن يلقى
لبوساً ومطمعا
ينام الضحى حتّى إذا ليله بدا ... تنبّه مسلوب الفؤاد
متيّما
ولكنّ صعلوكاً يساور همّه ... ويمضي إلى الهيجاء ليثاً
مصمّما
فذلك إن يلق المنيّة يلقها ... حميداً وإن يستغن يوماً
فربّما
قال: وتغنت الجارية:
إذا كنت ربّاً للقلوص فلا يكن ... رفيقك يمشي خلفها غير
راكب
أنخها فأردفه فإن حملتكما ... فذاك وإن كان العقاب فعاقب
قال: وغنت الجارية، بشعر عمرو بن معدي كرب، وهو:
ألم ترني إذ ضمّني البلد القفر ... سمعت نداء يصدع القلب
يا عمرو
أغثنا فإنّا عصبة مذحجيّة ... نراد على وفر وليس لنا وفر
وأظنه أغفل الثانية، فغنت الثالثة، بهذه الأبيات:
فلمّا وقفنا للحديث وأسفرت ... وجوه زهاها الحسن أن
تتقنّعا
تبالهن بالعرفان لما عرفنني ... وقلن امرؤ باغ أضلّ
وأوضعا
فلمّا تواضعن الأحاديث قلن لي ... أخفت علينا أن نغرّ
ونخدعا
قال: فتوقعت مجيء الخادم، فقلت للرجل: بأبي أنت، خذ
العود، وشد وتركذا، وارفع الطبقة، وحط دساتن كذا، ففعل ما أمرته.
وخرج الخادم، فقال لي: تغن عافاك الله.
فغنيت بصوت الرجل الأول، على غير ما غنى، فإذا جماعة من
الخدم يحضرون حتى استندوا إلى الأسرة، فقالوا: ويحك لمن هذا الغناء ؟ فقلت: لي.
فانصرفوا وعاد إلي خادم، فقال: كذبت، هذا لابن جامع،
فسكت.
ودار الدور الثاني، فلما انتهى إلي، قلت للجارية التي
تلي الرجل، خذي العود، فعلمت ما أريد، فأصلحته على غنائها، فغنيت به، فخرج الخدم،
وقالوا: ويحك، لمن هذا الغناء ؟ فقلت: لي.
فرجعوا، ثم عاد ذلك الخادم من بينهم، فقال: كذبت، هذا
لابن جامع.
ودار الدور، فلما انتهى إلي الغناء، قلت للجارية الأخرى،
سوي العود على كذا، فعلمت ما أريد، وخرج الخادم فقال لي تغن، فغنيت هذا الصوت، وهو
لا يعرف إلا بي، وهو:
عوجي عليّ فسلّمي جبر ... فيم الوقوف وأنتم سفر
ما نلتقي إلاّ ثلاث منى ... حتّى يفرّق بيننا النّفر
فتزلزلت عليهم الدار، وخرج الخادم، فقال: ويحك، لمن هذا
الغناء ؟ فقلت: لي.
فمضى، ثم عاد، فقال: كذبت، هذا لابن جامع.
قلت: فأنا ابن جامع.
فما شعرت إلا وأمير المؤمنين، وجعفر بن يحيى، قد أقبلا
من وراء الستر الذي كان يخرج منه الخادم.
فقال لي الفضل بن الربيع: هذا أمير المؤمنين، قد أقبل
إليك، فلما صعد السرير، وثبت قائماً.
فقال: ابن جامع ؟ فقلت: ابن جامع، جعلت فداك، يا أمير
المؤمنين.
فقال: متى كنت في هذه المدينة ؟ فقلت: دخلتها في الوقت
الذي علم بي فيه أمير المؤمنين.
فقال: اجلس، ومضى هو وجعفر، فجلسا في تلك المجالس.
فقال: ابشر، وابسط أملك، فدعوت له.
فقال: غن يا ابن جامع، فخطر ببالي صوت الجارية السوداء،
فأمرت الرجل بإصلاح العود على ما أردت من الطبقة، فعرف ما أريد، فوزنه وزناً.
فلما أخذت الأوتار والدساتين مواضعها، وتعاهدها، ابتدأت
أغني بصوت الجارية، فنظر الرشيد إلى جعفر، فقال: هل سمعت كذا قط ؟ قال: لا والله،
ولا خرق مسامعي مثله قط.
فرفع
الرشيد رأسه إلى خادم كان بالقرب منه، فأتى بكيس فيه ألف دينار، فرمى به إلي،
فصيرته تحت فخذي، ودعوت له.
فقال: يا ابن جامع، رد علي هذا الصوت، فرددته عليه،
وتزيدت في غنائي.
فقال له جعفر: أما ترى كيف تزيد في الغناء، وهذا خلاف
الأول، وإن كان اللحن واحداً.
فرفع الرشيد رأسه إلى الخادم، فأتى بكيس فيه ألف دينار،
فرمى به إلي، فجعلته تحت فخذي الآخر.
ثم قال: تغن يا إسماعيل بما حضرك.
فجعلت أقصد الصوت بعد الصوت، بما كان يبلغني أنه يشتري
عليه الجواري، فأغنيه، فلم أزل كذلك، إلى أن عسعس الليل.
فقال:
أتعبناك يا إسماعيل هذه الليلة، فأعد علي الصوت، يعني
صوت الجارية، فغنيته به، فرفع رأسه إلى الخادم، فوافى بكيس ثالث فيه ألف دينار.
فذكرت قول الجارية، فتبسمت، فلحظني، وقال: يا ابن
الفاعلة، فيم تبسمت ؟ فجثيت على ركبتي، وقلت: يا أمير المؤمنين، الصدق منجاة.
قال: قل.
فقصصت عليه خبر الجارية، فلما استوفيته، قال: صدقت، قد
يكون مثل هذا، وقام.
ونزلت من وراء الستر، لا أدري أين أمضي، فابتدرني
فراشان، فصارا بي إلى دار قد أمر لي أمير المؤمنين بها، فيها من الفرش، والآلة،
والخدم، جميع ما أريد، فدخلت فقيراً، وأصبحت من المياسير.
ذكر الأصبهاني: أن صوت إسماعيل الذي غناه، لا يعرف إلا
به، وهو:
فلو كان لي قلبان عشت بواحدٍ ... وخلّفت قلباً في هواك
يعذّب
ولكنّني أحيا بقلبٍ معذّبٍ ... فلا العيش يصفو لي ولا
الموت يقرب
تعلّمت أسباب الرّضا خوف سخطها ... وعلّمها حبّي لها كيف
تغضب
ولي ألف وجهٍ قد عرفت مكانه ... ولكن بلا قلب إلى أين
أذهب
ابن هرمة يتحدث عن أفضال عبد الواحد بن سليمان عليه
قال: قال
رجل لابن هرمة: بما استحق منك عبد الواحد بن سليمان أن تقول فيه ؟:
أعبد الواحد المأمول إنّي ... أغصّ حذار سخطك بالقراح
وجدنا غالباً كانت جناحاً ... وكان أبوك قادمة الجناح
فقال: إن ذهبت أعدد صنائعه التي استحق بها مني هذا
القول، طالت، ولكن أخبرك بأصغر صنيعة له عندي.
كنت منقطعاً إليه بالمدينة أيام كان يتولاها، فأغناني عن
سواه، ثم عزل، فظننت أن الوالي سيحسن إلي، فلم يبرني بشيء، فأنفقت ما كان معي، حتى
لم يبق لي شيء.
فقلت لأختي: ويحك، أما ترين ما أنا فيه من الشدة، وتعذر
القوت ؟ قالت: بسوء اختيارك.
قلت: فبمن تشيرين ؟ فقالت: ما أعرف لك غير عبد الواحد بن
سليمان.
فقلت: ومن لي به، وهو بدمشق، وأنا بالمدينة ؟ فقالت: أنا
أعينك على قصدك إليه.
فقلت: افعلي.
فباعت حلياً كان لها، واشترت لي راحلة، وزودتني، فوافيت
دمشق بعد اثنتى عشرة ليلة، فأنخت عشاءً على باب عبد الواحد، وعقلت راحلتي، ودخلت
المسجد، فحططت فيه رحلي.
فلما صلى عبد الواحد، وجلس يسبح، حول وجهه إلى جلسائه،
فنظر إلى رحلي، فقال: لمن هذا؟ فوثبت، وقبلت يده، وقلت: أنا يا سيدي، عبدك ابن هرمة.
فقال: ما خبرك يا أبا إسحاق ؟ فقلت: شر خبر، بعدك - أيها
الأمير - تلاعبت بي المحن، وجفاني الصديق، ونبا بي الوطن، فلم أجد معولاً إلا عليك.
فوالله، ما أجابني إلا بدموعه، ثم قال: ويحك، أبلغ بك
الجهد إلى ما ذكرت ؟ فقلت: إي والله، وما أخفيه عنك أكثر.
فقال: اسكن، ولا ترع.
ثم إنه نظر إلى فتية بين يديه، كأنهم الصقور، فوثبوا،
فاستدعى أحدهم، وهمس إليه بشيء، فمضى مسرعاً، ثم أومأ إلى الثاني، فهمس إليه بشيء،
وكذلك الثالث، فمضى.
ثم أقبل الأول، ومعه خادم على رأسه كيس، فصبه في حجري، فقال
له أبوه: كم هذا ؟ فقال: ألف دينار وسبعمائة دينار، ووالله ما في خزانتك غيرها.
ثم أقبل الثاني، وبين يديه عبد على كتفه كارة، فصبها بين
يديه، فإذا فيها حلي مخلع من بناته ونسائه.
فقال: والله، ما تركت لهن شيئاً، إلا أخذته.
وأقبل الثالث، ومعه غلامان، معهما كارتان عظيمتان من
فاخر ثيابه، فوضع ذلك بين يدي.
ثم قال: يا
ابن هرمه، أنا أعتذر إليك من قلة ما حبوتك به، مع بعد العهد، وطول الشقة، وسعة
الأمل، ولكنك جئتنا في آخر السنة، وقد تقسمت أموالنا الحقوق، ونهبتنا أيدي
المؤملين، فلم يبق عندنا غير هذه الصبابة، آثرناك بها على أنفسنا، وسللناها لك من
أفواهنا، ولم قدمت قبل هذا الإعسار، لأعطيناك ما يكفيك، ولو علمنا بك، لأتاك
عفواً، ولم تتجشم المشقة، ولم نحوجك إلى سوانا، وذلك منا لك أبداً، ما بقيت، فأقسم
عليك، لما أصبحت إلا على ظهر راحلتك، وتداركت أهلك، فخلصتهم من هذه المحنة، فقمت
إلى ناقتي، فإذا هي قد ضعفت.
فقال: ما أرى في ناقتك خيراً، يا غلام، أعطه ناقتي
الفلانية، فجئ بها برحلها، فكانت - والله - أحب إلي من جميع ما أعطاني، ثقة
ببلوغها، ثم دعا بناقتين أخريين، وأوقرهما من المال، والثياب، وزاداً يكفيني
لطريقي، ووهب لي عبدين.
وقال: هذان يخدمانك في السقي والرعي، فإن شئت بعتهما،
وإن شئت أبقيتهما، أفتلومني أني أغص حذار سخطه بريقي ؟ قال: لا والله.
القائد هرثمة بن أعين يتحدث عما أمره به الهادي في ليلة موته
حدثني علي
بن هشام، عن محمد بن الفضل: أن هرثمة بن أعين، قال: كنت اختصصت بموسى الهادي، وكنت
- مع ذلك - شديد الحذر منه، لإقدامه على سفك الدماء.
فاستدعاني نصف نهار، في يوم شديد الحر، قبل أكلي،
فتداخلني منه رعب، وبادرت فدخلت عليه، وهو في حجرة من دور حرمه، فصرف جميع من كان
بحضرته، وقال لي: اخرج وأغلق الباب، وعد إلي، فازداد جزعي، ففعلت، وعدت إليه.
فقال لي: قد تأذيت بهذا الكلب الملحد، يحيى بن خالد، ليس
له فكر غير تضريب الجيش، واجتذابهم إلى صاحبه هارون، يريد أن يقتلني، ويسوق إليه
الخلافة، وأريد أن تمضي الليلة إلى هارون، وتقبض عليه، وتذبحه، وتجيني برأسه، إما
في داره، وإما أن تخرجه برسالتي تستدعيه إلى حضرتي، ثم تعدل به إلى دارك، فتقتله، وتجيني
برأسه.
فورد علي أعظم وارد، فقلت: تأذن يا أمير المؤمنين في
الكلام ؟ فقال: قل.
فقلت:
أخوك، وابن أبيك، وله بعدك العهد، فكيف تكون صورتنا،
أولاً عند الله، ثم عند الجيش؟ فقال: إنك إن فعلت هذا، وإلا ضربت عنقك الساعة.
فقلت: السمع والطاعة.
فقال: وأريد إذا فرغت منه هذه الليلة، أن تخرج من في
الحبس من الطالبيين، فتضرب رقاب أكثرهم، وتغرق الباقين.
فقلت: السمع والطاعة.
قال: ثم ترحل إلى الكوفة، فتجمع من تقدر عليه من الجيش، فتخرج من
بها من العباسيين، وشيعتهم، وعمالنا، والمتصرفين، ثم تضرمها بالنار، حتى لا يبقى فيها
جدار.
فقلت: يا أمير المؤمنين، هذا أمر عظيم.
فقال: هؤلاء أعداؤنا، وشيعة آل أبي طالب، وكل آفة ترد
علينا، فهي من جهتهم، ولا بد من هذا.
فقلت: السمع والطاعة.
فقال: لا تبرح من مكانك إلى نصف الليل، لتمضي إلى هارون.
فقلت: السمع والطاعة.
ونهض عن موضعه، ودخل إلى دور النساء، وجلست مكاني، لا
أشك أنه قد قبض علي ليقتلني، ويدبر هذه الأمور على يد غيري، لما أظهرت له من الجزع
عند كل باب منها، والتخطئة لرأيه، والامتناع عليه، ثم الإجابة، وقد علم الله
تعالى، أني ما أجبته إلا على أن أخرج من حضرته، فأركب فرسي من بابه، وألحق بطرف من
الأرض، وأفارق جميع نعمتي، فأكون بحيث لا يصل إلي، حتى أموت، أو يموت.
فلما اعتقلني، ودخل دار الحرم، لم أشك في أنه قد فطن
لغرضي، وأنه سيقتلني، لئلا يفشو السر، فوردت علي شدة شديدة، وغلبت علي، فطرحت نفسي
في الحر مغموماً، جائعاً، على عتبة المجلس، ونمت.
فما انتبهت إلا بخادم قد أيقظني، وقال: أجب أمير
المؤمنين، فنظرت الوقت، فإذا هو نصف الليل.
فقلت: إنا لله، عزم والله على قتلي، فمشيت معه، وأنا
أتشاهد، إلى ممرات سمعت منها كلام النساء.
فقلت: عزم على قتلي بحجة، يقول: من أذن لك في الدخول إلى
حرمي، ويعتل علي بذلك، فوقفت.
فقال لي الخادم: ادخل.
فقلت: لا أدخل.
فقال لي: ادخل، ويحك.
فقلت: هوذا أسمع صوت الحرم، ولا يجوز لي أن أدخل.
فجذبني، فصحت: والله، لا دخلت، ولو ضربت عنقي، أو أسمع
كلام أمير المؤمنين، بالإذن لي.
وإذا امرأة تصيح: ويلك يا هرثمة، أنا الخيزران، وقد حدث
أمر عظيم، استدعيتك له، فادخل.
فتحيرت، ودخلت،
وإذا ستارة ممدودة، فقيل لي من ورائها: إن موسى قد مات، وأراحك الله منه، وجميع
المسلمين، فانظر إليه، فأتيته، فإذا هو مسجى على فراشه، فمسست قلبه، ومجسه،
ومناخره، فإذا هو ميت بلا شك.
فقلت: ما كان خبره ؟ فقالت لي الخيزران: كنت بحيث أسمع
خطابه لك في أمر ابني هارون، وأمر الطالبيين، وأهل الكوفة، فلما دخل علي،
استعطفته، وسألته أن لا يفعل شيئاً من ذلك، فصاح علي، فلم أزل أرفق به، إلى أن
كشفت له ثديي، وشعري، وبكيت، وتمرغت بين يديه، وناشدته الله أن لا يفعل، فانتهرني،
وقال: والله، لئن لم تمسكي، لأضربني عنقك الساعة، فخفته، وقمت، فصففت قدمي في
المحراب، أصلي، وأبكي، وأدعو عليه.
فلما كان منذ ساعة، طرح نفسه على فرشه لينام، فشرق، فتداركناه
بكوز ماء، فازداد شرقه، إلى أن تلف، فامض إلى يحيى بن خالد، وعرفه ما جرى، وامضيا
إلى هارون، وجيئا به قبل انتشار الخبر، وجددا له البيعة على الناس.
فخرجت وجئت بالرشيد، فما أصبحنا إلا وقد فرغنا من بيعته،
واستقام أمره، وتوطأت الخلافة له، وكفاني الله تعالى، والناس، ما كان أظلنا من
مكروه موسى، وكان ذلك سبب اختصاصي العظيم بالرشيد، وتضاعف نعمتي ومحلي عنده.
دهاء عبدون أخي صاعد بن مخلد
حدثني علي
بن هشام قال: كان في يد صاعد بن مخلد ضمانات كثيرة، وكانت معاملته مع أبي نوح عيسى
بن إبراهيم، وكان صاعد من وجوه الناس.
فحضر صاعد بين يدي أبي نوح، يحاسبه في أموال وجبت عليه،
فجرت بينهما مناظرات، فشتم فيها أبو نوح صاعداً، فرد عليه صاعد، مثل ما قاله له.
فاستعظم الحاضرون ذلك، واستخفوا بصاعد، وقالوا له: يا
مجنون، ما هذا الفعل ؟ قتلت نفسك، ثم أقاموه، وخلصوه من أبي نوح، وقالوا: هذا
مجنون، لم يدر ما خرج من رأسه.
فانصرف إلى منزله، متحيراً، لا يدري ما يصنع فيما نزل
به، فحدث أخاه عبدون بما جرى.
فقال له: إن لم تطعني، قبض عليك في غد، وطالبك من
المصادرة بما لا يفي به حالك، ولا حال جميع أهلك، وقتلك - بلا شك - تشفياً.
قال له صاعد: فما الرأي ؟ قال: كم عندك من المال،
واصدقني ؟.
قال: خمسون ألف دينار.
قال: أتطيب نفسك أن تتعرى عنها، وتحرس دمك، وما يبقى من حالك وضياعك
؟ أم لا تسمح بذلك، فتؤخذ منك تحت المقارع، وتذهب النفس والنعمة كلها ؟.
فقال له: قد تعريت عنها، كي تبقى نفسي.
قال: فادفع إلي منها ثلاثين ألف درهم، ففعل.
فحملها عبدون، وأتى حاجب موسى بن بغا، فقال له: خذ هذه
العشرة آلاف درهم، وأوصلني إلى فلان الخادم، وكان هذا خادمه الذي يتعشقه موسى،
ويطيعه في كل أموره، وموسى إذ ذاك هو الخليفة، وكتبته كالوزارة، والأمور في يده،
والخليفة في حجره.
قال: فأخذ الحاجب ذلك، وأوصله إلى الخادم، فأحضره
العشرين ألف درهم، وقال: خذ هذه، وأوصلني إلى الأمير الساعة، وأعني عليه في حاجة
أريد أن أسأله إياها، ومشورة أشير بها عليه، فأوصله الخادم إليه.
فلما مثل بين يديه، سعى إليه بكتابه، وقال له: قد نهبوك،
وأخذوا مالك، وأخربوا ضياعك، وأخي يجعل كتابتك أجل من الوزارة، ويغلب لك على
الأمور، ويوفر عليك كذا، ويحمل إليك الليلة، من قبل أن ينتصف الليل، خمسين ألف
دينار عيناً، هدية لك، لا يريد عنها مكافأة، ولا يرتجعها من مالك، وتستكتبه، وتخلع
عليه.
فقال موسى: أفكر في هذا ؟.
فقال: ليس في هذا فكر، وألح عليه.
فقال الخادم: في الدنيا أحد جاءه مثل هذا المال، فرده ؟
وكاتب بكاتب، فأجابه موسى، وأنعم له.
فقال له عبدون: فتستدعي أخي الساعة، وتشافهه بذلك، فأنفذ
إليه، فأحضره، وقرر عليه ذلك، وبات عبدون في الدار لتصحيح المال، فوفاه.
وبكر صاعد، فخلع عليه لكتابته، وأركب الجيش كله في
خدمته، وانقلبت سامراء، بظهور الخبر.
فبكر بعض المتصرفين إلى الحسن بن مخلد، وكان صديقاً لأبي
نوح، فقال له: قد خلع على صاعد.
فقال: لأي شيء ؟ فقال: تقلد كتابة موسى بن بغا، فاستعظم
ذلك.
وركب في الحال، إلى أبي نوح، وقال له: عرفت خبر صاعد ؟.
فقال: نعم، الكلب، قد بلغك ما عاملني به، والله لأفعلن
به، ولأصنعن.
فقال له: أنت نائم ؟ ليس هذا أردت، قد ولي الرجل كتابة
الأمير موسى بن بغا، وخلع عليه، وركب معه الجيش بأسرهم إلى داره.
فقال أبو
نوح: ليس هذا ما ظننته، بات خائفاً منا، فأصبحنا خائفين منه، فما الرأي عندك ؟
قال: أن أصلح بينكما الساعة.
فركب الحسن بن مخلد إلى صاعد، فهنأه، وأشار عليه أن
يصالح أبا نوح، وقال له: أنت بلا زوجة، وأنا أجعلك صهره، وتعتضد به، وإن كنت قد نصرت
عليه، فهو من تعلم موضعه، ومحله، ومحل مصاهرته ومودته، ولم يدعه، حتى أجاب إلى
الصلح والمصاهرة.
فقال له: فتركب معي إليه، فإنه أبو البنت، والزوج يقصد
المرأة، ولولا ذاك لجاءك.
فحمله من يومه إلى أبي نوح، واصطلحا، ووقع العقد في
الحال بينهما في ذلك المجلس، وزوج أبو نوح ابنته الأخرى بالعباس بن الحسن بن مخلد،
فولدت له أبا عيسى المعروف بابن بنت أبي نوح، صاحب بيت مال الإعطاء، ثم تقلد زمام
ديوان الجيش لعمه سليمان بن الحسن، فكانت كتابة صاعد لموسى، ومصاهرته لأبي نوح، أول
مرتبة عظيمة بلغها، وتقلبت به الأحوال، حتى بلغ الوزارة.
زور مناماً فجاء مطابقاً للحقيقة
قال رجل من شيوخ الكتاب، يقال له عباد بن الحريش: صحبت
علي بن المرزبان، وهو يتقلد شيراز، من قبل عمرو بن الليث الصفار، فصادر المتصرفين
على أموال ألزمهم إياها، فكنت ممن أخذ خطه عن العمل الذي توليته، بثمانين ألف
درهم، فأديت منها أربعين ألفاً، ودرجت حالي، حتى لم يبق لي شيء في الدنيا غير داري
التي أسكنها، ولا قدر لثمنها فيما بقي علي، فلم أدر ما أصنع.
وفكرت، فوجدت علي بن المرزبان، رجلاً حراً سليم الصدر،
فرويت له رؤيا، أجمعت على أن ألقاه بها، وأجعلها سبباً لشكوى حالي إليه، والتوصل
إلى الخلاص، وكنت قد حفظت الرؤيا.
فاحتلت خمسين درهماً، وبكرت إليه قبل طلوع الفجر، فدققت
بابه.
فقال حاجبه، من خلف الباب: من أنت ؟.
فقلت: عباد بن الحريش.
فقال: في هذا الوقت ؟ قلت: مهم، ففتح الباب.
فشكوت إليه حالي، وقلت: هذه خمسون درهماً، لا أملك
غيرها، خذها، وأدخلني عليه، قبل أن يتكاثر الناس عليه.
فدخل، فاستأذن لي، وتلطف، إلى أن أوصلني إليه، وهو يستاك.
فقال: ما جاء بك في هذا الوقت ؟ فدعوت له، وقلت: بشارة
رأيتها البارحة.
فقال:
ما هي ؟ فقلت: رأيتك في النوم، كأنك تجيء إلى شيراز، من
حضرة الأمير، وتحتك فرس أشهب عال، لم تر عيني قط أحسن منه، وعليك السواد، وقلنسوة الأمير،
وفي يدك خاتمه، وحولك مائة ألف إنسان، ما بين فارس وراجل، وقد تلقوك، وأنا فيهم،
إلى العقبة الفلانية، وقد لقيك أمير البلد، فترجل لك وأنت تجوز، وطريقك كله أخضر،
مزهر بالنور، والناس يقولون: إن الأمير، قد استخلفك على جميع أمره.
فقال: خيراً رأيت، وخيراً يكون، فما تريد ؟ فشكوت إليه
حالي، وذكرت له أمري.
فقال: أنظر لك بعشرين ألف، وتؤدي عشرين ألف درهم.
فحلفت له بأيمان البيعة، أنه لم يبق لي إلا مسكني، وثمنه
شيء يسير، وبكيت، وقبلت يده، واضطربت بحضرته، فرحمني، وكتب إلى الديوان بإسقاط ما
علي، وانصرفت.
فلم تمض إلا شهور، حتى كتب عمرو بن الليث، إلى علي بن
المرزبان، يستدعيه، ويأمره بحمل ما اجتمع له من المال صحبته.
وكان قد جمع من الأموال، ما لم يسمع أنه اجتمع قط لأحد
من مال فارس، مبلغه ستون ألف ألف، فحملها معه إلى نيسابور، وخرج عمرو، فتلقاه،
وجميع قواده.
فأعظم الأموال، واستخلفه على فارس وأعمالها، حرباً،
وخراجاً، وخلع عليه سواداً، وحمله على فرس أشهب عال، ودفع إليه خاتمه، ورده إلى
فارس.
فوافى في وقت الربيع، ولم يحل الحول على رؤياي، وخرج
أمير البلد، يستقبله على ثلاثين فرسخاً، وخرجت فلقيته على العقبة التي ذكرتها في
المنام الموضوع، والدنيا على الحقيقة خضراء بأنوار الربيع، وحوله أكثر من مائة ألف
فارس وراجل، وعليه قلنسوة عمرو بن الليث، وفي يده خاتمه، وعليه السواد، فدعوت له.
فلما رآني تبسم، وأخذ بيدي، وأحفى بي السؤال، ثم فرق
الجيش بيننا، فلحقته إلى داره، فلم أستطع القرب منه لكثرة الدواب، فانصرفت،
وباكرته في السحر.
فقال لي الحاجب: من أنت ؟.
فقلت: عباد بن الحريش، فأدخلني عليه، وهو يستاك.
فضحك إلي، وقال: قد صحت رؤياك.
فقلت: الحمد لله.
فقال: لا تبرح من الدار حتى أنظر في أمرك.
وكان باراً
بأهله، ورسمه إذا ولي عملاً، أن لا ينظر في شيء من أمر نفسه، حتى ينظر في أمر
أهله، فيصرف من صلح منهم للتصرف، فإذا فرغ، عدل إلى الأخص، فالأخص من حاشيته، فإذا
فرغ من ذلك، نظر في أمر نفسه.
فجلست في الدار إلى العصر، وهو ينظر في أمر أهله،
والتوقيعات تخرج بالصلات والأرزاق، وكتب التقليدات، إلى أن صاح الحاجب: عباد بن
الحريش، فقمت إليه، فأدخلني عليه.
فقال: إني ما نظرت في أمر أحد غير أهلي، فلما فرغت منهم،
بدأت بك قبل الناس كلهم، فاحتكم ما تريد ؟.
فقلت: ترد علي ما أخذت مني، وتوليني العمل الذي كان بيدي.
فوقع لي بذلك، وقال: امض، فقد أوغرت لك العمل، فخذ
ارتفاعه كله.
فكان يستدعيني كل مدة، ولا يأخذ مني شيئاً، وإنما يكتب
لي روزات من مال العمل، ويصلح لي حسبانات يخلدها الديوان، فأرجع إلى العمل.
فكنت على ذلك إلى أن زالت أيامه، فرجعت إلى شيراز وقد
اجتمع لي مال عظيم، صودرت على بعضه، وجلست في بيتي، وعقدت نعمة ضخمة، ولم أتصرف
إلى الآن.
شر السلطان يدفع بالساعات
حدثني ابن
أبي علان، وقد جرى حديث السلطان، وأن شره يدفع بالساعات، قال: ورد علينا أبو يوسف
البريدي، كاتب السيدة، يطالبني، أنا وأبا يحيى الرامهرمزي، أن نضمن منه ضياع
السيدة، وشدد علينا، ونحن ممتنعون. إلى أن أخلى لنا مجلسه يوم خميس، وناظرنا
مناظرة طويلة، وشدد علينا، حتى كدنا أن نجيبه، وكان علينا في ذلك ضرر كبير، وخسران
ظاهر، لو أجبناه.
فقلت لأبي يحيى: اجتهد أن تدفع المجلس اليوم، لنفكر إذا
انصرفنا، كيف نعمل.
وكان أبو يوسف محدثاً طيب الحديث، فجره أبو يحيى إلى
المحادثة، وسكت له يستمع.
وكانت عادة أبي يوسف في كلامه، أن يقول في كل قطعة من
حديثه: أفهمت ؟ فكان كلما قال ذلك لأبي يحيى، قال له: لا، فأعاد أبو يوسف الحديث،
ويخرج منه إلى حديث آخر.
فلم يزل كذلك إلى أن حميت الشمس، وقربت من موضعنا، فرجع
أبو يوسف إلى ذكر الضمان، وطالبنا بالعقد.
فقلت: إنه قد حمي الوقت، وهذا لا يتقرر في ساعة، ولكن
نعود غداً، ورفقنا به، فقال: انصرفا، فانصرفنا.
واستدعانا من غد، فكتبنا إليه: هذا يوم جمعة، يوم ضيق،
ويحتاج فيه إلى دخول الحمام، والصلاة، وقل أمر يتم قبل الصلاة، ولكنا نبكر يوم
السبت.
فلما كان يوم السبت، صرنا إليه، وقد وضعنا في أنفسنا
الإجابة، فحين دخلنا عليه، ورد عليه كتاب فقرأه، وشغل قلبه، فقال: انصرفا اليوم.
فانصرفنا، ورحل من الغد عن الأهواز، لأن الكتاب، كان
يتضمن صرفه، فبادر قبل ورود الصارف، وكفينا أمره.
كيفية إغراء العمال بأخذ المرافقوقال: ورد علينا في وقت
من الأوقات، بعض العمال متقلداً للأهواز، من قبل السلطان، فتتبع رسومنا، ورام نقض
شيء منها.
فكنت أنا وجماعة من التناء في المطالبة، وكان فيها ذهاب
غلاتنا في تلك السنة، لو تم علينا، وذهاب أكثر قيمة ضياعنا.
فقال لي الجماعة: ليس لنا غيرك، تخلو به، وتبذل له
مرفقاً، وتكفيناه.
فجئته، وخلوت به، وبذلت له مرفقاً جليلاً، فلم يقبله،
ودخلت عليه بالكلام من غير وجه، فما لان، ولا أجاب.
فلما يئست منه، وكدت أن أقوم، قلت له: يا هذا الرجل، أنت
مقيم من هذا الأمر، على خطأ شديد، لأنك تظلمنا، وتزيل رسومنا، من حيث لا يحمدك
السلطان، ولا تنتفع أنت أيضاً بذاك.
ومع هذا فأخبرني، هل تأمن أن تكون قد صرفت، وكتاب صرفك
في الطريق، يرد عليك بعد يومين أو ثلاثة، فتكون قد أهلكتنا، وأثمت في أمورنا،
وفاتك هذا المرفق الجليل، ولعلنا نحن نكفى، ويجيء غيرك، فلا يطالبنا، أو يطالبنا
فنبذل له نحن هذا المرفق، فيقبله، ويكون الضرر يدخل عليك.
فحين سمع هذا وافق، كأنه قد علم من أمره ضعفاً ببغداد، وتلوناً،
وأني قد أحسست بانحلال أمره، وأن لي ببغداد من يكاتبني بالأخبار.
فأخذ يخاطبني مخاطبة من أين وقع إلي هذا، فقويته في
نفسه، فأجاب إلى أخذ المرفق، وإزالة المطالبة.
فسلمت إليه رقاعاً إلى الصيارف بالمال، وأخذت منه حجة
بزوال المطالبة، فانصرفت وقد بلغت ما أردت.
فلما كان بعد خمسة أيام، ورد عليه كتاب الصرف، فدخلت
إليه، فأخذ يشكرني ويخبرني بما ورد عليه، فأوهمته أني كنت قلت له ذلك عن أصل،
وكفيناه.
الصوفي المتوكل وجام فالوذج حارحدثني ابن سيار، عن شيخ
من الصوفية، قال:
صحبت
شيخاً من الصوفية، وجماعة منهم، في سفر، فجرى ذكر التوكل، والأرزاق، وضعف النفس.
فقال ذلك الشيخ: علي، وعلي، وحلف بأيمان مغلظة، لا ذقت
شيئاً، أو يبعث الله عز وجل، إلي، جام فالوذج حار، ولا آكله إلا بعد أن يحلف علي،
أو يجرى علي مكروه، وكنا نمشي في الصحراء.
فقالت الجماعة: أنت جاهل، ونحن نمشي، حتى انتهينا إلى
القرية، وقد مضى عليه يومان وليلتان، ولم يطعم شيئاً، ففارقته الجماعة، غيري.
فطرح نفسه في مسجد في القرية، وقد ضعفت قوته، وأشرف على
الموت، فأقمت عنده.
فلما كان في ليلة اليوم الثالث، وقد انتصف الليل، وكاد
يتلف، دق علينا باب المسجد، ففتحته، فإذا بجارية سوداء ومعها طبق مغطى، فلما
رأتنا، قالت: أنتم من أهل القرية، أم غرباء ؟.
فقلنا: غرباء.
فكشفت عن جام فالوذج حار.
فقالت: كلوا.
فقلت له: كل.
فقال: لا أفعل.
فقلت: والله، لا أكلت أو تأكل، ووالله لتأكلن، لأبر قسمه.
فقال: لا أفعل.
فشالت الجارية يدها، فصفعته صفعة عظيمة، وقالت: والله،
لئن لم تأكل، لأصفعنك هكذا، إلى أن تأكل.
فقال: كل معي، فأكلت معه، فنظفنا الجام.
فلما أخذته لتمضي، قلت لها: بالله، حدثينا بخبر هذا
الجام.
قالت:
نعم، أنا جارية رئيس هذه القرية، وهو رجل حديد، طلب منا
منذ ساعة، فالوذج حار، فقمنا لنصلحه، وهو شتاء وبرد، فإلى أن نخرج الحوائج، ونعقد
الفالوذج، تأخر عليه، فطلبه، فقلنا: نعم، فحلف بالطلاق، أنه لا يأكله، ولا أحد من أهل
داره، ولا أحد من أهل القرية، إلا غريب.
فأخذته، وجعلت أدور في المساجد، إلى أن وجدتكما، ولو لم
يأكل هذا الشيخ، لقتلته صفعاً، ولا تطلق ستي.
فقال لي الشيخ: كيف ترى، إذا أراد أن يفرج ؟.
سخاء الأمير سيف الدولة
وحدثني عبد
الله بن معروف، قال: دخلت حلب إلى أبي محمد الصلحي، وأبي الحسن المغربي، أسلم
عليهما، وكانا في صحبة سيف الدولة، وهما في دار واحدة نازلان لضيق الدور.
وكان وكيل كل واحد منهما يبكر فيقيم لهما جميع ما يحتاجان
إليه من المائدة والوظائف، فإذا كان من الغد، بكر وكيل الآخر، فأقام لهما،
ولغلمانهما، من المائدة والوظائف ما يحتاجون إليه على هذا.
فلما دخلت إليهما، وجلست، دخل شيخ ضرير، فسلم، وجلس، ثم
قال: إن لي بالأمير سيف الدولة، حرمة واختصاص، أيام مقامه بالموصل، وقد لحقتني محن
وشدائد، أملته لكشفها، وقد قصدته، وهذه رقعتي إليه، فإن رأيتما أن تتفضلا بإيصالها
إليه، فعلتما، وأخرج رقعة طويلة جداً.
فلما رأياها، قالا له: هذه عظيمة، ولا ينشط الأمير
لقراءتها، فغيرها، واختصرها، وعد في وقت آخر، فإنا نعرضها عليه.
فقال: الذي أحب، أن تتفضلا بعرض هذه الرقعة.
فدافعاه عن ذلك، فقام يجر رجليه، منكسر القلب، فتداخلتني
رحمة له، وركبت، ودخلت على سيف الدولة، وهو جالس.
وكان رسمه أن لا يصل إليه أحد، إلا برقعة يكتبها الحاجب،
باسم من حضر، فإذا قرأ الرقعة، إن شاء أذن له، وإن شاء صرفه.
فلما أستقررت عرض الحاجب عليه رقعة فيها: فلان بن فلان،
الموصلي الضرير.
فقال له: هذا في الدنيا ؟ أين هو ؟.
فقيل: بالباب.
فقال: يدخل، فما أظنه - مع ما أعرفه من زهده في الطلب،
وقصد الملوك - قصدنا إلا من شدة، فدخل الشيخ الذي رأيته عند الصلحي والمغربي.
فلما رآه استدناه، وبش له، وقال له: يا هذا، أما سمعت
بأنا في الدنيا ؟ أما علمت مكاننا على وجه الأرض ؟ أما حان لك أن تزورنا إلى الآن،
مع ما لك بنا من الحرمة والسبب الوكيد ؟ لقد أسأت إلى نفسك، وأسأت الظن بنا.
فجعل يدعو له، ويشكره، ويعتذر، فقربه، وجلس ساعة، ثم سلم
إليه تلك الرقعة بعينها، فأخذها من يده، وقرأها.
ثم استدعي يونس بن بابا، وكان خازنه، فحضر، فأسر إليه
شيئاً.
ثم استدعى رئيس الفراشين، فخاطبه سراً.
واستدعى خادماً له، فخاطبه بشيء.
واستدعى صاحب الإصطبل، فأمره بشيء، فانصرفت الجماعة.
وعاد ابن بابا، فوضع بين يديه صرتين فيهما خمسمائة
دينار، وثياباً كثيرة صحاحاً، من ثياب الشتاء والصيف، وطيباً كثيراً.
ثم جاء عريف الفراشين ببسط وآلة وفرش تساوي ألوف دراهم،
فصار ذلك كالتل بين يديه.
وكان يعجبه إذا أمر لإنسان بشيء أن يكون بحضرته مجتمعاً،
فيراه بين يديه، ثم يهبه له.
فاجتمع
ذلك، والضرير لا يعلم، وعنده أنه قد تغافل عنه، فهو في الريب.
ثم حضر صاحب الكراع، ومعه بغلة تساوي ثلاثة آلاف درهم،
ومركب ثقيل.
وجاء غلام أسود عليه ثياب جدد، فسلمت إليه البغلة،
فأمسكها في الميدان أسفل الدكة التي عليها الأمير.
فقال للغلام: كم جرايتك في السنة ؟.
قال: عشرون ديناراً.
فقال:
قد جعلتها ثلاثين، وخدمة هذا الشيخ خدمة لنا، فلا تقصر
فيها، ولا ينكسر قلبك بخروجك عنا من دارنا، وأعطوه سلفاً لسنة، فدفع إليه ذلك في
الحال.
ثم قال: فرغوا الدار الفلانية، له، ويحدر زورق من تل
فافان إلى الموصل، فيه كران حنطة، وكر شعير، وفواكه الشام ومآكلها، فعملوا بهذا
ثبتاً، ففعل ذلك.
ثم استدعى أبا إسحاق بن شهرام، كاتبه، المعروف بابن ظلوم
المغنية، وكان يكتب له، ويترسل إلى ملك الروم، ويبعثه في صغير أموره وكبيرها فساره
بشيء، وكان صاحب سره.
فابتدأ ابن شهرام يعتذر إلى الضرير، عن سيف الدولة،
باعتذار طويل، وأنك قصدتنا في آخر وقت، وقد نفدت غلاتنا وتقسمت أموالنا الحقوق، والزوار،
والجيوش، وببابنا خلق من الرؤساء، ونحتاج أن نواسيهم، ولولا ذلك لأوفينا على أملك،
وقد أمرنا لك بكذا وكذا، وجعل ابن شهرام يقرأ عليه ما في الثبت، وسيف الدولة يسمع.
فقلت له: لا تورد على الشيخ هذه الجائزة جملة، عقيب
اليأس الذي لحقه، فتنشق مرارته.
فلما استوفى، بكى الشيخ بكاءً شديداً، وقال: أيها الأمير،
لقد زدت - والله - على أملي بطبقات، وأوفيت على غناي بدرجات، وقضيت حقي، وما هو
أعظم من حقي، وما أحسن أن أشكرك، ولكن الله تعالى، يتولى مكافأتك، فمن علي بتقبيل
يدك، فأذن له، فقبلها.
فجذبه سيف الدولة، وساره بشيء، فضحك، وقال: إي والله،
أيها الأمير.
فاستدعى خادماً للحرم، وساره بشيء، وقام الشيخ إلى داره
التي أخلاها له، وقال له: أقم فيها إلى أن أنظر في أمرك، وتخرج إلى عيالك.
فسألت الخادم عما ساره به، فقال: أمرني أن أخرج إليه
جارية، من وصائف أخته، في نهاية الحسن، في ثياب وآلة قيمتها عشرة آلاف درهم، قال:
فحملتها إليه.
قال ابن معروف: فقمت قائماً، وقلت: أيها الأمير، ما سمع
بهذا الفعل عن أحد من أهل الأرض قديماً، ولا حديثاً.
فقال: دعني من هذا، ما معنى قولك لابن شهرام، لا تورد
عليه هذا كله مع اليأس، فتنشق مرارته ؟.
فقلت:
نعم، كنت منذ ساعة عند أبي محمد الصلحي وأبي الحسن
المغربي، فجرى كذا وكذا، وقصصت عليه قصة الضرير معهما، وأنه انصرف أخزى منصرف، ثم
جاء بعد اليأس، فعاملته بهذا الفعل العظيم.
فقال: أحضروا الصلحي والمغربي، فأحضرا.
فقال لهما: ويحكما، ألم أحسن إليكما ؟ وأنوه باسمكما ؟،
وأرفع منكما ؟، وأصطنعكما ؟ وعدد أياديه عليهما.
فقالا: بلى، وأخذا يشكرانه.
فقال:
ما أريد هذا، أفمن حقي عليكما، أن تقطعا عني رجاء مؤملي
وقاصدي، وتنسباني عندهم إلى الضجر برقاعهم ؟ ما كان عليكما لو أخذتما رقعة الضرير،
فأوصلتماها إلي ؟ فإن جرى على يدي شيء، كنتما شريكاي فيه، وإن ضجرت، كان الضجر
منسوباً إلي دونكما، وكنتما بريئين منه، وقد قضيتما حق قصده، فلا حقه قضيتما، ولا
حق الله فيما أخذه على ذوي الجاه، وأسرف في توبيخهما، كأنهما قد أذنبا ذنباً.
فجعلا يعتذران إليه، ويقولان: ما أردنا إلا التخفيف عنه
من قراءة شيء طويل، لينقلها إلى أخف منها، ولو علمنا أنه أيس، لأخذنا رقعته
وعرضناها.
فدعت الجماعة له، وحلفت أن هذا التأنيب في الجود، أحسن
من الجود، ورفقوا به حتى انبسط في الحديث.
ألمعية المأمون وذكاؤه
قال: دعا المأمون يوماً بأبي عباد، فدفع
إليه كتاباً مختوماً، وأمره أن يأتي عمرو بن مسعدة، فيناظره على ما فيه باباً،
باباً، ويأخذ تحت كل باب خطه فيه، ويختمه بخاتمه، وخاتم عمرو، ويحتفظ به إلى أن
يسأله عنه، ولا يذكره ابتداءاً، وأكد على ذلك.
قال: فعلمت أنها وقيعة، وقد كنت شاركت عمراً في أشياء،
فصارت إلينا منها أموال، فخفت أن تكون مذكورة في الكتاب.
فقصدت عمراً، فوجدته في بستان أحمد بن يوسف، يلعب
بالشطرنج مع بعض أصحابه، فعرفته أني محتاج إلى الخلوة معه.
فقال: دعني الساعة، فقد استوى لي هذا الدست.
فضاق صدري،
وقلبت الشطرنج، وقلت: قد سال السيل، وهلكنا وأنت غافل، إقرأ هذا الكتاب، فقرأه،
فطالبته أن يكتب خطه، تحت كل فصل منه، بحجته.
فضحك، وقال: ويحك، أما تستحي، تخدم رجلاً طول هذه المدة،
ولا تعرف أخلاقه، ولا مذهبه؟.
فقلت:
يا هذا، أخبرني عنك، إن أقدمت على جحد ما في هذا الكتاب،
لتعذر حجة ما شاركتك فيه، أما أنا فوالله أجحد، ولكن أصبر لأمر الله تعالى.
قال: فتحب أن اطلعك على ما هو أشد عليك من هذا ؟.
قلت: وما هو ؟.
فقال: كتاب دفعه إلي أمير المؤمنين منذ سنة، وأمرني فيه
بمثل ما أمرك في هذا، فعرفت ضيق صدرك، فلم أذكره لك.
فكدت أموت إلى أن فرغ من كلامه، فقلت له: أرني اياه،
فأحضره، وقرأته، وأنا أنتفض، وعمرو يضحك.
فلما فرغت منه، قلت: عند الله أحتسب نفسي ونعمتي.
فقال: أنت والله مجنون.
فقلت: دعنا من هذا، ووقع تحت كل فصل.
فنظر إلى جملة ما نسب إليه في الكتاب، فوجده أربعين ألف
ألف درهم، فوقع في آخره: لو قصرت همتنا في هذا القدر وأضعافه، لوسعتنا منازلنا،
وما يفي هذا، بدلجة في برد، أو روحة في حر، وأرجو أن يطيل الله بقاء أمير
المؤمنين، ويبلغنا فيه ما نؤمله به، وعلى يده.
وكان جملة ما رفع علي، سبعة وعشرون ألف ألف درهم.
فقال:
يا هذا، إن صاحبنا ليس ببخيل، ولكنه رجل يكره أن يطوى
معروفه، وإنما أراد أن يعلمنا أنه قد علم بما صار إلينا، فأمسك عنه على علم.
ثم ختم الكتاب بخاتمه، وخاتمي، وانصرفت وأنا في الموت،
فلم ألبث أن كتبت وصيتي، وأحكمت أمري، وكنت سنة مغموماً، وذاب جسمي.
فقال لي المأمون يوماً: يا أبا عباد، قد أنكرت حالك،
أتشكو علة ؟ فقلت: لا، يا أمير المؤمنين، ولكني منذ سنة، حي كميت، لأجل الكتاب
الذي دفعه إلي أمير المؤمنين، لأناظر عليه عمرو بن مسعدة.
فقال: أمسك عني، حتى أعيد عليك جميع ما جرى بينكما،
فحدثني بجميع ما دار بيننا، كأنه كان ثالثنا.
فقلت: لقد استقصى لك الذي وكلته بخبرنا، والله، ما خرم
منه حرفاً.
فقال:
والله، ما وكلت بكما أحداً، ولكن ظناً ظننته، وعلمت أنه
لا يدور بينكما غيره، ولقد عجبت من غير عجب، لأن عقول الرجال يدرك بعضها بعضاً،
وهذا عمرو بن مسعدة، أعرف بنا منك، وأوسع صدراً، وأبعد همة، وما أردت بما فعلت،
إلا أن تعلما أني قد عرفت ما صار إليكما، وتستكثرانه، فأحببت أن أزيل عنكما غم المساترة،
وثقل المراقبة، وأني لمتذمم لكما، خجل من ضعف أثري عليكما.
فسررت، وصرت كأني أطلقت من عقال، فشكرته ودعوت له.
ثم قلت: ما أصنع بذلك الكتاب ؟.
قال: خرقه إلى لعنة الله، وامض مصاحباً، آمناً، في ستر
الله عز وجل.
الشطرنج
الشطرنج: لعبة مشهورة، تشحذ اللب، وتدرب على
الفكر، وتعلم شدة البصيرة، وهي معرب:
شطرنك، بالفارسية، أي ستة ألوان، لأن القطع في اللعب هي
ست، وهي: الشاه، والفرزان ويسمى في بغداد الوزير أو الفرز، والفيل، والفرس، والرخ،
والبيدق.
وقد اختلف المؤرخون فيمن وضع الشطرنج، فاليونان ينسبونه
إلى يوناني، والهنود ينسبونه إلى هندي، والفرس إلى فارسي، ويروى أن ملوك الهند
كانوا إذا تنازعوا على كورة أو مملكة، لعبوا الشطرنج، فيأخذها الغالب من دون قتال.
وكانت لعبة الشطرنج في العصور الوسطى، لعبة الأشراف، في
الشرق والغرب، وقد جاء في التاريخ، أن هارون الرشيد أهدى إلى شارلمان رقعة شطرنج،
وكان المأمون يحب لعب الشطرنج حباً شديداً، ويقول إنه يشحذ الذهن تاريخ الخلفاء
324.
ومن الذين اشتهروا بإتقان لعب الشطرنج أبو بكر الصولي،
وقد أعجب به من الخلفاء المكتفي، والراض، وأصبح مضرب المثل في الشطرنج، وكان لفرط
إتقانه، يلاعب بالشطرنج، وهو مستدبر الرقعة، راجع ما قاله فيه ابن الرومي في الغيث
المسجم 2 - 50 و 51. وكذلك كان سعيد بن جبير، أحد أعلام التابعين، يلعب الشطرنج
إستدباراً وفيات الأعيان 2 - 374.
وللعبة الشطرنج اليوم ببغداد سوق رائجة، ولها هواة
كثيرون، وأحذق من شاهدت من البغداديين فيها، القاضي محمود خالص، الذي كان رئيساً
لمحكمة التمييز في العراق، وهو شخص نادر المثال في الفضل والخلق الكريم، جامع
لجميع الصفات الحسنة، وقد تعدت شهرته في لعب الشطرنج حدود العراق، فكان زوار
العراق، من علية القوم، يجتمعون به، ويلعبون معه الشطرنج.
ومن لطيف
الإشارات إلى لعب الشطرنج قول الخباز البلدي، في فتية أسكرتهم الخمر الديارات 184،
185:
مشوا إلى الراح مشي الرخ وانصرفوا ... والراح تمشي بهم
مشي الفرازين
وسئل أبو الطيب الصعلوكي ت 404 عن الشطرنج، فقال: إذا
سلم المال من الخسران، والصلاة من النسيان، فذاك أنس بين الإخوان شذرات الذهب 3 -
173 وخالفه في ذلك ابن تيمية ت 728 فقال: اللعب بالنرد خير من اللعب بالشطرنج، لأن
لاعب النرد يعترف بالقضاء والقدر، والشطرنج لاعبه ينفي ذلك الغيث المسجم 2 - 52.
وحكي أن بعضهم كان إذا لعب الشطرنج، تضارب مع خصمه، فوصف
أمره لبعض الظرفاء، فقال: أنا التزم ألعب معه، وما تحصل بيننا مضاربة، ولعبا، فقال
له أثناء اللعب: شاه أستر، فقال له: أنت قواد، فتعجب منه، وقال: يا أخي، ما الذي قلت
لك حتى تغضب ؟ فقال: قلت: أستر، وتصحيفها: أشتر، وهي بالفارسية، تعني الجمل،
وتصحيف الجمل، حمل، والحمل نجم في السماء، يقارنه الجدي، والجدي الكبش، والكبش له
قرون، وذو القرون هو القواد، فقال له: يا أخي، ما رأيت أحداً قبلك يخاصم ويضارب
بتصحيف وتفسير تحفة المجالس 345.
وجاء في مطالع البدور 1 - 77: سأل بعض الأكابر إنساناً:
هل تعرف اللعب بالشطرنج ؟، فقال: لا والله يا مولانا، ولكن لي أخ اسمه عز الدولة،
وهو أخي لأمي، أكبر مني بسنتين، أو أكثر بشيء يسير، وكان قد حصل بيني وبينه خصومة
غاظته، فسافر من مدة عشرة أعوام، وسكن مدينة قوص، وبلغني أنه فتح دكان عطارة، وإلى
الآن ما ورد على المملوك منه كتاب، وهو أيضاً مثلي ما يعرف يلعب بالشطرنج.
للتفصيل راجع دائرة المعارف الإسلامية 13 - 294 - 296
ومطالع البدور 1 - 75 - 81 ووفيات الأعيان 4 - 356 - 361 ونشوار المحاضرة القصة 2 - 136 ومروج الذهب
2 - 562 - 564 والغيث المسجم للصفدي 2 - 51 ومحاضرات الأدباء 2 - 725 - 728.
الحسين بن الضحاك يعيش ببقايا هبات الأمين
أخبرني الصولي،
قال: حدثني أبو أحمد، قال: كان أبي صديقاً للحسين بن الضحاك، وكان يعاشره، فحملني
معه يوماً، وجعل يحادثه، إلى أن قال: يا أبا علي، قد تأخرت أرزاقك، وانقطعت موادك،
ونفقتك كبيرة، فكيف تمشي أمورك ؟.
فقال له: والله يا أخي، ما قوام أمري، إلا ببقايا هبات
الأمين، وهبات جاريته، فإني حظيت منهما، بأمر طريف، على غير تعمد.
وذلك أن الأمين دعاني يوماً، فقال لي: يا حسين، إن جليس
الرجل، عشيره، وثقته، وموضع سره وأنسه، وإن جاريتي فلانة، أحسن الناس وجهاً
وغناءً، وهي مني بمحل نفسي، وقد كدرت علي صفو الحياة، ونغصتها علي، بعجبها بنفسها،
وبتجنيها علي وإدلالها، لما تعلمه من حبي لها، وإني محضرها، ومحضر صاحبة لها ليست
منها في شيء، لتغني معها، فإذا غنت، أومأت إليك، على أن أمرها أبين من أن يخفى
عليك، فلا تستحسن غناءها، ولا تشرب عليه، وإذا غنت الأخرى، فاشرب، واطرب، واستحسن،
وشق ثيابك، وعلي، بكل ثوب، مائة ثوب.
فقلت: السمع والطاعة، لأمير المؤمنين.
فجلس في حجرة خلوته، وأحضرني، وسقاني أرطالاً، فغنت
المحسنة، وقد أخذ مني الشراب، فما ملكت نفسي أن استحسنت، وطربت، فأومأ إلي، وقطب
في وجهي.
ثم غنت الاخري، فجعلت أتكلف القول، وأفعله.
ثم غنت المحسنة ثانية، فأتت بما لم أسمع مثله حسناً قط،
فما ملكت نفسي أن صحت، وطربت، وشربت، وهو ينظر إلي، ويعض شفتيه غيظاً علي، وقد زال
عقلي، فما أفكر فيه، حتى فعلت ذلك مراراً، وكلما زاد شربي، ذهب عقلي.
فأمر بجر رجلي، وصرفي، وأمر أن لا أدخل عليه، فجاءني
الناس يتوجعون لي، ويسألون عن قصتي، فقلت: حمل علي النبيذ، فأسأت أدبي، فمنعني من
الدخول إليه.
ومضى لما أنا فيه شهر، وقد استمرت علي المحنة.
فبينما أنا كذلك، إذ جاءتني البشارة، بأنه قد رضي عني،
وأمر باحضاري، فحضرت، وأنا خائف، فلما وصلت إليه، أعطاني يده فقبلتها، فضحك إلي،
ثم قام وقال: اتبعني.
فتبعته، فدخل تلك الحجرة بعينها، ولم يحضر غيري، وغيره،
وغير المحسنة التي نالني من أجلها ما نالني، وأحضر الشراب، فغنت، فسكت.
فقال: قل ما شئت، ولا تخف، فلقد خار الله لك في خلافي،
وجرى القدر بما تحب.
إعلم أن
هذه الجارية، عادت إلى الحال التي أحبها منها، وأرضتني في أفعالها، واصطلحنا،
فأذكرتني بك، وسألتني الرضا عنك، والإحسان إليك، وقد فعلت، وأمرت لك بعشرة آلاف
دينار، ووصلتك هي بدون ذلك، ولو كنت فعلت ما أمرتك، حتى تعود إلى مثل هذه الحال،
ثم تحقد عليك، فتسألني أن لا تصل إلي قط، لأجبتها.
فدعوت له، وشكرته، وحمدت الله على توفيقه إياي، وزدت في
الاستحسان والسرور إلى أن انصرفت، وحمل معي المال.
فما كان يمضي أسبوع إلا أتتني ألطافها، وصلاتها، من
الجوهر والثياب، بغير علم الأمين. وما جالسته يوماً، إلا سألته أن يصلني بشيء.
فجميع ما أنفقه إلى الساعة، من فضل ما وصلني منها.
من مكارم البرامكة
ذكر سعيد
بن سليمان الباهلي، قال: أضقت إضاقة شديدة، وكثر علي الغرماء، فاستترت مدة، ثم صرت
إلى عبد الله بن مالك، فشكوت إليه حالي، وشاورته في أمري.
فقال: لست أعرف لك غير قصد البرامكة، ومسألتهم في إصلاح
ما اختل من أمرك.
فقلت: ومن يحتمل تيههم وصلفهم ؟.
قال: تحتمله، في جنب ما تقدر من صلاح حالك.
قال: فصرت إلى جعفر والفضل ابني يحيى، فشكوت إليهما أمري.
فقالا: نكفيك، إن شاء الله.
فانصرفت إلى عبد الله بن مالك، فعرفته ما جرى.
فقال: أقم عندي، ولا ترجع إلى منزلك، وتقاسى غرماءك،
فأقمت عنده.
فصار إلي غلام لي، فقال: يا مولاي، رحبتنا مملوءة
بالجمال عليها المال، ورجل مع الجمال، معه رقعة يزعم أنها من الفضل وجعفر، وأنه
رسولهما.
فقال لي عبد الله: أرجو أن يكون قد فرج الله عنك.
فصرت إلى منزلي، وإذا رسول جعفر والفضل، ومعه رقعة
يذكران فيها: أنهما عرفا أمير المؤمنين خبري، وأن علي ثمانمائة ألف درهم، ديناً،
فأمر بحملها إلي.
ثم قالا له: فإذا قضى دينه، يرجع إلى الدين ؟ - فأمر لي
بثمانمائة ألف درهم أخرى، لنفقتي.
وأنهما أضافا إليها من أموالهما، ألفي ألف درهم، فحملاها
مع ذلك.
فاستوفيت من رسولهما، ثلاثة آلاف ألف، وستمائة ألف درهم.
وقد ذكر أبو الحسين القاضي، هذا الخبر في كتابه، على
قريب من هذا اللفظ والمعنى، بغير إسناد، ولم يذكر فيه مبلغ المال، ولا حال
الاستتار.
المأمون يهب أحد كتابه اثني عشر ألف ألف درهموجدت في كتاب
عتيق فيه أخبار جمعها يعقوب بن بيان الكاتب: حدثني أبو القاسم علي بن داود بن
الجعد، قال: حدثني يزيد بن دينار بن عبد الله، قال: حدثني أبي، عن يحيى بن خاقان،
قال: كنت كاتب الحسن بن سهل، فقدم المأمون مدينة السلام، فقال لي: يا يحيى، خلوت
بالسواد، ولعبت بالأموال التي لي، واحتجنتها، واقتطعتها.
فقلت: يا أمير المؤمنين، إنما أنا كاتب الرجل، والمناظرة
في الأموال، والأعمال، مع صاحبي، لا معي.
فقال: ما أطالب غيرك، ولا أعرف سواك، فصالحني على مائة
ألف ألف درهم.
قال: فضحكت.
فقال: يا يحيى، أجد وتهزل ؟.
فقلت: لا، يا أمير المؤمنين، إنما ضحكت تعجباً، وبالله،
ما أملك إلا سبعمائة ألف درهم.
فقال: دع هذا عنك، واعطني خمسين ألف ألف درهم.
قال: فما زلت أجاذبه، ويجاذبني، إلى أن بلغ اثنا عشر ألف
ألف درهم، فلما بلغ إليها، قال: نفيت من الرشيد، إن نقصتك شيئاً منها.
فقلت: السمع والطاعة.
قال: أقم لي ضميناً، إن لم تف لي بها، طالبته.
قلت: صاحبي يا أمير المؤمنين يضمنني.
فقال: أتراني إن دافعت الاداء، أطالب الحسن بن سهل عنك ؟
هذا ما لا يكون.
فقلت: عبد الله بن طاهر.
فقال: عبد الله بن طاهر، سبيله سبيل صاحبك.
قلت: فحميد.
قال: وهذه سبيله.
قلت: ففرج مولاك يا أمير المؤمنين.
قال: مليء - والله - وثقة، ثم التفت إلى فرج، فقال:
أتضمنه يا فرج ؟.
قال: نعم، يا أمير المؤمنين، قد ضمنته.
فقال: أنا والله محرجه بالإلحاح في المطالبة، حتى يهرب،
أو يستتر، ثم آخذك بالمال، فتؤديه، فإنك ملي به.
فقال فرج: صاحبي ثقة، وهو لا يخفرني، إن شاء الله.
قال يحيى: فكتبت إلى الحسن بن سهل، وعبد الله بن طاهر،
وحميد، ودينار بن عبد الله، وغسان، ورجال المأمون، أسألهم إعانتي في المال.
قال: فحملوا لي ذلك عن آخره، حمل كل إنسان منهم، على قدره، قال
يحيى: فكتبت رقعة إلى المأمون، أعرفه أن المال قد حضر، وأسأله أن يأمر من يقبضه.
قال: فأحضرني، فلما وقعت عينه علي، قال لي:
يا خائن، الحمد لله الذي بين لي خيانتك، وأظهر لي كذبك، ألم تذكر أنك لا تملك إلا
سبعمائة ألف درهم ؟ فكيف تهيأ لك أن حملت في عشرة أيام إثني عشر ألف ألف درهم ؟
قال: فقلت: حملت، يا أمير المؤمنين من هذه الجريدة، ودفعت إليه جريدة بأسماء من
حمل إلي المال، ومبلغ ما حمل كل واحد منهم.
قال: فقرأ الجريدة، ثم أطرق ملياً، ورفع رأسه، فقال: لا
يكون أصحابنا، أجود منا، هذا المال قد وهبناه لك، وأبرأنا ضمينك.
قال يحيى: فانصرفت، فرددت المال إلى أصحابه، فأبوا أن
يقبلوه، وقالوا: قد وهبناه لك، فاصنع به ما أحببت.
قال: فحلفت، أن لا أقبل منه درهماً، وقلت لهم: أخذته في وقت حاجتي،
ورددته عند استغنائي عنه، وقبولي إياه في هذا الوقت ضرب من التغنم.
فرددته عليهم.
ما بقي له غير درهمين ثم جاءه الفرج
ووجدت في
هذا الكتاب، عن يعقوب بن بيان: حدثني بعض أصحابنا، وهو عندي ثقة، وقد تجارينا لزوم
المتعطلين، أبواب المتشاغلين، وتعذر الشغل عليهم، بعد أن قلنا جميعاً: إن الأرزاق
مقسومة، وإن الله تعالى إذا أذن فيها سهلها، قال: فحدثني عمرو بن حفص، عن أبيه، قال: كان أبي حفص، قد صحب بعض
عمال فارس، إلى فارس، فأقام على بابه ستة أشهر، يلقاه كل يوم فيها، فلا يكلمه
العامل فيها بشيء، وينصرف أبي إلى منزله.
قال: فنفدت نفقته، وباع كل ما كان معه، حتى قال له غلامه
يوماً: ما بقي إلا الدابة، والبغل، ودرهمان.
قال: فقال له: اشتر لنا بالدرهمين خوخاً، فإنه أرخص من
الخبز، لنتقوته، إلى أن يفرج الله - عز وجل - عنا.
قال: ففعل الغلام ذلك، وأكل حفص من الخوخ شيئاً ونام، فما استيقظ
إلا بدق الباب، وإذا رسول العامل يأمره بالحضور، فركب، فوجد العامل قاعداً في داره
على كرسي ينتظره.
فلما دخل، قال العامل: لا جزاك الله خيراً عني، ولا عن
نفسك.
قال: ولم ذاك، أصلحك الله ؟.
قال: أتستقيم على بابي ستة أشهر، لم تر على نفسك أن
تريني وجهك يوماً واحداً ؟.
فقال: أعزك الله، أنا في مجلسك كل يوم.
قال: والله، ما وقعت لي عليك عين، ولا خطرت ببالي إلا الساعة،
فإني ذكرتك، فعلمت طول مقامك في العطلة والغربة.
ودعا بكاتبه، فكتب كتبي على فسا ودرابجرد، وخرجت من يومي
إلى العمل، فحصلت منه، في مديدة قريبة، سوى نفقتي، ستمائة ألف درهم.
سبب توبته عن النبيذحدثني علي بن محمد الأنصاري، وعبيد
الله بن محمد العبقسي، واللفظ له، قالا:
حدثنا أبو الفتح القطان: أن رجلاً من أولاد التجار، زالت
نعمته، وصار بواباً لأبي أحمد الحسين بن موسى الموسوي العلوي، نقيب الطالبيين،
أيده الله، ببغداد، قال: حدثني خالي، وكان صيرفياً، قال: كنت وجماعة من إخواني، عند
بعضنا مجتمعين نشرب، وعندنا غلام أمرد، ونحن نأكل بطيخاً، وفي يد كل واحد منا
سكيناً.
فأخذ الغلام يمزح مع واحد منا في يده سكين ليأخذها منه،
فرمى بالسكين، كالضجر من مجاذبته إياها، فوقعت في قلب الغلام، فتلف في الحال،
فقمنا لنهرب.
فقال صاحب البيت: ما هذه فتوة، إما أن نبتلى كلنا، أو
نتخلص كلنا.
فأغلقنا باب الدار، وشققنا بطن الغلام، فألقينا ما فيه
في المستراح، وفصلنا أعضاءه، فأخذ كل منا عضواً، وخرجنا متفرقين، لنلقي ذلك بحيث
يخفى خبره.
فوقع معي الرأس، فلففته في فوطة، وجعلته في كمي.
فلما مشيت، استقبلني رجالة المحتسب، فقبضوا على كمي،
وقالوا: قد أمرنا المحتسب بختم كل كيس نجده، حتى يفتح بحضرته، ويخرج ما فيه، وتؤخذ
منه الزائفة.
فرفقت بهم، وبذلت لهم دراهم كثيرة، فلم يجيبوا، ومشوا بي
معهم، وأمسكوني يريدون المحتسب.
فنظرت، فإذا أنا هالك، وفكرت في الحيلة والخلاص، فلم
تتجه، حتى رأيت درباً ضيقاً لطيف الباب، كأنه باب دار، وأنا أعرفه منفذاً.
فقلت لهم: أنتم تريدون ختم كيسي، فما معنى تشبثكم بيدي
وكمي كأنني لص ؟ أنا معكم إلى المحتسب، فخلوا عن يدي، ففعلوا، وأطافوا بي.
فلما صرت على باب الدرب، سعيت، فدخلته، وأغلقت بابه،
واستوثقت منه، وسعيت إلى آخره، فإذا بئر كنيف قد فتحت لتنقى، وتركت مفتوحة، فألقيت
الفوطة بما فيها في البئر، وخرجت أسعى من طرف الدرب الآخر، حتى بلغت منزلي، وحمدت
الله تعالى على الخلاص من الهلكة.
وتبت عن النبيذ.
حلف بالطلاق لا يحضر دعوة ولا يشيع جنازة
حدثني عبيد
الله بن محمد، قال: حدثنا أبو أحمد الحسين بن موسى الموسوي العلوي النقيب، قال:
حدثني شيخ كان يخدمني، وقد تجارينا أحاديث الناس، فقال: إنه حلف بالطلاق، ألا يحضر
دعوة، ولا يشيع جنازة، ولا يودع وديعة، فسألته عن ذلك.
فقال: كنت انحدرت إلى البصرة من بغداد، فصعدت إلى بعض
مشارع البصرة عشاءً، فاستقبلني رجل، فكناني بغير كنيتي، وبش في وجهي، وأحفى، وجعل
يسألني عن قوم لا أعرفهم، ويحلف علي في النزول عنده.
وكنت غريباً، لا أعرف مكاناً، فقلت: أبيت عنده الليلة
إلى غد، فأطلب موضعاً.
فموهت عليه في القول، فجذبني إلى منزله، وكان معي رجل
صالح، وفي كمي دراهم كثيرة.
فدخلت إليه، فإذا عنده دعوة، والقوم على نبيذ، وقد خرج
لحاجة، فشبهني بصديق له، وتموه عليه أمري لسكره.
وكان فيمن عنده، رجل له غلام أمرد، فلما أخذوا مضاجعهم
للنوم، أرقت من بينهم.
فلما كان بعد ساعة، رأيت واحداً من الجماعة، قد قام إلى
الغلام الأمرد، ففسق به، ورجع إلى موضعه، وكان قريباً من صاحب الغلام.
واستيقظ في الحال صاحب الغلام، فتقدم إلى غلامه ليفسق به.
فقال له: ما تريد ؟ ألم تكن الساعة عندي، وفعلت بي كذا
وكذا ؟ فقال: لا.
فقال: قد جاءني الساعة من فعل بي، وظننته إياك، فلم
أتحرك، ولم أظن أن أحداً يجسر عليك.
فنخر الرجل، وجرد سكيناً من وسطه، وقام، وأنا أرعد، فلو
كان دنا مني، حتى يجدني أرعد، لقتلني، وظن أني صاحب القصة.
فلما أراد الله عز وجل، من بقاء حياتي ما أراد، بدأ
بصاحبه، فوضع يده على قلبه، فوجده يخفق، وقد تناوم عليه، يرجو بذلك السلامة، فوضع
السكين في قلبه، وأمسك فاه، فاضطرب الرجل، وتلف.
فأخذ الرجل بيد غلامه، وفتح الباب، وانصرف.
فورد علي أمر عظيم.
وقلت: أنا غريب، وينتبه صاحب البيت، فلا يعرفني، ولا يشك
في إني صاحب الجناية، فأقتل.
فتركت رحلي، وأخذت ردائي، ونعلي، وطلبت الباب، فلم أزل
أمشي، لا أدري أين أقصد، والليل منتصف، وخفت العسس، فرأيت أتون حمام لم يوقد بعد.
فقلت: أختبيء فيه، إلى أن يفتح الحمام، فأدخله، فجلست في
كسر الأتون.
فما لبثت حيناً، حتى سمعت وقع حافر، وإذا برجل يقول: قد
رأيتك يا ابن الفاعلة، ودخل الاتون، وأنا كالميت من الفزع، لا أتحرك، فلما لم يجد
حساً، أدخل رأسه، ويده، يومئ بسيف معه في الأتون، وأنا بعيد عن أن ينالني السيف، صابر،
مستسلم.
فلما لم يحس أحداً، خرج إلى بابه، وإذا معه جارية،
فأدخلها الأتون، فذبحها، وتركها ومضى.
فرأيت بريق خلخالين في رجليها، فانتزعتهما منها، وخرجت،
وما زلت أمشي في الطريق متحيراً، إلى أن صرت إلى باب حمام قد فتح، فدخلته، وخبأت
ما معي في ثيابي، عند الحمامي.
وخرجت وقد أصبحت، فضممت الخلخالين إلى ما معي، وطلبت الطريق،
فعرفت أني بالقرب من دار صديق لي، فطلبتها، فدققت بابه، ففتح لي، وسر بمقدمي،
وأدخلني.
فدفعت إليه منديلي الذي كان فيه دراهمي والخلخالين، ليخبئهما،
فلما نظر إليهما تغير وجهه.
فقلت: مالك ؟.
فقال: من أين لك هذان الخلخالان ؟ فأخبرته بخبري كله في
ليلتي، فدخل مسرعاً إلى دار حرمه، وخرج إلي.
فقال: أتعرف الرجل الذي رأيته قتل الجارية ؟.
قلت: أما بوجهه فلا، لأن الليل والظلمة كانت حائلة
بيننا، ولكن إن سمعت كلامه عرفته.
فأعد طعاماً، وغدا في أمره، وعاد بعد ساعة، ومعه رجل شاب
من الجند، فكلمه، وغمزني عليه.
فقلت: نعم، هذا هو الرجل.
ثم أكلنا، وحضر الشراب، فحمل عليه بالنبيذ، فسكر، ونام
موضعه، فأغلق باب الدار، وذبح الرجل.
وقال لي: إن المقتولة أختي، وكان هذا قد أفسدها، ونمى
الخبر إلي منذ أيام فلم أصدق، إلا أني طردت أختي، وأبعدتها عني، فمضت إليه، ولست
أدري ما كان بينهما، حتى قتلها، وإنما عرفت الخلخالين ودخلت فسألت عنها.
فقيل لي: هي عند فلان.
فقلت: قد رضيت عنها، فوجهوا، فردوها، فلجلجوا في القول،
فعلمت أن الرجل قد قتلها كما ذكرت، فقتلته، فقم حتى ندفنه.
فخرجنا ليلاً، أنا والرجل، حتى دفناه، وعدت إلى المشرعة،
هارباً من البصرة، حتى دخلت بغداد.
وحلفت ألا أحضر دعوة أبداً، ولا أودع وديعة أبداً.
وأما
الجنازة، فإني خرجت ببغداد، نصف النهار، في يوم حار، لحاجة فاستقبلتني جنازة يحملها
نفسان.
فقلت: غريب، فقير، أحملها معهما فأثاب، فدخلت تحتها،
بدلاً من أحد الحمالين.
فحين استقرت على كتفي، افتقدت الحمال، فلم أجده، فصحت:
يا حمال، يا حمال.
فقال الآخر: إمش، واسكت، قد انصرف الحمال.
فقلت: الساعة، والله، أرمي بها.
فقال الحمال: والله، لئن فعلت لأصيحن.
فاستحييت، وقلت: ثواب، فحملناها إلى مسجد الجنائز، فلما
حططنا الجنازة في مسجد الجنائز، هرب الحمال الآخر.
فقلت: ما لهؤلاء الملاعين، والله، لأُتمن الثواب، فأخرجت
من كمي دراهم، وصحت: يا حفار، أين قرب هذه الجنازة ؟.
فقال: لا أدري.
فقلت: أحفر، فأخذ مني درهمين، وحفر قبراً.
فلما صوبت عليه الجنازة، ليأخذ الميت فيدفنه، وثب الحفار
من القبر فلطمني، وجعل عمامتي في رقبتي، وصاح: يا قوم قتيل، فاجتمع الناس، فسألوه.
فقال: هذا الرجل، جاء بهذا الميت، بلا رأس، لأدفنه، وحل
الكفن، فوجدوا الأمر على ما قاله الحفار.
فدهشت، وتحيرت، وجرى علي من مكروه العامة، ما كادت نفسي
تتلف معه.
ثم حملت إلى صاحب الشرطة، وأخبر الخبر، فلم يرد شاهداً
علي، فجردت للسياط، وأنا ساكت باهت.
وكان له كاتب عاقل، فحين رآني، ورأى حيرتي، قال له:
أنظرني، حتى أكشف حال هذا الرجل، فإني أحسبه مظلوماً، فأمهله.
فقام، وخلا بي، وساءلني، فأخبرته خبري، ولم أزد فيه ولم
أنقص.
فنحى الميت عن الجنازة، وفتشها، فوجد عليها مكتوباً:
أنها للمسجد الفلاني، في الناحية الفلانية.
فأخذ معه رجاله ومضى، فدخل المسجد متنكراً، فوجد فيه
خياطاً، فسأله عن جنازة هناك، كأنه يريد أن يحمل عليها ميتاً له.
فقال الخياط: للمسجد جنازة، إلا أنها قد أخذت منه
الغداة، لحمل ميت، ولم ترد.
قال: من أخذها ؟.
قال: أهل تلك الدار، وأومأ إليها.
فكبسها الكاتب برجالة الشرطة، فوجد رجالاً عزاباً، فقبض
عليهم، وحملهم إلى الشرطة، وأخبر صاحب الشرطة بالخبر.
وقرر القوم، فأقروا أنهم تغايروا على غلام أمرد كان
معهم، فقتلوه، وطرحوا رأسه في بئر حفروها في الدار، وحملوه على تلك الصورة، وأن
الحمالين كانا من جملة القوم، وعلى أصلٍ هربا.
فضربت أعناق القوم، وخلي سبيلي.
فهذا سبب يميني في ألا أحضر جنازة.
ابن قمير الموصلي وقع في ورطة وتخلص منها
وحدثني عبيد
الله بن محمد الصروي، قال: حدثني ابن قمير، مجلد الكتب - كان - بالموصل، قال: أعطاني أبو عبد الله بن أبي العلاء بن حمدان،
دفتراً، أجلده، وأكد علي الوصية في حفظه، فأخذته منه، ومضيت إلى دكاني.
وكان طريقي على دجلة، فنزلت إلى مشرعة أتوضأ، فسقط الدفتر
من كمي في الماء، فتناولته عجلاً قبل أن يغرق، وقد ابتل، فقامت قيامتي، ولم أشك
أنه سيجري علي مكروه شديد من أبي عبد الله، من ضرب، وحبس، وأخذ مال، فعملت على
الهرب من الموصل.
ثم قلت: أجففه، وأجلده، وأجتهد في أن أسلمه إلى غلام له،
وهو لا يعلم، واستتر، فإن ظهر الحديث، هربت، وإن كفى الله تعالى ذلك، وتمت عليه
الحيلة ظهرت.
فحللته، وجففته، وثقلته، حتى رجع واستوى، أكثر ما يمكن
من مثله، وجلدته، وتأنقت في التجليد.
فلما فرغت منه، جئت إلى الحاجب لأسلمه إليه من باب الدار
وأمضي، فصادفت الحاجب جالساً في الدهليز، فسلمت إليه الدفتر.
فقال: ادخل إليه، وادفعه من يدك إلى يده، فلعله يتوقعك،
ولعله يأمر لك بشيء.
فقلت: لا أريد، فإني مستعجل.
فقال:
لا يجوز، ولم يدعني حتى دخلت إليه، فلم أشك أن ذلك من
سوء الاتفاق علي، المؤدي إلى المكروه، ومشيت في الصحن وأنا في صورة عظيمة من الهم.
فوجدت أبا عبد الله جالساً على بركة ماء في صحن داره،
والغلمان قيام على رأسه، فأخرجت الدفتر من كمي.
فقال لأحد غلمانه: خذه من يده، وهاته.
فجاء الغلام من جانب البركة، وأنا من الجانب الآخر، ومد
يده ليأخذه، فأعطيته إياه، فلم يتمكن في يده، حتى سقط الدفتر في البركة، وغاص إلى
قعرها.
فجن أبو عبد الله، وشتم الغلام، وقال: مقارع، مقارع.
فحمدت الله عز وجل، على استتار أمري من حيث لا أحتسب،
وكفايتي ما كنت أخافه.
وخرجت، والغلام يضرب.
واسطي أتلف ماله وافتقر ثم صلح حاله بعد أهوال
حدثني عبيد
الله بن محمد الصروي، قال: حدثني أبي، قال: كان في جوارنا بواسط، شاب أتلف ماله في
اللعب، فافتقر فقراً شديداً، ثم رأيته بعد ذلك بمدة، وقد أثرى، وصلحت حاله، وأقبل
على شأنه.
فقلت له: ما سبب هذا ؟، فدافعني.
ثم قال: أحدثك، وتكتم علي ؟.
فقلت: نعم.
فقال:
إن الفقر بلغ بي إلى حال تمنيت معها الموت، وولدت امرأتي
ذات ليلة، وكانت ليلة العيد، فلم يكن معي ما أشتري لها ما يمسك رمقها، فخرجت على
وجهي، أطلب من أتصدق منه شيئاً أعود به إلى امرأتي.
فأفضيت إلى زقاق طويل لا أعرفه، فدخلت، فإذا هو لا ينفذ،
وإذا فيه باب دار مفتوح، ومستراح.
فدخلت الدار بغير إذن، فإذا برجل يطبخ قدراً، فصاح علي،
وقال: من أنت، ويلك ؟، فقصصت عليه خبري.
فقال: إمض إلى ذلك البيت، واجلس إلى أن أفرغ من القدر،
فأعطيك منها مع الخبز شيئاً تحمله إلى امرأتك، ونفقة تكفيك أياماً.
فدخلت البيت، فرمى إلي كساءً، وقال: تغط به، ونم ساعة.
وكانت ليلة باردة، وكنت بقميص واحد، فتغطيت بالكساء،
وانضجعت، ولم يدخل عيني النوم، لما بي من الجوع والغم.
فما لبثت أن جاء رجل عريان، فدخل وعلى رأسه شيء ثقيل،
فقام الذي يطبخ، فأغلق الباب، وأنزل ما كان على رأسه.
وقال له: ويلك، غبت، حتى أيست منك.
فقال:
كنت يومي وليلتي، مختبئاً خلف حطب لهم، حتى تمكنت من أخذ
هذه البدرة، وما أدري أدنانير هي أم دراهم ؟، وأنا ميت جوعاً، فأطعمني شيئاً.
قال: فأخذ الرجل يغرف من القدر، ومضى العريان فلبس
شيئاً، وجاء إلى الآخر، وقد غرف، فجعلا يأكلان، وقد خرجت نفسي فزعاً.
فلما أكلا، أخرجا شراباً، وجعلا يشربان، وأنا متحير لا
أدري ما أصنع، ولست أجتريء أطلب من الرجل شيئاً.
وأقبل العريان يشرب أكثر من الآخر الذي كان يطبخ، وجعل
الذي كان يطبخ، يقول له: استكثر من الشرب لتدفأ، إلى أن سكر العريان، ونام.
فقام الأول، فطاف في الدار، ثم جاءني، فكلمني، فسكت،
خوفاً من أن يعلم أني قد علمت بقصتهما، فيقتلني، فظن أنني قد نمت.
فمضى إلى النائم، فذبحه، ثم أمسكه حتى مات، ثم لفه في
كساء، وحمله على عاتقه، وخرج من الدار.
فقلت لنفسي: لأي شيء قعودي ؟.
فقمت، فجئت إلى البدرة، فجعلتها في الكساء الذي كان علي،
وخرجت أسعى سعياً شديداً.
فلم أزل كذلك، حتى رأيت مسجداً قد فتحه إنسان، وخرج منه،
وجلس يبول، فدخلته، وجاء الرجل الذي كان يبول، فدخله، وأغلق بابه.
وقال لي: أي شيء أنت ؟.
فقلت: غريب، جئت الساعة من السواد، ولم أجسر أن أتجاوز
هذا الموضع، فأجرني، أجارك الله.
فقال: نم مكانك، فتركت البدرة تحت جنبي واتكأت عليها.
فلم ألبث حتى سمعت في الطريق صوت رجل يسعى سعياً شديداً،
وإذا كلام صاحبي بعينه، وهو يقول: عملها ابن الزانية، ويلي على دمه.
فأبصرته من شباك المسجد، وإذا في يده خنجر مجرد، وهو
يتردد ذاهباً وجائياً، وأعماه الله عن دخول المسجد، إلى أن مضى.
ولم أزل ساهراً لا يحملني النوم، خوفاً منه، وإشفاقاً
على ما معي، إلى أن أضاء الصبح، وأذن في المسجد.
وخرجت كأني أتوضأ، وحملت ما معي، ومشيت، والناس قد كثروا
في الطريق، حتى انتهيت إلى بيتي، فأخفيت ما جئت به، وأصلحت حالي، وحال زوجتي.
ثم خرجت إلى ضيعة - كانت لأبي - خراب، فأقمت بها مدة،
حتى عمرتها بأكثر ذلك المال، وعلمت أنه لا يتفق مثل هذا الاتفاق أبداً، ولزمت
شأني، وصلحت حالي.
قال: فقال أبي: ما حدثت بهذا الحديث حتى مات الرجل، ولا
أسميه أبداً.
اللجاج شؤم
حدثني أبو
الحسن محمد بن محمد بن جعفر الأنباري الشاهد ببغداد، أحد كتاب قضاتها، وخلفائهم،
ويعرف أيضاً بصهر القاضي ابن سيار، الذي كان يخلف القاضي أبا القاسم التنوخي، رحمه
الله، على أعمال نواحي واسط، وكور الأهواز، وخلف بعده عدة قضاة رؤساء، وكان من
شيوخ غلمان أبي الحسن الكرخي، وقد رأيت أنا أبا الحسن هذا كثيراً عند أبي رضي الله
عنه، ولم أسمع هذا الحديث منه، قال: حدثني شيخ من البصريين، أثق به، قال: عادلت
فلاناً القاضي - ذكره ابن مرغول رحمه الله، وأنسيه محمد بن محمد - إلى الحج.
قال: وتشاجر رجلان، في الرفقة التي كنا فيها من القافلة.
قال: وجذبهما ذلك القاضي إليه، ولم يزل
يتوسط بينهما ويترفق بهما، وقد استعمل كل واحد منهما اللجاج والمشاحنة، وأقاما
عليها، وهو يصبر عليهما، ويقول:
اللجاج شؤم، فلا تستعملانه ويكرر هذه اللفظة، إلى أن فصل
بينهما.
فقال لي: أذكرني حديثاً في اللجاج، جرى على يدي، لك فيه،
ولكل من سمعه، أدب.
قال: فأذكرته بعد وقت.
فقال: كنت أتولى القضاء، في البلد الفلاني، فتقدم إلي
رجلان، فادعى أحدهما على الآخر عشرين ديناراً.
فقلت للمدعى عليه: ما تقول ؟.
فقال:
له علي ذلك، إلا أني عبد لآل فلان، مكاتب، مأذون لي في
التصرف، واتجرت، فخسرت، وليس معي ما أعطيه، وقد عاملني هذا الرجل سنين كثيرة، وربح
علي أضعاف هذه الدنانير مراراً، فإن رأى القاضي أن يسأله الرفق بي، فإني عبد، وضعيف،
ولا حيلة لي.
فسألته أن يرفق به، ويؤخره، فامتنع.
فقلت: قد سمعت.
فقال: ما لي حيلة.
فقال الرجل: احبسه لي.
فعاد العبد يسألني، فسألته أن لا يفعل، وبكى العبد،
فرققت له، وسألت خصمه أن لا يحبسه، وأن ينظره.
فقال: لا أفعل.
فقال العبد: إن حبسني أهلكني، ووالله ما أرجع إلى شيء،
وإنه ليضايقني، ويلج في أمري، وقد انتفع مني بأضعاف هذه الدنانير، وورث منذ أيام
من أخي ألوف دنانير، فأشير علي بمنازعته إلى القاضي في الميراث، فلم أفعل.
قال: فحين قال ذلك، توجه لي وجه طمع في خلاصه من لجاج
ذلك الغريم، وقد كان غاظني بلجاجه ومحكه.
فقلت: كيف ورث أخاك، وأردت منازعته ؟.
فقال:
إن أخي كان عبداً له، مأذوناً له في التصرف، وكان يتجر
ويتصرف، ويؤدي إليه ضريبته، وجمع مالاً وأمتعةً، بأكثر من ثلاثة آلاف دينار، ثم
مات، ولم يخلف أحداً غيري، وأنا رجل ضعيف، مملوك، ولي ابنان طفلان من أمرأة حرة،
وهما حران، فأنا أعولهما، وأعول نفسي، وزوجتي، وأؤدي إلى مولاي ضريبته فطمعت في أن
أنازعه في الميراث، وآخذ شيئاً أعود به على نفسي، وأولادي، وعيالي، فقيل لي: إنك
لا ترث، فلم أحب منازعته، صيانة له، وهو الآن يضايقني.
قال: فقلت للرجل: هو كما قال، إن أخاه كان عبدك، ومات،
وخلف عليك تركة قيمتها ثلاثة آلاف دينار ؟.
قال: نعم.
فقلت له: ولهذا العبد طفلان حران ؟.
قال: نعم.
فقلت: قم، فأخره بالدنانير ولا تطالبه بها.
فقال: ما أبرح إلا بالدنانير، أو بحبسه.
فقلت: اقبل رأيي، ولا تلج.
فقال: لا أفعل.
فقلت: إنك متى لم تفعل، خرج من يدك مال جليل.
فقال: لا أفعل.
قال: فقلت للعبد: قد أذنت لك أن تتكلم عن ابنيك الطفلين، وهما - على
مذهب عبد الله بن مسعود، وهو مذهبي - أحق بالميراث من مولاه، وإن كنت أنت حياً، فإنك
بمنزلة الميت للعبودية، فطالبه عن ابنيك الحرين الطفلين بالتركة.
قال: فطالبه بها.
فأحضرت الشهود، فأعاد الخصومة، والدعوى، ولم أزل
بالمولى، حتى أسمعت الشهود إقراره بما كان أقر به عندي، ثم حكمت للإبنين الطفلين
بالتركة، وانتزعت جميعها من يده، وسلمت إليه منها عشرين ديناراً، لما أقر له العبد
به، وجعلت ذلك ديناً عليه لابنيه.
وسلمت مقدار ثمن العبد، من مال الطفلين، إلى أمين من
أمنائي، وقلت: اشتر أباهما من مولاه بهذه الدنانير، واعتقه عليهما، ففعل.
وجعلت باقي مال الطفلين في يد أبيهما، وأمين جعلته عليه
مشرفاً، وأمرت الأب أن يتجر لهما بالمال، ويأخذ ثلث الربح، بحق قيامه، وحكمت
بالجميع، وأشهدت على إنفاذي الحكم له الشهود.
فقام العبد، وهو فرحان، وقد فرج الله عنه، وآمنه أن
يحبس، وعتقت رقبته، وصار موسراً.
وقام اللجوج خاسراً حائراً، وقد أخذ عشرين ديناراً، وأعطى
ثلاثة آلاف دينار.
ابن الجصاص الجوهري يلتقط جواهره المبعثرة لم يفقد منها شيئا
ً
حدثني أبو علي بن أبي عبد الله بن الجصاص، قال: سمعت أبي
يقول: إتفق أني كنت يوم قبض علي المقتدر جالساً في داري، وأنا ضيق الصدر، ضيقاً
شديداً، لا أعرف سببه.
وكان من عادتي إذا لحقني مثل ذلك، أن أخرج جواهر عندي في
درج معزولة لهذا، من ياقوت أحمر، وأزرق، وأصفر، وحباً كباراً ودراً فاخراً، يكون
قيمة الجميع خمسين ألف دينار، وأكثر، وأستدعي صينية ذهب لطيفة، فأجعله فيها، وألعب
به، وأقلبه، فيزول ضيق صدري.
فاستدعيت
ذلك الدرج، فجاءوني به بلا صينية، فأنكرت ذلك، وأمرت بإحضارها، وفتحت الدرج، وفرغت
ما فيه في حجري، ورددته على الخادم، وأنفذته يجيئني بالصينية، وأنا جالس في بستان،
في صحن داري، في يوم بارد، طيب الشمس، وهو مزهر بصنوف الشقائق، والمناثير، وأنا
ألعب بتلك الجواهر، إذ دخل الناس إلي بالصياح، والمكروه، والكبس، فقربوا مني.
فدهشت، ولم أحب أن يظهروا على ما في حجري، فنفضت جميعه
في ذلك الزهر في البستان، ولم ينتبهوا له.
فأخذت، فحملت، وجرى علي ما جرى من المصادرة، وبقيت في
الحبس المدة الطويلة، وتقلبت الفصول على البستان، فجف ما فيه، ولم يفكر أحد في
قلعه، أو زراعته، وإثارته، وأغلقت الدار، فما قربها أحد من أصحابي، ولا أعدائي،
بعد الذي أخذ منها، وفرغت، ووقع اليأس من وجود شيء فيها.
ثم سهل الله إطلاقي، فأطلقت، فحين جئت إلى داري، ورأيت
الموضع الذي كنت جالساً فيه ذلك اليوم، ذكرت حديث الجوهر الذي كان في حجري، ونفضي
إياه في البستان.
فقلت: ترى بقي منه شيء ؟.
ثم قلت: هيهات، هيهات، وأمسكت.
فلما كان في الغد، أخليت الدار، وقمت بنفسي ومعي غلام
يثير البستان بين يدي، وأنا أفتش شيئاً، شيئاً، مما يثيره، وأجد الواحدة بعد
الواحدة، من ذلك الجوهر، وكلما وجدت شيئاً، حرصت على الإثارة، وطلب الباقي، إلى أن
أثرت جميع البستان، فوجدت جميع ذلك الجوهر، ما ضاع لي منه واحدة.
فأخذته، وحمدت الله، وعلمت أنه قد بقيت لي بقية من
الإقبال صالحة.
الوزير ابن مقلة ينكب رجلاً ثم يحسن إليه
حدثني أبو محمد يحيى بن سليمان بن فهد رحمه الله، قال:
حدثنا أبو علي إسماعيل بن محمد بن الخباز، قال: كان أبو علي بن مقلة، نكبني،
وصادرني، لشيء كان في نفسه علي، فأفقرني، حتى لم يدع لي شيئاً على وجه الأرض.
وأطلقني من الحبس، فلزمت بيتي حزيناً، فقيراً، يتعذر علي
القوت.
ثم لم أجد بداً من الاضطراب في معاشي، فأشير علي أن ألزم
ابن مقلة، وأستعطفه، وقيل لي إنه إذا نكب إنساناً فخدمه، رق عليه.
قال: فلزمته مديدة، لا أراه يرفع إلي رأساً، ولا يذكرني.
قال: وكان يعرفني بحسن الثياب ونظافتها، والتفقد في أمر
نفسي، أيام يساري.
واتفق أني حضرت داره في يوم جمعة، غدوة، ولم أكن دخلت
الحمام قبل ذلك بأسبوع، ولا حلقت شعري، ولا غيرت ثيابي، وأنا وسخ الجسد والثياب،
طويل الشعر، وإنما أخرت ذلك لإضاقتي عن مقدار ما أحتاج إليه، ولشغل قلبي أيضاً،
وغمي بالفقر المدقع الذي دفعت إليه، وهوان نفسي علي.
فخرج ابن مقلة ليركب، فقمت إليه في جملة الناس، فدعوت له.
فحين رآني، تأملني طويلاً، ثم أومأ إلى خادم له بكلام لا
أفهمه، وركب.
فجاءني الخادم، فقال: الوزير يأمرك أن لا تبرح من الدار،
إلى أن يعود، وأخذني إلى حجرة، فأجلسني فيها.
فقامت قيامتي، وخفت أن يكون قدر أن تكون لي بقية حال،
ويريد الرجوع علي بالمطالبة، وليس ورائي شيء، فأتلف.
فتداخلني من الجزع أمر عظيم، وحصلت في شدة كانت أشد علي
مما مر بي، فلم يكن بأسرع من أن عاد.
فجاءني الخادم، فقال: قم إلى الوزير، فقد طلبك.
فجئت، حتى دخلت عليه، وهو خال وحده، وليس بين يديه غير
أبي الحسين، ابنه، فرحب بي، وأكرمني، ورأيت من بره ما زال عني معه الخوف.
ثم قال: يا أبا علي، أعرفك نظيف الثوب، حسن القيام على
نفسك، فلم أنت بهذه الصورة ؟.
قال: ففطنت أنه لما رآني على صورتي تلك، رق لي.
فقلت: أيها الوزير، لم يبق لي - والله - حال، وإنه
ليتعذر علي ما أغير به هذا المقدار من أمري، وفتحت أبواب الشكاية، إلى أن بكيت.
فقال: إنا لله، إنا لله، ما ظننت أن حالك بلغت إلى هذا،
ولقد أسأنا إليك.
قال: ثم مد يده إلى الدواة، فكتب لي على الجهبذ، بألف دينار صلة،
ووقع توقيعاً آخر، بأن أبايع ضيعة من البيع بألفي دينار، بحيث أختار ذلك، ثم قال:
خذ هذه الدنانير فاتجر بها، وأصلح منها حالك، وابتع بهذه الألفي دينار ضيعة من
المبيع، تغل لك ألف دينار في السنة، واخترها، وشاور فيها، فإذا وقع اختيارك عليها،
فأسمها لي، لأكتب بمبايعتك إياها، لتستكفي بغلتها سنتك، إلى أن أنظر لك بعد هذا،
فأرد جاهك، فشكرته ودعوت له، ونهضت.
فقال: قف، فوقفت.
فقال
لابنه أبي الحسين: بحياتي عليك، عاون أبا علي حتى يحصل له هذا كله في أسبوع، وفي
دفعة واحدة، ولا ينمحق عليه.
قال: فوعدني أبو الحسين بذلك، وأمرني بالمصير إليه،
فانصرفت.
ورحت إلى أبي الحسين، فأعانني، فحصل ذلك كله لي في أيام
قليلة، وحصلت لي الضيعة، فاستغللتها في تلك السنة ألف دينار.
ولزمت أبا علي، فعوضني بمكاسب جليلة، عاد إلي منها أكثر
مما خرج عن يدي بنكبته.
إبن عبدون الأنباري الكاتب يكسب في ليلة واحدة مائة ألف دينار
قال محمد
بن عبدوس في كتاب الوزراء: حكي عن محمد بن خلف، المعروف بابن عبدون الأنباري
الكاتب، إنه قال: بينما أنا يوماً أدرج في بعض سكك المدينة، وكانت حينئذ لا يدخلها
راكباً إلا من له نباهة، إذ سمعت خلفي وقع حوافر، فنظرت فإذا يوسف بن الوليد
الأنباري، وكانت بيني وبينه مودة وقرابة، فلم أسلم عليه.
فقال لي: من أين يا أبا عبد الله ؟.
فقلت: إني كسرت هذه السنة ثلاثة آلاف فرسخ، وانصرفت وأنا
سبروت.
فقال لي: ثلاثة آلاف فرسخ ؟.
قلت: نعم، مضيت إلى مصر، فأخفقت، ثم مضيت إلى فارس، ثم إلى كرمان،
ثم إلى خراسان، وانقلبت إلى أذربيجان، وانصرفت بغير شيء، وأنا أتمنى أن يهب الله تعالى
قوتاً، فأتمونه في بلدي.
فقال لي: كم يكفيك من الرزق ؟.
فقلت: إن كان في بلدي، فخمسة عشر ديناراً في كل شهر،
أتقوت بها أنا وعيالي، وهو ما لا فضل فيه لشهوة ولا نائبة.
فقال: كن معي.
فاتبعته، فصار بي إلى ديوان فيه كتاب، وحجرة لطيفة،
فدخلتها، فإذا في صدرها الفضل بن مروان، وهو يكتب حينئذ للمعتصم، وهو أمير، فوصفني
للفضل، ورغبه في استخدامي، فرمى إلي الفضل بكتاب.
وقال: أجب عنه بما يجب.
فاستعلمت منه الدعاء، وأجبت الرجل عن الكتاب، وعرضته
عليه، فرضي خطي، ولفظي.
وقال لي: كم يكفيك في كل شهر من الرزق ؟.
فقال له يوسف: الذي ذكر إنه يقنعه خمسة عشر ديناراً في
كل شهر.
فقال: هذا قوت، ولا بد من استظهار لنائبة، ولكن قد
جعلتها ثلاثين ديناراً في كل شهر، فقبلت يده.
فقال: الزمني ليلك ونهارك، طلبتك أم لم أطلبك، فإن
الملازمة رأس مال الكاتب.
قال: فلزمته كما رسم.
وكان صالح بن شيرزاد، يخلفه في دار المعتصم، وقد استولى
على المعتصم بحيلته، وتلطفه، على حمارية كانت فيه، وكره ذلك الفضل بن مروان،
واجتهد في قلعه، فلم يتمكن.
فقال لي يوماً، ما في نفسه من ذلك، وقال: أنا أحب أن
أجعلك مكانه، إلا أني أتخوف أن تسلك مسلكه، فهل فيك خير ؟.
فقلت: قد عرفت أخلاقي وطبعي، فإن كنت عندك ممن يصلح
للخير، وإلا فلا تثق إلي.
فكان في هذا التدبير، حتى حدث أمر القبط بمصر، فندب
المأمون أخاه أبا إسحاق، لمحاربتهم، في سنة اثنتي عشرة ومائتين.
فخرج أبو إسحاق إلى مصر، ومعه الفضل بن مروان، واستخلف
صالح بن شيرزاد بحضرة المأمون، فيما لا يضره أن يغلب عليه، وسله عن المعتصم،
وجعلني مكانه، وشخصنا.
فكسبت مع المعتصم، في ليلة واحدة، مائة ألف دينار حلالاً
طيباً، وذلك إن القتل كثر في أهل مصر، وجلا الباقون، وأشرف البلد على الخراب.
وشق ذلك على المأمون، وأنكره على أبي إسحاق، إنكاراً
شديداً، فكان فيما رآه، تسكين الناس، وردهم إلى مصر.
فوردت علي في يوم واحد، كتب جماعة من رؤساء البلد،
يسألون الأمان لهم.
فقلت للفضل في ذلك.
فقال: أجبهم إلى ما التمسوا، وأجب كل من سأل مثل ذلك.
فكتبت في ليلة، لمائة رجل، أماناً، فظهروا، وبعث إلي كل
واحد منهم، من ثلاثة آلاف دينار، إلى ألف دينار، إلى خمسمائة دينار، وبعضهم لم
يبعث إلي شيئاً.
فحصلت ما اجتمع لي، فكان مائة ألف دينار، وأحييت مائة
إنسان، وفرجت عنهم، وعن أتباعهم، ومن يلوذ بهم، وكشفت كربة عظيمة عن أبي إسحاق.
الفضل بن سهل ومسلم بن الوليد الأنصاريأخبرني أبو الفرج
المعروف بالأصبهاني، قال: أخبرني حبيب ابن نصر المهلبي، قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد، قال: حدثني
محمد بن عبد الله بن سليمان، عن أبي الخطاب الأزدي، قال: كان مسلم بن الوليد،
والفضل بن سهل، متجاورين في قنطرة البردان، وكانا صديقين.
قال مسلم: فأعسرت إعساراً شديداً، ولحقتني محنة، وولي
الفضل بن سهل الوزارة بمرو، فتحملت إليه على مشقة.
فلما رآني رحب بي وأدناني، وقال: ألست القائل ؟
فأجر مع
الدّهر إلى غاية ... ترفع فيها حالك الحال
فقلت: نعم.
قال: صرنا إلى هذه الحال، وصرت بنا إليها، وأمر لي
بثلاثين ألف درهم، وولاني عملاً اخترته.
فانصرفت عني المحنة التي كنت أعانيها، وحصلت لي نعمة
طائلة.
قرئ على أبي بكر الصولي وأنا أسمع، في كتابه، كتاب
الوزراء، بالبصرة، في سنة خمس وثلاثين وثلثمائة، حدثكم أحمد بن يزيد المهلبي، قال:
حدثنا عبد الله بن أبي سعد، فذكر بإسناده نحوه، إلا أنه ذكر في الشعر زيادة أربعة
أبيات، لا تتعلق بكتابي هذا فأذكرها، وذكر أن الفضل ولى مسلماً بريد جرجان.
كيف طهر عثمان بن حيان المري المدينة من الغناء
أخبرني أبو
الفرج الأصبهاني، قال: أخبرني الحرمي بن أبي العلاء، قال: حدثنا الزبير بن بكار،
قال: حدثني عمي مصعب، عن عبد الرحمن بن المغيرة الحرامي الأكبر، قال: لما قدم
عثمان بن حيان المري المدينة والياً عليها، قال له قوم من وجوه الناس: قد وليت
المدينة على كثرة من الفساد، فإن كنت تريد أن تصلح، فطهرها من الغناء والزناء.
فصاح في ذلك، وأجل أهله ثلاثاً، يخرجون فيها من المدينة.
وكان ابن أبي عتيق غائباً، وكان من أهل الفضل والعفاف
والصلاح، فلما كان في آخر ليلة من الأجل، قدم.
فقال: لا أدخل منزلي حتى أدخل على سلامة القس.
فقال لها، وقد دخل عليها: ما دخلت منزلي، حتى جئتكم أسلم
عليكم.
قالوا: ما أغفلك عن أمورنا، فأخبروه الخبر.
فقال: اصبروا لي الليلة.
فقالوا: نخاف أن لا يمكنك شيء، ونؤذى.
فقال: إن خفتم شيئاً، فاخرجوا في السحر.
ثم خرج، واستأذن على عثمان بن حيان، فأذن له، فسلم عليه،
وذكر غيبته، وأنه جاء ليقضي حقه، ثم جزاه خيراً على ما فعل من إخراج أهل الغناء
والزناء.
وقال: أرجو أن لا تكون عملت عملاً، هو خير لك من ذلك.
قال عثمان: قد فعلت ما بلغك، وأشار علي به أصحابك.
قال: قد وفقت، ولكن ما تقول يرحمك الله في امرأة كانت هذه صناعتها،
ثم تركتها، وأقبلت على الصيام والصدقة والخير، وإني رسولها إليك تقول: أتوجه إليك،
وأعوذ بك أن تخرجني من جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن مسجده.
فقال: إني أدعها لك ولكلامك.
فقال ابن أبي عتيق: لا يدعك الناس، ولكن تأتيك، وتسمع
كلامها، وتنظر إليها، فإن رأيت أن مثلها يسع أن تترك، تركتها.
قال: نعم.
فجاءه بها، وقال لها: احملي معك سبحة، وتخشعي، ففعلت.
فلما دخلت على عثمان، حدثته، فإذا هي من أعلم الناس
بأمور الناس، فأعجب بها، وحدثته عن آبائه وأمورهم ففكه لذلك.
فقال لها ابن أبي عتيق: اقرئي للأمير، فقرأت.
فقال لها: احدي له، ففعلت، فكثر عجبه بها.
فقال: كيف لو سمعتها في صناعتها، فلم يزل ينزله شيئاً
شيئاً، حتى أمرها بالغناء، فقال لها ابن أبي عتيق، غني:
سددن خصاص البيت لما دخلنه ... بكلّ لبان واضح وجبين
فغنته، فقام عثمان بن حيان، فقعد بين يديها، ثم قال: لا
والله، ما مثل هذه تخرج.
فقال ابن أبي عتيق: لا يدعك الناس، يقولون أقر سلامة،
وأخرج غيرها.
فقال: دعوهم جميعاً، فتركوهم.
وأصبح الناس يتحدثون بذلك، يقولون: كلم ابن أبي عتيق
الأمير في سلامة القس، فتركوا جميعاً.
أضاع كيسه واستعاده بعد سنةأخبرني محمد بن الحسن بن
المظفر، الكاتب اللغوي، المعروف بالحاتمي، قال: أخبرنا أبو عمر محمد بن عبد
الواحد، قال: أخبرنا ثعلب، قال: أخبرنا عمر بن شبه، قال: حدثني سعيد بن عامر، قال:
حدثنا هشام بن خالد الربعي، قال: دخلت المسجد، ومعي كيس فيه ألف درهم، لا أملك
غيره، فوضعته على ركن سارية، وصليت، ثم ذهبت ونسيته.
فكربني أمره، وفدحت حالي لفقده، فما حدثت بذلك أحداً
سنة، وجهدني الضر.
قال: فصليت من بعد ذلك، إلى تلك السارية، ودعوت الله،
وسألته رده علي، وعجوز إلى جانبي تسمع قولي.
فقالت: يا عبد الله ما الذي أسمعك تذكر ؟.
قلت: كيساً أنسيته على هذه السارية عام أول.
قالت: هوذا عندي، وأنا منذ سنة أراقبك، فجاءت به بخاتمه.
عبد الله بن الزبير يطالب بني هاشم بالبيعة أو يضرب
أعناقهمأخبرني محمد بن الحسن بن المظفر، المعروف بالحاتمي، قال: أخبرني عيسى بن
عبد العزيز الطاهري، قال: أخبرني الدمشقي، عن الزبير بن بكار، قال:
جمع عبد
الله بن الزبير بني هاشم بمكة، وقال: لا تمضي الجمعة حتى تبايعوا، أو آمر بضرب
أعناقكم.
فنهض إليهم قبل الجمعة يريد قتلهم، فناشده المسور بن
مخرمة الزهري أن يدعهم إلى الوقت الذي وقت لهم، وهو يوم الجمعة، ففعل.
فلما كان يوم الجمعة، دعا محمد بن الحنفية رضي الله عنه
خادماً له بغسل وثياب، وهو لا يشك في القتل.
وقد كان المختار بن أبي عبيد بعث أبا عبد الله وأصحابه
إليهم، فجاءهم الخبر بحال محمد بن الحنفية، وما دفع إليه من ابن الزبير، وقد نزلوا
ذات عرق، فتخلل منهم سبعون رجلاً حتى وافوا مكة صبيحة يوم الجمعة، فشهروا السلاح، ونادوا
يا محمد.
فبلغ الخبر ابن الزبير، فراعه، وتخلص محمد رضي الله عنه،
ومن كان معه، وأرسل محمد، علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فنادى
في القوم الذين أنفذهم المختار: من كان يرى لله تعالى عليه حقاً، فليستأمر نفسه،
فإنه لا حاجة لي بأمر الناس له كارهون، وأنا إن أعطيتها عفواً قبلتها، وإن كرهوا
ذلك لم أختره.
فبعث ابن الزبير إلى محمد: إني أصالحك على أن تتنحى عني،
فتلحق بأيلة، فأجابه إلى ذلك، ولحق بأيلة.
وكف الله تعالى ابن الزبير، وقبض يده عما حاوله من قتله،
وقتل أهل بيته.
عاقبة الظلم
وجدت في
بعض الكتب: حدث علي بن المعلى، عن الزهري البصري، قال: كنا جلوساً عند أبي عبد
الله جعفر بن محمد عليه السلام، وذكر حديثاً فيه: أن أبا عبد الله قال: إن قوم
سدوم، هلكوا بمجوسي.
قيل: ما سبب ذلك ؟.
قال: أما تعرفون بالبصرة عندكم جسراً، يقال له: جسر
الخشب ؟.
قلنا: بلى.
قال: ذاك جسر سدوم، جاءه رجل مجوسي، ومعه زوجته حاملاً، راكبة
حماراً، تريد العبور، فمنعوها إلا أن يأخذوا خمسة دراهم، فأبيا أن يعطيا ذلك،
فطلبوا منهما عشرة دراهم، فأبيا أن يعطيا ذلك، فشمصوا الحمار، وقطعوا ذنبه، فاضطربت
المرأة، فأسقطت جنينها، فاشتدت بالمجوسي محنته.
وقال: إلى من نتظلم فيما فعل بنا ؟.
فقيل: إلى صاحب هذا القصر.
فدخل إليه، وقال: فعل بي كيت وكيت.
قال: لا بأس، ادفع إليهم حمارك، يعملوا عليه إلى أن ينبت
ذنبه، وادفع إليهم زوجتك، حتى يطؤوها إلى أن تحمل.
فرفع المجوسي رأسه إلى السماء، وقال: اللهم، إن كان هذا
حكم من عندك، وأنت به راض، فأنا به أرضى، وأرضى.
فبعث الله إليه ملكاً من الملائكة، فأخذ بعضده، وعضد
زوجته، فعبر بهما الجسر.
فقال له: يا عبد الله من أنت ؟ فلقد مننت علي.
قال: أنا ملك من الملائكة، لما أن قلت: أللهم إن كان هذا حكم من
عندك، وأنت به راض، فأنا أرضى وأرضى، بعثني الله لأخلصك، فالتفت إلى القوم، وانظر
ما أصابهم.
فالتفت المجوسي، فإذا القوم قد خسف بهم.
دواء عجيب وضعه الطبيب للكاتب زنجيأخبرني علي بن نصر بن
فنن، الكاتب النصراني: أن أبا عبد الله زنجي الكاتب، سرق منه مال جليل، وكان شديد
البخل، فناله غم شديد، حتى أنحل جسمه، واجتهد في صرف الهم والغم عنه، فلم يجد إلى
ذلك سبيلاً.
فشاور الأطباء في ذلك، وعملوا له أشياء وصفوها له، فما
نجعت، إلى أن استشار علي بن نصر، الطبيب النصراني، جده، وكان يطب زنجي ويلزمه،
فأشار عليه أن يصوغ إهليلجة من ذهب، ويمسكها في فيه.
ففعل ذلك، فلم تمض إلا أيام، حتى زال غمه، وعاد إلى صحة
جسمه.
يا غياث المستغيثين أغثنيوجدت في بعض الكتب: حكي أن
رجلاً خرج في وجه شتاء، فابتاع بأربعمائة درهم، كان لا يملك غيرها، فراخ الزرياب
للتجارة.
فلما ورد دكانه ببغداد، هبت ريح باردة، فأماتتها كلها
إلا فرخاً واحداً، كان أضعفها وأصغرها، فأيقن بالفقر.
فلم يزل يبتهل إلى الله تعالى ليلته أجمع بالدعاء
والاستغاثة، ويسأله الفرج مما لحقه، وكان قوله: يا غياث المستغيثين، أغثني.
فلما انجلى الصبح، زال البرد، وجعل ذلك الفرخ الباقي
ينفش ريشه، ويقول: يا غياث المستغيثين، أغثني.
فاجتمع الناس على دكان الرجل، يرون الفرخ، ويسمعون الصوت.
فاجتازت جارية راكبة، من جواري أم المقتدر، فسمعت صوت
الطائر، ورأته، واستامته، وتقاعد الرجل، فاشترته بألفي درهم، وأعطته الدراهم،
وأخذت الطائر.
قصة سلمة الأنباري النصرانيوجدت في بعض الكتب:
أقسام الكتاب