وااقي777007

الأربعاء، 14 ديسمبر 2022

كتاب الموتى الإسلامي بدء الخلق


كتاب الموتى الإسلامي بدء الخلق
إعداد وتجميع:
أبو عادل عبد الرحمن بن عبد السلام بن محمد (الكيحال) بن مزيان
بن حمّاد بن موسى بن عمر بن موسى البنيحياتي الحرّيشي المطلسي  أستاذ الرياضيات   مراجعة وتدقيق لغوي:
الدّكتور الشّريف محمد أحمد الإدريسي
أستاذ التبريز بالمدرسة العليا للأساتذة مرتيل (تطوان)
جميع الحقوق محفوظة
العنوان: كتاب الموتى الإسلامي- بدء الخلق
الإعداد: عبد الرحمن الكيحال
الطبعة: 1436 هجرية، موافق 2014م.
رقم الإيداع القانوني: 2014MO3306
ردمك: 9-373-34-9954-978
الطباعة: مطبعة الأم، Imprimerie madre
تطوان؛ المغرب
الإهداء
إلى من:
يسبأ إلى الله
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ
الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُواْ إِلَى رَبِّهِمْ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ
هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾
هود (23)
شكر واعتراف

وجب الشّكر لمن ساهم بشكل أو آخر في بلورة الأفكار الواردة في هذه النّصوص، أو أحفزَ بانتقاد ما كان يطرح للنّظر والبحث، فالتّوافق والتّعارض آليتان متكاملتان في صقل القناعة الفكرية ما لم ينحرفا عن الصّدق والقصد، وأخصّ في هذا الإطار جماعة الهدي والإبداع خصوصا المرحوم السّي محمد المساوي وسيدي أحمد القسمية، ونفس الامتنان للمهتمين بالعلوم الباطنية كل من حميد شعيب المرنيسي تلميذ المرحوم التهامي محمد الوكيلي والشّريف سيدي محمد الفهري، كذا من عرّفني على عالم الجان صديقي الحكيم عبد الواحد الكرواني، ولن أنسى صديقي الشّاعر الأديب عبد الحميد الدويب، ونفس التّقدير لأصدقائي من الطّريقة البوتشيشية والطّريقة الحرّاقية، وكلّ الذاكرين الله كثيرا والذاكرات، وعموما كل من جمعتني بهم ظروف الحياة فسجّلوا انطباعا عن قصد أو غير قصد أغنى التّجربة وفتح للمعرفة أبوابا ومسالك اخترت منها الأوفق أو على الأقل هذا ظنّي.
شكر مخصوص لمن ساهم وأعان في التّنسيق والتّدقيق الشّريف الدكتور سيدي محمد الإدريسي نجل صديقي المرحوم سيدي أحمد الإدريسي مع كامل الامتنان والمحبّة والتّقدير.
لهم جميعا ولأهلي وأبنائي وأحفادي ومن انتسب إليّ، أسأل الله لهم الهداية والثّبات على القول الثّابت في الدّارين، وما سؤلي إلاّ لربّ رحيم كريم.
تمهـيـــد
أعوذ بالله ممٌا يلقي الشٌيطان الرٌجيم
بسم الله و بالله و إلى الله والصلاة والسٌلام على رسول الله وعلى آله.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي نزّل على عبده الكتاب، روحاٌ من أمره، برهاناً ونوراً، هدى للمتّقين، معراج اليقين للمحسنين، بصائر لمن أراد أن يستبين، تبياناً لكل شيء قبل السنين والحساب، وخبراٌ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه لما بعد الأزمنة والعصور، إماماً وحقاً مبيناً، لمن أراد أن يسلك نهج السابقين المقرّبين، شفاء ورحمة لمن لا يذوقون الموت إلا الموتة الأولى، الصالحين أولي المقام الأمين فضلاً من الله ربّ العالمين.
والصلاة والسلام على من أُعطيَ الكوثر، النور السابق ولأيام الله عارف، مَن خُلُقُه القرآن وحلّته البيان، الاقتداء بهُداه نجاة، وبمحبّته يزيد الإيمان، صلّ عليه ربّنا وملائكته والمؤمنين أجمعين وعلي آله الطّاهرين، والرّضى للسابقين من أصحابه المحسنين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدّين.
عسى أنّنا في النقطة الدّنيا بين ما مضى من الأولى وما هو آت من الآخرة، وهذه النقطة ليست واحدة بالنسبة للناس أجمعين، فبالأحرى لمختلف مخلوقات ربّ العالمين، فكلٌّ له ساعته وكلّ له قيامته، غير أننا في يوم واحد من أيام السموات والأرض، ومهما يكن سعيُنا سنساق إلى المصير الذي سنسأل فيه كأفراد، ثمّ كأمم، ثمّ كأجناس، إنّها أيام الله، جعلنا ربّ العزّة خلالها من الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
عشنا الميتة الأولى ونعيش هذه الحياة، وسنعيش بعد الموت ثمّ الإعادة، العيش قد يكون ضنكاً أو رغداً، ويحدّده الزاد الذي هو التّقوى، كما أنّه بالعلم والإيمان، قد نستبين كم لبثنا في كتاب الله، ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) الروم﴾ من هذا يكون التّفكر في بدايات الخلق وفي أطوار الخلق سواء في النّفس أو الآفاق، لا يقلّ شأناً عن أخبار الآخرة والمعاد، وأنّ التعقٌل المجرٌد والتّوسم العلمي والإلهام السّليم، كلّها وسائل يجب أن تخدم المقصد الإلهي من بعث رسله وكتبه، شأنها شأن السّمع والأبصار والأفئدة؛ جملة وظائف إذا استخدمت لكسب المعرفة، ساهمت في ارتقاء نفس الإنسان.
الإنسان في وضعه الحالي جملة مركّبة من نفس وجسد وروح، وقد أقرّت جل العقائد والديانات أنّ معرفة النّفس طريق لمعرفة الله، وعن علي بن أبي طالب عليهما السلام قال: ﴿اعرف نفسك تعرف ربك﴾، وروي عنه أيضاً: ﴿من لم يعرف نفسه لم يعرف ربه﴾، كما ينسب إليه القول:
دواؤك فيك ولا تشعر ... . وداؤك منك وما تبصر
وتزعم أنك جرم صغير ... وفيك انطوى العالم الأكبر
وفي مثل هذا، دعوات من أجل إبراز مكانة النّفس بين الجسد المادّي والرّوح التي هي أمر إلهي، وكيف لا يكون ذلك؟ وهي المسؤولة عن الفجور والتّقوى وعليها تبعة الجزاء بالسعادة أو الشقاء.
رحلة الإنسان من البدء إلى المصير أخذت من اهتمامات علماء الإسلام حظّاً وافراً من منطلق الكتاب والسّنة غالباً، وبالتجاوز إلى الفكر الفلسفي واللاهوتي كتراث إنساني عام في حالات أخرى، والانطباع البّارز أنّ الفرق والمذاهب أوّلت الآيات القرآنية وانتقت نصوصا حديثية لتتوافق مع خصوصية منهجها، ممّا كرٌس إلى التفرقة في الدّين رغم التّحذير الوارد في كتاب الله وسنّة رسوله ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159) الأنعام﴾، وفي صحيح البخاري أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ:” لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ، قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى قَالَ فَمَنْ “، رغم ذلك يظل الفكر الإسلامي أقل حدة في خلافه مقارنة بالخلافات التي ظهرت عند أهل الكتاب من الأمم الأخرى، ومن أجل تلافي هذا المنزلق المذموم، يكون الحذر والتّدقيق لازمين عند التّعامل مع المواضيع الغيبية التي هي في ذات الوقت من الشّعب الإيمانية، غير أنّ الحذر لا يجب أن يتحوّل خوفاً أو إعراضاً، لأنّ القصد مرغوب وهو الارتقاء بالإيمان إلى مرتبة اليقين.
أمام غنى عطاء التّراث، تكمن صعوبة وضع التّصور المناسب الذي من شأنه التّوافق مع كل النّصوص، على الأخص التي تبدوا كأنّها غير متآلفة ما لم تُستنبط نظرة تتكامل فيها كل الإشكالات وتحظى بكل التأييد الإيماني والعلمي والعقلي، وهذا هو المطلوب قبل غيره من أولي العلم، لا التّعصّب وتفنيد كل رأي لا ينتمي لمدارسهم الفكرية.
محاولة تجميع واستنباط كتاب للموتى من التراث الإسلامي ضمن ملامح رحلة الإنسان، تتجاوز رغبة فكرية أو فلسفية سبق إليها من سبق، إلى ضرورة عقائدية تسهم في تعريف أوضح لغاية الوجود، واطمئنان أكبر لما كان ويكون، وليس من عذر لأبناء هذه الملٌة أن يَركنوا إلى الغفلة ويسقطوا في غيابة الحيرة ويُرجعوا ما لا يفهموه إلى الغيب الذي لم يتكشٌف بعدُ حسب الادعاء، وعندهم كتاب الله تفصيلاً لكل شيء، وسنٌة رسولٍ عُرج به إلى السٌماء ليكون له من علم الأوٌلين والآخرين ما يفي الهداية والبيان.
وجهة هذه المكتوبات موضوعاً أوسع من أن تحاط، وأشمل من أن تقلٌص في صفحات معدودة، وتبقى الرٌغبة بعد توفيق الله أن ترسم دليلاً يوجٌه المهتم ويستوجب التٌوقف والتٌأمل لدى مفاهيم سلمت أو تغيٌرت بطول الأمد، مصونة أو تطاولت عليها يد العبث، دون التٌعسٌف في التأويل مع أمانة ردٌ النبأ إلى المنبِئ، وإرجاع كل رأي لأصله، وكل دعوى لمدٌعيها، محفوزاً بقناعة رسخ منها ما رسخ، وتجاوز منها ما تجاوز إلى الظٌن عند خيانة الفهم، وهذا الأخير إن وجد أتمنٌى أن يحقٌقه من يستهويه التدقيق ممٌن هو لهذه الوجهة سالك، أمٌا الموضوع فسيجزأ إلى الكتب التالية:
كتاب النٌفس؛ تبيان أنٌ النٌفس غير الرٌوح وأهمٌ أوجـــه الخصوصية لكل منهما.
كتاب التٌكوين؛ مشاهد التكوين مُستقاة من الوحي وشتٌى المعارف الإنسانية.
كتاب خلق آدم؛ محاولة استنباط ما ترويه تفاصيل قصٌة خلق آدم من كتاب الله.
كتاب الموتة الأولى؛ وضع الناس قبل استكمال الطٌور البشري وصفة عيشهم.
كتاب العيش بعد الموت؛ تتبٌع لمفهوم ما يطلق عليه الحياة البرزخية.
كتاب النٌشور؛ تجميع وترتيب لأخبار الساعة وأيام الله.
كتاب المصير؛ توسٌم لبعض الغايات التي وُجِد من أجلها الإنسان.
التٌرتيب الموضوعي لهذه الكتب، كذا المنهجية المعتمدة قد لا تروق أو تكون منتقدة، ويشفع لي عند القارئ الإكراه الذي يرافق تبسيط المعقٌد وتقريب المستبعد، وأنٌه يتلقٌى ممٌن لا يحترف الكتابة ولا حتٌى هاوٍ لها، غير أنٌ ذلك لن يمنع أن أشركه ما يشبه تجربة تأمّلية - إن جاز التٌعبير - لأنٌي لا أرى أهمٌية فيما يجب أن يسطٌر أكبر من تغيٌر المعتقد، والعبور من المسلٌم إلى الأسلم، وإعادة رسم المتحسٌس في الظٌلمة إلى المشاهد في النٌور، بعبارة أخرى، إجابة لتساؤلات لا أخال إلاٌ أنٌ الكثير تساءلها وهي، أين نحن؟ من أين جئنا؟ إلى أين نسير؟.
استمعت وأنا غضٌ صغير لطلاسم إليا أبو ماضي: جئت لا أعلم من أين و لكني أتيت، ولقد أبصرت طريقا قدامي فمشيت، وسأبقى ماشيا إن شئت هذا أم أبيت، كيف جئت ؟ كيف أبصرت طريقي؟، لست أدري... القصيدة ، وكان لها من الوقع ما أبهمَ هل هو القائل أم أنا الذي يقول، وما كنت أدري أنٌ الرٌجل عَلَمٌ في مدرسة فكرية تتبنٌى التٌقمٌص لتفسير دورة الموت والحياة، غير أنٌ المؤكٌد مبلغه من العلم آنذاك تقابل وجهالتي لأركب وجهته وأجعل كشف المستور في ”لا أدري“ غايتي، توالت الأيام وفيها ما فيها من إدراك وإبهام، حبلى بالحيرة والغفلة، ما أسعف ما تعلٌمت ولا أراح الاستسلام، صراع بين عجز أن أكون وبين استحالة أن لا أكون، يشتدٌ مع كل إخفاق ويفتر حين النجاح، إلاٌ أنه يظلٌ ضلالاً يتطلٌع للهُدى كلٌما تراءى كوكب درٌيٌ قال هذا مقصدي وإن أفل عاد لحيرته في الوجود.
لا يهم كم وجهة تولٌيت إن كان منتهاها باب مسدود، وبكم تعلٌقت حتٌى ظهر نصحه زيفٌ مردود، فتتوالى التٌجارب ويذهب الزٌبد جفاء، ويكون كالفراش المبثوث الصٌحب والرفاق، وتكشف عن تناقضاتها الدٌنيا، وتتبدٌد الأحلام في الفضاء، فيحِقٌ قول الحقّ أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ، ويكون الله وليٌ لمن والاه، من هنا كان البدء والالتحاق وفي هذا لا زال التشبث والرجاء.
وُعِدنا ووعد الله حقٌ، بِعثتان إلى الحياة ورِجعتان إلى من ناصية الخلق بيده، ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) البقرة﴾، فإذا أُعتبر الموت وجوداً في مقابلة للوجود الحياتي كما يقابل الليل النّهار؛ أي حالتين مخلوقتين من خلق الله، كما جاء في لسان العرب: الأَزهري عَنِ اللَّيْثِ: المَوْتُ خَلْقٌ مِنْ خَلق اللهِ تَعَالَى، وكما بيّن تعالى، ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الملك﴾ يتبدٌل أفق المشاهد ليشمل الدٌنيا والأخرى،﴿ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7) الروم﴾، ويتوجٌه مطمح علمه لتذكٌر ما عرفه قبل بعثه، وأن يؤتى حظٌاً من العلم في رجعه، مطمح لن يتسنٌى باللهو واللٌعب، ولا بالمال والولد، يطلبه البعض في التصوف، وآخرون في الغنٌوصية، وآخرون في التطبيقات السحرية، ودون عناء فهو قريب ممٌن آمن واستقام، كما جاء عن رسول الله إذ سُئل عن أمر يُعتصم به فقال: قُل آمنت بالله ثم استقم، تصديقاً لقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾.
لا أريد أن يٌفهم أنّ ما أسوق كلّه مدرك، فتذوٌق الحال لا ينمٌ عن المَقام، والكلِم الطيٌب ساقطٌ ما لم يُقِمه صالح العمل، لكن الطٌريق المستقيم الواضح مبتغى السائر حتى وإن لم يتجلٌى مَعلَم الوصول، عند هذا الحد لا زلت أسير، لا راضٍ بما كسب البحث ولا رافض لما قد يجيء به النّظر من جديد، توٌاق غير آبه لجفاء المقتدرين، إلى تزكية من لا يريدون علوٌاً في الأرض الأشدٌاء الرٌحماء المحسنين.
هذه المحاولة إذا حظيت بتوفيق الله، تحليق حتّى لا أقول تحقيق في معلومات شائعة وقد انتابها الإهمال، واسترجاع لاستنباطات سابقة مميٌزة بالجرأة والتٌحقق، والغاية وراء ذلك فهمٌ أوفق للإنسان والوجود.
كتـــــاب النٌفــــــس
معنى النفس
النٌفس في اللٌغة[1] تشير لمعاني شتٌى، فيقال سالت نفس فلان والمراد دمه، ويقال في نفس فلان أن يفعل كذا، والقصد في رُوعه وضميره، ويقال ما جاء إلا نفساً واحدةً، والمعنيٌ شخصٌ واحدٌ، ويقال فاضت نفس فلان، إذا هلك، ويقال حضرَ فلان بنفسه، أي بذاته وحقيقته، غير أنٌ استعمال النٌفس كمرادف للرٌوح أو كمعنيين مختلفين فقد كان موضع خِلاف على مدى الأجيال ومثيراً للجدل حتٌى يومنا الآن.
أمٌا النٌفس في كتاب الله؛ فهي عبارة عن جوهر الإنسان وكنهه ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) الشمس﴾ قال القرطبي[2]: وفي النفس قولان: أحدهما آدم، والثاني كل نفس منفوسة، انتهى. ثمّ وجودها سبق الوجود البشري ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) الأعراف﴾ أورد الطبري[3]: قال مجاهد[4]: ولقد خلقناكم يعني آدم ثم صورناكم يعني في ظهره، انتهى، غير أن ظاهر الآية يقتضي أن أمر الملائكة بالسجود لآدم وقع بعد خلقنا وتصويرنا أي أنّ خلق النفوس سابق لخلق آدم، وإلى هذا ذهب مُحَمَّد بن نصر المَرْوَزى[5] وَأَبُو مُحَمَّد بن حزم[6] وغيرهم، والنفس تكون متٌصلة بالبدن كما تكون منفصلة عنه،﴿ الله يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) الزٌمر ﴾.
وعند الموت وفناء البدن ترجع إلى ربٌها لتخلد ما دامت السموات والأرض ثمٌ الإعادة بعد ذلك، ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) الفجر﴾ أورد الطبري في تفسيره[7]: حدثنا أبو كُرَيب، قال: حدثنا ابن يمان، عن جعفر، عن سعيد، قال: قُرئت: ( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً ) عند النبيّ ﷺ فقال أبو بكر: إن هذا لحسن، فقال رسول الله ﷺ: "أما إنَّ المَلَكَ سَيَقُولُهَا لَكَ عِنْدَ المَوتِ". وكون النٌفس غير ظاهرة في الإنسان في طوره البشري كان من المناسب أن يعبٌر بها عن الباطن أو السٌر. ﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) المائدة ﴾، قال القرطبي[8]: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ، أَيْ تَعْلَمُ مَا فِي غَيْبِي وَلَا أَعْلَمَ مَا فِي غَيْبِكَ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى تَعْلَمُ مَا أَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمَ مَا تَعْلَمُ، وَقِيلَ: تَعْلَمُ مَا أُخْفِيهِ وَلَا أَعْلَمُ مَا تُخْفِيهِ، وَقِيلَ: تَعْلَمُ مَا أُرِيدُ وَلَا أَعْلَمُ مَا تُرِيدُ، وَقِيلَ، تَعْلَمُ سِرِّي وَلَا أَعْلَمُ سِرَّكَ لِأَنَّ السِّرَّ مَوْضِعُهُ النَّفْسُ، انتهى، وبما أنٌ النٌفس هي المعنية بالتكاليف الشٌرعية ضمن الكيان البشري فالشّخص ببدنه تسمٌى باسمها، ﴿ فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61) آل عمران﴾.
النٌفس المراد التٌقرب لمعرفتها في السٌطور التّالية؛ ذاك الطٌيف الشٌبح ذو الصورة الآدمية المجهول تركيبته البنيوية، فعندما يُستغرق في المنام وتنطبق الأجفان لا يُرى إلاٌ ما ترى بعينيها، ولا عقل إلاٌ عقلها، ولا أخذ إلاٌ بيديها، ولا مشي إلاٌ برجليها، تفرح وتحزن، تسعد وتتألٌم، تصول وتجول في عوالم لا تتقيد بقوانين عالمنا، وليس لك أن تجزم أنٌها قابعة في ركنٍ من أركان البدن، فإن فعلت، يتعذٌر عليك تفسير مشاهد وأنباء لم يسبق أن خطرت على البال ولم تختزن في الذاكرة. لا يصلنا من حالها إلاٌ النٌزر بعد إغفاء أو نوم، تعتبر هي الأنا فيقال رأيت فيما يرى النائم، وعند اليقظة يُتنكٌر منها ويقال مجرٌد أضغاث أحلام، هي من يُبرز للبدن صفاته الحيوانية، فإن غابت ظلٌ كومة نباتية بلا جذور، هي الآمر بالسٌوء، وهي بعد ذلك من يلوم، هي إن زُكّيت اطمأنّت وإن لم تُزكٌى أضاع الشٌخص ملامحه الإنسانية واستحوذ عليه وغرٌه فيمن غرٌ الغَرور.
حقيقة النٌفس البشرية شأنها شأن الكثير من الظواهر الطٌبيعية تُعرف آثارها ولا يدرك كنهها، وقد شكٌل التقرٌب إلى معرفة النٌفس في جميع الثقافات وعلى مدى كل الأزمنة والعصور المحور الذي يرتكز عليه العلم والإدراك الواعي، سواء في الاعتقاد، أوفي تفسير الظواهر المحيطة بالإنسان من البيئة والآفاق، كذا في كل ما يحاول أن يشرئبّ إليه الفهم، ولا يمكن أن يقال أنٌ الإنسان نبذ به على وجه هذه البسيطة التي لا تكاد تَبينُ مقارنةً باتساع السموات والأرض، متروكاً مع شأنه ليتيه في الضلالة لا يستبين طريق منجي ولا تشمله عناية توجيه، بل عكس ذلك، كان الوحي كل حين وفترة يتنزٌل بالحق والهدى والذكرى والتبيان، مزوٌداً بمعارف وإمكانات تأسست بموجبها ثقافات وحضارات يُدرك بيسرٍ كم تشابهت في السمات العامة، ضمن ما اختصت به كل واحدة منها في نُظمِ التباين، حتى جاز أن نقول اعرف قومك تعرف حال سابق الأمم، ولعل العناد والبغي كما صوٌرت قصٌة ابنيّ آدم لازما جميع المجتمعات ليتجاوز التشابه في سمات الهداية إلى التشابه في مقولات الضلال، ﴿وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) البقرة﴾. فظهرت الصٌيرورة مهما سرنا نعود حيث كنٌا، لنرسم بذلك حركية أطوار وليست حركة تطوٌر. ومن أجل بلورة هذا المعنى بشواهد، سأحاول محاولة متواضعة للتّثبت أنّ ما ذكر قول متّصف بالصدقية، وذلك بالتتبٌع الموجز لما بلغنا من معتقد أقوام خلت، ونوع الإدراك الذي ميٌزوا به النٌفس:
النٌفس عند الهرامسة
الهرامسة نسبة إلى هِرمِس مثلٌث الحكمة، أو إله الحكمة عند اليونان، أو إله المعرفة طوط عند قدماء المصريين، أو أخنوخ عند العبرانيين، أو إدريس عليه الصٌلاة السٌلام عند العرب، وكما اختُلف في شخصه فقد اخُتلف في زمانه ومكان نشأته، غير أنٌ الراجح حسب الهرامسة أنفسهم[9] أنٌه تزامن مع أقدم الأسر الحاكمة في مصر الفرعونية، وأنه سابق لزمن إبراهيم عليه الصٌلاة والسٌلام، أما الكتابات المقدّسة المنسوبة إليه، ككتب أخنوخ الأربعة التي يعود كتابة بعض منها إلى فترة ما بين العهدين (الفترة التاريخية الممتدة من وقت انقطاع النبوة في العهد القديم الى بداية العصر المسيحي)، فهو يذكر فيها أنه عاش في الجيل السابع أو الفترة السابعة من ما قبل الطّوفان، وأنّ سيدنا نوح عليه الصلاة والسّلام من أحفاده، والهرامسة في كلٌ العصور لم يهتمٌوا أبداً بالتٌقدير الشٌعبي ولا بمحاولة حيازة أكبر عدد من الأتباع، يصدٌهم عن ذلك معرفتهم التي لا لبس فيها، أنٌهم قلة في كلٌ جيل المؤهٌلين لتلقٌي ما يعتبرونه الحقيقة المتمثلة في التٌعاليم الهرمسية، ممٌا أكسب حركتهم طابع السٌرٌية وأحصنتهم غايتهم التي لا تصطدم مع غايات طلاٌب النٌفوذ بكلٌ أشكاله من كلٌ اجتثاث أو إكراه.
تتبنّى الفلسفة الهرمسية وفق المتداول في هذا الزمان، إلى أنٌ الإنسان مركٌب من سبع طبقات أو أجساد حيث كل منها يتوافق مع المستوى الاهتزازي من الكثيف الجسماني إلى اللطيف النّفساني، وأنٌ هذه الأجساد السٌبعة تتشكٌل في مجموعتين، الثالوث الأعلى المكوٌن من الروح والنٌفس والعقل السامي، والحقيقة الرباعية أو الرباعية الدٌنيا، المكوٌنة من العقل الأدنى (الأنا) والعاطفة وطاقة الحياة ومادة البدن، وأن الموت يطال الرباعية الدنيا دون الثالوث، ولا حاجة لتتبٌع تفاصيل هذه الفلسفة إذ غايتنا إثبات أنٌ النفٌس عند الهرامسة تمثٌل الشٌخصية وأنها تبقى بعد الموت، وفي هذا السياق نسوق فقرة من كتاب معاذلة النٌفس[10] المنسوب لهرمس مثلٌث الحكمة المستخرج من بضع نسخ مخطوطة في مكتبات أوربية يرجع أقدمها حسب المحقٌق عبد الرحمن بدوي إلى العهد الهيليني[11] المتأخٌر أي قبل الإسلام فيما بين القرنين الثالث والخامس الميلاديين لمٌا غزت آثار الهرمسية الفكر اليوناني المتأخر، جاء فيها: ”يا نفس تأمٌلي جوهرك واعتبريه، واعلمي أنٌ جوهر النٌفس جوهر عالٍ شريف، وذلك بمناسبتها جميع العوالم وحلولها بكل محل، وأنٌها تُنسب في بعض الأحايين إلى عالم الطٌبيعة فتكون إنسانية مشاهدة للمحسوسات، مشافهة للمآكل والمشارب وجميع معاني الطٌبيعة، وتارة تُنسبُ إلى عالمها الأخصٌ بها نفساً حاسةً محسٌة مستعملة محرٌكة متوجسة ذات استبحاث وتأمٌل واختبار وإرادة، فهذه المعاني هي معاني النٌفس، وهي الحياة المنبثٌة في جميع ما احتوت عليه ملكوت النٌفس، وتارة تنسب إلى عالم العقل فتكون منتزعة الصٌور عن الهيولي[12]، مدركة البسائط الأولى، مميٌزةً متصوٌرة عاقلةً لجميع معاني الأشياء الفاردة البسيطة، وتارة تنسب إلى العالم الإلهي فتكون بالغة الخير والجود آمرةٌ بهما خالية من الشٌر والجور ناهية عنهما، حكيمة الأفعال متقنة الأعمال، ومن أوضح الدلائل أن النفس تناسب العلٌة الأولى ما هو موجود في خلقها من أنٌها تسمو إلى الإحاطة بجميع الأشياء التي يحتوي عليها الملكوت العظمى، وأنها لن تلقى مستقرٌة راضية تامٌة الرضا دون أن تبلغ العالم العقلي بجميع ما فيه، فحينئذ تُلقى النٌفس غير طالبةْ شيئاً قارٌة مستقرٌة تامة الرضي، ومن استعمل الإقرار في ذاته توجد له حقيقة ذلك“. انتهى. تبنٌت الفلسفة الهرمسية كثير من التٌنظيمات السٌرية ”كالماسونية“ أو حركة البنائين و”جمعية الصليب الوردي“ وجماعة ”التٌيوصوفية“ و”حركة العصر الجديد“ وغيرهم من الجماعات كلّها ذات أهداف لا تتفق لا من بعيد ولا من قريب مع ما يعرٌفون به الهرامسة أنفسهم، ولعلّ السّبب في التّبنّي كونها معرفة تساير بشكل كبير التّطبيقات السّحرية والسّيمياء ومدارج العرفان، وتجعل للحاصلين عليها شأنا وغلبة عند الأحجيّة على باقي النّاس المنتسبين للمدارس الفكرية التّقليدية.
النٌفس عند قدماء المصريين
كثيرة هي العقائد التي اعتنقها المصريون القدامى نتيجة مدى حضارتهم التي عمٌرت آلاف السّنين، غير أن المغالطة التاريخية التي تصور لنا فقط الوثنية وتعدد الآلهة إلى مدى أن كل مدينة وجهة لها إلاهاً خاص بها، في ذات الوقت الذي تتحدث بحشمة عن معتقد التوحيد الذي جاءت به الرسائل السماوية سواء قبل سيدنا إبراهيم أو بعده، ينم عن شيء ما، يقول الدّكتور مصطفى محمود[13]: التّوحيد على أرض مصر قديم جدّا، ليس كما يظنّ البعض أنّه بدأ بأخناتون وإنّما قبل إخناتون وقبل إمنحوتب وقبل مينا. الرسالات بدأت على أرض مصر منذ اثنتي عشر ألف وخمسمائة سنة هكذا يقول المؤرّخ مانيتون[14]. بدأت باوزوريس (وهو النبي ادريس) عليه السّلام الذي جاء إلى مصر بالتّوحيد.. وكان أوّل من علّم المصريين الكتابة بالقلم ولَبس المخيط ومبادئ الفلك والتّنجيم وضبط الفصول والزّراعة والتّقويم الشّمسي، وعلّمهم أنّ هناك خالقا واحدا وأنّ من يموت منهم سوف يبعث ثمّ يقف بين يديه ليحاسب ثمّ يصير في خلود في نعيم أو في عذاب حسب أعماله.. وكعادة الشّعوب القديمة تحوّل أوزوريس بعد موته إلى أسطورة وأصبح إلها ونسجت حول سيرته الملاحم والأغاني والأناشيد. انتهى، التّحريف والتّزوير هو نفس ما عهدناه في كثير من المجالات العلمية والإنسانية بإقحام كل ما يعتبر مؤيّدا للمرجعية الإلحادية وطمس كل ما يدلّ على غير ذلك، فبتتبّع الديانة المصرية القديمة التي عرفت تغيرات شتى متنوعة، يمكن التعرف على بعض أهم السمات التي ميزتها وهي:
التوحيد، monothéisme وهو بين في القرآن الحكيم في قصة يوسف عليه الصلاة والسلام، كما أن الآثار المصرية تبين أن مِن الفراعنة من نادى بالتوحيد كأخناتون مثلا، رغم أن البعض حتّى لا يقرّ بذلك يعتبر أنه جسّم الإله في الشمس أو الطاقة المنبعثة منها حسب ظنّه، يقول فراس السّواح[15]: يقوم معتقد أخناتون على الإيمان بإله واحد للبشرية جمعاء، هو طاقة صافية لا تتخذ شكلا ما، ولكنّها تتبدّى في عالم الظّواهر بقرص الشّمس الذّي يعطي الحياة والحركة للجميع، من هنا فإنّ الشّعوب والأمم جميعاً تتساوى أمام آتون. يقول أخناتون في إحدى ترتيلتيه "في جميع الأصقاع؛ في سورية والحبشة وأرض مصر، أعطيت لكل مكانه". وهذه أول مرّة تذكر فيها البلدان الأجنبية قبل مصر في النّصوص الفرعونية، الأمر الذي يشير إلى غياب الأفكار التّعصّبية للأمّة من معتقد أخناتون، والدّعوة صراحة إلى أخوّة البشر، وذلك لأوّل مرّة في الـتّاريخ. انتهى. كما يقول كمال جنبلاط في تقديمه لكتاب أضواء على مسلك التّوحيد ”الدّرزية“[16]: منذ مصر القديمة التي عمّرت في الألف الثّالث قبل المسيح بأمثال امحوتب Imhoteb أو "ذي امحت به" كما ورد اسمه في بعض المخطوطات العربية، عليه السّلام، الذي بنى أوّل هرم مدرّج من الحجر في مدينة هليوبوليس Héliopolis في سقّارة بالقرب من القاهرة الحديثة، والذي شاد الهيكل الرّائع المدهش فنّا وعمارة، الذي قصده وعاش فيه عدّة سنوات أفلاطون، عليه السّلام، وقد أطلق اليونان فيما بعد على امحوتب هرمس الهرامسة، وهو ذاته إدريس القرآن، عليه السّلام، إلى فتاحوتب Phatahotep وأمنحوتب بن حابو Amenhotep fils de Hapo وسواهم العديدين، إلى فيثاغورس Phytagore الذي زار مصر وعاش في هياكلها سنين طويلة، إلى سقراط وأفلاطون وأرسطو وديموقريطس وبرميندس وأيامبلي وأفلوطين على جميعهم السّلام، انتهى.
فالحكمة والغنّوصية والعرفان تواجدوا في كل الأزمان والأماكن ومع كلّ الأديان، فاختلاف الشّرائع لا يستلزم اختلاف الأديان؛ فالمعبود واحد والدّين واحد هو الإسلام، من ذلك، المرجعية في الحكمة والعرفان لا زالت إلى اليوم مصر القديمة وبلاد ما بين الرّافدين والهند القديمة وبلاد أخر، وفي ذات الوقت مرجعية للضلالة، ولعلّ هذا ما يفسّر السّرّية التّي تحظى بها كل المعلومات التي بلغت عن تلك العصور.
التعدد، polythéisme ويقصد به عبادة آلهة شتى كما جاء في كتاب الله على لسان يوسف عليه الصّلاة السلام: ﴿ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾. غير أن ضمن التعدد يوجد نوع خاص آخر هو الإينوتاييسم hénothéisme[17] تتم فيه العبادة للإله الأساسي دون التخلي عن عبادة الآلهة الثانوية يمكن تشبيهه بالشرك الذي الذي أخبر به رب العزة، ﴿ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ﴾.
الطوطمية، totémisme وهي حالة يُستعمل فيها حيوان أو نبات أو كائن طبيعي أو ظاهرة أو حتى رمز دال لشيء من هذه، من أجل تمييز جماعة بشرية عن الأخرى مع إضافة صفة القداسة للطوطم.
الأرواحية، Animisme وهو اعتقاد يعتبر كل الموجودات ذات نفس مدركة ومؤثرة وأنها لطيفة وجميعها خاضع للقوة الغيبية التي تتحكم في كل الوجود، ورغم اعتبار جل الدارسين لعلم الاجتماع أن هذا المعتقد بدائي وأولي ومنه نشأت الأديان، غير أن الفاحص والمدقق لن يجد فيه خلافاً يذكر مع معتقد الصوفية وأهل العرفان، بيد أن التصوف مرحلة متقدمة من التديّن.
الديانة الشمسية، أو عبادة الشمس، وهي تتجسد عند قدماء المصريين في المعبود ”رع“ محور العقيدة الشمسية، ويمكن فهم اللاهوت الواسع المتعلق بالمعبود ”رع“ في إطار خمسة أدوار رئيسة لعبها، وهي رع في السماء، رع في الأرض، رع في العالم الآخر، رع كرب خالق، ورع كملك وأب للملك.
عبادة قوى الطبيعة، عبد قدماء المصريين بعض الحيوانات على أساس أن الآلهة حلت بها، فكانت ”سيت“ المتمثلة في الأفعى، و”حوروس“ المتمثل في الصقر، و”هاتور“ المجسم في البقرة، و”أبيس“ في العجل.
غير أنّ الذي يهمنا أن السمة العامة تدل أنٌ اهتمام المصريين بالحياة بعد الموت أمر ذو شأن كبير، وآثارهم في الأرض شاهدة على ذلك، فبالرجوع إلى عصور ما قبل التاريخ حسب التقسيم الأكاديمي خصوصاً العصر النٌيوليتي[18] نجد في قبور هذا العصر المحفوظة بفضل الجفاف احتواءها على آثار الطٌعام وأدوات دالة عليه بشكل وافر قد لا يُفسٌر وجودها إلا في ضوء افتراض أنٌ هناك تصوٌراً من أنٌ الحياة تمتدٌ بعد الموت، أما في العصور التاريخية التي تلت فقد كان للكتابة الهيروغليفية التي ترجعنا إلى حوالي سنة 3200 ق. م آثارٌ واضحة سواء على جدران المعابد أو على ورق البردي أو غير ذلك ممٌا مكٌن لمعرفة كثير من عقائد قدماء المصريين[19]. تبعاً لما بلغنا من كتاب الموتى الفرعوني المحفوظ بالمتحف البريطاني والمكتوب بالهيروغليفية على ورق البردي فإن الشخصية البشرية تتكوٌن من:
(خات) الجسد المادي العضوي أي القابل للتٌحلل والذي يجب حفظه بعد الموت بالتٌحنيط.
(الخو) أي النٌفس أو الروح الأثيرية التي لا تفنى وهي بصورة الشٌخص.
(با) وهي الروح كانت تصوٌر دائماً على شكل طائر برأس أدمي.
في النصوص العديدة لكتاب الموتى توضع (البا) مع (رع) أو (أوزيريس) في السماء أو الآخرة السماوية وتستطيع زيارة الجسد في المقبرة في الوقت الذي يحلو لها.
(كا) صورة مجرٌدة تمتلك خصائص وهيئة الفرد المرتبط بها، كان يعتقد أنٌ مقرها المقبرة مع الجسد لكنها تستطيع التجوال حسب إرادتها وهي تأكل وتشرب وعلى هذا كان يجب وضع القرابين الكافية من الطعام حتى لا تهيم الكا خارج المقبرة، ولعل أوفق ترجمة ل(كا) هي القرين الذي يصاحب الشٌخص في حياته لكنٌه يتحرٌر بعد الممات[20]. إضافة إلى هذه المكوٌنات فقد أعطى المصريون الاعتبار لمميزات إضافية كالقلب (عب) أو(إيب) والاسم (رن) والظٌل (خيبت) والقوٌة الحيوية (سخيم).
من كل هذا يتبيٌن شمولية المعرفة للجانب الغير مدرك من شخصية الإنسان عند قدماء المصريين، وكلها معلومات لا يمكن التوصل إليها إلا عن طريق الوحي المنزّل، ثمّ تمّ تداولها بالحشو والتّحريف وهو ما تتعرّض له الأديان السّماوية مع طول الأمد كما قال تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) الحديد ﴾. والمتتبّع يمكن أن يتأكّد من ذلك بيسر وصدقية عالية، لأنّها نفس المعطيات التي تظهر في الترويج الاعلامي المستعمل من طرف الملحدين، قصدهم من ذلك إثبات بغباوة أنّ الأديان تكوّنت بالتّتالي أي أنّ اللاحق أخذ عن السّابق ويستدلّون بشواهد عن ذلك، متناسين أنّ الينبوع واحد، وأنّهم بذلك في تناقض مع نظريتهم في التطوّر.
النٌفس عند أفلاطون
كان للنٌفس شأن في الفلسفة اليونانية، فسقراط يَعتَبر الإنسان الحقيقي هو النٌفس وليس البدن، ويعود لأفلاطون القول بالأثنية في تركيب الشٌخص، إذ يميٌز بين النٌفس والبدن، وقد فصٌل رأيه في طبيعة النٌفس في كتابه الجمهورية، وأثبت عدم فنائها في كتابه فِيدُونْ، والنٌفس عند أفلاطون عاقلة وتفكٌر لذا فهي تعرٌفت على عالم المُثل قبل حلولها في الجسد، فالمعرفة عنده تشكٌل إحدى الوظائف الأساسية للنٌفس يزيد عليها الإرادة والشهوة، وحتى نعطي مقاربة لمفهوم النفس عند أفلاطون لنقتبس فقرة من كتابه محاورة فيدون حيث يقول[21]: لنبحث المسألة على هذه الصورة تقريباً: هل أرواح الموتى مقرٌها بالإجمال عند هاديس أم ليست هناك؟ الواقع أنه طبقاً للسنٌة القديمة التي ذكرناها آنفاً[22] هناك توجد النفوس التي رحلت من هنا، وإني أصرٌ على أن النفوس تعود إلى هنا من جديد، وتولد مرة أخرى من أولئك الذين ماتوا، وإذا كان الأمر كذلك، وإذا كان الأحياء يخرجون من الموتى، فماذا يمكن أن نقبل إلا أنه يجب أن توجد نفوسنا هناك؟ لأنه لا يمكن بدون شك أن يتحقق ميلاد جديد لنفوس لم تكن موجودة، وهكذا يكفي لإثبات ذلك الوجود، ولإيضاح أن ميلاد الأحياء ليس له على الإطلاق أصل غير الموتى، وعلى العكس إذا لم يكن الأمر كذلك فمن الضروري أن نبحث عن حجة أخرى. انتهى. ويستمر أفلاطون في إيراد حجج عقلية كبرهان الأضداد الذي يستهله بإقرار وجود المتضادات، وإظهار أن الأحسن لا يصير أحسن إلا بعد أن كان أسوأ، وأن الأقوى يأتي من الأضعف، وهكذا، ثمٌ يعمٌم القاعدة على كل شيء، ثم يؤكد بعد ذلك أن حركة الميلاد مزدوجة، فهي من ضد إلى ضدٌه ومن هذا ألأخير إلى الأول، فهي ليست في اتجاه واحد، وهكذا الحياة وضدها الموت. وينتقل إلى برهان التٌذكر الذي يبيٌن فيه أن النفس تحتوي على معارف كامنة فيها لا يمكن أن تكتسبها في هذه الحياة، فيستنتج من ذلك وجود لها قبل حضورها في الجسد، وأن الحقائق الوجودية لا يمكن أن تكون من وحي الأشياء المحيطة بنا التي يكتنفها الغموض، فعلمنا كله ليس سوى فعل تذكٌر، انتهى.
لعلّ استنتاجات افلاطون تتّفق إلى حدّ ما مع فكرة من يقولون بالتّقمّص أو مع فكرة النّشور الرّكن الأساسي للإيمان بالوحي، ورغم اهتمام علماء مسلمين بترجمة ودراسة وانتقاد كثير من الفكر اليوناني كابن سينا والفارابي وغيرهم خصوصا الإشراقيين ومن على منوالهم ممّن تشبّعوا بأفكار الأفلاطونية المحدثة، التي تمّ وضع أسس مدرستها أفلوطين Plotinus الذي يقول أنه تلقى التعاليم الأفلاطونية من أمونيوس ساكاس Ammonius Saccas، أحد أهم فلاسفة الإسكندرية، إذ الأفلاطونية المحدثة مدرسة فكرية فلسفية لاهوتية جمعت بين أفكار كلّ من أرسطو وأفلاطون، مع ذلك فأنّ أهم المراجع آلت إلى مكتبات غربية كما هو معلوم.
النفس عند أهل الكتاب
منذ بداية أوائل الترجمات للكتب المقدسة سواء العائدة للعهد القديم أو الجديد؛ وقع إبهام وخلط في تسمية الجانب غير المادي الذي يدخل في تكوين الإنسان، مرجع ذلك صعوبة المهمّة وخلو اللغة المترجم إليها آنذاك من مصطلحات مقابلة لمصطلح اللغة الأصلية حتّى تفي بمقصد الوحي، كمثال على ذلك، أول ترجمة للتوراة إلى الإغريقية تمٌت حوالي ثلاثة قرون قبل الميلاد؛ في عهد الملك بطليموس الثاني فيلادلفوس Tolomeo II Filadelfo (285-246 ق م)، الملك الثاني من دولة البطالمة في مصر، ويطلق على هذه التٌرجمة السٌبعينية Septuaginta أو ترجمة الإسكندرية، وقد ترجمت إلى العربية كما يذكر إبراهيم بن عمر بن حسن الرٌباط بن علي بن أبو بكر البقاعي (المتوفى سنة 885 هـ)، إذ يقول في تفسيره ”نظم الدٌرر“[23] الآيات 31 إلى 35 من سورة البقرة ما نصٌه: ( اعلم أن التوراة ثلاث نسخ مختلفة متقاربة المعنى إلا يسيراً، إحداها تسمى توراة السبعين، وهي التي اتفق عليها اثنان وسبعون حبراً من أحبارهم؛ وذلك أن بعض اليونان من ملوك مصر سأل بعض ملوك اليهود ببيت المقدس أن يرسل إليه عدداً من حفاظ التوراة، فأرسل إليه اثنين وسبعين حبراً، فأخلى كل اثنين منهم في بيت ووكل بهم كتّاباً وتراجمه، فكتبوا التوراة بلسان اليونان، ثم قابل بين نسخهم الستة والثلاثين فكانت مختلفة اللفظ متحدة المعنى، فعلم أنهم صدقوا ونصحوا، وهذه النسخة ترجمت بعد بالسرياني ثم بالعربي وهي في أيدي النصارى؛ والنسخة الثانية نسخة اليهود من الربانيين والقرائين، والنسخة الثالثة نسخة السامرة؛ وقد نبه على مثل ذلك الإمام السمرقندي في الصحائف واستشهد بكثير من نصوص التوراة على كثير من مسائل أصول الدين، وكذا الشيخ سعد الدين التفتازاني في شرح المقاصد والقاضي عياض في كتاب الشفاء وغيرهم...) انتهى.
توجد في العبرية كلمة روخ Rowah مؤنثة، وكلمة نفيش Nephesh مذكرة، وهذه الأخيرة هي التي تقابل كلمة الروح في العربية، ولكليهما لم يكن يوجد آنذاك ما يقابلهما في اللغة الإغريقية، فاستعملت كلمة Psyché (ψυχή) للدلالة عليهما معاً، كما استعملت للدلالة علي العقل mens، وبذلك تكون Psyché تعني الروح والنفس والعقل في حين واحد، حتٌى يومنا هذا لم تستقر دلالة هذه المصطلحات رغم الترجمات المتعددة والمتلاحقة ليبقى أغلب أتباع هذه الديانة أو لنقل التوجه الرسمي للكنيسة يعتبر النفس l'âme والروح l’esprit مرادفين لشيء واحد.
أمٌا باستنطاق الفكر اليهودي فإنٌا نجد في اللغة العبرية كلمات النٌفس والروح والنسمة سواء بسواء مع العربية أمٌا مدلولاتهما فهي غير متطابقة فالروح تقابلها نفيش Nephesh وروخ لها عدة معاني لأن الفكر اليهودي لم يلتزم بالتوراة كمرجعية بل اعتمد مرجعية بديلة هي القابلة Kabala التي تعرٌف بالتُراث الشفوي أو الفكر الغنٌوصي[24]، وحسب هذا الفكر فإنٌ الشٌخص يتكوٌن من جانب مادٌي هو البدن وهو نفسه النفس، وجانب لطيف هو الرٌوح يسمٌونه "نيشمه" Nesham (النٌسمة) وقد تكون هذه التسمية استنباطاً لما ورد في سفر التٌكوين الإصحاح الثاني الآية 7: (وجبل الربٌ الإلهُ آدمَ تراباً من الأرضِ، ونفَخَ في أنفِهِ نَسَمَةَ حياةٍ. فصارَ آدمُ نفسا حَيٌةً.)، و”نسمة حياة“ المضافة بالنٌفخ وجب أن توافق الروح حسب المعتقد الإسلامي، وفي التوراة السامريٌة[25] نجد: (وخلقَ القديمُ الله آدمَ تراباً من الأرض، ونفخ في أنفهٍ نسمة الحياة. وصارَ آدم جسماً حيٌاً)، كما أنّه في ترجمة البروتستانت سنة 1970م في مصر وترجمة الآباء الياسوعيين ”الكاثوليك“ سفر التٌكوين الإصحاح الأول الآية الثانية نجد (وروح الله يرفٌ على وجهٍ المياهِ)، أما في السٌامرية نجد (ورياح الله هابة على وجه الماء)، علماً أن روح وريح لهما نفس الشكل في الكتابة العبرية.
بالعودة إلى الروح نفيش Nephesh حسب ”القابلة“ فهي تتكوٌن من خمس مستويات أو وظائف هي:
(نفش Nephesh)،(الغريزة)، الطبقة السفلى من الروح وترتبط بغرائز الشخص الجسدية وتطلق على النفس كذا على الشخص، وتعني الدٌم، مجبولة على الأخذ دون العطاء.
(روخ Rowah)،(الانفعال)، طبقة متوسطة من الروح المسؤولة عن التمييز بين الخير والشر يطلق على النسيم وعلى النٌفَس كذا على الروح، تتجاوب مع الانفعال، وتتصف بالأنانية.
(نيشامه Nesham)،(التعقل)، المسؤولة عن تميز الإنسان عن باقي الكائنات الدّنيا، تطلق على النفس كذا على الكائن الحي، تتجاوب مع الفكر، تقبل الأخذ بإرادة ذاتية، لكنها تمتنع عن العطاء طوعا بقناعة وضمير.
(خيا jai)،(الإرادة)، الكائن الحي، تبثٌ الحياة في كل الأعضاء، وهويتها الإرادة الحرة التي يمكن أن تتعامل مع الخير والشر.
(يخيدة iejid)،(السمو)، الطبقة العليا من الروح، تمثل الجانب الفردي في الشٌخص، فكل أعضاء البدن أزواج باستثناء يخيدة، وهي تتجاوب مع الإدراك الواعي والكمال والاتحاد مع اللاهوت.
رغم أنٌ التوجه العام لدى أهل الكتاب على الأخص المتديٌنين منهم هو أنٌ الشٌخص ثنوي التكوين من جانب مادي هو البدن وجانب روحي قد يقصد به النفس أو العقل، إلا أنٌ أصوات تتعالى من حين لآخر لتثبت أن الكتاب المقدٌس يعرٌف مكوٌنات الشٌخص بالثٌالوث الروح والنفس والبدن، ومن أشهر مَن وفٌى الموضوع بالدعوة والكتابة، رجل الدين البروتستانتي والكاتب وطشمن ني Watchman Née الصيني الجنسية (1903- 1972م ) حيث من أشهر كتبه ”الإنسان الروحي“ L’homme spirituel، كما أنٌ المناقشة في أندية الشٌبكة على الأنترنت تسير نحو هذا التٌوجه، ونسوق ما يدلٌ على ذلك من الموسوعة المسيحية العربية في تعريف الروح حيث تقول:
الروح كائن غير مادي قد يلبس أو لا يلبس جسداً (وتَبتَهِـجُ رُوحي بِاللهِ مُخَلِّصي لوقا 1: 47)، (الله رُوحٌ، وبالرُّوحِ والحَقِّ يَجِبُ على العابِدينَ أنْ يَعبُدوهُ يوحنا 4: 24)، وقيل عن الملائكة الذين لا جسد لهم أنهم: (أما هُم كُلُّهُم أرواحٌ في خدمَةِ اللهِ يُرسِلُهُم مِنْ أجلِ الّذينَ يَرِثونَ الخَلاصَ. العبرانيون 1: 14). ويتكون الإنسان من ثلاثة عناصر: روح ونفس وجسد. وهذا ما يؤيده قول الرسول بولس (وإلهُ السَّلامِ نفسُهُ يُقدِّسُكُم في كُلِّ شيءٍ ويحفظُكُم مُنزَّهينَ عَنِ اللَّومِ، سالِمينَ روحًا ونفسًا وجسدًا، عندَ مجيءِ ربِّنا يسوعَ المَسيحِ.1 تسالونيكي 5: 23)، فالجسد هو الجزء المادي في تكوين الإنسان أما النفس فهي عنصر الحياة الحيوانية، وفيها يشترك الإنسان مع الحيوان عليها يتوقف الفهم والحركة والحساسية، وهي تتوقف عند الموت. والروح هي العقل، العنصر الخالد، مصدر الإرادة والضمير، خلق الله الإنسان بإعطاء حياة للجسد الذي صوره ثم بخلق روح عاقلة وهبها للإنسان (وجبَلَ الرّبُّ الإلهُ آدَمَ تُرابًا مِنَ الأرضِ ونفَخ في أنْفِه نَسَمَةَ حياةٍ. فصارَ آدمُ نفْسًا حيَّةً، التكوين 2: 7)، وعند الموت ((يرجع التراب (الجسد) إلى الأرض كما كان وترجع الروح إلى الله الذي أعطاها (فيَرجعَ الجسَدُ إلى الأرضِ حَيثُ كانَ، وترجعَ الرُّوحُ إلى اللهِ الذي وهَبَها، الجامعة 12: 7)، النفس الحية في الحيوان (فخلقَ اللهُ الحِيتانَ الضَّخمةَ وكُلَ ما دَبَ مِنْ أصنافِ الخلائِق الحَيَّةِ التي فاضَت بِها المياهُ، وكُلَ طائرٍ مُجنَّحِ مِنْ كُلِّ صِنفٍ. ورأى اللهُ أنَّ هذا حَسَنٌ، التكوين 21:1) و(وقالَ اللهُ: (لِتُخرِج الأرضُ خلائِقَ حَيَّةً مِنْ كُلِّ صِنْفٍ: بهائِمَ ودَوابَ ووُحوشَ أرضٍ مِنْ كُلِّ صِنفٍ، فكانَ كذلِكَ. التكوين 1: 24) هي مجرد النفس الحيوانية وهي نفسية ومادية في طبيعتها وتهلك مع الجسد، وهي التي قيل عنها لا تأكلوا دم جسد ما لأن نفس كل جسد هي دمه، (فنَفْسُ الجسَدِ هيَ في الدَّمِ، ولِذلِكَ جعَلتُهُ لكُم على المذبَحِ لِتُكفِّروا بهِ عَنْ نُفوسِكُم، لأنَّ الدَّمَ يُكفِّرُ عَنِ النَّفْسِ. اللاويين 17: 11) و(فنَفْسُ كُلِّ جسَدٍ هيَ في دَمِهِ، ولذلِكَ قُلتُ لبَني إِسرائيلَ: لا تأكلوا دَمَ جسَدٍ ما، لأنَّ نفْسَ كُلِّ جسَدٍ هيَ دَمُهُ. فكُلُّ مَنْ أكلَهُ أقطعُهُ مِنْ بَينِ شعبهِ. اللاويين17: 14) و(لكنْ لا تأكُلوا الدَّمَ، فهوَ نفْسٌ والنَّفْسُ لا تُؤْكَلُ معَ اللَّحمِ. التثنية 12: 23). أما النفس الحية في الإنسان (التكوين 2: 7) فهي عنصر اسمي، هي النفس العاقلة التي نفخها الخالق في الإنسان وجعلها على صورته، ولهذا ففي كثير من الأحيان تستعمل لفظة (الروح) في الكتاب بذل نفسه، ولفظة النفس بدل الروح، ولهذا يعتقد كثيرون أن هناك عنصرين فقط في الإنسان الجسد وما يشمل النفس الإنسانية والروح.[26]
يتبيّن من هذا، أنّ الاتجاه المستقبلي يتوجّه إلى تبنّى التّثليث، لأنّ التّحقيق في الكتابات المقدّسة يعرف كثير من الإقبال ولم يعد حكرا على فئة محدودة ومعيّنة من رجال الدّين التي كانت إلى زمن قريب تحيط نفسها بنوع من القداسة لا يجرأ أحد على مناقشتها، كما أنّ الاتجاه الروحاني والاتّجاه نحو الأرواحية في العصر الحاضر، ومحاولات التّعرّف على النّفس بوسائل علمية وتجريبية كلّها بحوث من شأنها إبراز معلومات قد لا تكون متوقّعة لدى المنكرين، آخذين بعين الاعتبار أنّهم سرعان ما سيخلّقون حجج لدحضها كما هو الحال على مدى التّاريخ، من هذا يكون منهج الرّجوع إلى علم الأقدمين حتّى إن لم يكن للتبني لعدم صفاء الوحي من شوائب الضّلالة، فلإخضاعه للمقارنة والاستفادة من معطياته التي يوجد فيها شبه كبير لافت للنّظر حسب ما تفرز الدّراسات الجديدة.
النٌفس عند عرب الجاهلية
للعرب في جاهليتهم؛ ونعني أهل الفترة الذين سبقوا البعثة، مذاهب شتّى في النٌفس، رغم قلٌة الأخبار التي وصلتنا، معلوم أنٌ جلٌهم كان من عَبَدةِ الأصنام، الأمر الذي لا ينفى وجود معتقدات تتشبٌه بما ساقت الديانات السٌماوية أو ما اعتنقت شعوب سالفة، كون تواجدهم الجغرافي كمعبر تجاري وفي نفس الوقت ثقافي بين مصر القديمة وبلاد ما بين الرّافدين ومن ثمٌ الاحتكاك المباشر بإمبراطوريات أشرفت على حدود الجزيرة العربية، كل ذلك أسهم في اعتناق وفي اختلاق معتقدات من شأنها تفسير ظاهرة الموت والحياة ليكون لهم داخل حالة أمٌيتهم نظرة ميتافيزيقية لا يمكن أن تتولٌد بالتلقائية.
منهم من زعم أنٌ النٌفس يراد بها الدٌم الذي في جسم الإنسان لا غير، من ذلك اشتهرت المقولة سالت نفسه بمعنى سال دمه، ولا أدلٌ على ذلك من قول الشاعر السموأل:
تسيل على حدٌ السيوف نفوسنا وليس على غير الظٌبات[27] تسيل
لم أجد ما يؤكٌد هل سمٌي الدٌم نفساً لأنٌ النفس تخرج بخروجه فنكون أمام فكرة إلحادية تتفق والنٌظرة المادية من أنٌ الإنسان ليس سوى الماثل ببدنه، كما قال تعالى: ﴿ وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24) الجاثية ﴾، أم تعدٌى الأمر إلا تبنٌي العقيدة اليهودية في الدٌم حيث يعتبر الدٌم موطن النٌفس أو أنٌه النٌفس ذاتها. ومن الآراء من قال؛ إنٌ النٌفس طائر منبسط في جسم الإنسان فإذا مات أو قتل يظل طائف به يصرخ على قبره مستوحشاً، ويسمون هذا الطائر هامة أو صدى كما جاء في قول لبيد[28] يرثي أخاه أربدَ:
فليس الناسُ بعدَكَ في نَقيرٍ ولا هُمْ غيرُ أصْداءٍ وهامِ
وكانوا يزعمون أن هذا الطائر يكون صغيرًا ثم يكبر حتى يكون كضرب من البوم وهو أبدًا مستوحش ويوجد في الديار المعطلة ومصارع القتلى والقبور، وأنها أي النفس لم تزل عند ولد الميت ومخلفه لتعلم ما يكون من بعده فتخبره، وزعموا أنه إذا قتل قتيل فلم يدرك به الثأر خرج من رأسه طائر كالبومة، وهي الهامة، فيصيح على قبره أسقوني، أسقوني، فإن قتل قاتله كف عن صياحه، وكان بعضهم يقول إن عظام الموتى تصير هامة وتطير. وذكر أن الصدى حشو الرأس، ويقال لها الهامة أيضًا، أو الدماغ نفسه، ومنهم من اعتبر أنٌ الطائر هو الدماغ إذا مات الشٌخص خرج من أنفه في شكل هامة، أمٌا الصدى فهو ما تبقى من الميت في قبره حسب اعتقاد آخر، وكان من يزعم أن الإنسان إذا مات أو قتل اجتمع دم الدماغ أو أجزاء منه فانتصب طيرًا هامة، وقد نهى رسول الله عن هذا المعتقد، فنجد في صحيح مسلم[29] عن أبي هريرة أنٌ رسول الله ﷺ قال : ﴿ لا عدوى ولا هامة ولا نوء ولا صفر ﴾. ومنهم من كان يقول بالرجعة[30]، أي الرجوع إلى الدٌنيا بعد الموت ويكون في رجوعه حيٌاً كما كان، وحتى لا نخوض أكثر مما يلزم في معتقدات العرب في جاهليتهم يخصنا فهمهم للنفس والروح، في هذا الشأن يقول الدكتور جواد علي[31]: ونظرًا إلى قلة ما لدينا من موارد عن الروح والنفس وعلاقتهما بالجسد، عند الجاهليين، فإننا لسنا في وضع نستطيع فيه أن نتحدث عن رأي عموم الجاهليين في تركيب الإنسان. هل هو من "جسد" و"روح"، أو "جسد" و"نفس" أي ثنائي التركيب، أو أنه من "جسد" و"روح" و"نفس"، أي ثلاثي التركيب. فقد رأينا أنهم يجعلون الروح والجسد شيئًا واحدًا أحيانًا، ويفرقون بينهما أحياناً أخرى، ولكننا نستطيع أن نقول إن غالبيتهم كانت ترى أن الإنسان من جسد، هو الجسم، أي مادة، ومن شيء لطيف ليس بمادة هو الروح أو النفس، وهما مصدرا القوى المدركة في الإنسان ومصدرا الحياة، وأن بانفصالهما عن الجسد، أو بانفصال الجسد عنهما يقع الموت.. انتهى.
من هذا يكون الاعتقاد السائد عندهم اعتبار الشٌخص متكون من جانب مادي هو الجسم أو النٌفس وجانب لطيف غير مادي هو النٌفس أو الروح، ولقد أثٌر هذا الإشكال في استعمال اسمي النفس والروح بشكل غير دقيق ليكون له تبعات بعد الإسلام كما سيتبين.
ملخّص القول أنّ العرب في جاهليتهم كانوا يمارسون خليط من المعتقدات بما في ذلك التّوحيد الذي هو من ملامح الدّيانة الابراهيمية أو ما اعتنقوه من ديانات كتابية أخرى، إلاّ أنّهم كانوا قلّة، فقد وردت أخبار عنهم كما يقول توفيق برو[32]: ولهذا عزف بعض رجال العرب عن ديانتهم الوثنية، قبيل ظهور الإسلام، واتخذوا لأنفسهم ديانة عرفت باسم "الديانة الحنيفية"، ومعنى الكلمة في الأصل "الانحراف عن الوثنية" انتهى. كما أنّ المسعودي في تاريخه مروج الذّهب[33] أورد عدد من العرب الموحّدين في الجاهلية، إذ يقول: وقد كان بين المسيح ومحمد صلى اللّه عليهما وسلم في الفترة جماعَة من أهل التوحيد، ممن يُقِر بالبعث، وقد اختلف الناس فيهم: فمن الناس من رأى أنهم أنبياء، ومنهم من رأى غير ذلك.
مكونات الشخصية البشرية
من اليسير التعرف على ثلاث مدارس فكرية في الأديان والفلسفة والثقافات الإنسانية عموماً، تتصارع بشكل مستميت كي يكون الصواب حكراً لها بعد أن حدٌدت مكوٌنات الشٌخصية البشرية وفق توجهاتها وهي:
الوجهة المادية: تقول أنٌ الشيء الوحيد الذي يمكن القول بوجوده هو المادة وفي حالة الإنسان هو البدن، وأنٌ المادة أوٌلية وأن العقل ثانوي، فالتٌعقل نتاج وظائف الدٌماغ، وهذا الأخير هو المسبب لكل الأحوال النفسية المعروفة، أما ما كان منها غير معروف فلأن العلم لم يكتشف كل وظائف الدماغ بعد.
الوجهة الثنوية: تقول أنٌ الإنسان له جانب مادي مدرك وجانب خفي يعبٌر عنه بالنٌفس أو الروح، وقد هيمنت هذه الوجهة منذ القدم، وتأثٌرت بذلك الديانة المسيحية والفكر الغربي عموماً وبشكل تتابعي تبنٌاها الفكر الإسلامي.
الوجهة التثليثية: وتقول أنٌ الإنسان كيان له روح ونفس وبدن، والفكرة مستنبطة من الوحي ويقول بها محقٌقون من كل الأديان من حين لآخر، غير أنها لم تظهر على الفكر الرّسمي المعتمد، ولعل سبب ذلك اختلاف أصحاب هذا التّوجّه في تحديد وظائف كلّ من النّفس والرّوح وطبيعتيهما.
التٌعرٌف على النٌفس والروح
عسى أنٌ الباحث عن كنه النٌفس والروح فيما سطٌر الأوٌلون والآخرون لن يسعفه اليقين، فالعقل مهما أدرك ومهما رتٌب واستنبط من مدركات لن يتأتٌى له إدراك ذاته، ثمٌ إنٌ الموضوع ليس من إفراز فكر بل هو من إخبار وحي، وإرجاع الخبر لغير المخبر لن يزيد عن كونه وهماً ظنياً مهما نُسٌق ومهما رتٌب منطقياً يظلٌ صوابه عين فساده، وتكون نتيجته ابتعاده عن الحق وتأييده للظن. المعمول به في أكثر الأحوال من طرف المتديّنين، تجميع ما أخبر به الوحي ونبذه في سلٌة ما يسمى الغيبيات، خصوصاً عندما تعجز بصيرة العقل عن التفسير والإدراك، بينما المرغوب فيه هو استعمال بصائر الوحي بنفس الثٌقة والتٌأييد المعتمد في استنباطات العقل وتجارب العلم، لأنّ الغاية إظهار الحق وتمييز الصواب، فهل من حق بعد الحق الذي أنزل الله وبيٌن رسله، ألم يقل ربّ العالمين: ﴿ وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) الحاقة ﴾، أمّا علم اليقين وعين اليقين فأمران أجّلهما ربّ العزّة للآخرة، لكن الاستنباط من الوحي يشترط أن يعتمد بآلية تدقيق وتحقيق، وليس كمرجعية تبعية وانتماء لما كدٌسه التراث من اجتهادات، على هذا المنوال سنتوسٌم معالم النٌفس والروح باستنباط ما قد بلغ من ذلك، والعرض على كتاب الله وسنّة رسوله بموضوعية تستلزم إبراز الأقوال خصوصا ما تشاكس منها وحجّية كل مدّعي، وهي في جميع الحالات اجتهادات يراد منها فهم أوفق لما لا قدرة على العقل في تبيانه، ولا للحواس امكانية لجسّه، ولا نقول لمن نأى عن الصّواب أنّه مخطئ، لأنّ الجميع حجّيتهم من الوحي بفهم غير متوافق.
عالم الأمر
رغم أنٌ المصطلح لم يرد في البدايات الإسلامية الأولى، إلاٌ أنٌه سواء كان مقتبساً أو مستنبطا، فقد لاءم ما جاء في كتاب الله من أنٌ لله الخلق والأمر، ﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54) الأعراف ﴾، وفي صحيح البخاري[34]: قال ابن عُيينة: ”بيٌن لله الخلق من الأمر لقوله تعالى ألا له الخلق والأمر“. وقال البيهقي[35] في شعب الإيمان: ”فَفَصَلَ بَيْنَ الْمَخْلُوقِ وَالْأَمْرِ، وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ مَخْلُوقًا، لَمْ يَكُنْ لِتَفْصِيلِهِ مَعْنًى“، وكما جاء في معجم ابن المقرئ[36]: عن سفيان بن عُيينة يقول: ”الخلق خلقه والأمر كلامه“.
يتبيٌن ممّا سبق أنٌ عالم الخلق غير عالم الأمر، فعالم الخلق هو عالم الأشياء حتٌى لو خلقت هذه الأشياء بأمر كن، ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) النحل﴾، بينما عالم الأمر وإن كان مصدره أمر كن كذلك، ﴿ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) البقرة﴾، فهو عالم الرٌوح ولا نقول الأرواح لأن الأمر من عند الله منه بدأ وإليه يعود،﴿ أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) الدخان ﴾، كذا: ﴿ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنْ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) السجدة ﴾، كذا: ﴿ وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) القمر﴾.
مع كون عالمي الأمر والخلق قد أوجدا بكلمة الله القدير ”كن“، فطبيعة كل منهما مختلف عن الآخر، فعالم الخلق بشقيه المرئي وغير المرئي هو العالم الذي يدرك بالحواس مباشرة أو بواسطة ما، والذي يحمل في ذاته متناقضات منها الخير والشر بنسب متفاوتة، لذا قال رب العزة: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) الفلق﴾. أما عالم الأمر فهو عالم الروح، وعالم كلمات الله التامة، وعالم القرآن، عالم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، مع ذلك فالعالَمان ليسا بمعزولين تمام العزلة عن بعضهما، فالروح قد يتمثل في عالم المادة، والمادة ذاتها تحوي في أدق أجزاء ذراتها طاقة وقدرة يستحيل أن تكون من عندها، كما يقول تعالى: ﴿ لِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120) المائدة﴾. إضافة إلى العالمين، توجد تقسيمات أخرى للعوالم غير أنها لا تحظى بمرجعية من الكتاب والسنة، فمثلا أبو حامد الغزالي في إحياء علوم الدين يميز بين عالم الملك وعالم الملكوت وبينهما عالم الجبروت، ونفس ذلك قاله ابن عربي وكثير من الصوفية.
من النٌاس من يعتقد أنٌ الإنسان روح ونفس وبدن، وأنٌ الجن روح ونفس دون بدن، وأن الملائكة روح دون نفس ودون بدن، ولا أجد لهذا الاعتقاد دليلاً نقلياً اللهم اختلاف أهل العلم في معنى الروح، أمٌا الثابت هو أن الملائكة والجن والناس جميعاً من عالم الخلق، أخرج مسلم[37] وغيره من حديث عائشة عليها السّلام: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ خُلِقَتْ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ، كما أن الله عز وجل يقول: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ قَدِير (1) فاطر﴾، فكون الملائكة ”رسلا“ أي يبلغون أمر الله فتكون لهم في هذه الحالة صفة الروح، أما ”يزيد في الخلق“ تدل أنهم مخلوقات ممن خلق، والله أعلم، عالم الخلق إذاً رغم اتساع المحسوس منه لا تزال النٌسبة الهائلة منه مستورة، ﴿ فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لا تُبْصِرُونَ (39) الحاقة ﴾. يقترب من هذا المُدرَك ما يقول الفخر الرازي[38]: ”( أَلاَ لَهُ الخلق والأمر) وهو إشارة إلى أن كل ما سوى الله تعالى إما من عالم الخلق أو من عالم الأمر، أما الذي هو من عالم الخلق، فالخلق عبارة عن التقدير، وكل ما كان جسماً أو جسمانياً كان مخصوصاً بمقدار معين، فكان من عالم الخلق، وكل ما كان بريئاً عن الحجمية والمقدار كان من عالم الأرواح ومن عالم الأمر، فدل على أنه سبحانه خص كل واحد من أجرام الأفلاك والكواكب التي هي من عالم الخلق بملك من الملائكة، وهم من عالم الأمر والأحاديث الصحيحة مطابقة لذلك، وهي ما روي في الأخبار أن لله ملائكة يحركون الشمس والقمر عند الطلوع وعند الغروب“ انتهى.
معلوم أنٌ القرآن كلام الله: ﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6) التوبة﴾، وأنٌه روح، ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) الشورى﴾، وأنٌ الروح من عالم الأمر ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85) الإسراء﴾. ليس صحيحا الفهم من أمر ربّي بمعنى من شأن ربّي، بل من عالم الأمر، لذا لا يجوز أن يقال أنه مخلوق، بل هو كما قال ابن عبٌاس رضي الله عنهما: ”منه بدء وإليه يعود“ أخرجه البيهقي[39]: عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: حَمَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا جِنَازَةً، فَلَمَّا وَضَعَ الْمَيِّتَ فِي قَبْرِهِ، قَالَ لَهُ رَجُلٌ: اللَّهُمَّ رَبَّ الْقُرْآنِ اغْفِرْ لَهُ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: مَهْ، لَا تَقُلْ لَهُ مِثْلَ هَذَا، مِنْهُ بَدَأَ وإليه يَعُودُ، انتهى، ثمٌ إنٌ الكلام من صفات الله، والصٌفة لا تنفصل عن الموصوف ما يعبّر عنه علماء الكلام بوحدة الصّفاة، وقد كان للإمام أحمد بن حنبل موقف معلوم ومشهور في هذا الشأن.
تداخل عالم الأمر مع عالم الخلق ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنْ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12) الطلاق﴾، يدلٌ على عظمة التدبير الإلهي، وأنٌ كل شيء خاضعٌ لقهره طوعاً أو كرهاً وأن الأمر قد يكون سنٌة مستمرة؛ ما يعبّر عنه بالقوانين الفزيائية، كما يكون مخصوصاً، وفي الحالة الأخيرة قد يكون مباشراً كأمره تعالى: ﴿ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) الأنبياء﴾، وقد يكون بواسطة من اصطفى من خلقه، ﴿ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) القدر﴾. ورغم تعدّد حالات الأمر إلاّ أنّ الوحي يعبّر عنه بالمفرد كقوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لاَّ يتَكَلَّمُونَ إلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) النّبأ﴾. وقد اختلف أهل التّأويل في المراد بالرّوح في الآية فقيل هو ملك أعظم الملائكة خلقا قاله ابن عبّاس، وقيل هو جبريل عليه الصّلاة والسّلام قاله الضّحاك، وقيل خلقٌ على صورة بني آدم يأكلون ويشربون قاله مجاهد، ولا يمكن جمع هذه الأقوال في صواب واحد إلاّ إذا اعتبر والله أعلم أنّ الرّوح وحدة في كثرة وكثرة في وحدة وأداة وصل بين شتّى المخلوقات والوحدة المطلقة المقدّسة كما سنبيّن فيما بعد.
صورة النٌفس
النٌفس مدركة عند الجميع ولا تتطلٌب كبير عناء للتٌعرف عليها، فهي تلك الصٌورة أو الشبح الطّيفي التي تمثٌلنا عندما نكون في حلم ما، وكونها ذات لطيفة فهي تتميٌز عن البدن الكثيف بقدرات غير مألوفة، كالانفلات من الجاذبية وكالتٌحرر من قيود الزمان والمكان، إلى غير ذلك من الخصوصية الملحوظة عند كلٌ منٌا أثناء الاستغراق في الرؤى والأحلام، وكان لسيٌدنا عليٌ بن أبي طالب عليه السلام تبيان للأمر؛ فقد جاء في تفسير ابن أبي حاتم[40]: عَنْ سُلَيْمِ بْنِ عَامِرٍ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، قَالَ: ”الْعَجَبُ مِنْ رُؤْيَا الرَّجُلِ، إِنَّهُ يُبِيتُ فَيَرَى الشَّيْءَ لَمْ يَخْطُرْ لَهُ عَلَى بَالِهِ فَتَكُونُ رُؤْيَا كَأَخْذٍ بِالْيَدِ، وَيَرَى الرَّجُلُ الرُّؤْيَا فَلا تَكُونَ رُؤْيَاهُ شَيْئًا، فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: أَفَلا أُخْبِرُكَ بِذَلِكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ يَقَوْلُ اللَّهُ تَعَالَى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَاللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ كُلَّهَا، فَمَا رَأَتْ وَهِيَ عِنْدَهُ فِي السَّمَاءِ فَهِيَ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ، وَمَا رَأَتْ إِذَا أُرْسِلَتْ إِلَى أَجْسَادِهَا تَلَقَّتَهَا الشَّيَاطِينُ فِي الْهَوَاءِ فَكَذَبَتْهَا وَأَخْبَرَتِهَا بِالْأَبَاطِيلِ، فَكَذَبَتْ فِيهاَ“، فَعَجِبَ عُمَرُ مِنْ قَوْلِهِ.
التعرٌف على النفس أقام علماً ما ترك من صغيرة ولا كبيرة إلا تتبٌعها، وأنشأ مذاهب ومدارس امتزجت فيها الفلسفة والتجارب العلمية وكل ما تفرز الملاحظة والمقارنة للسلوك الإنساني السوي وحتى الشاذ، ولا يمكن تحديد بدايات لهذا العلم، لأنه رافق الفكر الإنساني في كل المراحل، ورغم توسٌعه واختصاصاته فلا تزال كثير من الظواهر مستعصية عليه لم يتمكّن من تفسيرها، مما أفسح المجال لعلم جديد يختص بالظواهر النفسية الخارقةLa parapsychologie في الثلاثينات من القرن الماضي، فإذا كان علم النفس الرسمي يتناول كل شيء عن النفس عدا حقيقة النفس مبرٌراً موقفه بعدم الاعتراف بما هو غير محسوس ولا يخضع للمراقبة والتجربة، فإن ”علم نفس الخوارق“ مزج بين المعارف القديمة والأسلوب العلمي الحديث ليفسٌر حالات يتمٌ فيها التحكٌم في النٌفس وهي على صورتها الأثيرية أو اللٌطيفة، كظاهرة ”الطّرح النجمي“ Projection Astral وهي تجربة يخرج فيها صاحبها عن بدنه المادي ليرحل في مستويات أخرى ببدنه الخفيف أو بدنه من الطاقة بشكل واع بحيث يبقى مرتبطاً ببدنه الكثيف برباط يسمى الحبل الفضٌي، والظاهرة لقيت اهتماماً كبيراً في الغرب خصوصاً بعد ظهور ”حركة العصر الجديد“ «Nouvel âge»، فبهذا نكون أمام معرفة معاصرة للنفس ممثلة في الجسم النجمي ويقابلها عند الهنود ما يسمّى بلينكا شاريرة linga sharira[41].
سواء صدٌقنا أم لم نصدٌق بما كتب وما نشر عن ظاهرة ”الطّرح النجمي“ حريٌ بنا أن نأخذ التجارب في الاعتبار ولو لم نقتنع بالتفسير المتبنّى من طرف أصحابها، مستحضرين ما في تراثنا من ظواهر وصلت حد التواتر كالكشف، والتخاطب، وعدا ذلك المصنٌف من جملة كرامات الأولياء، مع اعتماد التّبيان والتحذير من أن الخوارق ليست حكراً للصالحين، بل أنّ أئمة الظلمة يحصلون على ما يشبه تلك النتائج بممارساتهم السحرية وطقوسهم في تسخير قوى الطبيعة، فالعلم عطاء ربّاني شاءت حكمته أن لا يكون حكرا لفئة دون أخرى والعاقبة للتّقوى، كما يقول تعالى: كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاء وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) الإسراء.
صورة الروح
سبق التبيان أنٌ الروح من عالم الأمر والسؤال المطروح من العنوان، هل توجد إمكانية أن يكون للأمر صورة؟، قبل الإجابة حريٌ أن نستعرض ما بلغنا من حالات كان فيها للأمر صورة.
الحالة الأولى، الأمر الذي أرسل إلى سيدتنا مريم عليها السلام: ﴿فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) مريم﴾، من المفسٌرين من قَال: تمثل لها روح عِيسَى في صورة بشر فحملته، ومنهم من قال: أرسل إليها فيما ذُكر لنا جبريل. ومهما يكن فالروح من أمر الله: ﴿رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) غافر﴾، وقد سبق أنٌ الأمر قد يكون مباشراً أو بواسطة الرسل من الملائكة: ﴿يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2) النحل﴾، أورد الطٌبري في تفسيره[42]، عن مجاهد، في قول الله ( بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ) إنه لا ينزل ملك إلا ومعه روح، وأورد القرطبي في تفسيره[43] أَنّ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: الروح: خلق من خلق الله على صور بني آدم، وما نزل ملك من السماء إلا ومعه واحد من الروح، وفي تفسير ابن أبي حاتم بصيغة َ: الرُّوحِ، أمر مِنَ أمر الله وخلق مِنْ خلق الله، وصورهم عَلَى صورة بني آدم، وما يَنْزِل مِنَ السَّمَاء ملك إلا ومعه وَاحِدٍ مِنَ الروح، ثُمَّ تلا:” يَوْم يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا “.
الحالة الثانية، القرآن بوصفه روح بلغنا أنه يكرّمُ صاحبه يوم القيامة كما ورد في مختصر قيام الليل للمَروَزي[44]: عن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ: إِنَّ الْقُرْآنَ لَيَلْقَى صَاحِبَهُ حِينَ يَنْشَقُّ عَنْهُ قَبْرُهُ، فَيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُنِي؟ فَيَقُولُ: لَا أَعْرِفُكَ، فَيَقُولُ: أَنَا الْقُرْآنُ الَّذِي أَظْمَأْتُ نَهَارَكَ، وَأَسْهَرْتُ لَيْلَكَ، وَإِنَّ كُلَّ تَاجِرٍ مِنْ وَرَاءِ تِجَارَتِهِ، وَإِنَّكَ الْيَوْمَ مِنْ وَرَاءِ كُلِّ تِجَارَةٍ، فَيُوضَعُ الْمُلْكُ بِيَمِينِهِ، وَالْخُلْدُ بِشِمَالِهِ، وَيُوضَعُ تَاجُ الْوَقَارِ عَلَى رَأْسِهِ، .. الحديث، كما أنّ لبعض سور القرآن صور يوم القيامة، ففي صحيح مسلم[45] وغيره من حديث أَبي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: اقْرَءُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ اقْرَءُوا الزَّهْرَاوَيْنِ الْبَقَرَةَ وَسُورَةَ آلِ عِمْرَانَ فَإِنَّهُمَا تَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أَوْ كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ تُحَاجَّانِ عَنْ أَصْحَابِهِمَا اقْرَءُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ وَلَا تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ[46] .
الحالة الثالثة، معلوم أن الموت ليست مخلوقاً بل أمرٌ يقوم به ملائكة، ﴿ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) الأنعام ﴾، إلا أنه يوم القيامة يجاء بالموت في صورة كبش، أخرج الإمام مسلم في الصحيح عن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ[47]: يُجَاءُ بِالْمَوْتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُ كَبْشٌ أَمْلَحُ فَيُوقَفُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَيُقَالُ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ وَيَقُولُونَ نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ قَالَ وَيُقَالُ يَا أَهْلَ النَّارِ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا قَالَ فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ وَيَقُولُونَ نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ قَالَ فَيُؤْمَرُ بِهِ فَيُذْبَحُ قَالَ ثُمَّ يُقَالُ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ و يَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ.
الحالة الرابعة، وهي أن روح البشر لها هيئة طائر بعد مفارقتها الجسد، فقد ثبت عن رسول الله ﷺ: أن الشّهداء، أرواحهم كطير خضر تسرح في الجنة في أيها شاءت، ثم تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش، هذا القول لعبد الله ابن مسعود رضي الله عنه كما أخرجه ابن ماجة[48] في سننه والطبري وغيره، أو: أرواح الشّهداء في صور طير بيض، كما قال قتادة حسب ما ورد في تفسير الطّبري، وقد اختلفت الصّيغ عند أهل التفسيّر وأهل الحديث لكنّها لم تخرج عن كطير خضر أو في طير خضر أو في جوف طير خضر. أما أرواح المؤمنين فقد أوردت الأخبار أنها في جوف طير خضر كالزرازير، يتعارفون ويرزقون من ثمر الجنة، أو طير بيض أو صفر، أما أرواح غير المؤمنين فقد جاء في تفسير الطّبري[49] عن السديّ، قال: بلغني أن أرواح قوم فرعون في أجواف طير سود تعرض على النار غدوّا وعشيًّا، حتّى تقوم الساعة، انتهى.
كما سبق التّبيان أنّ قدماء المصريين كانوا يعتبرون ”البا“ أي الرّوح، طائر بوجه أدميّ، ولا علم حتّى ننفي أو نثبت سوى ما قال ربّ العالمين: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (85) الإسراء، غير أنّ كثير من القرائن تدلّ على أنّ الرّوح من عالم الأمر إلاّ أنّه متى شاء الله يتمثّل بصورة كما هو الحال في عالم الخلق.
النفس في المحيا والممات
حال الناس غريب مع الموت، فمنهم غير آبه كأنه لن يلقاه أبداً، ومنهم من يخاله سينقضٌ عليه كل حين فيعيش فزعاً ورعباً، لا هذا ولا ذاك أصابا التقدير، بل هي الغفلة التي تدفع إلى الركون مع اللهو واللعب وعدم التزوٌد بالفوائد والتٌعلٌق بما هو زائل، رغم أنٌنا نعيش الوفاة كل يوم في جل الأحوال كما نعلم من علم ربٌنا: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (60) الأنعام﴾، فما زال الشعور العام أنه من مات هلكت نفسه وصارت إلى الفناء على منوال المشاهَد الذي حلٌ ببدنه، وهو شعور لم يأت به الإسلام ولا هو منسجم مع العقيدة في الإيمان، وقد سبق لرسول الله ﷺ كما ورد في بعض كتب السيرة أنه في بداية الدٌعوة وذلك لما قال الله له وأنذر عشيرتك الأقربين، فقال لهم فيما قال: والله الذي لا إله إلا هو، إني رسول الله إليكم خاصة وإلى الناس عامة، والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبن بما تعملون[50]، لذا استطلاع حال النفس في الوفاة الذي يصاحب الموت يجب أن يقارن ويستنبط من أحوال النٌفس عند المنام، فمن أبرز خصائص النفس في النوم عدم الإحساس بمرور الزمن الذي تخضع له في اليقظة، وهذا ثابت في قصة أهل الكهف كذا في الذي أماته ربه مائة عام ثمٌ بعثه، كذا يوم يقوم الأشهاد، ﴿ يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52) الإسراء﴾، كما أن النفس عند الوفاة سواء بالنوم أو الموت تحتاج لطاقة حسب لغة العصر يعبٌر عنها بالنٌور تدعمها وتقوٌيها في وجه النفوس الشريرة من الجن والإنس وتبيٌن لها طريق نجاتها، كما يخبر تعالى: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمْ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) الحديد، أورد الطبري: عن قتادة، قوله: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ .. الآية، ذُكر لنا أن نبيّ الله ﷺ كان يقول: ”مِنَ المُؤْمِنِينَ مَنْ يُضِيءُ نُورُهُ مِنَ المَدينَةِ إلى عَدَنَ أبْينَ فَصَنْعاءَ، فَدُونَ ذلكَ، حتى إنَّ مِنَ المُؤْمِنينَ مَنْ لا يُضِيء نُورُهُ إلا مَوْضِعَ قَدَمَيْهِ“، فالنفوس عموماً استكملت أطوارها في الخلق لمٌا ظهرت بأبدانها، غير أن ذلك لا ينفي وجودها اللطيف في الميتة الأولى ولا وجودها في ما هو آت من أيام الله، كما بيّن عزّ وجلّ: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ ترْجَعُونَ (28) البقرة. فالموت الذي يقرن بالبدن ويعمل على هلاكه وتحلّله لا يجب أن يقرن بالنّفس؛ إذ النّفس تقرن بالوفاة وهي حالة مفارقة البدن الكثيف سواء بالنّوم أو القبض ممّن وكّل بها من الملائكة كما بيّن تعالى: قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ ترْجَعُونَ (11) السّجدة.
الفروق بين النٌفس والروح
علمنا أنٌ الرٌوح ذاك الأمر الرٌباني الذي نفخ من طرف ربٌ العزٌة في حالة خلق آدم عليه الصّلاة والسلام على صورته البشرية، وفي حالة خلق عيسى عليه السلام إمّا بشكل مباشر أو غير مباشر حسب ما ورد من خلاف، وينفخ من طرف الملائكة الموكلين في باقي الحالات والناس في بطون أمهاتهم، أخرج البخاري في الصحيح[51] من حديث عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ ”أَنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا أَوْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَهُ ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَهُ ثُمَّ يُبْعَثُ إِلَيْهِ الْمَلَكُ فَيُؤْذَنُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ فَيَكْتُبُ رِزْقَهُ وَأَجَلَهُ وَعَمَلَهُ وَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ ثُمَّ يَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى لَا يَكُونُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ إِلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُ النَّارَ وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ إِلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا“، وقال تعالى: ﴿ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِين (14) المؤمنون﴾. يقول ابن كثير[52] في تفسيره[53]: ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ أي: ثم نفخنا فيه الروح، أي قال بالذي قال به ابن عباس، وقد شاء الله أن يزيدنا توضيحاً لكيفية نفخ الروح، فبيٌن كيف أنٌ عيسى عليه الصلاة والسلام يخلق من الطين كهيئة طائر فينفخ فيه فيكون طائراً بإذن الله، أمٌا النفس فهي خلق كباقي خلق الله حتى وإن لم تكن مادية بالصفة التي نعرف من الكثافة فهي لطيفة من عالم الذر كما يطلق عليه الفقهاء، وأنٌ لها في هيأتها سمعاً وأبصاراً وأفئدةً، وأنٌ شأنها ليس مستغرباً لمن يؤمن بمخلوقات كالجن وكالملائكة مع تباين الهيولى التي أنشئوا منها، وللنفس صورة أدمية سواء كانت مع البدن أو منفصلة عنه، ففي حديث خلق آدم كما أورد الحاكم[54] في المستدرك[55]: لما خلق الله آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة أمثال الذر، ثم جعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصاً من نور... الحديث، كما أنه في رحلة العروج لرسول الله ﷺ، وجد آدم في السماء الأولى[56]، وهو رَجُلٌ قَاعِدٌ عَلَى يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ وعلى يَسَارِهِ أَسْوِدَةٌ...الحديث، والعرب تطلق السواد على جماعة من الناس لا يظهر منهم إلا سواد رؤوسهم.
حديثنا عن النفوس في هيئاتها البشرية يجعلنا أكثر استيعابا لميثاق النفوس حيث أشهدها الله الخالق البارئ المصوّر أنه ربّها إذ أخذها من ظهور أبائها، مصداقاً لقوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي ءَادَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) الأعراف. وما هذه إلا دلائل على أن النفس لها صورة بشرية، أما الروح فهي على صورة طائر كما سلف، ومن التّباين كذلك، أنٌ النفس تتصل وتنفصل عن البدن بشكل طبيعي أو بمسبٌبات غير طبيعية كالتٌخدير وكالإغماء وشدة الألم وغيرها، دون أن يقع خلل في الجسم بالضرورة، أما الروح فلا يعرف لها انفصال إلا بعد الموت والله أعلم، ووجودها في الكيان البشري تنقصنا فيه المعرفة، كما أنٌ للنفس التٌحكم في حركات البدن الإرادية ولعلّ للروح التحكم فيما عدا ذلك والله أعلم، فمن غير المعقول أن نعتقد في النائم الذي توفت نفسه أن تلك النفس تتحكم في البدن القابع. من الفروق كذلك ما نجد في السنة الشٌريفة أن الروح يصعد بها إلى السماء سواء نفس الكافر أو نفس المؤمن، أورد الإمام مسلم من حديثْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ[57]: إِذَا خَرَجَتْ رُوحُ الْمُؤْمِنِ تَلَقَّاهَا مَلَكَانِ يُصْعِدَانِهَا قَالَ حَمَّادٌ فَذَكَرَ مِنْ طِيبِ رِيحِهَا وَذَكَرَ الْمِسْكَ قَالَ وَيَقُولُ أَهْلُ السَّمَاءِ رُوحٌ طَيِّبَةٌ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِ الْأَرْضِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكِ وَعَلَى جَسَدٍ كُنْتِ تَعْمُرِينَهُ فَيُنْطَلَقُ بِهِ إِلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ يَقُولُ انْطَلِقُوا بِهِ إِلَى آخِرِ الْأَجَلِ قَالَ وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا خَرَجَتْ رُوحُهُ قَالَ حَمَّادٌ وَذَكَرَ مِنْ نَتْنِهَا وَذَكَرَ لَعْنًا وَيَقُولُ أَهْلُ السَّمَاءِ رُوحٌ خَبِيثَةٌ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِ الْأَرْضِ قَالَ فَيُقَالُ انْطَلِقُوا بِهِ إِلَى آخِرِ الْأَجَلِ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَرَدَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ رَيْطَةً كَانَتْ عَلَيْهِ عَلَى أَنْفِهِ هَكَذَا، أما الأحاديث الذاكرة لخروج النفس فتأكد أن نفس الكافر لا يفتٌح لها أبواب السماء، ففي مصنّف ابن أبي شيبة[58]: حدثنا حسين بن علي عن زائدة عن عاصم عن شقيق عن أبي موسى قال: تخرج نفس المؤمن وهي أطيب ريحا من المسك، قال: فيصعد بها الملائكة الذين يتوفونها فتلقاهم ملائكة دون السماء فيقولون: من هذا معكم؟ فيقولون: فلان -ويذكرونه بأحسن عمله، فيقولون: حياكم الله وحيا من معكم، قال: فتفتح له أبواب السماء، قال: فيشرق وجهه فيأتي الرب ولوجهه برهان مثل الشمس، قال: وأما الآخر فتخرج نفسه وهي أنتن من الجيفة، فيصعد بها الملائكة الذين يتوفونها فتلقاهم ملائكة دون السماء فيقولون من هذا معكم؟ فيقولون: فلان ويذكرونه بأسوأ عمله، قال: فيقولون: ردوه فما ظلمه الله شيئا، قال: وقرأ أبو موسى: (ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط). إجمالاً الروح من الله وإلى الله بينما النفس من الإنسان وشأنها شأنه، فكيف نساوي إذاً بين ما هو من اللاهوت مع ما هو من الناسوت، فباعتبار الرّوح أمراً إلاهياً فهو قديم قدم صفاته جلّ وعلا. أمّا النفخ أو التّنزيل فله ظروف موقوتة يكون تبعا له محدثاً، وهو نفس ما جاء في قوله تعالى: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) الأنبياء.
النٌفس والروح في التراث
من المسلمين من يعتقد أنّ النفس هي الروح ويشكّلون الغالبية، ومنهم من يقول أنّ النفس غير الروح، ومنهم من يعتبر هذا من الغيبيات التي لا يجب الخوض فيها. الذين يقولون إنّ النفس مرادف للروح دليلهم من السنة الشريفة قول بلال للنبي ﷺ في حديث ابن شهاب: أخذ بنفسي يا رسول الله الذي أخذ بنفسك. وقوله عليه السلام في حديث زيد بن أسلم: إن الله قبض أرواحنا ولو شاء لردها إلينا في حين غير هذا. جاء في موطّأ الإمام مالك[59]: عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ حِينَ قَفَلَ مِنْ خَيْبَرَ، أَسْرَى. حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ، عَرَّسَ[60]. وَقَالَ لِبِلَالٍ "اكْلَأْ لَنَا الصُّبْحَ" وَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَأَصْحَابُهُ. وَكَلَأَ بِلَالٌ مَا قُدِّرَ لَهُ. ثُمَّ اسْتَنَدَ إِلَى رَاحِلَتِهِ، وَهُوَ مُقَابِلُ الْفَجْرِ، فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ، فَلَمْ يَسْتَيْقِظْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَلَا بِلَالٌ وَلَا أَحَدٌ مِنْ الرَّكْبِ، حَتَّى ضَرَبَتْهُمْ الشَّمْسُ. فَفَزِعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ. فَقَالَ بِلَالٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخَذَ بِنَفْسِي الَّذِي أَخَذَ بِنَفْسِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ "اقْتَادُوا" فَبَعَثُوا رَوَاحِلَهُمْ وَاقْتَادُوا شَيْئًا. ثُمَّ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِلَالًا فَأَقَامَ الصَّلَاةَ فَصَلَّى بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الصُّبْحَ، ثُمَّ قَالَ حِينَ قَضَى الصَّلَاةَ، مَنْ نَسِيَ الصَّلَاةَ فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ أَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي.
كما جاء في الموطّأ كذلك[61]: عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، أَنَّهُ قَالَ: عَرَّسَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لَيْلَةً، بِطَرِيقِ مَكَّةَ. وَوَكَّلَ بِلَالًا أَنْ يُوقِظَهُمْ لِلصَّلَاةِ. فَرَقَدَ بِلَالٌ، وَرَقَدُوا، حَتَّى اسْتَيْقَظُوا وَقَدْ طَلَعَتْ عَلَيْهِمْ الشَّمْسُ. فَاسْتَيْقَظَ الْقَوْمُ، وَقَدْ فَزِعُوا، فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنْ يَرْكَبُوا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْ ذَلِكَ الْوَادِي، وَقَالَ ”إِنَّ هَذَا وَادٍ بِهِ شَيْطَانٌ“ فَرَكِبُوا حَتَّى خَرَجُوا مِنْ ذَلِكَ الْوَادِي، ثُمَّ أَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنْ يَنْزِلُوا، وَأَنْ يَتَوَضَّئُوا. وَأَمَرَ بِلَالًا أَنْ يُنَادِيَ بِالصَّلَاةِ، أَوْ يُقِيمَ، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِالنَّاسِ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَيْهِمْ، وَقَدْ رَأَى مِنْ فَزَعِهِمْ. فَقَالَ: ”يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّهَ قَبَضَ أَرْوَاحَنَا وَلَوْ شَاءَ لَرَدَّهَا إِلَيْنَا فِي حِينٍ غَيْرِ هَذَا، فَإِذَا رَقَدَ أَحَدُكُمْ عَنْ الصَّلَاةِ، أَوْ نَسِيَهَا، ثُمَّ فَزِعَ إِلَيْهَا، فَلْيُصَلِّهَا، كَمَا كَانَ يُصَلِّيهَا فِي وَقْتِهَا.“ ثُمَّ التفت رسول الله ﷺ إلى أبي بكر الصدّيق فقال: إِنَّ الشَّيْطَانَ أَتَى بِلاَلاً وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي، فَأَضْجَعَهُ، فَلَمْ يَزَلْ يُهَدِّئُهُ، كَمَا يُهَدَّأُ الصَّبِيُّ حَتَّى نَامَ. ثُمَّ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِلَالًا. فَأَخْبَرَ بِلَالٌ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، مِثْلَ الَّذِي أَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَبَا بَكْر. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ.
كما توجد شواهد أخرى دلالتها أن النفس هي الروح في متون الحديث سواء باختلاف الرواية أو حتى في الرواية الواحدة. في صحيح مسلم[62] عن أبي هريرة قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَلَمْ تَرَوْا الْإِنْسَانَ إِذَا مَاتَ شَخَصَ بَصَرُهُ قَالُوا بَلَى قَالَ فَذَلِكَ حِينَ يَتْبَعُ بَصَرُهُ نَفْسَهُ، وعنه أيضا: إن الروح إذا قبض تبعه البصر. (أحمد، ومسلم، وابن ماجه، عن أم سلمة عليها السّلام).
كما يمكن الرجوع إلى حديث البراء بن عازب عن رسول الله ﷺ « إن الرجل المسلم إذا كان في قبل من الآخرة وانقطاع من الدنيا جاء ملك الموت فقعد عند رأسه، وينزل ملائكة من السماء كأن وجوههم الشمس معهم أكفان من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة، فيقعدون منه مد البصر » قال : « فيقول ملك الموت : أيتها النفس المطمئنة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان » قال : « فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من السقاء ، فلا يتركونها في يده طرفة عين، فيصعدون بها إلى السماء، فلا يمرون بها على جند من ملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الطيبة ؟.. الحديث. في مسند الإمام أحمد ومصنّف عبد الرزاق ومستدرك الحاكم[63]، حيث يلاحظ في متنه تستبدل النفس بالروح كأنهما شيء واحد فتخرج نفساً ويرجع بها روحاً.
من الأحاديث السالفة كان الاستنتاج، أنّ النّفس مرادف الروح، كذا من الاستعمال اللغوي حيث كانت العرب تخلط بين النفس والروح منذ جاهليتهم، وتجدر الملاحظة أنٌه باستعمال قاعدة العرض على كتاب الله يجب أن تكون أقوال رسول الله ﷺ في الأخذ والقبض والخروج يراد بها النفس وليس الروح أي لنرجع إلى ما أورد الإمام أحمد[64] من مسند علي بن أبي طالب عليه السّلام: إِذَا حُدِّثْتُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حَدِيثًا فَظُنُّوا بِهِ الَّذِي هُوَ أَهْدَى وَالَّذِي هُوَ أَهْيَأ وَالَّذِي هُوَ أَتْقَى، إذ من غير المقبول أن لا يفرٌق رسول الله ﷺ بين النٌفس والرٌوح بعد أن فرٌق الذٌكر الحكيم بينهما كما هو آت بيانه.
أمّا الذين يقولون النّفس غير الرّوح يعتمدون في مرجعيّتهم قول ابن عبّاس رضي الله عنهما وأقوال سيدنا علي بن أبي طالب عليه السلام ومحقٌقين من العلماء في كل العصور. قال السُّهَيْليُّ[65] في الرَّوْض[66] : فصل: ومما يتصل بمعنى الروح وحقيقته أن تعرف هل هي النفس أو غيرها، وقد كثرت في ذلك الأقوال واضطربت المذاهب فتعلق قوم بظواهر من الأحاديث لا توجب القطع لأنها نقل آحاد وأيضا فإن ألفاظها محتملة للتأويل ومجازات العرب واتساعاتها في الكلام كثيرة فمما تعلقوا به في أن الروح هي النفس قول بلال أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك مع قول النبي عليه السلام "إن الله قبض أرواحنا"، وقوله عز وجل: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ) (الزمر:42) والمقبوضة هي لأرواح ولم يفرقوا بين القبض والتوفّي، ولا بين الأخذ في قول بلال أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك وبين قول النبي عليه السلام "قبض أرواحنا"، وتنقيح الأقوال وترجيحها يطول. وقد روى أبو عمر في التمهيد[67] حديثا يدل على خلاف مذهبه في أن النفس هي الروح لكن علله فيه أن الله خلق آدم وجعل فيه نفسا وروحا، فمن الروح عفافه وفهمه وحلمه وسخاؤه ووفاؤه ومن النفس شهوته وطيشه وسفهه وغضبه ونحو هذا، وهذا الحديث معناه صحيح إذا تؤمل صح نقله أو لم يصح وسبيلك أن تنظر في كتاب الله أولا، لا إلى الأحاديث التي تنقل مرة على اللفظ ومرة على المعنى، وتختلف فيها ألفاظ المحدثين فنقول قال الله تعالى: (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) (الحجر 29) ولم يقل من نفسي وكذلك قال (ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ) (السجدة 9) ولم يقل من نفسه ولا يجوز أيضا أن يقال هذا، ولا خفاء فيما بينهما من الفرق في الكلام وذلك يدل على أن بينهما فرقا في المعنى، وبعكس هذا قوله سبحانه (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ) ولم يقل تعلم ما في روحي، ولا أعلم ما في روحك، ولا يحسن هذا القول أيضا أن يقوله غير عيسى، ولو كانت النفس والروح اسمين لمعنى واحد كالليث والأسد لصحٌ وقوع كل واحد منهما مكان صاحبه وكذلك قوله تعالى: (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ) (المجادلة: 8) ولا يحسن في الكلام يقولون في أرواحهم وقال تعالى: (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ) (الزمر 56) ولم يقل أن تقول روح، ولا يقوله أعرابي، فأين إذا كون النفس والروح بمعنى واحد لولا الغفلة عن تدبر كلام الله تعالى ؟.
في تفسير ابن أبي حاتم[68]: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ:" اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ الْآيَةَ، قَالَ: نَفْسٌ، وَرُوْحٌ بينهما شعاع الشمس، فيتوفى الله النفس في منامه، ويدع الروح في جسده وجوفه يتقلب ويعيش، فإن بدا لله أَنْ يَقْبِضَهُ قَبْضَ الرُّوحَ فَمَاتَ، أَوْ أَخَّرَ أَجَلَهُ رَدَّ النَّفْسَ إِلَى مَكَانِهَا مِنْ جَوْفِهِ".
وفي تفسير القرطبي: قال ابن عباس: في ابن آدم نفس وروح بينهما مثل شعاع الشمس، فالنفس التي بها العقل والتمييز، والروح التي بها التحرك والتنفس، فإذا نام العبد قبض الله نفسه ولم يقبض روحه، وهذا قول ابن الأنباري[69] والزجاج[70]. لعلّ فهم ابن عبّاس لماهية كلّ من النّفس والرّوح غريب بالنّسبة لمعرفة عصره، ويقترب إلى حدّ كبير من المعرفة التي تشكّلت بعد معطيات ميكانيك الكم.
الذي يقول إن النفس غير الروح، يحتج كذلك بخبر: إن الله خلق آدم عليه السلام وجعل فيه نفسا وروحا فمن الروح عفافه وفهمه وحلمه وسخاؤه ووقاره ومن النفس شهوته وطيشه وسفهه وغضبه.[71]
يقول ابن قيّم الجوزية[72] على أساس السّرد دون أن يتبنّى الآراء الواردة: وَقَالَت فرقة أُخْرَى من أهل الحَدِيث وَالْفِقْه والتصوف الرّوح غير النَّفس، قَالَ مقَاتل بن سُلَيْمَان للْإنْسَان حَيَاة وروح وَنَفس فَإِذا نَام خرجت نَفسه الَّتِي يعقل بهَا الْأَشْيَاء وَلم تفارق الْجَسَد بل تخرج كحبل ممتد لَهُ شُعَاع فَيرى الرُّؤْيَا بِالنَّفسِ الَّتِي خرجت مِنْهُ وَتبقى الْحَيَاة وَالروح فِي الْجَسَد فِيهِ يتقلب ويتنفس فَإِذا حرك رجعت إِلَيْهِ أسْرع من طرفَة عين فَإِذا أَرَادَ الله عز وَجل أَن يميته فِي الْمَنَام أمسك تِلْكَ النَّفس الَّتِي خرجت وَقَالَ أَيْضا إِذا نَام خرجت نَفسه فَصَعدت إِلَى فَوق فَإِذا رَأَتْ الرُّؤْيَا رجعت فَأخْبرت الرّوح ويخبر الرّوح فَيُصْبِح يعلم أَنه قد رأى كَيْت وَكَيْت. قَالَ أَبُو عبد الله بن مَنْدَه ثمَّ اخْتلفُوا فِي معرفَة الرّوح وَالنَّفس فَقَالَ بَعضهم النَّفس طينية نارية وَالروح نورية روحانية، وَقَالَ بَعضهم الرّوح لاهوتية وَالنَّفس ناسوتية وَأَن الْخلق بهَا ابتلى، وَقَالَت طَائِفَة وهم أهل الْأَثر أَن الرّوح غير النَّفس وَالنَّفس غير الرّوح وقوام النَّفس بِالروحِ وَالنَّفس صُورَة العَبْد والهوى والشهوة وَالْبَلَاء معجون فِيهَا وَلَا عَدو أعدى لِابْنِ آدم من نَفسه فَالنَّفْس لَا تُرِيدُ إِلَّا الدُّنْيَا وَلَا تحب إِلَّا إِيَّاهَا وَالروح تَدْعُو إِلَى الْآخِرَة وتؤثرها وَجعل الْهوى تبعا للنَّفس والشيطان تبع النَّفس والهوى وَالْملك مَعَ الْعقل وَالروح وَالله تَعَالَى يمدهما بالهامه وتوفيقه. انتهى.
الخلاف له تداعيات في طريقة فهم كثير من الأخبار التي هي أساسية في الدٌين، فمن يعتقد أنّ النفس هي الرّوح، لا يمكن له أن يدرك أنه عاش الميتة الأولى، وأكثر من ذلك، لا يمكن أن يفهم كيف سيعيش الميتة الثانية رغم وفرة ما جاءت به السنٌة الشٌريفة من أحاديث رسول الله ﷺ التي تتعرّض لأحوال الآخرة قبل القيامة الكبرى. النّفس هي الإنسان وهي الأنا Ego وهي المسؤولة في الكيان البشري حيث التّعايش بين النّفس والروح والجسد إضافتاً إلى القرين من الجنّ والقرين من الملائكة، فعن عبد الله بن مسعود أنّ النّبي ﷺ قال: ”مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنْ الْجِنِّ وَقَرِينُهُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ قَالُوا وَإِيَّاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ وَإِيَّايَ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَلَا يَأْمُرُنِي إِلَّا بِحَقٍّ“[73]، فالنّفس هي المتصرّفة في كل القدرات المخوّلة لها وما عداها في الكيان مسخر وفي أحسن الأحوال مستشار، فعن عبد الله بن مسعود كما أورد ابن حبّان[74] في صحيحه[75]، قال: قال رسول الله ﷺ : « إن للشيطان لمة[76]، و للملك لمة، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليحمد الله، ومن وجد الأخرى، فليتعوذ من الشيطان»، ثم قرأ:(الشيطان يعدكم الفقر).
علمنا أنّ طبيعة النّفس مادية لكنّها من مادة لطيفة وليست كثيفة، أو شكل من أشكال الطاقة الذي لم نتعرٌف عليه بعد، فالعالم الذي نعيش فيه يحوي ما نرى وما لا نرى، ما نعرف وما لا نعرف، في ذلك أقسم ربّ العزّة: فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) الحاقة.
وعالم الجن هو عالم من مخلوقات لطيفة خلقت من نار، أما النّفس خلقت من تراب، ولعلّه إلى وقت غير بعيد، كان من الصّعب القبول أن كائناً يسكن جسم الإنسان وهو مخلوق من التراب ذي الطّبيعة المادية لا يكون مدركاً ولا محسوساً، لكن التقدم الذي توصّل إليه علم فيزياء الكم[77]Physique Quantique كشف عن جسيمات لها آثارها الفيزيائية حتى مع انعدام كتلتها، ومثل هذه المعطيات تقرّب إلى الفهم إمكانية تشكل كائن دون وزن أو حتى بوزن متناه في الصغر مجاورا للصّفر، وهو نفس ما عبّر عنه علماؤنا بعالم الذّر، حيث الذّر جمع ذرة والذرة في اللغة: قيل الذَّرَّةُ ليس لها وزن[78]، ومجازاً أطلق على صغار النّمل أو حبيبات الغبار التي لا ترى إلا عندما يخترقها شعاع الشّمس، إلى غير ذلك، أما الذكر الحكيم فقد ساق التتالي في الصّغر إلى ما لا يعلمه إلاّ الله، ﴿ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ﴾. من المعاصرين الذين استوفوا التحقيق في ما بين النفس والروح من فروق، الدكتور مصطفى محمود حيث يقول[79]: في اللغة الدارجة نخلط دائما بين النفس والروح، فنقول إن فلاناً طلعت روحه. ونقول إن فلاناً روحه تشتهي كذا، أو أن روحه تتعذب أو أن روحه توسوس له، أو أن روحه زهقت، أو أن روحه اطمأنت، أو أن روحه تاقت واشتاقت أو ضجرت وملت. وكلها تعبيرات خاطئة، وكلها أحوال تخص النفس وليس الروح. ويضيف بعد استشهاده بآيات قرآنية وردت فيها كلمة نفس أو كلمة روح قائلا: ومن هنا نفهم أن حقيقة الإنسان هي(نفسه)، والذي يولد ويبعث ويحاسب هو نفسه، والذي يمتحن ويبتلى هو نفسه، وما يجري عليه من الأحوال والأحزان والأشواق هي نفسه، أما جسده وروحه فهما مجرد مجال تماما مثل الأرض والسماوات في كونهما مجال حركة بالنسبة للإنسان لإظهار مواهبه وملكاته. فكما أعطى الله لهذه النفس عضلات (جسدا) كذلك أعطاها( روحا) لتحيى، وتعمل و تكشف عن سرها و مكنونها و تباشر خيرها و شرها، انتهى، يجدر أن نذكر أنّ مصطفى محمود الطّبيب فالفيلسوف فالكاتب، تمكّن في رحلته من الشّك إلى الإيمان أن يجتازها بنجاح وسط جيل مفتون بسطت فيه الاشتراكية والتّقدّمية نفوذهما ونتج عن الحركة الإصلاحية التي شملت الدّين نفسه؛ بريادة جمال الدّين الأفغاني ومحمد عبده وغيرهم، جيل جديد من مفكّرين وكتّاب تبنّوا الليبرالية العلمانية والفلسفة الوجودية، واعتبروا أنفسهم المؤهّلين لإصلاح الدّين وتنقيته من الخرافات حسب ادعائهم وملاءمته مع التّقدّم الحضاري الغربي، يقول عن رحلته في سيرته الذاتية: وإن كنت قد بدأت قطار الفكر وقطار الدين من أوله منذ الصفحة الأولي.. من مبدأ الفطرة.. وماذا تقوله الفطرة بدون موروثات؟ وانتهيت من الرحلة إلى إيمان أشد وعقيدة أرسخ وانعكست الرحلة في الـ 89 كتاباً التي ألفتها، انتهى. في اعتقادي أنّه ما كان ليتسنّى له ذلك لو لم يكن صادقاً مع نفسه وصادقاً في مسعاه لفهم ثابت وراسخ فيما اختلف فيه النّاس من حوله، وقد عاش في محنة مع نفسه تزيد عن ثلاثين سنة، ومحنة مع غيره لم تنته إلا بموته، فوصف بالملحد تارة، وبالمارق عن الدّين من طرف الرهبانية الإسلامية، وبلغ الأمر إلى حدّ تدخّل رئيس الجمهورية لإيقاف برنامجه التّلفزيوني النّاجح ”العلم والإيمان“.
الأنا في الإنسان
يسود الاعتقاد، نتيجة الفكر المادي المهيمن على كلّ جوانب حياتنا المعاصرة، أنّ الإنسان ما هو إلاّ هذا الجسم المحسوس والملموس والمتكوّن من خلايا[80] وأعضاء وأجهزة، يكشف الطّب مستعيناً بتقنيات استوردها من مجالات علمية أخرى يوماً بعد يوم كثيراً من الأسرار لعلّها لم تكن من قبل مدركة وإن كانت معلومة، إذ شبّه الأقدمون الإنسان بالعالم الصّغير، في هذا المعتقد يكون الإنسان هو هذا الذي أمامنا، ولم يكن قبل تشكّله إنسانا، كما لن يكون بعد موته إنساناً. يمكن للمهتم أن يعرف أشياء كثيرة عن جسم الإنسان سواء عن تركيبته أو عن وظائفهً وحتى وظائف أجزاء منه متناهية في الصّغر، كما أن الأبحاث العلمية مسترسلة دون توّقف باستمرار، غير أنّ الأنا ليست هذا الجسم ولا حتى في هذا الجسم، بدليل أنّ الإنسان في حالة الغيبوبة وفي حالة النّوم ليس له الأنا رغم جسم كامل غير مختلّ، وبمثل هذا القول قال الكثير من قبل، وأسوق مثالاً لذلك ما قال السّهروردي[81] في هياكل النور[82]:” بدنك أبداً في التّحلل والسّيلان، وإذا أتت الغاذية بما تأتي عند ورود الجديد الحاصل من الغذاء لعظم بدنك، ولو كنت أنت هذا البدن أو جزءاً منه لتبدّلت أنائيتك كل حين، ولما دام الجوهر المدرك منك، فأنت أنت لا ببدنك. وكيف يكون ويتحلل وليس عندك منه خبر؟ فأنت وراء هذه الأشياء.“ ونزيد على قول السّهروردي أن الطب الحديث الذي تمكن من زرع كثير من الأعضاء في جسم الإنسان، أو استئصال أجزاء أصابها الخلل حتى من الدماغ، رغم هذا لم يثبت أنّ من أخضع لهذه العمليات تبدّلت الأنا عنده، وإن كان البعض يقول إنه تنتابه بعض الأحاسيس الغريبة لا غير.
إذا كانت الأنا ليست الجسد (هيت أو خيت عند قدماء المصريين) ولا من الجسد، فهل يمكن أن تكون هي الرّوح (با عند قدماء المصريين وتمثّل بطائر له وجه بشري)، أستبعد ذلك، بدليل ما جاء في المستدرك:عن ميسرة الفخر، قال: قلت لرسول الله ﷺ: متى كنت نبيا ؟ قال: ﴿وآدم بين الروح والجسد﴾[83]، أي أنّ ما بين الروح والجسد هي الأنا لآدم عليه الصلاة والسّلام، لعل هذا الحديث يسمح أن نستنبط أن لحظة نفخ الروح والله أعلم هي لحظة التئام النفس بالبدن وهي نفس اللحظة كما سبق الذكر إذ عبر الله تعالى عنها ب ﴿ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ﴾، مما يسوق أن اعتبار الروح أو النفس كما في فهمنا علة الحياة قد يكون خاطئا، فالجنين في طور التجميع وفي طور العلقة وفي طور المضغة وقبل ذلك في طور الخلية الأولى لم يكن ميتا، كما أنه ربما لم يكن بشرا سوياً تشكل بعد، ولهذا المعنى تذهب التفاسير النقلية عند تفسير قول الله تقدس اسمه ﴿مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ﴾ يقول البيضاوي[84]: مسواة لا نقص فيها ولا عيب وغير مسواة، أو تامة وساقطة، أو مصورة وغير مصورة، انتهى.
فالنّفس هي القديمة، نشأتها لحظة من لحظات خلق السموات والأرض، بينما الرّوح هو الأمر الإلاهي الموقوت الذي يسمح لتجلّي النّفس في عالم المادة، وأنّ الأمر يهيّئ الأسباب أمّا الأسباب فلا تقدر أن تجلب إليها أمرا، وفي هذا المعنى بلغنا عن رسول الله ﷺ كما جاء في المستخرج من الأحاديث المختارة مما لم يخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما[85]: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنِ الْعَزْلِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لَوْ أَنَّ الْمَاءَ الَّذِي يَكُونُ مِنْهُ الْوَلَدُ أُهْرِيقَ عَلَى صَخْرَةٍ لأَخْرَجَنَّ اللَّهُ مِنْهَا الْوَلَدَ وَلْيَخْلُقَنَّ الله نفسا هُوَ خَالِقهَا، إِسْنَاده حسن، من ذلك كان مشهور عند السّلف المقولة، «النُّطْفَةُ الَّتِي قُدِّرَ مِنْهَا الْوَلَدُ لَوْ أُلْقِيَتْ عَلَى صَخْرَةٍ لَخَرَجَتْ تِلْكَ النَّسَمَةُ مِنْهَا». فكلّ ما نسمّيه أسباباً ليس سوى سنن؛ أي أوامر من الله لها صفة الدّيمومة والاستمرارية، فلن تجد لسنّة الله تبديلا ولن تجد لسنّة الله تحويلا، غير أنّ التّعرّف على سنّة ما، لا يعنى أنّها تلقائية ولا يوجد مدبّر ومنظّم لها، ولا يجب أن نشكّ في أنّ القادر على إحداثها يكون قادرا على تعطيلها أو استبدالها.
مفهوم النّفس الحديث
لم تكن النّزعة المادية وليدة الفكر المعاصر، لكنّها نزعة جاءت تصارع النّزعة المثالية على مدى الأزمنة والحضارات، نادراً ما كان لها الغلبة، غير أنّه في العصور الوسطى عندما هيمنت الكنيسة واحتكرت السياسة والفلسفة والعلم لخدمتها، وقمعت بأعنف الوسائل كل صوت أو فكر يتنافى مع ما تعتبره حقيقة مقدّسة، وجدت النّزعة فرصتها أو على الأصح تولّد عن أخطاء الكنيسة واستبدادها ثورات متتالية بدأت بطروحات علمية وأخرى فلسفية وانتهت بتمرّد اجتماعي شامل يرفض أفكار الكنيسة ويقلّص إلى أدنى حد نفوذها. فإذا كان لهذه الثورة إيجابيات كتقدّم بعض العلوم، ومساحة أكبر لحرّية الرأي، إلا أنّها لم تخل من سلبيات، وأبرز سلبياتها العمل بكل جهد وكل الوسائل لاحتكار الحقيقة كما احتكرتها من قبل الكنيسة، لذا لمّا تأسّست جمعية الأبحاث الأرواحية بداية سنة 1850م معتمدة في أبحاثها وتجاربها على ظاهرة استحضار الأرواح المعروفة في الطّقوس السّحرية لدى جل الشّعوب، نشأت معركة لا هوادة فيها بين المتدينين واللادينيين لازالت قائمة إلى يومنا هذا، فكانت الغلبة لأنصار المادّية رغم أن الظاهرة باستعمال الوسطاء الروحانيّين لا يمكن إنكارها، لكنّ ّ تفسيراتها غير المقنعة وتسلّط المشعوذين عليها أفقدها الصدقية، أمّا في سنة 1975م فقد قام الدّكتور ريموند مودي،Raymond A. Moody، وهو دكتور في الفلسفة ودكتور في الطّب النّفسي بنشر نتائج أبحاثه التي أجراها على مائة وخمسين ممّن تمّ تشخيص موتهم الإكلينيكي ثم عادوا إلى الحياة بعد ذلك، ليفاجئ العالم بكتابه ”الحياة بعد الحياة“Life after Life، لتنشأ بذلك ظاهرة علمية جديدة تمّ تسميتها بالتجارب القريبة من الموت بالإنجليزيةNear death experiences ، أو اختصاراً NDEs وأثبت بذلك أنّ النّفس أثناء خروجها من البدن في هذه التّجارب تتذكر كل ما عاشته في لحظة، كأنّه فلم سريع لا يغفل جانباً من المعاش، وبعد ذلك تحسّ أنها خرجت من جسدها فترى وتسمع كل من يحيط بجثمانها، كما أنها تجتاز نفقاً مظلماً لتلتقي بمعارفها من الأموات وغيرهم من كائنات نورية، إلى غير ذلك من المشاهد التي يصعب وصفها، وخصوصيات تختلف من تجربة إلى أخرى، ورغم بروز هذا الإنجاز بجدّيته العلمية فإنه لم ينه الصّراع بين الماديين والمثاليين، لكنّه استطاع أن يفتح صراعاً بين العلماء أنفسهم في محاولة شرح الظاهرة، وفي نفس الوقت بدء التعامل باحترام مع ظواهر أخرى كالطّرح النّجمي، والرّؤية عن بعد، والحلم الواعي، وغيرها من الظّواهر التي تدرس قدرات النّفس وهي في بدنها وخارج بدنها.
لا يمكن الجزم أنّ كل البحوث العلمية ترى النور ليطّلع عليها كل باحث أو راغب بل أغلبها محاطة بالسرّية ومضنون به على الناس أجمعين، غير أن الأمر لا يقف عند هذا الحد، بل يتم التّرويج لأفكار ومفاهيم مغلوطة باسم العلم وتصدّق مع الأسف من مثقافي وعلماء العالم المتخلّف، وكمثال عن مثل هذا أرجعك إلى كتاب ”أبناء آدم من الجن والشياطين“ لمحمد منير أدلبي[86] الذي ينفي فيه وجود الجن والشياطين بدلائل من الكتاب والسنة كما يعرّف كتابه بالقول ”دراسة تحليلية موثقة من القرآن والحديث تثبت بطلان الزعم بوجود أشباح خفية اسمها الجن والشياطين“، وحتى لا نخصه باهتمام أكثر مما يستحق، نتساءل كيف لمسلمين من هذا الصّنف أن يؤمنوا بالشّيطان القرين، وبالنفس في صورتها البشرية وصورتها الشبحية، وبالملائكة، وقد يتعدّى الأمر إلى التّشكيك في كل أركان الإيمان المعلومة عند كل مسلم.
كتاب التكوين
مفهوم بدء الخلق
الخلق في كلام العرب، ابتداع الشّيء علي مثال لم يُسبق إليه[87]، وفي مراحل الإسلام الأولية خُصّت الكلمة لما أوجد الخالق البارئ المصوّر تبعاً لمقصد الكلمة في الذّكر الحكيم وبلاغ النّبيّ الكريم، ويفيد أنّ كل ما عدا الله مخلوق أي ما عداه وعدا صفاته الذاتية والفعلية بما فيها كلامه، فالخالق من أسماء الله الحسنى ﴿ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24) الحشر ﴾، وكذا اسم الخلاّق، ﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86) الحجر ﴾. ولعلّ تأثير الفلسفة اليونانية في مراحل تالية بدّل المصطلح، فأصبح مفهوم الخلق هو الإيجاد والإخراج من العدم، (creatio ex nihilo sui et subjecti)، واستعمل التٌستري[88] هذا المصطلح في تفسيره: إذ يقول في تفسير قوله تعالى لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ قال: لا إله على الحقيقة إلا من يقدر على الإيجاد من العدم، وعلى العدم من الإيجاد انتهى، وقد تلى استعمال المصطلح بهذا المعنى من جل المفسّرين الذين جاءوا بعد القرن الثالث الهجري، غير أنّ البعض اعتبر مفهوم الخلق هو التّقدير فقط وليس الإيجاد، كما هو عند الفخر الرازي.
عالم الخلق يراد به عالم الملك؛ أي السموات والأرضون ومَن فيهنّ، وما بينهن، مما يُعلم وممٌا لا يعلم، وهو عالم بيّن أنّه ليس قائم بذاته، فمجموع السّنن والقوانين والأوامر المختصّة بتدبيره تشكّل بمعيته عالم الملكوت، ﴿فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83) يس﴾، قال سعيد عن قتادة: ” مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ“ مفاتح كل شيء.[89]، كما عرّفت بعض القواميس منها تاج العروس[90] بأنّ: المَلَكُوت: عالَمُ الغَيْبِ المُخْتَصُّ بأَرْوَاحِ النُّفُوسِ، كذا في تعريفات المناويّ انتهى، فالتّعريف لا يعارض ما قصدناه من أن الروح من أمر الله، أمّا صيغة ”بدء الخلق“ فنجدها مثلاً كعنوان لكتاب من الكتب المجزأة إلى أبواب وفق النّسق الذي اعتمده البخاري في الصحيح، فمن أبوابه، باب ما جاء في قول الله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ،[91])، من هذا ومن غيره من التّصانيف لأهل الحديث؛ يتبيّن أنّ مفهوم بدء الخلق في الإسلام يراد به رحلة الإنسان من البدء إلى المصير أي؛ كما بيّن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، حسب البخاري[92]: رَوَى عِيسَى عَنْ رَقَبَةَ عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: قَامَ فِينَا النَّبِيُّ ﷺ مَقَامًا فَأَخْبَرَنَا عَنْ بَدْءِ الْخَلْقِ حَتَّى دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ مَنَازِلَهُمْ وَأَهْلُ النَّارِ مَنَازِلَهُمْ حَفِظَ ذَلِكَ مَنْ حَفِظَهُ وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ. وهذا فهم أشمل ممّا جاء في سفر التكوين التّوراتي Genèse، وعلم نشأة الكون Cosmogonie.
بدء الخلق من الموضوعات التي تطرّقت إليها الإنسانية منذ القدم كما يدلّ التراث الذي وصلنا، غير أنّه ورد مجزأ في موضوعين، هما موضوع النشأة، وموضوع كتاب الموتى، وقبل أن نتطرّق إلى النشأة من الكتب المقدّسة وفي أساطير الأولين وعند النظريات العلمية، نسأل: ماذا كان قبل البدء؟
قبل البدء
علم المنطق علم منظٌم للتفكير العقلي الصٌحيح يستوحى قوانينه وقواعده من سنن وقواعد مستنبطة إثر مشاهدات واستنتاجات فاعلة في الوسط المتعامل معه سواء المادي منه أو المعنوي، بعبارة أخرى، آلية تنظٌم المقدٌمات والنتائج لكل العلوم البحتة والإنسانية، إلا أن مقاييسه قد تكون عاجزة أو معطٌلة عندما نحاول الفهم بواسطته عوالم قد لا تكون منظٌمة بالقوانين المعهودة، فمثلا في وسط خال من الزمن، كيف يكون فيه معني القدم والحدوث؟، وحيث لا يوجد المكان، ما دلالة الوجود والفناء؟، رغم هذا العجز يأبى الفضول الإنساني أن يتقيٌد بهذه الحدود الموضوعية، وتساؤلاته لا تفتر رغم التعثٌر في المجهول، فقد سُئل الرسول الكريم عن مثل هذا، إذ من الأخبار التي وصلتنا عن بداية البدايات؛ الحديث الشريف عن رسول الله ﷺ الذي صحّحه ابن حبّان[93] وأورده الإمام أحمد في مسنده والترمذيّ في سننه وغيرهم، تلتقي كل الروايات عند: حدثنا حماد بن سلمة عن يعلى بن عطاء عن وكيع بن حدس عن عمه أبي رزين العقيلي (اسْمُهُ لَقِيطُ بْنُ عَامِرٍ حسب الترمذي) قال: قلت يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق السموات والأرض قال: ﴿في عماء ما فوقه هواء وما تحته هواء﴾، في روايات أخرى في عمًى بالقصر. صعوبة فهم هذا الحديث تنبني على تعريف كل من كلمة ”العماء“ وكلمة ”الهواء“. قال الترمذي: ”العماء“، أي ليس معه شيء، وقال البعض: ”العماء“ السحاب، كقول الشّاعر: إِيماءَ بَرْقٍ فِي عَماءٍ ناضِبِ، وقَالَ كثير من العلماء: هَذَا من حديث الصفات، نؤمن به ونكل علمه إلى الله تعالى. أما الصوفية: فالحديث عندهم لا يختلف عن الحديث الذي يقرونه: ”كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت خلقا فبي عرفوني“، قال عنه ابن تيمية ليس من كلام النبي ﷺ ولا يعرف له سند صحيح ولا ضعيف، وقال عنه القاري[94] لكن معناه صحيح مستفاد من قوله تعالى: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون (56) الذاريات﴾، أي ليعرفوني، كما فسره ابن عباس رضي الله عنهما، والحديث أورده كثير من المفسّرين منهم فخر الدّين الرازي والمراغي وأحمد بن عجيبة وقال عنه الألّوسي[95]: الحديث القدسي الثابت عند أهل الله، انتهى.
قال أبو حاتم ابن حبّان: ” هو في عماء يريد به أن الخلق لا يعرفون خالقهم من حيث هم، إذ كان ولا زمان ولا مكان، وَمَنْ لَمْ يُعْرَفْ لَهُ زَمَانٌ، وَلَا مَكَانٌ، وَلَا شَيْءٌ مَعَهُ، لِأَنَّهُ خَالِقُهَا، كَانَ مَعْرِفَةُ الْخَلْقِ إِيَّاهُ، كَأَنَّهُ كَانَ فِي عَمَاءٍ عَنْ عِلْمِ الْخَلْقِ، لَا أَنَّ اللَّهَ كَانَ فِي عَمَاءٍ إِذْ هَذَا الْوَصْفُ شَبِيهٌ بِأَوْصَافِ الْمَخْلُوقِينَ[96]، وهذا القول لعلٌه أحسن ما قيل في بيان ”العماء“، أمّا ”الهواء“ في لغة العرب فيراد به لا شيء، كقولك للبيت الذي ليس فيه شيء إنّما هو هواء، وفي اللسان[97] الهَواء والخَواء واحد، ومعلوم أنّ الفراغ المطلق يستحيل إيجاده بالوسائل الفزيائية فالأحرى فراغ يقدر أن يحتوي ما شاء الله من مكان وزمان وما لم يدركه علمنا بعد.
إذا حدٌدنا البدء بخلق السموات والأرض وهو الحد الذي يشمل كل القدم إذ فيه خُلق الزمن، يكون قبل البدء كان الله وكان عرشه علي الماء، خبر لا ريب فيه بين المؤمنين المسلمين، لكون ربّ العزّة قال في الذّكر الحكيم: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) هود﴾، وفي صحيح البخاري[98]: من حديث عمران بن حصين أن رسول الله ﷺ قال: كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرُهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ وَخَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ. وفي مسند الإمام أحمد[99] بصيغة: كَانَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَكَتَبَ فِي اللَّوْحِ ذِكْرَ كُلِّ شَيْءٍ. وفي حديث مشابه ورد في صحيح الإمام مسلم: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ قَالَ وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ. إنّ من شأن الاستعانة بالوحي وبما أخبر به رسول الله ﷺ، ما يفي لبيان أجوبة تشغل الحائر في أمور يقال عنها غيبية وهي في ذات الوقت أركان أساسية من الإيمان، دون استبعاد الصعوبة التي ترافق كل محاولة من هذا القبيل، غير أنّ القناعة لا يجب أن تتولّد من تفسير أو تأويل مصدر واحد مهما كانت درجة الثّقة به، بل يجب أن تكون وليدة استنباط يؤيّده كلّ ما هو وارد في كتاب الله ومفصّل بعد ذلك في سنّة رسوله. فحريّ بعلماء الإسلام أن يصنّفوا الحديث من جديد لا بضوابط الجرح والتّعديل دون إهدار الجهد العلمي الذي بذل لمعرفة الرّجال، بل باعتماد درجة ما يحتوي الحديث من بيان للوارد في كتاب الله وسيرة رسول الله العملية التي قالت عنها أمّنا عائشة عليها السّلام ﴿ كان خلقه القرآن ﴾.
أول ما خلق الله
أورد الشيخ محمد بن جعفر الكتاني[100] في نظم المتناثر من الحديث المتواتر في كتاب بدء الخلق[101]: ورد في بعض الأحاديث أن أول ما خلق اللّه النور المحمدي، وفي بعضها العرش، وفي بعضها اليراع أي القصب، وصح حديث أول ما خلق اللّه القلم، وفي غيره أول ما خلق اللّه اللوح المحفوظ، وجاء بأسانيد متعددة أن الماء لم يخلق قبله شيء، وفي بعض الأخبار أن أول مخلوق الروح، وفي بعضها العقل، إلا أن حديث العقل فيه كلام لأئمة الحديث بعضهم يقول هو موضوع وبعضهم ضعيف فقط .انتهى.
يكون من المفيد التٌعرٌف قدر الإمكان على هذه الأوائل:
العرش
يسبق إلى الخاطر أن العرش يراد به سرير المَلِك، إلاٌ أنٌ الكلمة لغةً وفي الذكر الحكيم لها دلالة أخرى، فهي أعلى الشيء، ﴿ فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) الحج﴾، أورد الطٌبري[102]: عن الضحاك:(فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا) قال: خواؤها: خرابها، وعروشها: سقوفها.
في حديث أبي ذر، عن النبي ﷺ: ما السماوات السبع والأرضون السبع في الكرسي إلا كدراهم ألقيت في فلاة من الأرض وما الكرسي في العرش إلا كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض، ورد في تفسير الإمام القرطبي[103] عند قوله تعالى: ”وجنة عرضها السماوات والأرض“ وقال عنه: أَخْرَجَهُ الْآجُرِّيُّ وَأَبُو حَاتِمٍ الْبُسْتِيُّ فِي صَحِيحِ مُسْنَدِهِ وَالْبَيْهَقِيُّ وذكر أنه صحيح انتهى، كما أورده ابن حبّان في صحيحه[104] في كتاب البر والإحسان، من حديث أبي ذر الطويل بصيغة: أنّه قال: ..ثم قال يا أبا ذر ما السماوات السبع مع الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة.. الحديث، صحّ عن ابن عباس أَنه قال: الكرسيّ موضع القَدَمين، وأَما العرش فإِنه لا يُقدر قدره. يخبرنا ربّ العالمين أنّ السماء سقف كسقف كل بناء وأنها ذات أعمدة لا ترى، وأن السموات السبع والأرضين السّبع كلّهم يسعهم الكرسيّ كما في الحديث الشّريف السالف وكما تدلّ الآيات المباركات: وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ ءَايَاتِهَا مُعْرِضُونَ، الأنبياء (32)، ثمّ: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ، الرعد (2). قال ابن عبّاس رضي الله عنهما:” بعمد ولكن لا ترونها“ أورده الطّبري في جامع البيان،[105] قال قتادة: قال ابن عباس: بعَمَدٍ ولكن لا ترونها.
الكُرْسِي في اللغة والكُرَّاسة إِنما هو الشيء الذي قد ثَبَت ولزِم بعضُه بعضاً، كذا في لسان العرب،[106] من هذا يتبيّن والله أعلم، أن الكرسي ليس من العرش، فالكرسي متماسك فيما بينه، أما العرش فهو محمول كما جاء في الكتاب والسّنة، غير أنه فقد أخبر ربّ العزّة ما مفاده، بعد أن ينفخ في الصور وتنشقّ السماء، سيكون عرش ربّنا ذي المجد والبهاء هو السّقف حينئذ والله أعلم: وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ. الحاقة (17). في صحيح البخاري[107]، عن الرسول الأكرم: إِنَّ فِي الجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ، أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ، فَاسْأَلُوهُ الفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الجَنَّةِ وَأَعْلَى الجَنَّةِ - أُرَاهُ - فَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الجَنَّةِ. لا شك أن الحديث عن العرش حديث لا تستوعبه العقول، فالعقل الإنساني لا يستطيع أن يخترق هذا الكون الفسيح الذي يقدّر المدرك منه بالوسائل العلمية حتى الآن ككرة مسافة قطرها تقدر ب 93.000 من الملايين من السنين الضوئية إذا اعتمدنا المركز هو الأرض، (عودة إلى ما كان يعتبره الأقدمون وكان مثيراً للسّخرية) وأكثر من ذلك إذا اعتبرنا الكشوف المتتالية في مراقبة الكون يمكن اعتبار هذه المسافة مقيسة جزافا فقط، كما أن الكلام بدأ عن وجود أبعاد أخرى للكون خفية غير الأبعاد المعروفة بيّنتها الدراسات النظرية، فإذا كان هذا الإبهار المتتالي من التعرف أكثر فأكثر على السماء الدنيا فأين نحن من الكرسي وبعد ذلك أين نحن من العرش العظيم، يبقى الصواب مع ما قال ابن عباس: وأَما العرش فإِنه لا يُقدّر قدره، أمّا صفات العرش كما وردت في الذكر الحكيم هي:
العظمة: قال تعالى: قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) المؤمنون، وهذه الصفة لم ترد للسموات والأرض، إلا التعظيم الذي ورد في قسم الله عزّ وجلّ بمواقع النّجوم، الأمر الدال أنّ هذه المواقع محدّدة بحسبان وحكمة ودقّة أي أنها آية من آيات الله الكبرى وهو ما يدحض نظرية الانفجار العظيم التي سنبيّن لاحقاً.
الكرم: قال تعالى: فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيم (116) المؤمنون، والكرم يعني والله أعلم إمداد السماوات والأرض وما فيهن بحاجياتهن، وهذا الإمداد من الألغاز العلمية المحيّرة في الوقت الراهن، ولله خزائن كل شيء.
المجد: قال تعالى: ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيد (15) البروج، فقد قرأ أهل الكوفة المجيد خفضاً على أنّه من صفات العرش، وقال الطّبري أنهما قراءتان معروفتان فبأيّتهما قرأ القارئ فمصيب[108]، من هذا تكون صفة المجد لم ترد إلا للقرآن والعرش وفي ذلك شأن عظيم والله أعلم، إذ معلوم أن القرآن عليّ حكيم وأنّ ما في المصاحف مجرّد نسخ، وأنه روح تتنزل به الملائكة ليستقرّ ما شاء الله منه في صدور من شاء من المؤمنين: بَلْ هُوَ ءَايَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49) العنكبوت، فيكون المجد والله أعلم من صفات اللوح المحفوظ تبعاً لذلك.
الديمومة: خلق الله السماوات والأرض بالحق وأجل مسمّى، أي أنّ لهذا الخلق نهاية ثمّ إعادة، كما قال العزيز الحكيم: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8) الروم. وما بلغنا لم يرد بمثل هذا فيما يخصّ العرش، أي أنّه عند طيّ السّموات والأرض وإعادة الخلق مرة أخرى لا خبر وصلنا أنّ عرش ربّ العزّة يطاله شيء من ذلك، أي أنّ ديمومته تتعدّى الخلود، فالخلود كما سيتبيّن فيما بعد يبدأ مع بداية السماوات والأرض وينتهي بانتهائهما، ولله الأمر كله.
اللوح
ذكر في القرآن الحكيم في سورة البروج: فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22) البروج، يراد به القرآن المجيد، قال القرطبي[109]: وقيل: هو أم الكتاب، ومنه أنتسخ القرآن والكتب. وفي المستدرك[110]: عن ابن عباس: إن مما خلق الله لوحا محفوظا من درة بيضاء، دفتاه من ياقوتة حمراء، قلمه نور، وكتابه نور، ينظر فيه كل يوم ثلاث مائة وستين نظرة -أو مرة -، ففي كل نظرة منها يخلق، ويرزق، ويحيى، ويميت، ويعز، ويذل، ويفعل ما يشاء.
القلم
عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كما جاء في المستدرك[111] قال: أول ما خلق الله القلم، خلقه من هجا قبل الألف واللام فتصور قلماً من نور، فقيل له: اجر في اللوح المحفوظ، قال: يا رب، بماذا؟ قال: بما يكون إلى يوم القيامة، فلمّا خلق الله الخلق، وكّل بالخلق حفظة، يحفظون عليهم أعمالهم، فلما قامت القيامة، عُرضت عليهم أعمالهم، وقيل: هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون (سورة الجاثية:29)، عرض بالكتابين فكانا سواءً، قال ابن عباس: ألستم عرباً؟ هل تكون النسخة إلا من كتاب؟.
وفي تهذيب سنن أبي داود، لابن القيم: قالَ عُبَادَةُ بنُ الصّامِتِ لابْنِهِ: ”يَا بُنَيّ إنّكَ لَنْ تَجِدَ طَعْمَ حَقِيقَةِ الإيْمَانِ حَتّى تَعْلَمَ أنّ مَا أصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَما أخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ“، سَمِعْتُ رَسُولَ الله ﷺ يقُولُ: إنّ أوّلَ مَا خَلَقَ الله تَعَالَى الْقَلَمَ فقال لَه: اْكْتُبْ، فقَالَ: رَبّ وَمَاذَا أكْتُبُ؟ قال: اْكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلّ شَيْء حَتّى تَقُومَ السّاعَةُ.
معلوم أنّ الإنسانية مرّت بأطوار في استعمال القلم، فقلم من يراع وآخر من ريش وآخر من ألواح ممغنطة وآخر من ألواح ضوئية باستعمال أشعّة الليزر وغير ذلك، فالتسجيل حاليّا قد يكون كتابيّا أو صوتيّا أو بالصورة في بعدين وحتّى في ثلاثة أبعاد، سقت هذا حتى لا نتشبّث بالصورة النّمطية في أذهاننا للوح والقلم، إذ نحن بصدد مخلوقين من نور، والنور ليس بالضّرورة الضوء، ويعلم الله كيف يكتب القلم ولتقريب الفكرة نتأمل قوله عزّ وجلّ: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49) الكهف، فمدلول الحضور أفصح من أن يبيّن والله أعلم.
العقل
روى الإمام زيد بن علي في مسنده[112] عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب عليه السّلام، أن رسول الله ﷺ قال: أول ما خلق الله القلم، ثم خلق الدواة، وهو قوله تعالى: ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ، ثم قال له لتخط كل شيء هو كائن إلى يوم القيامة من خلق أو أجل، أو رزق أو عمل، إلى ما هو صائر إليه من جنة أو نار، ثم خلق العقل فاستنطقه فأجابه، فقال وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا هو أحب إلي منك، بك أخذ وبك أعطي، أما وعزتي لأسكننك فيمن احب ولأنقصنك فيمن أبغضت، فأكمل الناس عقلا أخوفهم لله عز وجل وأطوعهم له، وأنقص الناس عقلا أخوفهم للشيطان وأطوعهم له.
قريبا من هذا المعنى نجد في كتب أهل السنة حديث: ”أول ما خلق الله العقل قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، ثم قال الله عز وجل: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أكرم علي منك، بك آخذ وبك أعطي، وبك أثيب وبك أعاقب“، أخرجه الطبراني في الأوسط من حديث أبي أمامة وأبو نعيم من حديث عائشة عليها السّلام بإسنادين ضعيفين، ‏قاله الحافظ العراقي[113]، رغم التشكيك في هذا الحديث و استبعاده من علماء السّلف فهو معتمد من طرف الصوفية فقد أورده أبو حامد الغزالي في الإحياء مثلاُ، والحديث يقترب من مقولة الهرامسة ومن حذا حذوهم من فلاسفة اليونان. وتتبنّى الفلسفة الهرمسية المنسوبة إلى هرمس مثلّث الحكمة (سيدنا إدريس عليه السّلام عند المسلمين) المبادئ السّبعة التالية:
مبدأ العقلانية، ويقول الكل هو العقل وأن الوجود وضع عقلي، أي المطلق هو العقل الكلي وأن كل الظواهر من مادة وطاقة لها وجود في العقل المطلق.
مبدأ التّجاوب أو التواصل، يجسّد أن هناك دائما تواصلاً بين قوانين وظواهر المستويات المختلفة للوجود ويقول كما في الأعلى كذلك في الأسفل وكما في الأسفل كذلك في الأعلى.
مبدأ الاهتزاز (التذبذب)، ويقول لا شيء في سكون، الكل يتحرّك الكل يهتزّ، وأن الفرق بين تجليات المادة والنّفس تكمن في تفاوت تردد الاهتزاز.
مبدأ القطبية (الازدواجية)، ويقول الكل ثنوي الكل يحتوي قطبيه المتقابلين فهو ضمن طبيعته يوجد التناقض.
مبدأ التّناغم، ويقول كل شيء يتدفق للداخل وللخارج الكل له تموجاته يرتفع وينخفض، فعل، ورد فعل، الكل في حركته يحافظ على التناغم.
مبدأ السّببية، يقول كل سبب ينتج أثر، وكلّ أثر له سببه، وكل حادث يحكمه قانون وما الصدفة إلا أثر ما زال يجهل قانونه.
مبدأ النوع، يقول الزوجية توجد في كل شيء، ما من شيء إلا له جانبه الذكوري والأنثوي في ذاته.
جلّ الشواهد تدل أن ما من مخلوق خلقه الله ربّ العالمين إلا جعل له عقلاً؛ لمّا خلق القلم قال له ربّ العزّة أكتب..الحديث سبق، لما خلق الله السماء َقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ، وفي الذكر الحكيم كذلك أن ربّ العزّة أوحى إلى النحل و لكل سماء، وسيوحى للأرض إذ ستزلزل، وقال تعالى في سورة الإسراء: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا،(44) الإسراء، فلا يكون الخطاب إلا لعاقل ولا يسبّح إلا عاقل والله أعلم، وقصّتا هدهد سليمان، والنّملة التي قالت يا أيّها النّمل ادخلوا مساكنكم كما وردا في الكتاب أكبر دليل على ذلك، ثمّ أنّ الذي في اعتبارنا أنّ الإنسان أعقل المخلوقات قد لا يكون صحيحاً، فقد وصفه ربّ العزّة بالجهل كما قال: إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً (72) الأحزاب. فيكون من الملائم تصحيح المفاهيم المغلوطة التي لا مرجعية لها من الوحي.
الماء
في المستدرك[114]، كذا في مسند الإمام أحمد، عن أبي هريرة، قال: قلت: يا رسول الله، إني إذا رأيتك طابت نفسي، وقرت عيني، فأنبئني عن كل شيء، قال: كل شيء خلق من ماء.
النور المحمّدي
ورد في كتاب كشف الخفاء للإمام العجلوني [115]: أول ما خلق اللهُ نورُ نبِيك يا جابر.. الحديث، رواه عبد الرزاق بسنده عن جابر بن عبد الله بلفظ قال قلت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، أخبرني عن أول شيء خلقه الله قبل الأشياء، قال: يا جابر، إن الله تعالى خلق قبل الأشياء نور نبيك من نوره، فجعل ذلك النور يدور بالقُدرة حيث شاء الله، ولم يكن في ذلك الوقت لوح ولا قلم ولا جنة ولا نار ولا ملك ولا سماء ولا أرض ولا شمس ولا قمر ولا جِنِّيٌ ولا إنسي، فلما أراد الله أن يخلق الخلق قسم ذلك النور أربعة أجزاء: فخلق من الجزء الأول القلم، ومن الثاني اللوح، ومن الثالث العرش، ثم قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء، فخلق من الجزء الأول حَمَلَة العرش، ومن الثاني الكرسي، ومن الثالث باقي الملائكة، ثم قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء: فخلق من الأول السماوات، ومن الثاني الأرضين، ومن الثالث الجنة والنار، ثم قسم الرابع أربعة أجزاء، فخلق من الأول نور أبصار المؤمنين، ومن الثاني نور قلوبهم وهى المعرفة بالله، ومن الثالث نور إنسهم وهو التوحيد لا إله إلا الله محمد رسول الله. في المطالب العالية[116] قال ابن أبي عمر: حدثنا عمر بن خالد، ثنا محمد بن عبد الله، عن عبد الله بن الفرات، عن عثمان، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: إن قريشا كانت نورا بين يدي الله عز وجل قبل أن يخلق آدم بألفي عام، فيسبح ذلك النور فتسبح الملائكة بتسبيحه، فلما خلق الله آدم جعل ذلك النور في صلبه، قال رسول الله ﷺ: « فأهبطه الله إلى الأرض في صلب آدم ، فجعله في صلب نوح في السفينة ، وقذف في النار في صلب إبراهيم ، ولم يزل ينقلني من أصلاب الكرام إلى الأرحام الطاهرة، حتى أخرجني من بين أبوي، لم يلتقيا على سفاح قط». فإن ثبت حديث النّور المحمدي رغم التجاذب المذهبي، الذي لا أرى له ما يلزم إذ هو نور منه خلقنا جميعاً والأصح خلق منه كل شيء، يكون تفسيرا مقبولا للآية الحكيمة والله أعلم: قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81) الزخرف، رغم استبعاد كل المفسرين أن يُأخذ الكلام على ظاهره، وإيراد عدة أقوال أهمها: ”قل إن كان لله ولد كنت أسبقكم لطاعته“، غير أن اعتماد ما جاء في حديث جابر، يلزم أن يكون النور المحمدي هو أول من عَبَد الله من بين كل ما خلق،‏ هذا الفهم لا يتعارض مع التنزيه المعلوم، فكل خلق الله من نور أو من نار أو من طين هم عبيد لله، ولن يستنكف ملك ولا رسول أن يكون عبداٌ لله. ﴿ مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) مريم ﴾، فالتنزيه ضروري لكونه الواحد الأحد الذي لم تكن له صاحبة، واختياري إذ أراد بمشيئته ومقتضى حكمته أن لا يتخذ ولداً مما خلق، ولو لم تمانع قدرته ذلك، كما يقول تعالى: لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4) الزمر، ربّ العزة حرّم على نفسه ما شاء، كما في حديث أبي ذر الذي أخرجه الإمام مسلم في صحيحه: يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي.. الحديث. وكذا نزّه نفسه عمّا يشاء. قد تُفهم غيرة المسلمين على دينهم خوفا مما وقع من غلو للنصارى، وهو أمر محمود، إلا أن الذي يهم كيف يبين هذا الحديث أن بدء الخلق من نور ومنه كان تدرّج الخلق، وربّنا يخلق ما شاء مما يشاء. بالرجوع إلى حديث النور المحمّدي، يكون ترتيّب الموجودات كما يلي: النور المحمّدي ثمّ القلم ثمّ اللوح ثمّ العرش ثمّ حملة العرش ثمّ الكرسي ثمّ باقي الملائكة ثمّ السماوات والأرض، فيكون بذلك إشكال ترتيب المخلوقات منتهاً والله أعلم.
منطق الترتيب؛ هو منطق تثيره معرفتنا في السماء الدنيا حيث نلاحظ أن الفاعل الملزم للتّرتيب هو الزمن، غير أن ما وصلنا يبيّن أن الزمن لا يتعدّى كونه مخلوقاً لم يسبق خلق السموات والأرض، قال تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) التوبة، كما أَنّ النّبيّ ﷺ قال: ”الزّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ الله السّمَاوَاتِ والأرض، السّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً، مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ: ثَلاَثٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقِعْدَةِ وَذُو الحجّةِ وَالمُحَرّمُ وَرَجَبُ مُضَرَ الّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ“ أخرجه البخاري في الصحيح[117]، يجب التّركيز علي ”استدار كهيئته“ لما يقدّم ذلك من بيان في معرفة طبيعة الزّمن. أمّا الإشارة إلى الزّمن قبل خلق السموات والأرض الواردة في حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ كما سبق ذكره، التي نصّت على خمسين ألف سنة فهي لا تختلف مثلا عن، قول الله تعالى: تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) المعارج، والآية الحكيمة لا تسوق المقارنة مما تعدّون، كما هو حاصل في يوم كان مقداره ألف سنة.
وفي المستدرك[118]: عن عبد الله بن عمر بن العاص قال: تلا رسول الله ﷺ الآية: يوم يقوم الناس لرب العالمين، المطففين (6)، فقال رسول الله ﷺ: كيف بكم إذا جمعكم الله كما يجمع النبل في الكنانة خمسين ألف سنة، ثم لا ينظر الله إليكم؟. وفي المستدرك ‏عن عبد الله بن أبي مليكة: أن رجلا سأل ابن عباس رضي الله عنهما عن قوله عز وجل: وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون الحج (47)، فقال: من أنت؟، فذكر له أنه رجل من كذا وكذا، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: فما يوم كان مقداره خمسين ألف سنة؟ فقال الرجل: رحمك الله، إنما سألتك لتخبرنا!، فقال ابن عباس: يومان ذكرهما الله عزّ ووجل في كتابه، الله أعلم بهما انتهى.
معلوم أنّ الزمن بعد النّظرية النّسبية لأينشتاين (1879- 1955م) لم يعد ذلك المتحرّك الذي ينساب رغم استدارته بشكل مستقل عن باقي أبعاد المكان، حتى صار الحديث عن الفضاء ذو الأبعاد الأربعة أمر مسلّم به،( يكون الزمن هو البعد الرابع بعد الطول والعرض والارتفاع وهو ضروري لتحديد موقع نقطة متحرّكة)، كما برهن تجريبيّا علي أن الزّمن قد يتعرّض لعوارض تصيب إيقاعه أثناء الحركة ويزيد هذا التغيّر بزيادة السرعة إلى أن يصل أقصاه في السرعة التي تقترب من سرعة الضوء، الأمر الذي يمكن اعتباره سبقاً في الزمن، أما الرجوع للوراء في الزّمن فهو متعذر لجسم ذي كتلة نظريا حتّى الآن، ومثبت للتّاكيونات taquions (جسيمات أولية افتراضية ،عديمة الكتلة لا تتواجد إلا في السرعة التي تفوق سرعة الضوء ويعتقد نظرياً أنها قد تصل إلى سرعة لا نهائية)، وقد استفاد الخيال العلمي من البحوث العلمية التي تجاوزت النسبية فيما يخصّ طبيعة الزمن فنظّم لنا رحلات في الزمن سواء إلى الماضي أو المستقبل مشوّقة، وكونها خيال لا تستلزم الاستحالة، فلا زال العلم لم يعط تفسيراً لقصة أصحاب الكهف في القرآن الحكيم التي هي رحلة إلى الأمام في الزمن مع ما تبيّن من علاقة بين الحركات الكونية وحركات ما يتواجد في الأبدان كما قال تعالى: وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا (17) الكهف. ولا للشواهد المتعددة التي يسوقها أصحاب عقيدة التناسخ أو التقمّص إن صحّ بعضٌ منها، فهي تمثّل رحلات إلى الخلف في الزّمن، أو لنقل تذكر عيش منسيّ لعيشة عشناها جميعاً في الميتة الأولى في الأصلاب والأرحام.
بدء الخلق في القرآن الحكيم
مشروعية التفكّر والبحث في بدء الخلق بيّنة في قوله تعالى: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ ينْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير (20) العنكبوت. يقول سيّد قطب في ظلال القرآن[119]: إنه خطاب لكل منكر لله ولقائه. خطاب دليله هذا الكون؛ ومجاله السماء والأرض؛ على طريقة القرآن في اتخاذ الكون كله معرضاً لآيات الإيمان ودلائله؛ وصفحة مفتوحة للحواس والقلوب، تبحث فيها عن آيات الله، وترى دلائل وجوده و وحدانيته، وصدق وعده ووعيده. ومشاهد الكون وظواهره حاضرة أبداً لا تغيب عن إنسان، ولكنها تفقد جدتها في نفوس الناس بطول الألفة، ويضعف إيقاعها على قلوب البشر بطول التكرار، فيردّهم القرآن الكريم إلى تلك الروعة الغامرة، وإلى تلك الآيات الباهرة بتوجيهه الموحي، المحيي للمشاهد والظواهر في القلوب والضمائر، ويثير تطلعهم وانتباههم إلى أسرارها وآثارها. ويجعل منها دلائله وبراهينه التي تراها الأبصار وتتأثر بها المشاعر، ولا يتخذ طرائق الجدل الذهني البارد والقضايا المنطقية التي لا حياة فيها ولا حركة. تلك التي وفدت على التفكير الإسلامي من خارجه فظلت غريبة عليه، وفي القرآن المثل والمنهج والطريق.
أورد ربّ العزّة في الذّكر الحكيم صيغة سيروا في الأرض في أكثر من آية، وذلك ليستيقن النّاس من عاقبة الذين سبقوهم، كذا لاستنباط آي كونية تكون خير دليل لمرجعيتهم الإيمانية، وهذا منهج علمي، لا يكتفي بالسّرد أو الرواية التّاريخية بل يطلب التأييد بالآثار المستكشفة والاستنتاج العلمي الملائم، ولا مانع أن يتجاوز هذا المنهج ليشمل نشأة الكون ككل، فقد جاء في تفسير الطبري[120]: عن قتادة[121]: في قوله عزّ وجلّ (فانظروا كيف بدأ الخلق) قال: خلق السماوات والأرض، انتهى.
لعلّ أبين آية وفي ذات الوقت أعصاها على الفهم والإدراك لبدء الخلق هي: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّوَرِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73) الأنعام. يقول تعالى خلق السماوات والأرض ”بالحق“، وسيبيّن بعد ذلك ما هو الحق الذّي به خلق، و”يوم“ بمعنى ظرف أي متى شاء، ”يقول كن فيكون“ سبق البيان أنّ ”كن“ يخلق بها ربّ العزّة الأشياء في عالم الملك، إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ، وكذلك يدبّر بها الأمر في عالم الملكوت، بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ، ”قوله الحق“ أي قوله هو الحق، وقد أورد الطبريّ من ذَهب إلى هذا المعنى[122] فقال: وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِكَلَامِهِ انتهى. أمّا ”وله الملك يوم ينفخ في الصّور“ جملة متّصلة تفسّرها الآية: يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) غافر، ”عالم الغيب والشهادة“، أي إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ.
معلوم من التّوراة والقرآن أنّ الله عزّ وجلّ خلق السموات والأرض في ستّة أيّام، ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54) الأعراف﴾. ومن مميّزات هذه الآية الحكيمة أنها جمعت مع اليوم، كلاّ من الليل والنّهار، والشّمس والقمر، والنّجوم أي باقي الأفلاك، وكلّها عناصر ضرورية في تعريف وحساب مقدار اليوم، فبالرّجوع للتّعريف المشهور عند النّاس قديماً أنّ اليوم يتحدّد بشروق الشّمس وغروبها، جاء في اللسان[123]: اليوم معروف مقداره من طلوع الشّمس إلى غروبها، انتهى، وبمثل هذا قال منجّمو الفرس والروم، التّعريف مخطئ في أمور عدّة، منها استبعاده الليل من اليوم رغم أنّ التّوراة سبق أن عرّفت اليوم بليله ونهاره كما سيتبيّن فيما بعد، ثمّ أنّه غير صالح لحساب الشّهور والسّنين، كما قال تعالى: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً (12) الإسراء، لتلافي مثل هذه الأخطاء وغيرها اصطُلِحَ اليوم بليلته، وهو عند العامة عبارة عن مجموع اليوم والليل، ويبدأ عند العرب وأهل الشّرع أوّل الليل، أي الليل سابق النهار ما لا يتفق مع قوله تعالى: لا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) يس، أمّا عند الفرس والرّوم فمبدأه أوّل النّهار، وحسب هذا المصطلح يكون مقدار اليوم بليلته مختلفاً حسب اختلاف الآفاق، ويبلغ مداه الأقصى في المواضع التي عرضها أكثر من تمام الميل الكلّي كقطبي الأرض، يقول الرّازي[124]: وَأَمَّا الْيَوْمُ بِلَيْلَتِهِ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ مُفَارَقَةِ نُقْطَةٍ مِنْ دَائِرَةِ مُعَدَّلِ النَّهَارِ نُقْطَةً مِنْ دَائِرَةِ الْأُفُقِ، أَوْ نُقْطَةً مِنْ دَائِرَةِ نِصْفِ النَّهَارِ وَعَوْدِهَا إِلَيْهَا، فَالزَّمَانُ الْمُقَدَّرُ عِبَارَةٌ عَنِ الْيَوْمِ بِلَيْلَتِهِ، ثُمَّ إِنَّ الْمُنَجِّمِينَ اصْطَلَحُوا عَلَى تَعْيِينِ دَائِرَةِ نصف النهار مبدأ لليوم بِلَيْلَتِهِ، أَمَّا أَكْثَرُ الْأُمَمِ فَإِنَّهُمْ جَعَلُوا مَبَادِئَ الْأَيَّامِ بِلَيَالِيهَا مِنْ مُفَارَقَةِ الشَّمْسِ أُفُقَ الْمَشْرِقِ وَعَوْدِهَا إِلَيْهِ مِنَ الْغَدَاةِ، انتهى.
أمّا التّعريف الحديث لليوم، هو الزّمن الذي تستغرقه الأرض لإتمام دورة حول نفسها بالنّسبة لمحورها، ويكون 23 ساعة و56 دقيقة و4،09 ثانية، واليوم قد يكون يوم شمسياً أو يوماً فلكياً حسب المرجعية المعتمدة في قياس دورة الأرض هل بالنّسبة للشّمس أم بالنّسبة للنّجوم، فالسّنة باستعمال اليوم الشّمسي تتكوّن من 365،242189 يوم، وباستعمال اليوم الفلكي تكون 366،242189 يوم أي بفرق يوم واحد. اعتبار اليوم مقداراً من الزمن يُتمّ فيه جرم ما حركة دورانية حول نفسه وسّع من مفهوم اليوم ويقرّبنا أكثر لفهم معنى اليوم في القرآن الحكيم، فيوم عطارد مثلا مقداره 58،65 يوم حسب عدّنا، ويوم زحل مقداره 0،44 يوم، ويوم مجرّة اللبانة يقدّر بأكثر من 200 مليون سنة ضوئية وهكذا، فسبحان: رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5) الصّافات. وكل هذه الاعتبارات واردة في الكتاب بصيغة ربّ المشرق والمغرب عندما يتعلّق الأمر بالأرض التي نحن عليها، وبلا أقسم بربّ المشارق والمغارب عند تحديد المواقع الكونية، وببعد المشرقين كأقصى مسافة كونية أي البعد بين مشرقنا ومشرق الكون برمّته والله أعلم.
محاولة استنباط ما جاء في كتاب الله عن مراحل بدء الخلق، قد تكون مفصّلة كما يلي والله أعلم: في البدء: كان الله وكان عرشه على الماء، قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ من بعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ (7) هود.
اليوم الأول: خلق السماوات و الأرض وجعل الظلمات والنور، قال تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) الأنعام. يقول البيضاوي[125]: (وجعل الظلمات والنور) أنشأهما والفرق بين خلق وجعل الذي له مفعول واحد أن الخلق فيه معنى التقدير والجعل فيه معنى التضمين ولذلك عبر عن إحداث النور والظلمة بالجعل تنبيها على أنهما لا يقومان بأنفسهما كما زعمت الثنوية، وجمع الظلمات لكثرة أسبابها والأجرام الحاملة لها أو لأن بالظلمة الضلال وبالنور الهدى والهدى واحد والضلال متعدد انتهى.
اليوم الثاني: فتق السماوات عن الأرض، قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30) الأنبياء، أورد الطّبري عن ابن عباس، قوله: كانتا ملتصقتين، فرفع السماء ووضع الأرض، انتهى.
اليوم الثالث والرابع: سوّى رب العزة السماوات السبع وما فيهنّ بعد أن كانتا دخاناً، مع استمرار الخلق على الأرض يقول تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29) البقرة.
اليوم الخامس والسادس: استكمل العزيز الحكيم الخلق وفصل الأرزاق ودبر الأمر، يقول تعالى: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) فصلت.
يقول محمد بن عبد الله الأصبهاني في تفسيره درّة التّنزيل وغرّة التّأويل[126]: لسائل أن يسأل فيقول: ذُكر في هذه الآية أنه خلق الأرض في يومين، ثم قال: وجعل فيها الجبال مع سائر ما ذكر في أربعة أيام، وقضى السموات السبع في يومين، فهذه ثمانية أيام، وقد قال في موضع آخر: خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ؟. وما أجاب به المفسرون هو أن معنى قوله: في أربعة أيام أي: في تتمة أربعة أيام فيكون لِخلق الأرض يومان، ولِخلق ما فيها من الجبال والأقوات والشجر والمياه وغيرها من عامر وغامر يومان، فتكون الأربعة أيام المذكورة معها يوماَ خلقِ الأرض، قالوا: وهذا كما تقول: سرت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيام، وسرت إلى الكوفة في خمسة عشر يوما وأنت تعني خمسة عشر، مع العشرة التي سرت فيها من البصرة إلى بغداد، فتخبر عن جملة الأيام التي وقع السير فيها. وكذلك أخبر الله تعالى عند ذكر ما خلقه في الأرض عن جملة الأيام التي وقع فيها خلق الأرض وما اتصل بها، وإنما ضمّ اليومين إلى اليومين المتقدمين لاتصال خلق ما في الأرض بخلق الأرض. هذا ما أجاب به أهل التفسير والنظر وأُولو المعرفة بكلام العرب.
بيّن أنّي لم أتبنّى هذا الفهم لاعتبارات منها:
أورد أهل التّفسير جدلا حول من خُلِقَ أولا الأرض أم السّماء، ولا أرى له لزوما لأنّ ربّ العزّة يقول أنّ السماوات والأرض كانتا رتقاً ما يعني أنّهما خلقا في آنٍ واحد.
الأيّام السّتة كلها أيام خلق بالنّسبة للسّماوات والأرض، فالجملة ”ثمّ استوى إلى السّماء“ قد لا تعني بالضّرورة التّرتيب بعد الأيام الأربعة، إذ لو كان الأمر كذلك والله أعلم، كيف تستقيم الحياة على الأرض والسّماء لا زالت دخاناً؟، ولأهل اللغة أن يحدّدوا هل الجملة اعتراضية أم استئنافية أم غير ذلك.
التّصور القديم الذي كان يعتبر الأرض هي هذا الجرم الذي نعيش عليه لا غير وأنّ الأرضين السّبعة هي طبقات أسفل هذا الكوكب، وأنّ السماء هي كل ما فوقنا بما فيها من نجوم وكواكب ومجرّات، ألزم أهل التّأويل الاعتماد على هذه المعرفة العلمية المتداولة، وأخضعوا التّفسير للملاءمة، ونفس الشّيء فهمنا الحالي يعتمد على معطيات العلم الحديث.
معلوم أن الذكر الحكيم يتجنب كمنهج اختصّ به، الخوض في تفاصيل الأشياء، فهو يقتصر على الإخبار بما ينفع الناس، إلا أن هذه الأخبار وإن كانت مقتضبة فهي تدل على أشياء عظيمة نذكر منها والله أعلم: أنّ خلق السماوات والأرض مهما كانت الطّريقة التّي تمّت بها هل من العدم أم من شيء سابق، فالمؤكّد أنّ الماء كان موجوداً قبل ذلك، ثمّ أن رب العزة خلق السماوات والأرض بيده يقول: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) الذاريات، وهذا تأكيد أن الكون في حالة توسع، كما نلاحظ أن رب العزة لما خلق النور خلق خلقا منه، ولما خلق النار خلق خلقا منها، ولما خلق التراب خلق خلقا منه، وقبل ذلك قدّر وكتب وأوحى وخلق النفوس أو الأشباح، يقول تعالى: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51) الكهف، يقول الرازي في تفسيره[127]: اختلفوا في أن الضمير في قوله : "مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ" إلى من يعود ؟ والأقرب عندي أن الضمير عائد إلى الكفار الذين قالوا للرسول ﷺ إن لم تطرد من مجلسك هؤلاء الفقراء لم نؤمن بك فكأنه تعالى قال: إن هؤلاء الذين أتوا بهذا الاقتراح الفاسد والتعنت الباطل ما كانوا شركاء لي في تدبير العالم بدليل قوله تعالى: {مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَـاوَاتِ وَ الأرض وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ} ولا اعتضدت بهم في تدبير الدنيا والآخرة، بل هم قوم كسائر الخلق، فلم أقدموا على هذا الاقتراح الفاسد؟، وقال أخرون أنه يعود لإبليس وذريته، انتهى، وعندي يعود لكليهما لأنهما ينطبق عليهما وصف المضلين والله أعلم، رغم أن خلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس مع ذلك فهو مفتقر للأمداد وحفظ رب السماوات والأرض، يقول تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41) فاطر.
بدء الخلق في السّنّة الشّريفة
أخبار بدء الخلق في السنّة الشّريفة والتراث عموماً وافرة ولكنها غير مرتبة ومدقّقة ولا مؤيدة بإجماع، مع ذلك بمعية كتاب الله ستظل الحقّ للمتوسّمين، والفرقان المبين فيما نحن فيه مختلفين، ولعل أبرز حديث يتناول مراحل الخلق ما أورد الإمام مسلم في صحيحه من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِيَدِي فَقَالَ: خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ وَخَلَقَ فِيهَا الْجِبَالَ يَوْمَ الْأَحَدِ وَخَلَقَ الشَّجَرَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَخَلَقَ الْمَكْرُوهَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ وَخَلَقَ النُّورَ يَوْمَ الأربعاء وبث فِيهَا الدَّوَابَّ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَخَلَقَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَام بَعْدَ الْعَصْرِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فِي آخِرِ الْخَلْقِ فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ الْجُمُعَةِ فِيمَا بَيْنَ الْعَصْرِ إِلَى اللَّيْلِ. قال ابن كثير في تفسيره[128]:"هذا الحديث من غرائب صحيح مسلم، وقد تكلم عليه علي بن المديني والبخاري وغير واحد من الحفاظ، وجعلوه من كلام كعب، وأن أبا هريرة إنما سمعه من كلام كعب الأحبار، وإنما اشتبه على بعض الرواة فجعلوه مرفوعا، وقد حرر ذلك البيهقي" انتهى، لعلّ مسبّب الإشكال الأساسي في هذا الحديث، هو يوم السّبت الذي خلق فيه الله عزّ وجلّ التّربة، كأنّ أيام الخلق أصبحت سبعة عوض السـتّة الواردة في الذّكر الحكيم، الحقُّ كلمة الله، وكلمة الله روح، فهل الحق ثابت ولا يقبل إلاّ وجهاً واحداً من الصّواب؟ الحق صعب الإدراك حتى لا نقول أنه مستحيل، والكلمة تقرّب إلى الفهم على منوال ما يكشف ويبدّد النّور الظلمات، غير أنّ هذه الأمور لا تتمّ تلقائياً دون مشاركة المتلقّي في إحداث الفعل، فكما أنّ القول يحتاج للاستماع، فإنّ النّور يحتاج لصفاء القلوب. لنستدلّ بقصّة غنم القوم التي نفشت الحرث، الآيتين 78 و79 من سورة الأنبياء. أورد الطبري في تفسيره[129] عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قوله:” أن رجلين دخلا على داود، أحدهما صاحب حرث والآخر صاحب غنم، فقال صاحب الحرث: إن هذا أرسل غنمه في حرثي، فلم يبق من حرثي شيئا. فقال له داود: اذهب فإن الغنم كلها لك، فقضى بذلك داود. ومر صاحب الغنم بسليمان، فأخبره بالذي قضى به داود، فدخل سليمان على داود فقال: يا نبي الله إن القضاء سوى الذي قضيت. فقال: كيف؟ قال سليمان: إن الحرث لا يخفى على صاحبه ما يخرج منه في كل عام، فله من صاحب الغنم أن يبيع من أولادها وأصوافها وأشعارها حتى يستوفي ثمن الحرث، فإن الغنم لها نسل في كل عام. فقال داود: قد أصبت، القضاء كما قضيت. ففهمها الله سليمان“، بيّن أنّ كلاهما محقّ، غير أنّ الحق له درجات مختلفة من الصّواب، من هذا يكون الحديث الذي أورده مسلم صائباً ما لم يثبت يقيناً أنّ الحديث موضوع، ثمّ على اعتبار أنّ أبا هريرة سمعه من كعب الأحبار فهو غير متّفق مع ما جاء في التّوراة ولا يمكن أن يقول ذلك، وليس هذا بالحديث الوحيد الذي يعجز فهمنا عن إدراكه أو يخطأ في فهمه. ليس معنى هذا أنّ أيام الخلق سبعة، فقد ثبت عن رسول الله ﷺ أنّ أيام الخلق ستّة كما ورد في الذّكر الحكيم، بالرجوع إلى المستدرك[130] ، حيث أورد ما يلي: قال ابن عباس : سئل ﷺ في كم خلقت السماوات والأرض؟ قال: «خلق الله أول الأيام الأحد، وخلقت الأرض في يوم الأحد، ويوم الاثنين، وخلقت الجبال وشقت الأنهار، وغرس في الأرض الثمار وقدر في كل أرض قوتها يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء، ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض: ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين فصّلت (11). فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها في يوم الخميس ويوم الجمعة، وكان آخر الخلق في آخر الساعات يوم الجمعة، فلما كان يوم السبت لم يكن فيه خلق، فقالت اليهود فيه ما قالت، فأنزل الله عز وجل تكذيبها ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب، سورة ق الآية 38». «قال الحاكم: هذا حديث قد أرسله عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن أبي سعيد، ولم يذكر فيه ابن عباس وكتبناه متصلا من هذه الرواية والله أعلم». أورد الإمام البيهقي[131] في السنن الكبرى وغيرهما، عن ابن عباس قال: إن أول ما خلق الله عزّ وجل من شيء القلم فقال: اكتب، قال يا رب وما اكتب، قال أكتب القدر قال فجرى بما هو كائن من ذلك اليوم إلى قيام الساعة قال ثم خلق النون فدحا الأرض عليها فارتفع بخار الماء ففتق منه السماوات واضطرب النون فمادت الأرض فأثبتت بالجبال وان الجبال لتفخر على الأرض إلى يوم القيامة.
أما البدء من رواية ابن عباس فقد أورد الطبري[132]: فحدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي ﷺ، في قوله عزّ وجلّ:" هو الذي خلقَ لكم ما في الأرض جميعًا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات"، قال: إن الله تبارك وتعالى كان عرشه على الماء، ولم يخلق شيئًا غير ما خلق قبل الماء، فلما أراد أن يخلق الخلق، أخرج من الماء دخانًا، فارتفع فوق الماء فسما عليه، فسماه سماء. ثم أيبس الماء فجعله أرضًا واحدة، ثم فتقها فجعل سبع أرضين في يومين في الأحد والاثنين، فخلق الأرض على حوت، والحوتُ هو النون الذي ذكره الله في القرآن: "ن والقلم"، والحوت في الماء، والماء على ظهر صفاة، والصفاةُ على ظهر ملَك، والملك على صخرة، والصخرة في الريح وهي الصخرة التي ذكر لقمان ليست في السماء ولا في الأرض، فتحرك الحوت فاضطرب، فتزلزلت الأرض، فأرسى عليها الجبال فقرّت، فالجبال تفخر على الأرض، فذلك قوله: وَأَلْقَى فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ سورة النحل (15). وخلق الجبالَ فيها، وأقواتَ أهلها وشجرها وما ينبغي لها في يومين، في الثلاثاء والأربعاء، وذلك حين يقول: أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا يقول: أنبت شجرها وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا يقول: أقواتها لأهلها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ يقول: قل لمن يسألك: هكذا الأمر ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ سورة فصلت 9-11، وكان ذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس، فجعلها سماء واحدة، ثم فتقها فجعلها سبع سموات في يومين، في الخميس والجمعة، وإنما سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السموات والأرض "وأوحى في كل سماء أمْرها" قال: خلق في كل سماء خلقها من الملائكة والخلق الذي فيها، من البحار وجبال البَرَد وما لا يُعلم، ثم زين السماء الدنيا بالكواكب، فجعلها زينةً وحِفظًا، تُحفظُ من الشياطين، فلما فرغ من خلق ما أحبّ، استوى على العرش. فذلك حين يقول: خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، الأعراف 54، ويقول: كانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا. الأنبياء 30، انتهى،
من اختلاف الروايات يقصد بالنون الدّواة تارة والحوت تارة أخرى، أما باستقراء العلم الحديث تكون النون هي التقعر الذي يحدثه جسم ذو كتلة في مستوى الزّمكان، (هندسة الزمان مع المكان راجع النسبية العامة لأينشتاين).
سبق الذكر أن بدء الخلق في السّنة الشّريفة يحتاج إلى جهد للتّجميع ثمّ بعد ذلك التّرتيب ثمّ بعد ذلك التّحقيق، ولعلّ ما وصلنا عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، يشمل إلى حدّ لا أعلم قدره ما أوردته السّنة الشّريفة، قال في نهج البلاغة[133]: أَنْشَأَ الخَلْقَ إنْشَاءً، وَابْتَدَأَهُ ابْتِدَاءً، بِلاَ رَوِيَّة أَجَالَهَا[134]، وَلاَ تَجْرِبَة اسْتَفَادَهَا، وَلاَ حَرَكَة أَحْدَثَهَا، وَلاَ هَمَامَةِ[135] نَفْس اظْطَرَبَ فِيهَا. أَحَالَ الاْشياءَ لأَوْقَاتِهَا، وَلاَءَمَ[136] بَيْنَ مُخْتَلِفَاتِهَا، وَغَرَّزَ غَرائِزَهَا، وَأَلزَمَهَا أشْبَاحَهَا، عَالِماً بِهَا قَبْلَ ابْتِدَائِهَا، مُحِيطاً بِحُدُودِها وَانْتِهَائِهَا، عَارفاً بِقَرَائِنِها وَأَحْنَائِهَا[137].ثُمَّ أَنْشَأَـ سُبْحَانَهُ ـ فَتْقَ الأَجْوَاءِ، وَشَقَّ الأرْجَاءِ، وَسَكَائِكَ[138] الَهوَاءِ، فأَجازَ فِيهَا مَاءً مُتَلاطِماً تَيَّارُهُ، مُتَراكِماً زَخَّارُهُ[139]، حَمَلَهُ عَلَى مَتْنِ الرِّيحِ الْعَاصِفَةِ، وَالزَّعْزَعِ[140] الْقَاصِفَةِ، فَأَمَرَها بِرَدِّهِ، وَسَلَّطَهَا عَلَى شَدِّهِ، وَقَرنَهَا إِلَى حَدِّهِ، الهَوَاءُ مِنْ تَحْتِها فَتِيقٌ، وَالمَاءُ مِنْ فَوْقِهَا دَفِيقٌ. ثُمَّ أَنْشَأَ سُبْحَانَهُ رِيحاً اعْتَقَمَ مَهَبَّهَا[141]، وَأَدَامَ مُرَبَّهَا[142]، وَأَعْصَفَ مَجْرَاها، وَأَبْعَدَ مَنْشَاهَا، فَأَمَرَها بِتَصْفِيقِ المَاءِ[143] الزَّخَّارِ، وَإِثَارَةِ مَوْجِ البِحَارِ، فَمَخَضَتْهُ مَخْضَ السِّقَاءِ، وَعَصَفَتْ بهِ عَصْفَهَا بِالفَضَاءِ، تَرُدُّ أَوَّلَهُ عَلَى آخِرِهِ، وَسَاجِيَهُ[144] عَلَى مَائِرِهِ[145]، حَتَّى عَبَّ عُبَابُهُ، وَرَمَى بِالزَّبَدِ ركامه فرفعه فِي هَوَاء مُنْفَتِق، وَجَوٍّ مُنْفَهِق[146]، فَسَوَّى مِنْهُ سَبْعَ سَموَات، جَعَلَ سُفْلاَهُنَّ مَوْجاً مَكْفُوفاً[147]، وَعُلْيَاهُنَّ سَقْفاً مَحْفُوظاً، وَسَمْكاً مَرْفُوعاً، بِغَيْر عَمَد يَدْعَمُهَا، وَلا دِسَار[148] يَنْظِمُها. ثُمَّ زَيَّنَهَا بِزينَةِ الكَوَاكِبِ، وَضِياءِ الثَّوَاقِبِ، وَأَجْرَى فِيها سِرَاجاً مُسْتَطِيراً، وَقَمَراً مُنِيراً: في فَلَك دَائِر، وَسَقْف سَائِر، وَرَقِيم[149] مَائِر.
إذا كان الراسب في أفكارنا أنه في البدء كان كلّ شيء ملتهبا لا سوى النّار تماشياً مع نظرية الانفجار الكبير، وأنّ القرائن التي بين أيدينا كالشّمس والنّجوم والبراكين كلها لا زالت محتفظة بالدلالة، وتشهد على ذلك؛ وجب إرجاع النّظر كرّتين بعد تقبّل قول رسول الله ﷺ: ﴿كل شيء خلق من ماء﴾، وهل من نار أشد من البحر المسجور، كما أقسم ربّ العزّة: وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) الطّور، المسجور وردت بمعنى مُوقَد كذا بمعنى مملوء، واخترت المعنى الأول لأنّه أشدّ وعيداً في قوله تعالى: وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) التّكوير. بعد كلّ هذا محاولة فصل خلق السماوات والأرض عن الخلق الذي سبقهما وهو الماء كما ورد في تراجم الكتب المقدّسة وفي الأساطير وفي القرآن الحكيم ما هي إلا مكيدة يراد بها التّضليل ولا ثبوت لها في العلم ولا في الوحي.
بدء الخلق في تراجم التوراة
سِفرُ التّكوين الإصحاح الأَوَّلُ: 1-في البَدءِ خلَقَ اللهُ السّمواتِ والأرضَ. 2-وكانتِ الأرضُ خَرِبَةً وخَاليَةً، وعلي وجهِ الغَمرِ ظُلمَةٌ، ورُوحُ اللهِ يَرِفُّ على وَجهِ المِياهِ.3-وقال اللهُ: “ليَكن نورٌ" فكان نورٌ.4-ورَأَى اللهُ النُّورَ أَنَّهُ حَسَنٌ. وفَصَلَ اللهُ بينَ النُّورِ والظُّلمَةِ. 5-ودَعَا اللهُ النّورَ نَهَاراً، والظُّلمةُ دَعَاهَا لَيلاَ. وكان مَسَاءٌ وكان صَبَاحٌ يَوماً واحِداً. 6-وقالَ اللهُ: "لِيَكُن جَلَدٌ في وَسَطِ المِياهِ. ولِيَكُن فَاصِلاً بينَ مِياهٍ ومِياهٍ." 7-فَعَمِلَ اللهُ الجَلَدَ، وفَصَلَ بينَ المِياهِ التي تحتَ الجَلَدِ والمياهَ التي فوقَ الجَلَدِ. وكان كَذلِكَ. 8-ودعا اللهُ الجَلَدَ سَماءً. وكانَ مَساءٌ وكانَ صَباحٌ يَوماً ثانِياً. 9-وقالَ اللهُ "لِتَجتَمِعِ المياهُ تَحتَ السَّماءِ إلى مَكانٍ واحِدٍ، ولتَظهَرِ اليابِسَةُ". وكان كَذلكَ. 10-ودَعا اللهُ اليابِسَةَ أرضاً، ومُجتَمَعَ المِياهِ دَعاهُ بِحارا. ورَأى اللهُ ذَلِكَ أنّهُ حَسَنٌ. 11-وقال اللهُ "لِتُنبِتِ الأرضُ عُشباً وبَقلاً يُبزِرُ بِزراً، وشَجَراً ذَا ثَمَرٍ يَعمَلُ ثَمَراً كَجِنسِهِ، بِزرُهُ فيهِ على الأرضِ". وكانَ كذَلِكَ. 12-فأخرَجَت الأرضُ عُشباً وبَقلاً يُبزِرُ بِزراً كَجِنسِهِ وشَجَراً يَعمَلُ ثَمَراً بِزرُهُ فيهِ كَجِنسِهِ. ورأى اللهُ ذَلِكَ أنّهُ حَسَنٌ. 13- وكانَ مَساءٌ وكانَ صَباحٌ يوماً ثالِثاً. 14-وقالَ اللهُ "لِتَكُن أنوارٌ في جَلَدِ السّماءِ لِتَفصِلَ بَينَ النّهارِ واللّيلِ، وتَكونَ لآياتٍ وأوقاتٍ وأيّامٍ وسِنينٍ. 15-وتكونَ أنواراً في جَلَدِ السّماءِ لِتُنِيرَ على الأَرضِ". وكانَ كذَلِكَ. 16-فَعَمِلَ اللهُ النُّورينِ العَظيمَينِ: النّورُ الأَكبَرَ لِحُكمِ النهار، والنّور الأصغَرَ لِحُكمِ اللّيلِ، والنّجُومَ. 17-وجَعَلَها اللهُ في جَلَدِ السّماءِ لِتُنيرَ على الأرضِ، 18-ولِتَحكُمَ على النّهارِ واللّيلِ، ولِتَفصِلَ بينَ النّورِ والظّلمَةِ. ورأى اللهُ ذَلِكَ أنّهُ حَسَنٌ.19-وكانَ مَساءٌ وكانَ صَباحٌ يوماً رَابِعاً. 20-وقال اللهُ: "لِتَفِضِ المياهُ زحَّافاتٍَ ذَاتَ نَفسٍ حَيَّةٍ، وليَطِر طَيرٌ فَوقَ الأَرضِ علي وَجهِ جَلَدِ السّماءِ". 21-فَخَلَقَ اللهُ التَّنانينَ العِظامَ، وكلُّ نَفسٍ حَيَّةٍ تَدِبُّ التي فاضت بِها المِياهُ كأجناسِها، وكلُّ طائِرٍ ذي جَناحٍ كَجِنسِهِ. ورَأى اللهُ ذَلِكَ أنّهُ حَسَنٌ. 22-وبارَكَها اللهُ قائِلاً: "أثمِري وأكثُري واملئي المياهَ في البِحارِ. وليَكثُرِ الطّيرُ على الأرضِ". 23-وكانَ مَساءٌ وكانَ صَباحٌ يوماً خَامِساً. 24-وقالَ اللهُ: "لِتُخرِجِ الأرضُ ذَواتِ أنفُسٍ حَيَّةٍ كَجِنسِها: بَهائِمَ، وما يَدِبُّ، ووُحُوشَ أرضٍ كَأجناسِها ". وكان كَذَلِكَ. 25-فَعَمِلَ اللهُ وُحوشَ الأرضِ كَأَجناسِها، والبَهَائِمَ كأَجناسِها، وجَمِيعَ دَبَّاباتِ الأرضِ كَأَجناسِها. ورَأى اللهُ ذَلِكَ أنّهُ حَسَنٌ. 26-وقالَ اللهُ: "نَعمَلُ الإنسانَ علي صٌورَتِنا كَشَبَهِنا، فَيَتَسَلَّطونَ علي سَمَكِ البَحرِ وعلي طَيرِ السّماءِ وعلى البهائِمِ، وعلى كُلِّ الأرضِ وعلى جَميعِ الدّبّاباتِ التي تَدِبُّ على الأرضِ". 27-فَخَلَقَ اللهُ الإنسانَ على صورَتِهِ. على صورَةِ اللهِ خَلَقَهُ. ذَكَراً وأُنثى خَلَقَهُم. 28-وبارَكَهُم اللهُ وقالَ لَهُم: "أثمِروا وأكثُروا واملوا الأرضَ، وأخضِعوها، وتَسَلّطوا علي سَمَكِ البَحرِ وعلي طَيرِ السّماءِ وعلى كُلّ حيَوانٍ يَدِبُّ على الأرضِ". 29-وقالَ اللهُ: "إنّي قَد أعطَيتُكُم كلَّ بَقلٍ يُبزِرُ بِزراً علي وَجهِ الأرضِ، وكلَّ شَجَرٍ فيهِ ثَمرُ شَجَرٍ يُبزِرُ بِزراً لكُم يَكُونُ طَعاماً. 30-ولكُلِّ حَيَوانِ الأرضِ وكُلِّ طيرِ السّماءِ وكُلِّ دَبّابَةٍ على الأرضِ فِيها نَفسٌ حَيّةٌ، أعطَيتُ كُلَّ عُشبٍ أَخضَرَ طَعَاماً". وكانَ كَذَلِكَ. 31-ورأى اللهُ كُلَّ ما عَمِلَهُ فَإذا هوَ حَسَنٌ جِدّاً. وكانَ مَساءٌ وكانَ صَباحٌ يوماً سَادِساً.
معلوم أنّ التّرجمة لا يمكن أن تنقل ما جاء به الوحي من دلالة إدراكية ودلالة إيحائية، غير أنّ التّقريب بالقدر الذي هو عليه هذه الترجمة التفسيرية وغيرها من ترجمات، يثير الملاحظات التالية:
”في البَدءِ خلَقَ اللهُ السّمواتِ والأرضَ“، بمعنى خلق يتلوه خلق، وهو ما ينطبق مع سنّة الله في خلق الإنسان، المبيّنة في القرآن الحكيم: وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) نوح.
”كانت الأرض خَرِبَةً وخَاليَةً“، الخراب ضدّ العمران كما جاء في اللسان[150]، وهو ما لا يُلائم ترجمات أخرى غير عربية، فالقصد حسب ما اتّضح من هذه، كانت الأرض في انهيار (الانهيار موضع لينٍ ينهار، كما جاء في اللسان)، أو كما يعبّر عنه حديثا الشّواش[151] وهو ما يناقض النظام، وهذه صفة من لا يستقرّ على شكل معيّن أي رخوٌ لم يلزب.
”روح الله ترفّ على المياه“ أمّا في التّرجمة العربية للتّوراة السامرية[152] ”رياح الله هابّة علي وجه الماء“ وكذلك في مراجع العهد القديم عند المسيحيين يقوم هذا الخلاف.
بيّنٌ أن الأرض المقصودة على الأقل في الأيام الثلاثة الأولى هي غير هذه الأرض التي نحن عليها، فالسّماء الدنيا بشمسها وقمرها ونجومها تكوّنت في اليوم الرابع.
يمكن تلخيص ما ورد في تراجم التوراة كما يلي:
في البدء: خلق الله السماوات والأرض. اليوم الأول: جعل الظّلمات والنور. اليوم الثاني: فتق الله السماء عن الأرض. اليوم الثالث: فصل الله المياه عن اليابسة وأنبت النّبات، (ليس على هذه الأرض بالضّرورة). اليوم الرابع: خلق الله السماء الدّنيا والشّمس والقمر. اليوم الخامس: خلق الله الحيتان المائية والطّيور البرّية. اليوم السادس: خلق الله كل الدّواب البرّية، وأخيراً الإنسان.
بدء الخلق في أساطير الأوّلين
الأساطير جمع أسطورة ومعناها ما سطّر بالكتابة، بهذا المعنى وردت في الذّكر الحكيم، وهي غير الخرافة التي تتناول بطولات ممزوجة بالمبالغات والخوارق، وغير الحكايات الشّعبية المصوغة لأهداف تربوية أو لتخليد بطولات أو إبراز رواية مقدّسة لا تنفصل عن المعتقد الدّيني.
أصاب الأسطورة الإهمال والازدراء الذي تعرّضت له الأديان وكثير من المعارف الأخرى في ما يسمّى عصر النّهضة، غير أنّه مع بداية سقوط كثير من النّظريات التي كانت تُعتبر حقائق غير قابلة للشّك، بدأت هذه تسترجع مكانتها، كمادة تاريخية حيناً، وكمادة فنّية أدبية، وكموضوع من علم النفس، وكمفاتيح لعلم الفلك، وكمادة من مواد الأنثروبولوجيا[153] أحياناً أخرى، حتّى أصبح لها علم قائم الذات هو علم الأسطورة mythologie. وسنورد أساطير بدء الخلق عند بعض الشّعوب، فيما يلي:
- التّكوين السّومري[154]، أول أسطورة وصلت إلينا وهي على ألواح فخّارية مبعثرة في معظم متاحف العالم، وكانت الكتابة بالخط المسماري الذي يرجع تاريخه إلى أكثر من 4000 سنة قبل الميلاد، والمجمل المستنبط من فك رموز الألواح هو وفق ما يلي:
♦ في البدء كانت الإلهة ”نمو“Nammu ولا أحد معها، وهي المياه الأولى التي انبثق عنها كل شيء.
♦ أنجبت الإلهة ”نمو“ ولداً وبنتاً، الأول ”آن“ An إله السّماء المذكّر، والثّانية ”كي“ Ki إلهة الأرض المؤنّثة، وكانا ملتصقين مع بعضهما، وغير منفصلين عن أمهما ”نمو“.
♦ ثمّ إنّ ”آن“ تزوّج ”كي“ فأنجبا بكرهما ”إنليل“ Enlil إله الهواء، الذي كان بينهما في مساحة ضيّقة لا تسمح له بالحركة.
♦ إنليل الإله الشاب النّشيط، لم يطق ذلك السّجن، فقام بقوّته الخارقة بإبعاد أبيه آن عن أمّه كي. رفع الأول فصار في السّماء، وبسط الثانية فصارت أرضاً، ومضى يرتع بينهما.
♦ ولكن إنليل كان يعيش في ظلام دامس، فأنجب ابنه ”نانّا“ Nanna إله القمر، فيبدد الظلام في السّماء وينير الأرض.
♦ ”نانّا“ إله القمر أنجب بعد ذلك ”أوتو“ Utu إله الشّمس الذي بزّه في الضياء.
♦ بعد أن أبعدت السّماء عن الأرض، وصدر ضوء القمر الخافت وضوء الشّمس الدّافئ، قام ”إنليل“ مع بقية الآلهة بخلق مظاهر الحياة الأخرى.
- التّكوين البابلي[155]، تتضح أفكار البابليين في الخلق والتكوين بشكلها الكامل، في ملحمة ”الأنيوما إيليش“ Enûma Elish معناها عندما في الأعالي”باللغة الأكادية“، وبهذا يفتتح النّص أو التّرتيلة، وهي نفس الطّريقة التي استعملت فيما بعد لعنونة القصائد في الشّعر الجاهلي، وقد وجدت هذه الملحمة على سبعة ألواح فخارية أثناء الحفريات التي كشفت عن قصر الملك ”آشور بانيبال“ (يعود عهده إلى 667/ 626 قبل الميلاد) وهي مترجمة إلى أهمّ اللغات ويمكن الرجوع إليها بسهولة على مواقع الإنترنت، ملخّص منطوق الملحمة كالتالي:
في البداية لم يكن في الوجود إلا المياه الأولى ممثّلة في ثلاثة آلهة ”آبسو“Apsu هو الماء العذب و”تعامة“ Ti’amat زوجته الماء المالح و”ممو“ Mummu الضباب المنتشر فوقها والناشئ عنها، وكانت آلهتها الثلاثة تعيش في حالة سرمدية من السّكون والصّمت المطلق، ممتزجة ببعضها البعض في حالة هيولية لا تمايز فيها ولا تشكّل.
♦ ثمّ أخذت هذه الآلهة بالتناسل فولد ”لأبسو“ و”تعامة“ إلهان جديدان هما ”لخمو“ Lahmu و”لخامو“ Lahamu، وهذان بدورهما أنجبتا "أنشارAnshar و"كيشار" Kishar اللذين فاقا أبويهما قوّة ومنعة، وولد لأنشار وكيشار ابن أسمياه ”آنو“ Anu وهو الذي صار فيما بعد إله السّماء، و”آنو“ بدوره أنجب ”أنكي“ أو ”أيا“ وهو إله الحكمة وغدا فيما بعد إله المياه العذبة الباطنية. وهكذا امتلأت المياه الأولى بالآلهة الجديدة المليئة بالشّباب والحيوية، ممّا غيّر الوضع إلى حالة لم تألفها آلهة السّكون البدائية.
♦ قام ”أبسو“ بوضع خطّة لإبادة النسل الجديد والعودة للنوم مرّة أخرى، وعندما علم أحفاده بذلك استشاروا ”أيا“، الذي ضرب حلقة سحرية حول رفاقه تحميهم من بطش آبائهم، كما صنع تعويذة سحرية ألقاها على” أبسو“ أدخلته في سبات عميق، مما ساعد على قتله.
♦ علمت ”تيامة“ بمقتل زوجها فقرّرت الانتقام له، حضّرت جيشاً كبيراً برئاسة ”كنكو“ الذي عيّنته قائداً وزوجاً لها، وقد أدخل الرعب عدّة وعدد هذا الجيش في نفوس كل الفتية، فلجأوا إلى ”أيا“ المنقذ الأول فأبان عجزه ونفس الشيء كثير غيره، وبعد أخد ورد تمّ اختيار ”مردوخ“ الشاب القوي ابن ”أيا“ الذي قبل مواجهة جيش ”تعامة“ شريطة أن يمنح امتيازات وسلطات استثنائية، وقد تمكّن ”مردوخ“ من قتل ”تعامة“ بعد أن طالبها في مبارزة فردية فقبلت.
♦ بعد قتل ”تعامة“ شطرها ”مردوخ“ قسمين، قسما صنع منه السماء وقسما صنع منه الأرض، ثمّ التفت بعد ذلك إلى بناء الكون وتنظيمه وإخراجه من الحالة الهيولية الأولى إلى حالة النّظام والتّرتيب.
التكوين عند المصريين، كثيرة هي الأساطير المصرية القديمة، لكون حضارة وادي النّيل استمرّت على مدى زمني طويل، كما أنّ الحكم انتقل إلى عدّة أسر كلّ منها تفرض معتقدها على الشّعوب الخاضعة لها فينمحي تبعاً لذلك المعتقد السّابق أو حتى إذا بقي يعدّل ليتلاءم مع التّوجّه الرّسمي الجديد، أشهر ما وصلنا من الأساطير المصرية:
♦ قصّة ”الإنياد“ Eneda أو مجموعة الآلهةالتّسعة من هليوبوليس Héliopolis عين شمس حالياً، وتقول حسب المفصّل في البردية الموجودة بالمتحف البريطاني عدد EA 10188 (انظر الصورة) وتقول: في البدء لم تكن إلا المياه الأوّلية والشواش والشّمس ”أتوم“ Atum شكل من أشكال ”رع“ Ra ومن ذاته خلق أتوم ”شو“ Shu إله الرّيح و”تفنوت“ Tefnut إلهة الرّطوبة، وهذان أنجبا، ”جب“ Geb إله الأرض و”نوت“ Nut إلهة السّماء، وقد قام ”شو“ بفصل الأرض عن السّماء بعد أن أنجبا أربعة أولاد هم: أوزيريس Osiriss وإيزيس Isis،يمثّلان قوى الحياة والخصب، ست Seth، نفتيس Neftis ويمثّلان النّقيض.
♦ قصّة الأجدود Ogdada أو مجموعة الآلهة الثّمانية من هرموبوليس Hermopolis الأشمونين حالياً، وتقول: ”نون“ و”نونت“Nun y Naunet ويمُثلان المياه الأوّلية والشواش، ”كك“ و”ككت“ Kek y Kauket يمثّلان الظّلمة علي سطح المياه، ”حه“ و”حهت“ Heh y Hehet ويمثّلان المكان اللامتناهي، أمّا الزّوج الرابع فكان عند البعض ”نيا“ و”نيات“ Nia y Niat ويمثّلان الحياة وعدم التّعيين الكوني، وعند الآخرين ”تنيمو“ و”تنيمت“ Tenemu y Tenemet ويمثّلان ما هو غيبي، لكن بعد ذلك عوّضا بالزّوج ”آمون“ و”آمونت“Amón y Amonet وهذه الأزواج الأربعة وضعت بيضة خرج منها الشّمس رع وفي رواية أخرى ”طوط“ Thot إله الحكمة. أصل هذه الأسطورة صخرة منقوشة موجودة بالمتحف البريطاني عددEA 498.
4 -التكوين عند باقي الأمم: في إحدى أساطير الإغريق نجد: في البدء لم يكن سوى الشّواش، كان المكان أو الهوّة ولا حياة ولا شيء يمكن تحديده، بعد ذلك ظهرت الأرض ”جايا“ Gaia وأسفل منها ”إريبو“ Erebo الذي صار فيما بعد الجحيم والظّلمات. أنجبت ”جايا“ الجبال ثمّ ”أورانوس“ Ouranos السّماء، ومن زواج ”أورانوس“ و”جايا“ أنجبا الجبابرة، ست ذكور هم: البحر أوسيانوس Pontos، كايوس Coéos، كريوس Crios، هيبريون Hypérion، أبيتوس Japet وكرونوس Chronos الزّمن. كما أنجبا ستة إناث هم: تيا Théia، ريا Rhéa، تيميس Thémis العدالة، منيموساين Mnemosine الذاكرة، فيبي Phoébé، تيتيس Téthys الخصوبة. ومن هذا الجيل من المردة تكوّن الجيل الثالث من الآلهة.
بشكل متقارب إلى حد بعيد نجد التشابه في أساطير الرومان مع تغيير في أسماء الآلهة، ولكي نتحرّر من التأثير الحضاري الناتج عن التتالي أو الجوار، نلخّص أسطورة شعوب المايا Maya من هنود أمريكا الوسطى الغربية والتي تعود حضارتهم إلى 1500 سنة قبل الميلاد. تقول فقرة من الأسطورة الواردة في كتاب ”بوبول بوه“[156] PopolVuh: هذه قصّة عندما كل شيء كان مبهما، الكل هادئ، الكل ساكن، الكل مستريح، الكل ساكت، الكل فارغ، في السماء والأرض. لم يكن من الناس أحد، من الحيوان أحد، لا طائر، لا حوت، لا سرطان، لا خشب، لا حجر، لا مغارة، لا وادي، لا عشب، لا غابة، كانت السماء فقط، وجه الأرض لم يظهر، وكان البحر المحدود، وكل المكان سماء، لا شيء كان مجتمعاً، الكل كان غير منظور، الكل كان في سكون في السماء...إلى أن يقول في فقرة تالية: عندئذ كانت الكلمة، جاءت إلى هنا من طرف المتمكّنين، ممّن لهم القدرة في السماء، في الظّلمة وفي الليل، نطق بها المتمكّنون القادرون، أقاموا جلسة تشاور وقرّروا إنشاء كل الأشياء.....انتهى.
السّرد الموجز والسّريع لهذه الأساطير لا يمكن أن يشكّل بحثاً مدقّقاً، ولا حتى محاولة فهم واف لواحدة من هذه الأساطير، ورغم ذلك يسترعي الانتباه ملاحظات تبدو بارزة لا يمكن أن تكون موضع خلاف حتّى لو وجد التّباين في التّفسير منها:
جل إن لم نقل كل الأساطير لمختلف الشعوب كان بينها اتصال تاريخي أم لم يكن، تبين تشابها إلى حد كبير لا يمكن تجاهله، ولا يمكن إرجاعه إلى الصّدفة.
تعدد الآلهة ليس بالضرورة أن يكون له نفس الفهم الذي نفهمه، بل هم مجرّد قوى يعتقد لها دور في عملية التكوين، ولا تخلو أسطورة من الإشارة إلى إله أعلى ذي سيطرة مطلقة في اعتبارها.
مصدر الأسطورة أكيد أنّه وحي منزّل تعرّض للتّبديل بفعل الإنسان عن قصد أو عن جهل بمرور الزّمن، كما بيّن ربّ العزّة: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24) فاطر.
الاعتقاد بأنّ السّحر هو الحالة الأولية لظاهرة التديّن، وأنّ الأسطورة ما هي إلا توهم بأنّ هذا العالم مأهول بمخلوقات جبّارة غير مرئية جعلت الإنسان القديم ينسج لها حكايات من خياله، كما يقول ”لويس جاكوط“[157] LouisJacot وغيره ممن يقول بالتطور الاجتماعي، هي مغالطة عارية من الصحة، ويكفي أن نذكّر أن السحر علم له أصوله وقوانينه، حتى وإن كان كفراً، فالكفر يأتي بعد التدين، ومنطقياُ النفي يلي المنفي ولا يسبقه، وقال العزيز الحكيم: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ ْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) البقرة، يقول فراس السّواح في كتابه دين الإنسان: وهذا الطرح يسير مع الفرض القائل بأنّ الدّين هو شكل أدنى من أشكال النّظر العقلي، واعتماداً على تكرار هذه المقولة التي لم تخضع للنّقد، فإننا نقبل بالتّقسيم المعتاد لتاريخ الفكر الإنساني إلى أربع مراحل هي: السّحر فالدّين فالفلسفة فالعلم التّجريبي انتهى. لم يتمكّن فراس من التّخلّي عما تسوقه الأنثروبولوجيا أو علم الحياة باعتماد نظرية التطور واكتفى بتبرير ذلك أن المقولة لم تتعرّض للنّقد، وينتقل بعد ذلك إلى تحسّس آثار المعتقد أو التديّن من العصر النّيوليتي إلى الحضارات القديمة مستشهداً بوحدة الموضوع ومختتما بأطروحات الفيزياء الكمّية وكيف أن الوعي أمسى مشاركا في صياغة الوجود لا مراقبا كما كان يُعتقد، ليخلص إلى النّتيجة التّالية: وجماع القول إنّ الدّين لا يقوم على أساس وهمي، ولا على الأفكار الخاطئة التّي تمّ تكوينها في عصور طفولة الإنسانية، بل إنّه يقوم على أكثر الأسس صلابة في وجود الإنسان. إنّه الوعي الباطني بالحقيقة. وأنّ كل اعتقاد ديني، إنّما يقوم على اختبار نفسي للوحدة الكلّية للوجود في وعي الغيب، وعلى اختبار منعكسات هذا الإحساس في وعي الصّحو، وما يحدثه من تغيّرات في الشّعور الفردي[158].
مثل هذا التّناقض عند المثقّفين وصنّاع الوعي العام ملحوظ ومتكرّر، لأنّ لا أحد يستطيع أن يعرّض سمعته للانتقاد من طرف المؤسّسات الراعية للثّقافة والمثقّفين التي ينتمي إليها، وحتّى لو تجرّأ أحد المثقفين بالإدلاء بقناعته ورأيه المخالف، فإنّه يتعرّض لهجوم وانتقاد من حماة التّوجّه الرّسمي للانتقاص من مكانته العلمية، ثمّ العمل على الدّفع بإنتاجه الفكري إلى زاوية الإهمال والنّسيان.
بدء الخلق في التّراث الشّرقي
تشكّل حضارة نهر الأندوس (السّند) إلى جانب حضارة وادي النّيل وحضارة الرّافدين الثّلاثي الذي مثّل مهد الحضارات القديمة المعروفة، وتتميّز حضارة كل من الهند والصّين بمحافظة أبنائها على جزء من تراثها عكس ما وقع للمصرية القديمة وما بين النّهرين إذ يعاد استكشافها من جديد، فكتب الفيدا تعتبر من أقدم الكتب الدّينية في العالم وقبل أن تدوّن سبق نقلها الشّفوي لعدة قرون، في ريك_فيدا Rig veda، ومعناهما في اللغة السّنسكريتية ريك النّار وفيدا المعرفة، نقلا عن ”العقيدة السّرية“[159] لهيلينا ب. بلافتسكيHelena petrovna Blavatsky،(1831-1891م) التي تعتبر من مؤسّسي التيوصوفية الحديثة المعروفون بشعارهم ”لا عقيدة أسمى من الحقيقة“ نجد ما يلي:
لم يكن يوجد شيء، ولم يكن يوجد لا شيء؛ السّماء المتلألئة لم تكن موجودة؛ ولا قبّة السّماء العظيمة كانت ممتدّة في العلالي. من يغطّي الكلّ؟ من يحفظه؟ من يخفيه؟، أكانت الهوّة التي لا قعر لها في المياه؟. لم تكن توجد الموت، لكن لا شيء كان يعتبر خالدا، لم تكن توجد حدود بين الليل والنّهار. فقط الأحد يتنفّس دون تحريك بل من عنده، لا غير إلا هو أبدا كان موجودا. سادت الظّلمات، وكانت تحجب البدايات كلّها، في ظلمة عميقة، محيط بلا أنوار؛ البرعم حتّى إذ ذاك الملفوف في أغلفته، يفجّر طبيعة تتوهّج بالحرارة. من يعرف السّر؟ من أفشاه؟ من أين ظهر الوجود المتعدد الأشكال؟، الآلهة نفسها جاءت متأخّرة لهذا الوجود. من يعرف من أين جاء هذا الخلق العظيم؟، هذا الذي كان أصلا لهذا الكون الشّاسع، أتكون إرادته هي الخالقة، أم أنّها صمّاء، أعلى العارفين في أعلى السّموات، يعرف ذلك؟، أم عسى حتّى هو لا يعرف؟، تأمّلات في السّرمدي، قبل أن تكون قد وضعت أسس للأرض. أنت كنت. وعندما لهب أغوار الأرض يكسّر سجنه ويبتلع الشّكل، لا تزال أنت، كما كنت من قبل، دون أن يطرأ عليك أيّ تغيير عندما لا يوجد الزّمن. آه أيها العقل اللانهائي! أيّها الخلود الربّاني! انتهى.
من هذا تتبيّن أوجه التّطابق في التّراث الإنساني بغض الطّرف عن ملّة أو حضارة أكثر بكثير من أوجه التّباين، غير أنّ دراسة جدّية موضوعية لكل التّراث غير موجودة إلى الآن حسب ظنّي، وإن وجدت فعليها ألا تغفل آخر الوحي الذي وصل إلى الإنسانية محفوظاً من ربّ العالمين ومصدّقاً للكتب السّابقة ليكون الميزان الذي تقاس في كفّتيه كلّ ما ورد فيما يخصّ الاعتقاد أو فيما يخصّ أخبار الغيب لنستبين ما فسد أو ما زال أصيلا، لأنّ الإنسان مهما تقدّم علمه لن يبلغه إلى معرفة نشأة الكون ولا نشأة نفسه ولا مصير كلّ منهما إن هم إلاّ يظنّون، كما قال تعالى: وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36) يونس، فالتّجويز مهما نسّق وزخرف لن يصل أبدا مرحلة القطع.
بدء الخلق في العلم الحديث
العلم الحديث الذي انطلق في القرن الثامن عشر الميلادي، كان من أبرز سماته رفض ونبذ كل النظريات والمقولات التي كانت تتطرّق لبدء الخلق، سواء كانت من مصدر ديني أو فلسفي أو أسطوري أو حتى رياضي، وأكثر من ذلك، كل بحث يأخذ هذه الوجهة كان سيئ السّمعة ويعتبر نوعا من العبث لا يجب أن يقع فيه عالم محترم، قد يُعذر من يتبنّى هذا المنطق ما دام لا يؤمن إلا بالتّجربة والبرهان، لكن كيف يجوز أن نعذره عندما يتبنّى عقيدة الإلحاد دون تجربة ولا برهان، ثمّ إنّ الإلحاد ليس من معطيات الحضارة الحديثة كما يروّج لذلك، بل إنه قديم في أغوار التاريخ، فاليونان أطلقوا كلمة Atheos على ”من لا يؤمن بوجود إله“ أما في القرن الخامس قبل الميلاد أصبحت تدلّ على ”من لا يؤمن بوجود الخالق الأعظم“ أما في العصر الحديث فيعتبر الإلحاد من نتاج الفكر الثوري والجريء حسب الإدعاء؛ لمفكّرين مثل:
كارل ماركس[160] (1818/1883م)، وتشارلز داروين[161] (1809/1882)، وفريدريك نيتشه[162](1844/1900)، وسيغموند فرويد[163] (1856/1939)، حيث القاسم المشترك في فكر هؤلاء ومن حذا حذوهم؛ تحليل وتفسير الظواهر العلمية والنفسية والاجتماعية بطريقة تستبعد أي دور للخالق في الأسباب والنتائج، لكن المعطيات في المجالات العلمية المختلفة لم يكن من الممكن محاصرتها بحدود يُمنع تجاوزها تلبية لرغبة الإلحاد التي تتنافي مع الغاية العلمية الصرفة، فتوالت الاكتشافات العلمية وساهمت التكنولوجية في صنع آلات وأجهزة مكّنت التعرّف وقياس أشياء متناهية في الصغر كمكوّنات الذرة، أو هائلة غير مرئية من قبل كالمجرات، ومع ذلك رغم ما أفرز التقدّم العلمي المتسارع من كمّ هائل من النّظريات في كل المجالات، استمرّت الانتقائية والتّركيز على القليل منها خصوصاً التي تخدم غاية الإلحاد، واستبعاد ما أمكن، ما قد يفهم منها أن هذا الوجود له بالضرورة خالق، مستخدمين لهذه الغاية وسائل الإعلام و المناهج الدراسية، ومن ثمّ شنّ حرب على كل الأديان لتجريدها من منظومتها الأخلاقية باسم العلمانية تارة وباسم العولمة تارة أخرى، وكمثال بسيط على هذا، ففي السّتّينيات من القرن الماضي رغم كون ”ألبرت أينشتاين“[164] كان قد وضع قبل 1909م علاقته المشهورة التي تقول: ”أن مقدار الطاقة الناتج عن فناء المادة يتناسب طردياً مع حاصل ضرب كتلة هذه في مربع سرعة الضوء“، وما تلى ذلك من انفجار نووي تعرّضت له مدينتا هيروشيما وناكاساكي اليابانيتان في 6 و9 من أغسطس سنة 1945م بحيث تأكّدت النظرية تجريبياً، مع ذلك ظلّت المناهج الدراسية متشبثة بأنّ ”المادة لا تفنى ولا تستحدث“ عشرات السنين بعد ذلك، أما عندما طرحت الهندسة الوراثية تقنية استنساخ الخلايا، تبيّن أنه في وقت وجيز أُقحمت المبادئ النظرية في المناهج التعليمية للمستويات التعليمية حتى الدنيا منها، ولكلّ أن يستنتج ما شاء.
أربكت نسبية أينشتين كثيرا من المفاهيم العلمية في وقتها، مما حدا ببعض العلماء في سنة 1948 منهم هرمن بوندي[165] إلى صياغة نظرية فلكية تساير قيم الغرب كما يقال، المتمثلة أساساً في الإلحاد، فكانت ”نظرية الوضع المستقر أو النموذج الاستقراري“ théorie de l'état stationnaire، ومفادها: ”كان الكون دائماً كما هو الآن بالضبط، هناك خلق دائم للمادة يصاحب انتشارها، ويشغل الفضاء الفارغ الذي تتركه المادة بين المجرات“، وقد كان هدف هذه النظرية مشبوها علمياً؛ لأنها جاءت كرد على نظرية الانفجار الكبير في مراحلها الأولى.
كثيرة هي النظريات والأبحاث الفلكية التّي تهتمّ بنشأة الكون على مدى القرن التاسع عشر وما يليه إلى يومنا، غير أن اكتشافات تجريبية أساسية رجّحت بعضا منها ودفعت بالبعض الآخر إلى مجرّد محاولات يائسة، ومن هذه الاكتشافات التي نتجت من المراقبة المستمرّة أو الصّدفة:
♦ تركيب تلسكوب المائة بوصة عند قمّة جبل ويلسون Mont Wilson بالقرب من ”لوس أنجلس“، ولاية كاليفورنيا حيث ”إدوين هابل“ [166]Edwin Hubble أول من توصّل سنة 1923م إلى تحليل سديم المرأة المسلسلةnébuleuse Andromède إلى نجوم متفرّقة، وهكذا تبيّن بعد ذلك أن آلاف السّدم الأخرى التي من طبيعته هي مجرّات كمجرّتنا، وأنها تملأ الكون في سائر الاتجاهات وعلى أبعاد كبيرة جدّاً. بتطبيق مفعول دوبلر Doppler[167] لقياس حركة جسم مضيء (وهي خاصية مشتركة بين سائر الحركات الموجية) ثبت أنّ المجرّات تتباعد فيما بينها بسرعات هائلة تقترب في أحوال من حدود سرعة الضّوء، أي أنّ الكون في توسّع.
♦ في سنة 1964م كان في حوزة مختبر شركة ”بل“ للهاتف، هوائي راديو غير مألوف جدّاً، موضوع فوق تل كرافوردcrawford colline في هولمدل Holmdel بنيوجرزي، New jersey، هذا الهوائي كان قد أقيم لتأمين الاتصالات اللاسلكية بواسطة الصّدى، ولكن مزاياه جعلت منه أداة واعدة للاستعمال في الفلك الراديويRadioastronomie وقد شرع عاملان في الفلك الردياوي هما آرنو بنزياس Arno Penzias[168] وروبرت ويلسون Robert Wilson [169] باستخدام هذا الهوائي لقياس شدّة أمواج الراديو المنبعثة من مجرّتنا إلى مجالات مجرّية مرتفعة، أي إلى خارج درب اللبانة. كانا بنزياس وويلسون يتوقّعان أن تتولّد في بنية الهوائي ضجّة خفيفة، لذا بدأ رصدهما بطول موجة قصيرة نسبيّاً هو 8,35 سم (تدعى الأمواج الرديوية التي أطوال موجاتها بين 8,35 و 21 سم أمواجاً ميليمتريه، micro-onde وهي التي تظهر علي شاشة التّلفاز عندما لا تكون محطّة بث مستقبلة، وهي كذلك المستعملة في الأفران الحديثة المعروفة بهذا الاسم)، لكن بنزياس وولسون دهشا عندما اكتشفا وجود ضجّة لا يستهان بها من أجل 8.35 سم وأنّها مستقلّة عن اتجاه الرّصد، كما اكتشفا في ربيع سنة 1964م أنّ هذا الحقل لا يتغيّر لا مع الزّمن ولا في أثناء الليل ولا مع الفصول. لم يتّضح مدلول هذه الضّجة إلا بعد حين، بفضل تضافر جهود باحثين عاملين في صمت بشكل غير معلن وغير رسمي، ليُعتقد أنّ هذا الإشعاع هو أثر مخلّف من بداية خلق الكون، الحدث الذي يعتبره الكثيرون برهان تجريبي لنظرية الانفجار الكبير Big Bang مع ذلك ظلت نظرية ”النموذج الاستقراري“ هي المهيمنة حتى جاء الفزيائي ستيفن وينبرُغ[170] steven Weinberg في كتابه المشهور الدقائق الثلاث الأولى من عمر الكون[171] ليقرّ نظرية ”النّموذج القياسي“ بدءاً من سنة 1973م،Le modèle standard de la cosmologie ، النموذج يشبه إلى حدّ ما نظرية الانفجار الكبير غير أنه لا ينطلق من انفجار مركزي، بل من انفجار يشمل كل المكان و الجهات سواء كان الكون يمثّل بمنحنى مغلق أو مفتوح، لكن مهما تكن قدرة النّظرية في تفسير المشاهدات أو الاستنباطات الرياضية، تظلّ نظرية لا غير، أي ظنّية، وجميل أن يكون ما عندنا من ظن يلتقي ضمناً مع الحق الذي بين أيدينا تنزيلا من الرحمن الرحيم، لكن لا يجوز في أي حال أن نستعمل الحق لتأييد الظّن، وفي هذا الصدد نكتفي أن نسوق شهادة ستيفن من كتابه حيث يقول: ”وقد أحرز النّموذج القياسي لبداية الكون بعض النّجاح، وهيّأ لنا إطاراً نظرياً مترابطاً لوضع برامج تجريبية للمستقبل موضع التّنفيذ، غير أنّ هذا لا يعني أنّ هذا النّموذج هو الحقّ، بل يعني وحسب أنّ علينا أن نأخذه علي محمل الجد“[172].
ممّا سبق يمكن القول أنّ العلم الحديث يتبنّى نظرية الانفجار الكبير كأساس لنشأة الكون مع ادخال تعديلات من حين لآخر عليها تفرضها المشاهدة والمعطيات العلمية الجديدة، دون أن يكون للوحي أيّ اعتبار ولا حتّى استئناس في هذه البحوث، على اعتبار كتب السّماء ليست كتبا علمية، وفي محاولة متواضعة لاستطلاع بعض الجوانب العلمية من كتاب الله لنتأمل قوله تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) النور. ضرب الله مثلا لنوره، والأمثال في القرآن لا تعني ”المَثَل“ بالمفهوم الاصطلاحي، بل هي مواعظ وعبر في سياق رائع دون أن تخل بالمدلول اللغوي لكلمة ”مِثْل“ التي تعني التشابه في جل أو كل الصفات إلى درجة المساوات، و كلمة ”مَثَل“ التي تعني الشّبه النسبي في صفة واحدة أو بعض الصفات فقط، كقوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) الجمعة، فالشّبه في المَثَل صفة واحدة هي حمل الكتب دون التّفقّه بما فيها، أمّا في قواميس اللغة؛ فالخلط قائم بين مِثلِ ومَثَلِ، ففي اللسان[173]: والمَثَلُ والمَثِيلُ: كالمِثلِ، والجمع أمثال، وقد نفى عز وجل أن يكون له مِثل، ليس كمثله شيء، وأثبت أن له المَثَل الأعلى، أي أنّ كلّ صفاته جلّ وعلا منتهى غاية العلوّ لا يضاهيه فيها أحد من خلقه، وفي أمثال القرآن أسرار محتجبة لا تدرك من أول وهلة كما بين رب العزة: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ (43) العنكبوت، وهو نفس قوله تعالى: قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، وحتى لا يحرم من قلّ علمه من فهم كتاب الله، فعليه بالتفقه كما بين عز وجل، قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ، ومن لم يتمكن من هذا ولا ذاك، عليه بالذكر وتدبر القرآن ليكون ممن قال عنهم رب العزة، قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ، قال ابن عطية[174] في قوم يذّكرون، أي المؤمنين الذين يعدون أنفسهم للنظر ويسلكون طريق الاهتداء، وقال ابن كثير: لِمَنْ لَهُ فَهْمٌ وَوَعْيٌ يَعْقِلُ عَنِ اللَّهِ ورسوله، لا حجة بعد كل هذه البدائل التي يسّرها العليم الحكيم لبيان بعض من تفاصيل كتابه لمن نأى عنها وضيّع حظّه منها، أمّا معنى يذّكرون فبيّن في قوله تعالى: ”وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ“ سورة القمر، أو كما جاء عن رسول الله ﷺ في حديث طويل أورده ابن حبّان عن أبي ذرّ رضي الله عليه: .. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوْصِنِي، قَالَ: «أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ، فَإِنَّهُ رَأْسُ الْأَمْرِ كُلِّهِ» قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، زِدْنِي، قَالَ: «عَلَيْكَ بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَذِكْرِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ نُورٌ لَكَ فِي الْأَرْضِ، وَذُخْرٌ لَكَ فِي السَّمَاءِ». ويجدر التّذكير أنّ الكتاب لا يفصّل ولا يفهم لا بالعلم ولا بالفقه ولا بالذّكر إذا لم تحضر التّقوى، ”واتقوا الله ويعلّمكم الله“. النور يفهم منه لأول وهلة الضوء أو الضياء وبهذا قالت القواميس، غير أن هناك من انتبه أن كلام الله يفرّق بينهما، فالضياء هو الضوء الصادر من جسم متوهج، بينما النور يصدر من جسم عاكس جزئياً أو كلياً للضوء، ومعلوم أن الضوء ذو طبيعة مزدوجة (موجة – جسيم) وأنه من الأشعة كهرومغناطيسية rayonnement électromagnétique فهو يتصرف أحياناً كأمواج فتنطبق عليه قوانين الفيزياء الموجية من انعكاس وانكسار وامتصاص، ويتصرف أحياناً أخرى كجسيمات تسمى الفوتونات فتختص به ميكانيك الكم، غير أن المهم هل الضوء المنعكس بيننا وبين كل الموجودات المادية والذي يحقّق لنا الرؤية في هذا الكون الفسيح حيث تشكل الظلمات أو كما سُميّت المادة السوداء matière noire أغلب نسبة من حجمه هو المقصود بهذه الآية الشريفة من صورة النور؟ الجواب لا، لأنه كما أخبر الوحي نعرف أشكال أخرى من الأنوار التي تنعكس وتنكسر وتُمتص بنفس خصائص الضوء المرئي وغير المرئي، دون أن تكون من أصناف الأشعة الكهرومغناطيسية بالضرورة، فمثلا الإيمان نور فهو منتشر بظاهرة الانعكاس بين كل الناس بل قل بين جميع المخلوقات، ﴿ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44) الإسراء ﴾، وأنه من بلغه الإيمان ولم يعكسه فهو خبيث كافر كالجسم الأسود أو المعتم بالنسبة للضوء، (لا يجب الخلط بين الجسم الأسود والمادة السوداء الكونية)، لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37) الأنفال، وأن نور الإيمان يدرك بالقلب كما يدرك الضوء بالبصر، ومن هذا نجد من بين أدعية رسول الله ﷺ كما أورد البيهقي في سننه الكبرى عن ابن عباس رضي الله عنهما: ”اللهُمَّ اجْعَلْ لِي نُورًا فِي قَلْبِي، وَاجْعَلْ لِي نُورًا فِي سَمْعِي، وَاجْعَلْ لِي نُورًا فِي بَصَرِي، وَاجْعَلْ لِي نُورًا عَنْ يَمِينِي، وَنُورًا عَنْ شِمَالِي وَاجْعَلْ لِي نُورًا بَيْنَ يَدِيَّ، وَنُورًا خَلْفِي، وَزِدْنِي نُورًا، وَزِدْنِي نُورًا“، فالعمى تبعا لهذا قد يصيب القلب ﴿ فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾، وقد يصيب السمع وهو الوقر وقد يصيب التّكلم وهو الخَرس وقد يصيب البصر وقد يصيب الإحساس العام لأن رب العزة جعل للإنسان أكثر من حاسة كما قال: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) النحل. وقس على هذا المنوال باقي الأنوار كالرحمة، والخير، والمحبة، والعلم، والحق، والقرآن، إلى غير ذلك، فإن سأل أحد الطبيعيين قائلا أن الضوء نعرف مصدره في هذه الأرض وهو الشمس وباقي النجوم فما مصدر باقي الأنوار؟ نقول له ما عرفته قد عرفه من قَبلكَ بقدر أكبر إلى درجة أنهم عبدوهم، وقد ردّ عليهم سيدنا إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام بقوله: فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (78) البقرة. ولا زال العلم الحديث يؤكد هذا الأفول للكون برمّته لا للشّمس فقط، فأن تجد سراجاً ينبعث منه النور ليس بالضرورة هو مصدر النور، فرسول الله ﷺ سراج الإيمان والرحمة، كما قال عنه ربه: وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا (46) الأحزاب، رغم ذلك لا يمكن أن نقول أنه مصدر النور، ونفس الشيء بالنسبة لكل رسل الله من البشر أو الملائكة أو ممن لا يعلمهم إلا هو، فالتعرف على السراج لا يعني معرفة المصدر، ولا يمكن أن نقول عن هؤلاء الطبيعيين ومن حذا حذوهم أكثر مما قال تعالى: يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) التوبة. بالعودة إلى مثَل نور الله، يقول عز وجل كمشكاة فيها مصباح، والمشكاة هي كوة في جدار الغرفة غير نافذة، تعريف يتفق مع قول ابن عباس رضي الله عنهما كما أورد الطبري في تفسيره إذ قال: ﴿المشكاة: كوّة البيت﴾. البيت في المثل والله أعلم هو السماوات والأرض أي الكون بكليته المعروف منه وغير المعروف، فإذا كان للبيت أبعاد كذا يكون للكون أبعاد، غير أن كوة البيت لا يمكن اعتبارها من أبعاد البيت، كما لا يمكن اعتبارها منفصلة عن البيت، والكوة غير نافذة، فلو كانت نافذة لتساءلنا إلى أين تنفذ أو على ماذا تطل وهو السؤال الذي أجاب عنه رسول الله ﷺ لما سئل أين كان ربنا قبل أن يخلق السماوات والأرض قَالَ: فِي عَمَاءٍ، مَا فَوْقَهُ هَوَاءٌ وَمَا تحته هواء، وقد سبق ذكره، المشكاة فيها مصباح، ومعلوم أن المصباح هو السراج الذي ينبعث منه الضياء أو النور، لذا قال الله سبحانه وتعالى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5) الملك، فالشمس مصباح والقمر مصباح غير أن المصباح في المثَل مختلف، فهو موضوع في زجاجة أي شيء شفاف، والزجاجة كأنها كوكب دريّ، فهو تشبيه داخل تشبيه وقيل عن دريّ بأنه من الدر أو من الدرء أي متلألئ وحسب الأخير تسمي العرب النجوم الغير معروف اسمائها بالدراري. هذا الكوكب الدريّ الذي لا يوقد من الاندماج النووي حسب علاقة أينشتاين عند تحوّل الهيدروجين إلى هليوم كما هو الحال في وقود الشمس، بل يوقد من شجرة مباركة زيتونة، فكونها مباركة تقول المعاجم إما من القداسة أو النماء، لا شرقية ولا غربية أي ما ينافي معرفتنا، لأن كل شجرة علي الأرض لها شقان شق شرقي وشق غربي، على منوال الشخص البشري له شقان كذلك شق أيمن و شق أيسر لعدم ثبوته في المكان، فكون الشجرة في المثَل لا شرقية ولا غربية، يخرج عن مداركنا ويؤكد أنه لا يمكن التعامل بالقوانين الفزيائية المعروفة خارج السماوات والأرض ولا حتى في أقطار مختلفة من السماوات العلا، ولم أجد ما يقارب هذا التشبيه بأنها لا شرقية ولا غربية سوى ما صح عن رسول الله في كثير من الأحاديث التي يذكر فيها يدى الله سبحانه وتعالى فينبّه ”أَن كلتا يَدَيْهِ يَمِين“.
يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار، الظاهر أننا أمام مصدر للنور بما فيه الضوء غير تقليدي أي غير ناتج من التفاعل الكيماوي المعروف بالاحتراق، والذي يكون بين مادتين ينتج عنه حرارة وانبعاثات ويصاحبه لهب وغالباً ما يكون أحد المادتين هو الأكسجين، ولا حتى من تفاعل نووي بالاندماج fusion nucléaire أو تفاعل نووي بالانشطار fission nucléaire فكون الوقود في المثَل من زيت الزيتون الذي توفره الشجرة المباركة التي لا ينقطع عطاؤها وأن هذا الزيت يكاد يضيء من ذاته يدل على السهولة واليسر الذي يُصدر به هذا المصباح الأنوار في كل أقطار السماوات والأرض.
لا شك أن حقيقة هذا النور لا يحيط به هذا الفهم للمثَل، ولا أي فهم وفق ما تجيء به المعارف الإنسانية المتجددة والمتبدلة، غير أن المحاولة نتيجتها أن الله سبحانه وتعالى على كل شيء قدير، وكما يقال: لو شاءَ اللهُ لجَعَلَ للنّاس قِدْحة[175] ظُلْمةٍ كما جَعَلَ لهم قِدْحَة نورٍ، وأنّ غاية المعرفة ليس بالضّرورة أن تكون الحقيقة التي لا يدركها الفهم، بل كل إشارة أو عبارة ينشرح لها الصّدر وتنزل بها السّكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم، فمثل هذا، هي معرفة مرغوبة حتّى ولو لم تتعدّى صاحبها. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (105) المائدة.
مصطلح الإنسان
ما المقصود بالإنسان؟ لا غرابة من السؤال، فكلمة الأرض مثلاً في الذكر الحكيم، تدلّ على كل المادة الكثيفة المقابلة للمادة اللطيفة التي هي السّماء، أي ما يقابل السماوات، بدليل قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ، الأنبياء (30)، فلا يعقل أن يكون المقصود بالأرض في الآية الحكيمة الأرض التي نحن عليها فقط، وتدلّ تارة أخرى علي الكوكب الذي نعيش عليه، وفي موضع آخر على البلد الذي نقيم فيه، كقوله تعالى: إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ، المائدة (33)، إلى غير ذلك، وكلمة العالمين تعني كل ما خلق الله من عوالم تارة، وتعني الناس كقوله تعالى: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ، البقرة (47)، تارة أخرى، وتعني الرجال فقط كقوله تعالى: قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) الحجر. يقول محمد سيد طنطاوي في تفسيره التفسير الوسيط للقرآن الكريم[176] مفسرا أولم ننهك عن العالمين: والاستفهام للإنكار، والواو للعطف على محذوف، والعالمين: جمع عالم، وهو كل موجود سوى الله تعالى، والمراد بالعالمين هنا: الرجال الذين كانوا يأتون معهم الفاحشة من دون النساء، انتهى. لكن لا يعني ذلك أنها معان مختلفة، بل هي إمّا نظرة كلّية أو نظرات جزئية لشيء من طبيعة واحدة، على هذا المنوال لنتتبع كلمة الإنسان في القرآن الحكيم: إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً (72) الأحزاب، يقول الطنطاوي في تفسيره: والمراد بالإنسان: آدم عليه السلام أو جنس الإنسان، انتهى، وأميل إلى الرأي الأخير، لأنه إذا كان العرض شمل آدم وحده يكون قراره غير ملزم لذريته، كما قال تعالى: أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) النّجم، من هذا يكون جنس الإنسان وافق على تحمل الأمانة قبل خلق آدم. وتأتي كلمة الإنسان لتعني شخصا واحدا كقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الانفطار، من المثالين يتبيّن أنّ كلمة الإنسان ليس لها معنى واحد وثابت؛ بل تقصد جنس الإنسان في كل أطوار خلقه، وتقصد الإنسان بصفته الفردية تارة وبصفته الجماعية تارة أخرى، كما تقصد الإنسان في صورته النّفسية؛ إنسانا غير مرتبط ببدن، أو في صورته البشرية؛ إنسانا وفق الخلقة التي نعرفها، إلى غير ذلك من الأحوال التي يُنبئ بها الوحي.
خلق يتلوه خلق
لنحدّد تعريفا للإنسان بمصطلح متفق عليه تجاوزا، حتى يشمل أنت وأنا والناس أجمعين، ولنضع السّؤال، متى خلقنا؟، لعلّ الجواب العفوي والسّريع هو، يوم خرجنا من بطون أمّهاتنا، أو حتّى يوم التشكّل في الأرحام لنكون كما قال ربّ العزّة خلقاً آخر: ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا ءَاخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) المؤمنون، بيّن أنّ هذا الجواب ذا مرجعية قرآنية وأخرى علمية إنسانية، غير أنّه لا يعود بنا إلى بدء الخلق أي الخلق من لا شيء، كما قال تعالى: أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) مريم، يقول البيضاوي[177] في تفسيره: بل كان عَدَماً صرفاً.
ليس من الممكن بالوسائل العقلية ولا العلمية العودة إلى البدايات الأولى للخلق، سوى التوسّم اعتمادا على أنباء الوحي وبلاغ رسول الله ﷺ ممّا يمكّن الاستنباط إلى حد ما الحقيقة التي تتجاوز الدّقة العلمية لمراحل أطوار خلق الإنسان، ففي الكتاب: قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) الكهف. قال البيضاوي:[178] لأنه أصل مادتك أو مادة أصلك، انتهى. كذا: يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) الحج. يبيّن العزيز الحكيم أطوار الخلق من تراب فنطفة فعلقة فمضغة فجنين مولود، ثم يقارن ذلك بإحياء الأرض بالإنبات، كذا: وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ ترَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تنْتَشِرُونَ (20) الروم. يقول المراغي[179] في تفسيره: أي ومن حججه الدالة على أنه القادر على ما يشاء من إنشاء وإفناء، وإيجاد وإعدام، أن خلقكم من تراب بتغذيتكم إما بلحوم الحيوان وألبانها و أسمانها، وإما من النّبات والحيوان غذاؤه النبات، والنبات من التراب، فإن النواة لا تصير شجرة إلا بالتراب الذي ينضم إليه أجزاء مائية تجعلها صالحا للتغذية، ثم بعد إخراجكم منه إذا أنتم بشر تنتشرون في الأرض، تتصرفون فيها في أغراضكم المختلفة، وأسفاركم البعيدة، تكدحون وتجدّون لتحصيل أرزاقكم من فيض ربكم، وواسع نعمه عليكم، انتهى. بيّن أنّ المراغي نأى عن التّفسير التّقليدي الذي كان يعتبر التّراب لا سوى آدم عليه الصّلاة والسّلام إلى معطيات علمية متداولة في عصره، وكثيرة هي آيات الكتاب الحكيم التي تردّ خلق النّاس كلّ النّاس من تراب قبل مرحلة الخلق من نطفة، كقوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِير (11) فاطر. أو كقوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) غافر.
المادة الأوّلية لخلق الإنسان كلّ إنسان كما بيّن العزيز الحميد في أكثر من آية هو التّراب، ومن ذلك يكون قبل خلق التّراب لم يكن شيئا، فآدم عليه السّلام من تراب أما بدنه في صورته البشرية فهو من طين وبدقة أكبر من صلصال كالفخار كما بيّن ربّ العزّة: خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) الرحمن، بيّن أنّ الإنسان في هذه الآية تعني آدم أي أن مصطلح الإنسان الذي حددناه في البداية الذي يراد به أنا وأنت والناس أجمعين غير معتبر، لكن هل يعني ذلك أن خلق آدم شمل في ذات اللحظة خلق نفسه وخلق جسده ونفخ الروح فيه؟، قد يكون خلق نفسه أسبق كما تبين عدة إشارات من الكتاب والسنة والله أعلم، فإن قيل ما الدّليل أنّ النفوس خلقت من تراب؟، فلنتدبّر خلق عيسى عليه السّلام، فلا يمكن أن نقول أنّ بدنه خلق من تراب، بل جنينا في رحم أمه كما نعلم، ومع ذلك يقول ربّ العالمين: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) آل عمران، جل المفسرين يعتبرون نزول هذه الآية ردّاً علي تساؤل وفد من نصارى نجران، غير أنّ الإشكال هو الضمير الذي في خَلَقَهُ إلى من يعود لعيسى أم لآدم كما يقولون، في رأيي والله أعلم إذا أرجعناه لآدم نكون أسقطنا عنصرا من عناصر المقارنة وهو الخلق من تراب، فلا يبقى إلا عنصر واحد وهو نفخ الروح، ثم إن عيسى عليه السلام بشر وعبد من عباد الله غير أنه ليس من بني آدم؛ لأن نفسه لم تنتقل من الأصلاب إلى الأرحام كما هو الحال المعلوم. لعل أوضح إشارة في أن النفوس خلقت جملة واحدة قبل خلق الأبدان ومن تراب قبل أن يخلق آدم من طين عندما سوّي بشراً وردت في الذكر الحكيم هي: ولَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) الأعراف، أورد الطّبري أقوال مختلفة في تفسير هذه الآية، منها: ”حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عمر بن هارون، عن نصر بن مُشاوش، عن الضحاك: (خلقناكم ثم صورناكم)، قال: ذريته. ومنها: حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: (ولقد خلقناكم ثم صورناكم)، قال: صورناكم في ظهر آدم“.
قال الفخر الرازي في تفسيره:[180] ”إذا عرفت هذا فنقول: في هذه الآية سؤال، وهو أن قوله تعالى:( وَلَقَدْ خلقناكم ثُمَّ صورناكم) يفيد أن المخاطب بهذا الخطاب نحن، ثم قال بعده: ( ثُمَّ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لأَدَمَ) وكلمة( ثُمَّ ) تفيد التراخي، فظاهر الآية يقتضي أن أمر الملائكة بالسجود لآدم وقع بعد خلقنا وتصويرنا، ومعلوم أنه ليس الأمر كذلك، فلهذا السبب اختلف الناس في تفسير هذه الآية على أربعة أقوال.........إلى أن قال: والوجه الرابع: أن الخلق في اللغة عبارة عن التقدير، كما قررناه في هذا الكتاب، وتقدير الله عبارة عن علمه بالأشياء ومشيئته لتخصيص كل شيء بمقداره المعين فقوله (خلقناكم) إشارة إلى حكم الله وتقديره لإحداث البشر في هذا العالم. وقوله: "صورناكم" إشارة إلى أنه تعالى أثبت في اللوح المحفوظ صورة كل شيء كائن محدث إلى قيام الساعة على ما جاء في الخبر أنه تعالى قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، فخلق الله عبارة عن حكمه ومشيئته، والتصوير عبارة عن إثبات صور الأشياء في اللوح المحفوظ، ثم بعد هذين الأمرين أحدث الله تعالى آدم وأمر الملائكة بالسجود له وهذا التأويل عندي أقرب من سائر الوجوه، انتهى.“
مع كل ما أورده المفسرون، يبقى السؤال قائما لما لا يكون أنّ المخاطب كل الناس وأن الخلق وقع للصّور النفسية قبل خلق آدم في الصورة البشرية؟. كما قال تعالى: خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) التّغابن، في الآية إشارة لخلق النفوس الإنسانية يوم أن خلق الله السموات والأرض، والله أعلم. يقول ابن حزم الأندلسي[181]: وأن الله تعالى خلق الأنفس كلها جملة وهي الحساسة العاقلة المميزة ثم واثقها بالإسلام فقبلته ثم أقرها حتى نقل كل نفس منها إلى جسدها فأقامت فيه ما أقامت ثم تعود إلى مقرها عند سماء الدنيا حيث رآها النبي ﷺ ليلة الإسراء فأهل السعادة في محل اليمين في سرور وخير وأهل الشقاء في محل الشمال في نكد ومشقة إلى يوم القيامة فينزلون منازلهم من الجنة والنار، انتهى.
أخرج الحاكم في المستدرك، كتاب تواريخ المتقدّمين من الأنبياء والمرسلين، عن ميسرة الفخر قال: قلت لرسول الله ﷺ متى كنت نبيا قال: ﴿وآدم بين الروح والجسد﴾، قال الحاكم صحيح الإسناد، وقال السيوطي في الجامع الصّغير صحيح، وفي المستدرك[182] وغيره أنّ رسول الله ﷺ، قال : ”إني عبد الله ، وخاتم النبيين ، وأبي منجدل في طينته...الحديث“. كما أنّه تعالى يقول: مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ(28) لقمان، ففي الآية تشبيه أنّ البعث سيتمّ على النّحو الذي تمّ به خلق النفوس الإنسانية أي جملة واحدة، وهو والله أعلم غير المقصود في الآية الشّريفة: يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1) النّساء، حيث النّفس الواحدة تعني آدم عليه الصّلاة والسّلام، وبنفس المعنى الذي يبيّن خلق النّفوس قوله تعالى: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) نوح. في صحيح ابن حبّان[183]: عن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: ”إن الله خلق خلقه في ظلمة، وألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور، اهتدى، ومن أخطأ ضل، فلذلك أقول: جف القلم عن علم الله جلّ وعلا“. كذلك قوله تعالى: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55) طه، في كتاب الشريعة للأجري[184]: ”عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " أَنَّ قُرَيْشًا كَانَتْ نُورًا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ آدَمَ بِأَلْفَيْ عَامٍ يُسَبِّحُ ذَلِكَ النُّورُ وَتُسَبِّحُ الْمَلَائِكَةُ بِتَسْبِيحِهِ، فَلَمَّا خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ آدَمَ أَلْقَى ذَلِكَ النُّورَ فِي صُلْبِهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «فَأَهْبَطَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى الْأَرْضِ فِي صُلْبِ آدَمَ، وَجَعَلَنِي فِي صُلْبِ نُوحٍ فِي سَفِينَتِهِ، وَقَذْفَ بِي فِي النَّارِ فِي صُلْبِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ لَمْ يَزَلْ يَنْقُلُنِي فِي الْأَصْلَابِ الْكَرِيمَةِ إِلَى الْأَرْحَامِ الطَّاهِرَةِ، حَتَّى أَخْرَجَنِي مِنْ بَيْنَ أَبَوَيَّ، وَلَمْ يَلْتَقِيَا عَلَى سِفَاحٍ قَطُّ“. معلوم أنّ المتتبّع لأقوال جلّ المفسّرين سيجد أن المعنى المقصود بخلق الإنسان من تراب يراد به خلق آدم عليه السلام، والفرع كما يقال تابع للأصل، ولعلّ هذا الاستنباط لا يستوي عند تتبع الآيات المحكمات التي تذكر خلق الإنسان من تراب، لكنّه يحاذي الصّواب في آيات أخريات تذكر خلق الإنسان من طين، حيث الإنسان تعني الخلقة البشرية وليست الخلقة النّفسية أو الشّبحية كقوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) الأنعام، أورد الطبري: عن ابن عباس قوله: ”أجلا“، قال: الدنيا ”وأجل مسمى عنده“، الآخرة. الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) السّجدة، بيّن أنّ المقصود بالإنسان في الآية آدم عليه السّلام لأنّ الآية التّالية: ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8). يقول تعالى: فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11) الصافات، من المفسّرين من قال أنّ الإنسان خلق من تراب لأنّ النطفة خلقت من تراب، ولبيان هذا الإشكال، سنستعين بما أورده الإمام القرطبي[185] في تفسير قوله تعالى (منها خلقناكم): يعني آدم عليه السلام لأنه خلق من الأرض، قاله أبو إسحق الزجاج وغيره. وقيل: كل نطفة مخلوقة من التراب، على هذا يدلّ ظاهر القرآن. ثم يقول في تفسيره (هو الذي خلقكم من طين): في معناه قولان: أحدهما وهو الأشهر وعليه من الخلق الأكثر أن المراد آدم عليه السلام والخلق نسله والفرع يضاف إلى أصله فلذلك قال: "خلقكم" بالجمع فأخرجه مخرج الخطاب لهم إذ كانوا ولده، هذا قول الحسن وقتادة وابن أبي نجيح والسدى والضحاك وابن زيد وغيرهم، والثاني: أن تكون النطفة خلقها الله من طين على الحقيقة ثم قلبها حتى كان الإنسان منها، ذكره النحاس، قلت: وبالجملة فلما ذكر عز وجل خلق العالم الكبير ذكر بعده خلق العالم الصغير وهو الإنسان وجعل فيه ما في العالم الكبير على ما بيناه في " البقرة " والله أعلم، وقد روى أبو نعيم الحافظ في كتابه عن مرة عن ابن مسعود أن الملك الموكل بالرحم يأخذ النطفة فيضعها على كفه ثم يقول: يا رب مخلقة أو غير مخلقة ؟، فإن قال مخلقة قال: يا رب ما الرزق ما الأثر ما الأجل؟، فيقول: انظر في أم الكتاب فينظر في اللوح المحفوظ فيجد فيه رزقه وأثره وأجله وعمله ويأخذ التراب الذي يدفن في بقعته ويعجن به نطفته فذلك قوله تعالى: "منها خلقناكم وفيها نعيدكم ". وَخَرَّجَ عَنْ أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: "ما من مولود إلا وقد ذر عليه من تراب حفرته"، قلت (القول للقرطبي): وعلى هذا يكون كل إنسان مخلوقا من طين وماء مهين كما أخبر عز وجل في سورة المؤمنون فتنتظم الآيات والأحاديث ويرتفع الإشكال والتعارض والله أعلم.
النشأة الأولى
عند تناول الآيات المتّشابهات في القرآن الحكيم، يكون من المفيد عدم فصل الآية عن السّياق الذي وردت فيه، كما أنّ تتبع مثاني الآية التي يعتقد أنها متشابهة في كل كتاب الله من شأنه زيادة التّوضيح، أضف مع هذا عدم تثبيت معنى معيّن لكلمة ما، أي اعتمادها كمصطلح ثابت، فكلمات الكتاب لها حياة وحركية ذاتية كما يقول ربّ العزّة لكل نبأ مستقر، باعتماد هذه الحركية التي يتميّز بها الوحي، سيكون مفهوم النّشأة الأولى كذا الخلق الأول في القرآن الحكيم يتماشى مع الموقع الذي عنده الآية، فإذا عدّدنا أطوار الخلق التي سقنا وهي: تراب ثمّ نطفة ثمّ نطفة أمشاج ثمّ علقة ثمّ مضغة ثمّ الإخراج طفلا. فلعلّ أكثر هذه الأطوار معلومة عند الجميع لذا قال العزيز الحكيم: وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذكَّرُونَ (62) الواقعة. أمّا خلق النّفوس في عالم الذّر كما يسمّيه السّلف بناء علي الآثار التي تذكر كيف أخرج الله عزّ وجلّ من صلب آدم عليه السّلام ذرّيته، قال الطّبري[186]: عن ابن عباس قال: إن الله خلق آدم، ثم أخرج ذريته من صلبه مثل الذر، فقال لهم: من ربكم؟ قالوا: الله ربنا، ثم أعادهم في صلبه، حتى يولد كل من أخذ ميثاقه لا يزاد فيهم ولا ينقص منهم إلى أن تقوم الساعة. هذا الخلق السابق فإنه مستعصي الإدراك لعدم مشاهدته لا من إنس ولا من جنّ، كما قال الحقّ المبين: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51) الكهف، بالعودة إلى النّشأة الأولى، يقول الرّحمان الرّحيم: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94) الأنعام، الخطاب في الآية الحكيمة موجّه للنفوس بعد مغادرتها الأبدان عند الموت بدليل الآية السابقة: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) الأنعام، فتبيان ”جئتمونا فرادى“ يعني أمرين والله أعلم، أوّلهما أنّ خلق النّفوس وإن تمّ جملة واحدة فلم يكن بينهم أنساب ومن ذلك جاءت صفة الفردية، والأمر الثاني، أنه كما خلقناكم أول مرة نفوساً قد عدتم إلينا كذلك. يقول الطّبري في تفسيره: عن المغيرة بن شعبة، قال: يقولون: القيامة القيامة، وإنما قيامة أحدهم: موته. كما قال حدثنا وكيع، عن مسعر وسفيان، عن أبي قيس، قال: رأيت علقمة[187] في جنازة، فلم يزل قائما حتى دفن، فقال: «أما هذا فقد قامت قيامته»، كثير من المفسّرين ينقلون عن رسول الله ﷺ قوله: «من مات فقد قامت قيامته» ويقول الله عزّ وجلّ: وَكُلُّهُمْ ءَاتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95) مريم، وهو غير القيامة الكبرى والله أعلم لأنّ في هذه الإتيان يكون جماعات.
بينما نجد الخلق الأول يعني منتهى أطوار الخلق في الآية الحكيمة: وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48) الكهف، فالخطاب في هذه الآية الكريمة موجّه للناس يوم الحشر، بدليل الآية السّابقة: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) الكهف، فيكون بذلك أول مرّة تعني مجموع أطوار الخلق أي في الصّفة البشرية، والله أعلم، فالنّشأة الأولى قد تعني الخلق الذي كان مع بدأ خلق السّموات والأرض، وقد تعني خلق نفسا بشرية حين الولادة المعلومة لدينا بعد استكمال أطوار الخلق.
خلق النّفس
إذا كانت لحظة نفخ الروح في الإنسان لا خلاف فيها بين المسلمين لأنّ الرسول الأكرم حسم الأمر، إذ هي بعد الأربعين يوماً الثالثة من تكوين الجنين بالنسبة لذرّية آدم عليه الصّلاة والسّلام، وعند بداية الأزمنة والقرون للبشرية على هذه الأرض بالنسبة لأبي البشر، غير أنّ الإبهام أحاط بخلق النفوس ممّا أفرز الآراء الثلاث التالية:
الرأي الذي سبق أن سقناه معتمدين علي ظاهر الآية الحكيمة (ولقد خلقناكم ثمّ صوّرناكم ثمّ قلنا....الآية)، والحديث الشّريف (وآدم بين الروح والجسد) وبهذا الفهم مدح العبّاس عمّ الرسول، رسول الله ﷺ إذ قال:
مِنْ قَبْلِهَا طِبْتَ فِي الظِّلاَلِ وَفِي مُسْتَوْدَعٍ حَيْـثُ يُخْصَفُ الـوَرَقُ (يقصد الجنّة).
ثُمَّ هَبَطْــــتَ البِلاَدَ لاَ بَشَرٌ أَنـْتَ وَلاَ مُضْغَةٌ وَلاَ عَلَــــقُ (يقصد نفساً من عالم الذّر).
بَلْ نُطْفَةٌ تَرْكَبُ السَّفِيْنَ وَقَـدْ أَلْجَمَ نَسْراً وَأَهْلَـــهُ الغَــرَقُ (يقصد ركوب سفينة نوح عليه السلام).
وردت نار الخليل مكتتــما تجول فيها وليس تحتـــــرق ( يقصد النار التي أريد بها حرق إبراهيم الخليل)
تُنْقَلُ مِنْ صَالِبٍ إِلَى رَحِـمٍ إِذَا مَضَى عَالَمٌ بَدَا طَبَــــــقُ (يقصد العيش من صلب إلى رحم)
حَتَّى احْتَوَى بَيْتُكَ المُهَيْمِنُ مِنْ خِنْدِفَ[188] عَلْيَاءَ تَحْتَهَا النُّطُقُ
وَأَنْتَ لَمَّا وُلِدْتَ أَشْرَقَتِ الأرض وَضَاءتْ بِنُــــورِكَ الأُفُقُ
فَنَحْنُ فِي ذَلِكَ الضِّيَــاءِ وَفِي النُّوْرِ وَسُبُلُ الرَّشَادِ نَخْتَـرِقُ
الرأي الذي ساقه عبد الله ابن العبّاس رضي الله عنهما، كما جاء في تفسير الطّبري: عن الضحاك بن مزاحم قال: حدّثني ابن عباس أن الله مسح صلب آدم، فاستخرج منه كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، وأخذ منهم الميثاق أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئًا، وتكفّل لهم بالأرزاق، فلن تقوم الساعة حتى يولد من أعطى الميثاق يومئذ، فمن أدرك منهم الميثاق الآخر فوفَى به نفعه الميثاق الأوّل، ومن أدرك الميثاق الآخر فلم يفِ به لم ينفعه الميثاق الأوّل، ومن مات صغيرًا قبل أن يدرك الميثاق الآخر مات على الميثاق الأول على الفطرة، انتهى. يلاحظ أنّ ابن عبّاس ذكر النّسمة التي هي اسم مرادف للنّفس وبهذا وردت مراراً في أحاديث رسول الله ﷺ، هذا الفهم الذي ذهب إليه أكثر من واحد من الصحابة رضي الله عنهم، ما هو إلا تصديق لحديث الرسول الأكرم الذي أخرجه البخاريّ[189]: عن أَنَس بْن مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِأَهْوَنِ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَوْ أَنَّ لَكَ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ أَكُنْتَ تَفْتَدِي بِهِ فَيَقُولُ نَعَمْ فَيَقُولُ أَرَدْتُ مِنْكَ أَهْوَنَ مِنْ هَذَا وَأَنْتَ فِي صُلْبِ آدَمَ أَنْ لَا تُشْرِكَ بِي شَيْئًا فَأَبَيْتَ إِلَّا أَنْ تُشْرِكَ بِي.
الرأي الثالث وهو ليس ذا مرجعية محدّدة (تفسير بالرّأي) ومفاده أنّ كل ما ورد في الكتاب والسّنة من مراحل الخلق قبل استكمال الصّفة البشرية لا يمكن اعتباره خلقاً، بل في أحسن الأحوال يمكن اعتباره تقديرا وليس خلقا وهذا مذهب فخر الدّين الرازي كما أسلفنا.
بيّن أن الرأيين الأول والثاني رغم الخلاف البسيط، فهما معاً يرجعان خلق النّفوس إلى ما قبل هبوط آدم عليه الصلاة والسلام إلى الأرض التي نحن عليها.
أمّا الروح فلا يجوز أن يسأل هل هي قديمة أو محدثة بمعنى مخلوقة، كما سئل ابن قيّم الجوزية في كتاب الرّوح اعتبارا أن موضوع الكتاب بتمامه يحقّق في شأن النّفس وليس الرّوح، ففي المسألة السّابعة عشرة من الكتاب استدلّ برأي ابن تيمية في الشّأن إذ يقول[190]: وَقَالَ شيخ الْإِسْلَام ابْن تَيْمِية روح الْآدَمِيّ مخلوقة مبدعة باتفاق سلف الْأمة وأئمتها وَسَائِر أهل السّنة وَقد حكى إِجْمَاع الْعلمَاء على أَنَّهَا مخلوقة غير وَاحِد من أَئِمَّة الْمُسلمين مثل مُحَمَّد ابْن نصر المروزى الإِمَام الْمَشْهُور الَّذِي هُوَ من أعلم أهل زَمَانه بِالْإِجْمَاع وَلَا اخْتِلَاف وَكَذَلِكَ أَبُو مُحَمَّد بن قُتَيْبَة قَالَ فِي كتاب اللَّفْظ لما تكلم على الرّوح قَالَ النسم الْأَرْوَاح قَالَ وَأجْمع النَّاس على أَن الله تَعَالَى هُوَ فالق الْحبَّة وبارئ النَّسمَة أَي خَالق الرّوح، انتهى، فخالق النّسمة تعني خالق النّفس وليس خالق الرّوح فلو كان الأمر هذا الأخير فهو يناقض مذهب الإمام أحمد من أنّ القرآن غير مخلوق، فهل يقبل بذلك الأتباع ؟.
كتاب خلق آدم عليه الصلاة والسلام
قبل الخلق
في مكان ما، أو حتى خارج المكان، إذ لا علم عن الطبيعة الفيزيائية لما هو فوق السماء الدّنيا، قال الله عزّ وجلّ للملائكة: إنّي جاعل في الأرض خليفة، والملائكية قد تكون خلقة أو رتبة، فعند ما يراد الخلقة المقصود بها مخلوقات من نور، وقد ثبت عن الرٌسول الأكرم: خُلِقَتِ الْمَلاَئِكَةُ مِنْ نُورٍ[191] ، وعندما يراد المرتبة تعني تكريما إلهيا، وهي مرتبة غير ممتنعة للبشر، بدليل قوله تعالى: وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) الزخرف، حتى إن كان جلّ المفسّرين أوّلوا ”منكم“ إلى ”بدل منكم“، باستثناء السديّ[192] الذي قال: ”ملائكة يكونون خلفاً منكم“، وبنفس المعنى قاله ابن عبٌاس رضي الله عنهما في التّفسير ”تنوير المقباس“[193] المنسوب إليه: "وَلَوْ نشاء لَجَعَلْنَا مِنكُمْ" بمكانكم ويقال خلقنا منكم، (مَّلاَئِكَةً فِي ٱلأَرْضِ يَخْلُفُونَ) خلفاء منكم بدلكم يمشون في الأرض بدلكم، انتهى، ولعلٌ هذا الفهم هو ما يلائم قوله تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ (105) الأنبياء، كذا: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنْ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) الزمر، وممٌا يدلٌ على رتبة الملائكية كذلك، ما ورد في الذّكر الحكيم من إغراء إبليس لآدم عليه الصّلاة والسّلام: فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنْ الْخَالِدِينَ (20) الأعراف، ومن البداهة أنّ الإغراء لا يكون بما هو مستحيل.
ولعل كون الملائكية خلقة ورتبة ما يختصر الأقوال التي وردت في كيفية وجود إبليس مع الملائكة وليس منهم، أمّا كيف كان الخطاب؟، فإمّا بعد أن يحشر ربّ العزّة من خلقه من شاء، وإمّا أن يبلّغ البعض بعضاً آخر، كما ثبت عن رسول الله صلى عليه وسلم: وَلَكِنْ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى اسْمُهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا سَبَّحَ حَمَلَةُ الْعَرْشِ ثُمَّ سَبَّحَ أَهْلُ السَّمَاءِ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ حَتَّى يَبْلُغَ التَّسْبِيحُ أَهْلَ هَذِهِ السَّمَاءِ الدُّنْيَا ثُمَّ قَالَ الَّذِينَ يَلُونَ حَمَلَةَ الْعَرْشِ لِحَمَلَةِ الْعَرْشِ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ فَيُخْبِرُونَهُمْ مَاذَا قَال،َ قَالَ فَيَسْتَخْبِرُ بَعْضُ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ بعْضًا حَتَّى يَبلُغَ الْخَبَرُ هَذِهِ السَّمَاءَ الدُّنْيَا. الحديث[194].
وقد تكون الكيفية غير هاتين الطّريقتين لأنّ الله على كل ّشيء قدير، أمّا ما سقناه فهو من طٌبع الْإِنسَان إذ هو أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا.
لعلّ الخطاب الإلهي إنّي جاعل في الأرض خليفة، سبق الخطاب: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) الحجر، أو: إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) ص، حيث لم تكن قد تحددت هوية الخليفة المقترح بعد، وإن كان من جواب الملائكة: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ، نستوضح أن الخلافة على الأرجح ستكون لجنس ما من بين عمّار الأرض من الخلائق الموجدة آنذاك أي قبل خلق آدم أو من طبيعتها، لأنّ عبارة جاعل في الأرض خليفة هي غير عبارة جاعل على الأرض خليفة والله أعلم، والخلافة يراد بها الحكم والسّلطان أي المسؤولية عن الغير، لا المسؤولية الذّاتية، والله أعلم، علي منوال قوله تعالى: يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26) ص، أو كما قال رسول الله ﷺ: ”كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ“، وليست بمعنى مصيّر في الأرض خلفاً كما أوردت بعض التّفاسير، إذ لو كان المراد هذا الأخير لجاز أن يقال لكل الدّواب بمختلف أجناسها أنّهم خلفاء كذلك في الأرض، وأكثر من ذلك حتّى الجنّ الذي سبق له عمارة الأرض حسب ما رواه أكثر من واحد من السّلف مصداقاً لقوله تعالى: وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27) الحجر، ليس له صفة الخلافة في الأرض رغم أنّ فرقة منهم من عمّارها، ولعلّ هذا ما حزّ في نفس إبليس أن يرى الخلافة تخرج عن بني جلدته من الجنٌ وتذهب إلى البشر، فاستكبر وفسق عن أمر ربّه والله أعلم.
إذا كنا نتناول أحوالا سبقت خلق آدم، فالقصد خلق آدم في صورته البشرية، أما نفس آدم فكانت مخلوقة من يوم ما خلق الله النفوس كما سبق الذكر.
خلق بدن آدم
كل أخبار الوحي تؤكد أن بدن آدم ﷺ خلق على مراحل فعن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال[195]: « إن الله خلق آدم من تراب ، ثم جعله طينا ، ثم تركه حتى إذا كان حمأ مسنونا، خلقه وصوره، ثم تركه حتى إذا كان صلصالا كالفخار»، لعل خلق آدم من تراب سبق في خلق النفس ويتكرر في خلق البدن بعد زيادة الماء، فبالنسبة للطين قال رب العزة: إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ (71) الصافات، يقول الفخر الرازي[196]: الْأَمْرُ بِالسُّجُودِ حَصَلَ قَبْلَ أَنْ يُسَوِّيَ اللَّهُ تَعَالَى خِلْقَةَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ. انتهى. كما ورد الحمأ المسنون في ثلاث آيات منها: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حمأ مَّسْنُونٍ (28) الحجر، أما مرحلة الصلصال كالفخار قال عنها رب العزة: خَلَقَ الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) الرحمن، في كل هذه المراحل ظل بدن آدم مجندلاً في أرض الجنة، فحسب التوراة بالتخصيص في جنة عدن، (سفر التكوين، الإصحاح الثاني،8، وَغَرَسَ الرَّبُّ الإِلَهُ جَنَّةً فِي عَدْنٍ شَرْقاً وَوَضَعَ هُنَاكَ آدَمَ \لَّذِي جَبَلَهُ)، تطوف به الملائكة وإبليس بحقده وشره، كما جاء في المستدرك[197]: عن أنس، عن رسول الله ﷺ، قال: «لما خلق الله آدم صوره وتركه في الجنة ما شاء الله أن يتركه، فجعل إبليس يطيف به، فلما رآه أجوف عرف أنه خلق لا يتمالك»، يُجمع أهل التفسير أن آدم سواه رب العزة بيده، ونفخ فيه من روحه، ففي المستدرك[198] عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله ﷺ: « لما خلق الله آدم ونفخ فيه الروح عطس، فقال: الحمد لله، فحمد الله بإذن الله، فقال له ربه: رحمك الله ربك يا آدم،..الحديث»، يوجد بعض التداخل عندما يرد في القرآن الحكيم خلق الإنسان، أو خلق الناس، مما حدا ببعض المفسرين إلى حمل الآيات إلى غير معناها الظاهر حتى تتلاءم مع الفهم الشائع لديهم وهو ”أنّ الناس من آدم وآدم من تراب“ لنرى نتيجة إسقاط هذا الفهم في قول ربنا تبارك وتعالى: وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتًا (17) نوح، فسّرت بما يفيد ”خلقكم من آدم وآدم من تراب والتراب من الأرض“ لكن إذا تدبرنا الآية التالية: ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) نوح، نجد مقارنة بين الإنبات والإخراج، فكل المسلمين يؤمنون أن الإخراج يوم القيامة الكبرى سيكون لكل الناس جميعاً في وقت واحد، فلا معنى إذا للمقارنة إذا لم يكن الخلق الأول أشبه بذلك. إجمالا فإنّ خلق الناس من تراب وردت فيه آيات صريحة سبق التبيان في فقرة (خلق يتلوه خلق)، كما لا يمكن إرجاع كل الخلق من تراب إلى آدم خصوصا في خلق عيسى عليه الصّلاة والسلام حيث قال ربنا خلقه من تراب ثم قال له كن. أما الآيات التي تذكر الخلق من طين فهي تعود إلى السلالة والله أعلم: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ (12) المؤمنون ، يقول الطبري[199]: وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: معناه: ولقد خلقنا ابن آدم من سُلالة آدم، وهي صفة مائه، وآدم هو الطين، لأنه خُلق منه، انتهى، وهذا الذي يمثّل الفهم الشّائع.
لما تمت تسوية جسم آدم، ونُفخ فيه الروح، وأُمر الملائكة بالسجود له، وعُلّم الأسماء، تكون قد تجلّت أوّل نفس في صورتها البشريّة لتبتدئ سلالة بني آدم أو سلالة البشرية التي لا تتعدّى أن تكون طورا من أطوار الإنسانية الكامل، أي طور الوجود النّفسي الأول ثمّ طور الوجود البشري الأوّل ثمّ طور الوجود النّفسي الثّاني ثمّ طور الوجود البشري الثّاني، هذا ما يتّفق ويلائم عدة آي من القرآن الحكيم، وفي ذات الوقت يعين على فهم كثير من أحاديث رسول الله ﷺ دون التعسّف بالتّأويل.
خلق بدن حواء
التصور الإسلامي لخلق بدن حواء مستمد من قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1) النساء، كما وردت آيات أخرى بنص خلقكم من نفس واحدة أو أنشأكم من نفس واحدة، كما استبدل الجَعل بالخلق في سورة الأعراف: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) الأعراف، ولا يمكن أن لا توجد حكمة لهذا الاستبدال، إضافة للآيات الكريمات أوردت السنة حديثا لرسول الله ﷺ مفاده: «الْمَرْأَةُ خُلِقَتٍ مِنْ ضِلَعٍ أَعْوَجَ وَإِنَّكَ إِنْ أَقَمْتَهَا كَسَرْتَهَا، وَإِنْ تَرَكْتَهَا تَعِشْ بِهَا وَفِيهَا عِوَجٌ»، يقول الحاكم وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ[200]. لذا كان القول الَّذِي عَلَيْهِ الغالبية أَنَّهُ لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ أَلْقَى عَلَيْهِ النَّوْمَ، ثُمَّ خَلَقَ حَوَّاءَ مِنْ ضِلَعٍ مِنْ أَضْلَاعِهِ الْيُسْرَى، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ رَآهَا وَمَالَ إِلَيْهَا وَأَلِفَهَا، غير أن محمد بن بحر أبو مسلم الأصفهاني من علماء المعتزلة (المتوفى سنة 322 هجرية)، حادَ عن هذا الفهم واعتبر أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها أَيْ مِنْ جِنْسِهَا وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً، النَّحْلِ: 72، وَكَقَوْلِهِ: إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ، آلِ عِمْرَانَ: 164 وَقَوْلِهِ: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ التَّوْبَةِ: 128، وقد وُجد في الزمن الحاضر من يؤيد هذا التوجه الأخير على اعتبار الرأي الأول من الإسرائيليات التي تسربت إلى الإسلام، حيث جاء في تراجم التوراة كما هو معلوم، (التّكوين، الإصحاح الثاني، 22: فَأَوْقَعَ الرَّبُّ الإِلَهُ سُبَاتاً عَلَى آدَمَ فَنَامَ فَأَخَذَ وَاحِدَةً مِنْ أَضْلاَعِهِ وَمَلَأَ مَكَانَهَا لَحْماً. 23: وَبَنَى الرَّبُّ الإِلَهُ الضِّلْعَ الَّتِي أَخَذَهَا مِنْ آدَمَ امرأة وَأَحْضَرَهَا إِلَى آدَمَ)، وقد استعملت شبهة الإسرائيليات في الزّمن الأخير بنوع من التّعسّف كون علماء الإسلام لم يحدّدوا مفهوما بيّنا لمعنى الإسرائيليات والمنهجية المتّبعة للحكم بذلك، زد على ذلك الفهم المبهم للنفس كما سبق تفصيله، فليس كلّ ما ورد في تراجم التّوراة يجب اعتباره من الإسرائيليات وإلا لسقط الإيمان بالكتب.
إنظار إبليس
لما امتنع إبليس عن السجود لآدم كما هو معلوم، دار الحوار التالي بينه وبين ربّ العزة: قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) الحجر، الأصل في الرجم رميٌّ بالحجارة ثم استعيرت للقذف والسب و اللعن والظن والطرد وغير ذلك، أما فاخرج منها، الضمير يعود للجنة أو المكان حيث أُمِرَ بالسجود فيه، واللعن أصله الإبعاد والطرد، فمن السياق عاقب ربّ العزة إبليس على كبره باللعن والطرد من المكان، والإنظار التأخير والإمهال، أي أسألك تأجيل طردي إلى يوم يبعثون، والبعث معناه الإرسال ويستعمل مجازاً للإحياء بعد الموت إذ فيه تبعث النّفوس إلى أبدانها، فتفسير يوم يبعثون في هذا الحوار بيوم إخراج الناس من القبور في القيامة الكبرى غير صائب والله أعلم، لأنه ليس بالوقت المعلوم، يقول العزيز الحكيم: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (187) الأعراف. أورد الطبري في تفسير هذه الآية أقوال منها: عن قتادة: ( قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو)، يقول: علمها عند الله، هو يجليها لوقتها، لا يعلم ذلك إلا الله. وعن السدي، قوله: (ثقلت في السماوات والأرض)، يقول: خفيت في السماوات والأرض، فلم يعلم قيامها متى تقوم مَلَك مقرَّب، ولا نبيٌّ مرسل[201]. في الكتاب آيات تدل أن الله هو المختص بعلم الساعة، وفي الحديث المشهور عندما سأل سيدنا جبريل ﷺ عنها أجاب رسول الله: ”ما المسؤول عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ“، فكيف يكون لإبليس اللعين أن تكون عنده معلومة. ثمّ إذا أنظرَ إلى يوم قيام الساعة الكبرى؛ فهو إذاً لا زال في الجنة أو المكان الذي تمّ فيه السجود لآدم، ولن يُلعن ويُطرد إلا بعد القيامة الكبرى، وهذا أمر بدهي أنه غير صحيح، فلا يبقى لتفسير يوم يبعثون سوى يوم بعث آدم وذريته إلى الأرض، وهذا ما حصل بالفعل مبيّناً في عدة آيات من القرآن منها: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) البقرة، أما هل كان معلوماً هبوط آدم وذريته إلى الأرض؟ فذاك بيّن في قوله تعالى إني جاعل في الأرض خليفة، وأنّ الإنذار هي الفترة التي استغلّ إبليس من أجل الوسوسة لآدم وزوجه في الجنّة ليغريهم بشجرة الخلد وملك لا يبلى والله أعلم.
الإسكان في الجنة
الرأي الذي يقول إِنَّ إِبْلِيسَ أُخْرِجَ مِنَ الْجَنَّةِ بَعْدَ الِاسْتِكْبَارِ عَنِ السُّجُودِ لِآدَمَ، وَأَسْكَنَهَا آدَمَ قَبْلَ أَنْ يُهْبِطَ إِبْلِيسَ إِلَى الْأَرْضِ، هو قول كثير من الصحابة رضي الله عنهم، وهو حل للإشكال الذي سقناه سابقاً الناتج عن ”أنظرني إلى يوم يبعثون“، غير أن قبوله يحدث إشكالاً جديداً مفاده، إذا كان إبليس قد لعن وطرد من الجنة فكيف استطاع أن يوسوس لآدم وحواء ممّا ترتّبت عنه المعصية التي أّفسدت الوعي الذي كان عندهما؛ وعجّلت بالإهباط إلى الأرض الدنيا؟، رغم معرفة ما للشّياطين من قدرات خارقة بالمقارنة بقدرات البشر، فلا يعقل أن تكون لإبليس القدرة أن يرجع إلى الجنّة التي أسكن فيها آدم وزوجه بعد طرد ربّ العزّة إيّاه، ثم إن كيد الشيطان لآدم وزوجه لم يكن من أجل إهباطهما إلى الأرض، والله أعلم، لعلمه أنّهما نواة الاستخلاف فيها، بل غايته حثهما على المعصية التي شوّهت الوعي الذي صاحب الخلق عندهما، كما قال تعالى: يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ (27) الأعراف، زد على هذا أنه إذا كان قد أخرج من الجنة بعد الاستكبار فأين إنظار رب العزة له إلى الوقت المعلوم، كلها إشكالات تولدت عن فهم ”يوم يبعثون“ والله أعلم.
الدليل في كتلب الله على أن الطرد والإخراج والإهباط إلى الأرض بمعنى واحد قوله تعالى: قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) الأعراف، فقرن الهبوط بالخروج، من هذا يكون الطّرد والهبوط لم ينفّذ إلا لمّا تمّ عليهم جميعا أي لإبليس وآدم وحواء، أي كما قال ربّ العزّة اهبطوا منها جميعاً وكما هو بيّن في آيات أخر، ذاك اليوم هو يوم بعث آدم وزوجه إلى الأرض وفي نفس الوقت هو اليوم الذي تمّ فيه اللّعن والإبعاد لإبليس.
التأخير إلى يوم القيامة
الإهباط إلى الأرض شمل الجميع آدم وذريته وإبليس وذريته، قال تعالى: قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (38) البقرة ، غير أنه بالنسبة لإبليس لعنٌ وطردٌ، وبالنسبة لآدم وزوجه عقاب، وبما أن الذرية كانت في الأصلاب فالأمر متعلق إذاً بآدم وزوجه وإبليس، وهذا فهم الإمام الطبري رغم أنه ساق روايات تضيف الحية، وهناك من أضاف الطاووس كالإمام الطبراني، أما عن مجاهد[202]:” بعضكم لبعض عدوٌّ“، قال: آدم وذريته، وإبليس وذريته.
بنفس الشّكل الذي أدّى فهم ”يوم يبعثون“ إلى الإشكالات التي ذكرت، نجد فهم ”يوم القيامة“ مرتبط بإشكالات مماثلة، لأن في أخبار إبليس الواردة في كتاب الله قوله عزّ وجلّ: قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً (62) الإسراء، والفهم العام للمسلمين لأيام الله المذكورة في كتابه الحكيم، هو أنها مترادفات لواقعة واحدة هي يوم البعث والنشور، ومثل هذا الفهم لا يتوافق مع القرآن، يقول تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) ابراهيم، وقوله جلّ وعلا: قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُون أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِما كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) الجاثية، فهي أيام وليست يوم واحد والله أعلم، أما ما يخصُّ يوم القيامة فهو مبيّن في كتاب الله بقوله تعالى: يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9)، القيامة، برق سواء كانت من الفزع أو البريق حسب القراءة فالمعنى القرآني هو تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ، ومَن هذهِ حالهُ، فقد قامت قيامته، أما إذا خسف القمر فهي قيامة أخرى يستشف منها بداية موت الأرض والله أعلم، أما أن يُجمع الشمس والقمر قد تكون إشارة للقيامة الكبرى والله أعلم، وفي كل من الحالات الثلاث أو في إحداهن : يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلاَّ لا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) القيامة.
طلب إبليس التأخير ليوم القيامة يقصد قيامته الخاصة فهو بذلك يطلب أن يكون أطول عمراً من آدم حتى يظفر بغواية ذريته كما قال لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً، فحسب المتتبعين لشؤون الجن يذكرون أنّ معدّل أعمارهم تزيد عشرة أضعاف عن معدّلات أعمار البشر.
كون الطرد والعقاب معلوم أسبابهما لدينا، فكيف شملت الذرية التي لا ذنب لها حسب فهمنا؟، وهي نفس الحجة كما أخبر بها رسول الله إذ حَاجَّ مُوسَى آدَمَ، فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ الَّذِي أَخْرَجْتَ النَّاسَ مِنَ الجَنَّةِ بِذَنْبِكَ وَأَشْقَيْتَهُمْ، غير أن الشطر الثاني من الآية التي انطلقنا منها يقول فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يحزنون، أي المبدأ الربّاني لا تزر وازرة وزر أخرى قائم، ثمّ أنّ حكمة الله في الخلق لا حدّ لها ولا إدراك ولو جزئي للمخلوق عدا خبر الوحي على منوال علمه جلّ وعلا إذ يقول: وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ.
آدم من الجنة إلى الأرض
أُسكن آدم وزوجه الجنة، والجنة معرّفة في القرآن بأرض بها أشجار وتجري من تحتها الأنهار، سواء كانت في السماء الدنيا أو في السماوات العلا، غير أنه كلّما كانت الجنة في سماء أعلى كان نعيمها أكبر، يقول تعالى: وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25) البقرة، والجنة التي خلق فيها آدم أعلى من جنان هذه الأرض الدّنيا بدليل قوله تعالى: إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى (119) طه، أما السؤال هل أُسكن آدم الجنة قبل أم بعد خلق زوجه؟، فلا أجد له غاية إلا كالذي يقول أن أصحاب الكهف سبعة وثامنهم كلبهم أو يقول بغير ذلك، بعد استقرار كلّ من آدم وزوجه في الجنة صدر أول تشريع بشري ينظّم منهج المعاملة مع ما خصّ به ربّ العزّة الإنسان، وذلك بقوله: وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ (35) البقرة، غير أنّ آدم عصى ربّه، مع ذلك لم يكن للمعصية تأثير على الغاية، إذ كانت غاية خلقه الاستخلاف في الأرض الدنيا لإعمارها وتدبير شؤونها والتّصدي للشّر المتفشّي بين ساكنيها، لكن المعصية أسهمت في أن تكون المهمة شاقة كما يقول تعالى: فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) طه، أما من يسأل كيف أهبط آدم إلى الأرض الدنيا؟، إدراكه هو نفس إدراك من يتساءل كيف عُرج برسول الله ﷺ إلى سدرة المنتهى، ليس لي أن أسعفه إلا أن أوجّهه للاطلاع على موضوع ”الانتقال الآني“ في ميكانيك الكم حتى ولو كانت الأبحاث بدائية فهي للاستئناس وليس في حاجة إليها من يؤمن أنّ الله على كلّ شيء قدير.
هبط آدم وزوجه الأرض، عالما بشؤون الدّنيا والآخرة، نبيّا مكلّمٌ، متمتّعا بقدرات بدنية ونفسية هائلة، وليس الإنسان البدائي المتوحّش الذي يصوره لنا علماء صهيون، لأنّ الصراع قائم بين الحقّ والضلال إلى أن تقوم الأرض لربّ العالمين، وحتى الأساطير تخبرنا أن ابني آدم مارسا الزراعة وتربية المواشي والقصّة في القرآن أبين وأوضح، وللّذين يستغلّون علم الآثار أو الأنثروبولوجيا لأيهامنا بخرافات تخدم الإلحاد فإن المنهج العلمي بريء من إدعائهم، وأنهم يخفون أدلّة ويبرزون فقط ما يمكن أن يخدم توجّههم، وهي سمة من السّمات السّيّئة لأصحاب النّفوذ المقتدرين إلى حين.
إبليس والشيطان
بيّن أنّ إبليس شيطان؛ لأنّه مارس وسائل الشّياطين كالإغواء والنّزغ والوعد الكاذب والتّضليل والكيد والتّزيين والوسوسة والاستحواذ وغيرها من السّلوكيات المفصّلة في كتاب الله التّي تمارس من طرف الشّياطين، لكن ليس كلّ شيطان هو إبليس، هذا الأخير فرد من الجنّ سقط من مرتبة الملائكية بعد أن عصى وحلّت به اللعنة إلى يوم الدّين، بينما الشّيطان اسم للشّيطنة وهي أفعال قد يمارسها أفراد من الجنّة وحتّى من النّاس؛ أي هو اسم نوع وليس اسم فرد مخصوص، فكيف وقع الخلط بينهما؟ في كتاب الله لا يوجد خلط وإن كان يعتبر الشّياطين من جنود إبليس لأنّهم يطبّقون منهجه في الأغراء والحثّ على الزّلل لبني آدم ولأبناء جلدتهم من الجنّ، لذا فهم من أهل النّار، قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) الأنعام، وفي حديث لأبي ذر أورده الإمام أحمد في مسنده[203]: ”يَا أَبَا ذَرٍّ، اسْتَعِذْ بِاللهِ مِنْ شَرِّ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ“ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ وَهَلْ لِلْإِنْسِ مِنْ شَيَاطِينَ؟ قَالَ: ”نَعَمْ“، أمّا في منقول السّنة فالخلط قائم، فيوجد من استعمل كلمة الأبالسة بصيغة الجمع، ففي معجم ابن الأعرابي[204]: عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، اسْتَوَى الْجَلِيلُ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ، يَعْفُو عَنِ النَّاسِ عَفْوًا تَعْجَبُ فِيهِ الْمَلَائِكَةُ، حَتَّى إِنَّ إِبْلِيسَ الْأَبَالِسَةِ لَيَتَطَاوَلُ رَجَاءَ أَنْ تُصِيبَهُ الرَّحْمَةُ.
لتبيان هذا الخلط أكثر سنختار موضوع معيّن مستوضحين من خلاله إلى أيّ مدى وصل الخلط، والموضوع هو تمكّن رسول الله ﷺ من شيطان فهمّ أن يقيّده لولا تذكّر دعوة أخيه سليمان عليه الصلاة والسّلام، ففي صحيح مسلم[205]: عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فَسَمِعْنَاهُ يَقُولُ: «أَعُوذُ بِاللهِ مِنْكَ» ثُمَّ قَالَ «أَلْعَنُكَ بِلَعْنَةِ اللهِ» ثَلَاثًا، وَبَسَطَ يَدَهُ كَأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ شَيْئًا، فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ قَدْ سَمِعْنَاكَ تَقُولُ فِي الصَّلَاةِ شَيْئًا لَمْ نَسْمَعْكَ تَقُولُهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَرَأَيْنَاكَ بَسَطْتَ يَدَكَ، قَالَ: ”إِنَّ عَدُوَّ اللهِ إِبْلِيسَ، جَاءَ بِشِهَابٍ مِنْ نَارٍ لِيَجْعَلَهُ فِي وَجْهِي، فَقُلْتُ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنْكَ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قُلْتُ: أَلْعَنُكَ بِلَعْنَةِ اللهِ التَّامَّةِ، فَلَمْ يَسْتَأْخِرْ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ أَرَدْتُ أَخْذَهُ، وَاللهِ لَوْلَا دَعْوَةُ أَخِينَا سُلَيْمَانَ لَأَصْبَحَ مُوثَقًا يَلْعَبُ بِهِ وِلْدَانُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ“ وفي حديث آخر عن أبي هريرة[206]: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ”إِنَّ عِفْرِيتًا مِنَ الْجِنِّ جَعَلَ يَفْتِكُ عَلَيَّ الْبَارِحَةَ، لِيَقْطَعَ عَلَيَّ الصَّلَاةَ، وَإِنَّ اللهَ أَمْكَنَنِي مِنْهُ فَذَعَتُّهُ، فَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَرْبِطَهُ إِلَى جَنْبِ سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، حَتَّى تُصْبِحُوا تَنْظُرُونَ إِلَيْهِ أَجْمَعُونَ - أَوْ كُلُّكُمْ - ثُمَّ ذَكَرْتُ قَوْلَ أَخِي سُلَيْمَانَ: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي)، فَرَدَّهُ اللهُ خَاسِئًا“، وفي حديث ثالث عن عائشة عليها السّلام كما جاء في سنن النّسائي ومسند اسحاق بن راهويه[207]: عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يُصَلِّي، فَأَتَاهُ الشَّيْطَانُ فَأَخَذَهُ فَصَرَعَهُ فَخَنَقَهُ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ لِسَانِهِ عَلَى يَدِي، وَلَوْلَا دَعْوَةُ أَخِي سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ , لَأَصْبَحَ مُوثَقًا حَتَّى يَرَاهُ النَّاسُ» ففي الحديث الأول ذُكر إبليس وفي الثّاني عفريت من الجنّ وفي الثالث الشّيطان، فهو خلطٌ يشبه الخلط الذي حدث بين النّفس والروح وفي كلاهما يجب تنزيه رسول الله ﷺ من أن يكون الخلط صادر عن أقواله بل عن ما فهمه الرواة واستعمالاتهم اللغوية والله أعلم.
الشّياطين سواء من الجنّ أو من الإنس مندسّون في وسطهم الاجتماعي ممّا يسهّل نشاطهم ويمنع التّعرّف المسبق عليهم، كما بيّن نفر الجنّ اللذين استمعوا للقرآن: وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) الجن، وأنّ أئمّتهم من الثّقلين في اتّصال بعضهم ببعض يخطّطون وينفّذون كما ذكر ربّ العزّة: وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ (128) الأنعام، ثمّ أنّه من غير المستبعد أن يتعدّى هذا الاتصال إلى من هم خلف البرزخ الفاصل بين عالم الأحياء وعالم من هم في عداد الأموات كإبليس وفرعون وغيرهم، فمثلا أنّ فيكتور منويل رودريغث Samael Aun Weor (1917 – 1977) مؤسّس الغنوصية الجديدة، يستعمل في تمرين خروج البدن النّجمي اسم فرعون بترنيمة معيّنة.
كثيرة هي الدّلائل عن اتصالات تحت برزخية وفي المقابل اتصالات فوق برزخية يجريها أهل الأنوار المتميّزين وحتّى عامة المؤمنين بواسطة الرؤى الصالحة، فالعوالم المختلفة ليست منفكة بعضها عن بعض بل مفصولة فقط ببرزخ تنظّمه قوانين كباقي القوانين التي لا تحصى في حفظ التّوازن الكوني العام.
آدم وأهله في الأرض
معلوم أنّ العلم الحديث التّجريبي منه والإنساني يصوّر لنا بثبات كمن عنده علم اليقين لمراحل تاريخ الإنسانية، ولمراحل تاريخ الجيولوجيا وتطور الحياة إلى حين ظهور الإنسان، والكل يعلم كذلك أنّ هذا السّرد التاريخي من أي تخصّص نظر إليه، هو قائم على الظّن، وأنّ هذه الظّنيات أو النّظريات هي موضوع خلاف بين العلماء قبل غيرهم، فمن هي السّلطة العالمية التي تلزم جميع مناهج التّعليم في كل المراحل وفي كل البلاد تبنّي تصوّرا يتنافى مع المعتقدات الدّينية للأديان المصنّفة سماوية أو غير المصنّفة؟، لا شك في أنّ كل حديث في هذا الموضوع يعتبر صاحبه في أيامنا من البلهاء الذين يروّجون لنظرية المؤامرة، أمّا من يتطاول ويبحث عن قرائن أو دلائل تدحض النّظرة الرّسمية لبدء الخلق، فيرد عليه بقرائن من جنس قرينته لكنّها مزوّرة عن عمد حتّى لا يستطيع المتتبّع أن يصدّق ويظلّ في عماء لا يستبين أين الحقيقة، فما هي المصادر المعرفية لمن يدّعون معرفة كل شيء؟، من العلوم الإنسانية وأهم جانب فيها هو التّاريخ نجد أنّ حضارة اليونان وهي الأصل الذي يعتزّ به الغرب الحالي لم تبدأ إلا حوالي 800 سنة قبل الميلاد، وأنّ أقدم مؤرّخ معروف هو هيرودوت Hérodote الذي ولد سنة 484 ق. م، وتوفّي حوالي سنة 425 ق.م، ما يوافق سنة 2335 حسب التّقويم العبري، حيث التّقويم العبري لا يبدأ بتاريخ ميلاد سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام كما هو الحال في التّقويم الميلادي إذ تقديرات ميلاد سيدنا موسى هي سنة 1278 ق.م، في أرض جاسان بمصر، بل يبدأ من سنة الخلق اعتمادا على ما ورد في تراجم التّوراة، وهو تقويم شديد الغموض والتّعقيد لا يحسن حسابه إلا القليل من المعلّمين اليهود، أشهره قمرية وسنواته شمسية، مع تعديلات من حين لآخر، فالتّاريخ الموثّق إذا حديث العهد وغير متوفّر لمن يريد الاطلاع عليه إلاّ من الكتابات التي تصدر عن الغرب، أما الحضارات القديمة التي سبقت حضارة اليونان كحضارة بلاد ما بين الرافدين في العراق وحضارة مصر الفرعونية وحضارة الهند وحضارة الصّين وحضارة الأزتيك بالمكسيك وحضارة المايا وسط أمريكا الجنوبية وغيرها، فهي حضارات لا نعلم عنها إلا ما يجود به علينا الغرب، فالكتابة المسمارية والهيروغليفية لم يتم فك رموزهما إلا في القرن التاسع عشر من عالمين أحدهما ألماني والثّاني فرنسي، والسؤال كيف أن أبناء هذه الحضارات لم يحافظوا على حضارتهم او على آثارها؟، مرد ذلك الغزوات العسكرية المتوحّشة التي تعرضت لها هذه البلاد والتي يكون من أول أهدافها إتلاف ما تراه يستحقّ الإتلاف وسرقة ما يستحقّ أن تحتفظ به، فالحرق والـتّخريب الذي تسبّب فيه المغول والصّليبيون والفاتحون الإسبان وغيرهم والذي كنّا نعتقد أنّه كان نتيجة همجيّتهم وجهلهم، دحضه غزو العراق الأخير في عصر حقوق الإنسان الذي يدّعون، وما يسمّون حضارة غزو الفضاء، ممّا يدل أن الأمر من تدبير مسبّق وغايته محجوبة عن الكثير، وقد تسنّى أن نشهد على هذه الواقعة الأخيرة شهادة واقعية تأهّل لإعادة النّظر.
أمّا مبلغ علمهم من العلوم التّجريبية خصوصا البيولوجيا أو علم الأحياء، والأنثروبولوجيا أو علم الإنسان، فمن لا يعرف نظرية داروين وهالة القداسة المحيطة بها واعتمادها في هذه العلوم إضافة إلى علوم أخرى على أنّها من اليقينيات الكبرى التي لا تقبل النقاش.
مصادر الوحي إذا أكثر دقّة وعلمية مما يقال عنه علمي، وهي وحدها من يخبر عن بداية الخلق وعن حضارات أكثر تقدّما وتطوّرا بادت لا نعلم عنها شيء في أيامنا أو محجوب آثارها عنّا، والدليل قوله تعالى: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) الرّوم، كحضارة عاد الأولى وثمود وغيرهما كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14) الفجر، أو حضارة أطلنتس (Atlantis) المفقودة كما جاء في كتابة أفلاطون، فلو كان علم اللاهوت أو علم مقارنة الأديان يتّبع منهجا تحقيقيا محايدا فيبيّن ما اتفقت فيه جميع العقائد وهو الغالب؛ ويستنبط في القليل المختلف فيه تأثير الدوافع العرقية والمصلحة القومية والأهواء الشّخصية، لتبيّنت الحقيقة بأن الله واحد والدّين واحد المتمثّل في الإيمان والعمل الصالح كما قال تعالى: وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) يونس. الوحي إذاً يخبرنا عن ثلاث فترات متباينة فيما بينها من تاريخ الإنسانية على الأرض، الفترة الأولى تبدأ من إهباط سيدنا آدم عليه الصلاة والسّلام إلى الطّوفان، والفترة الثّانية تبدأ بعد الطوفان إلى بعثة سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام، والفترة الثالثة تبدأ من سيدنا إبراهيم إلى يومنا هذا.
الفترة الأولى: لمّا أهبط سيدنا آدم عليه الصلاة والسلام لم تكن الأرض كما نعرفها أي كما هي عليه الآن، كيف نتصوّر شخصاً طوله ستّون ذراعا أي حوالي 30 مترا وفق ما جاء عن رسول الله ﷺ في صحيح البخاري[208] وغيره: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ: ”خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ على صورته، طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، فلمّا خلقه قَالَ: اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ النّفر، مِنَ المَلاَئِكَةِ، جلوس، فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَكَ، فإنّها تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ، فَقَالَ السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ، فَقَالُوا: السَّلاَمُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، فَزَادُوهُ: وَرَحْمَةُ اللَّهِ، فَكُلُّ مَنْ يَدْخُلُ الجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ آدَمَ، فلم يزل الخَلْقُ ينقص بَعدُ حَتَّى الآنَ“، فكيف يمكن أن نتصوّر وجوده وذرّيته في بيئة حيوانية أطولهم الزّرافة لا تتعدّى 5.50 مترا، أي طول الإنسان يزيد عنها أكثر من خمس مرّات، وفي بيئة نباتية أطول شجرة فيها لا تزيد عن 115.55 متر أي أقل من أربعة أضعاف الرّجل، فلا تناسب بين هذه الأطوال وهو ما يجب أن ننزه عنه ربّ العزّة الذي يقول: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) القمر، الملاءمة تستدعي وجود حيوانات ضخمة ونباتات شاهقة بما يتناسب مع الإنسان الأول وذريته. ففي ترجمة التوراة سفر التّكوين: 20 وقال الله: لتفض المياه زحّفات ذات نفس حيّة وليطر طير فوق الأرض على وجه جلد السماء، 21 فخلق الله التّنانين العظام وكل نفس حيّة تدبّ التي فاضت بها المياه كأجناسها وكلّ طائر ذي جناح كجنسه. ورأى الله ذلك أنّه حسن، 22 وباركها الله قائلا: أثمري واكثري واملاءي المياه في البحار. وليكثر الطّير على الأرض، 23 وكان مساء وكان صباح يوما خامسا. أما في بداية اليوم السادس فخلق الله جلّ جلاله الحيوانات البرّية، الأمر يتعلّق بخلق عظيم سواء في المخلوقات البحرية أو البرّية وما سبق من خلق النباتات، كما أنّ تقديرات الحفريات لأطول دينصور وجدت بعض فقرات عموده الفقري سنة 1878م، يمكن أن يكون طوله قريب من 58 متر، وهو ما لا يثير استغرابا مقارنتا بإنسان طوله 60 متر. ويبقى السؤال إذا كان الأمر كذلك فلماذا لم نعثر في الحفريات على بقايا الإنسان في العصر الذي تواجدت فيه الدينصورات؟، قد يكون الجواب متعذّرا، غير أن ما هو أكيد، أن مثل هذا الأثر والإقرار به يستلزم هدم البناء الشّامخ لما يسمّى العلم الرّسمي، والبدء من جديد لترتيب التاريخ وعلم الأحياء وكل العلوم الأخرى نتيجة التداخل فيما بينها حسب مبدأ تأثير الفراشة. ومهما كان الأمر فلا بدّ من أن يأتي يوم تظهر فيه الحقيقة لأنّ وعد الله: وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81) الإسراء. من السّمات الأخرى لهذه الفترة عمر الإنسان الذي يزيد عشرة أضعاف عن العمر الذي يمكن أن يعيشه الإنسان الحالي، فلو أخذنا الرجلين اللذين يمثّلان طرفي هذه الفترة وهما آدم ونوح عليهما الصلاة والسّلام نجد في التّوراة: أنّ آدم عاش 130 سنة قبل أن يولد له شت وعاش 800 سنة بعد ذلك، وفي السنة من مصنّف ابن أبي شيبة[209]: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ”كَانَ عُمْرُ آدَمَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَكَانَ عُمْرُ دَاوُدَ سِتِّينَ سَنَةً، فَقَالَ آدَمُ: أَيْ رَبِّ زِدْهُ مِنْ عُمْرِي أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَأَكْمَلَ لِآدَمَ أَلْفَ سَنَةٍ وَأَكْمَلَ لِدَاوُدَ مِائَةَ سَنَةٍ“، وأنّ نوح عاش حسب التّوراة 595 سنة قبل الطّوفان و350 سنة بعده، بينما في كتاب الله: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) العنكبوت، أمّا السّمة الأخرى وهي أغرب من السّابقتين هي ما تواجد في هذه الفترة والتي تليها من عمالقة جبابرة ليسوا من أبناء البشر، بل نتيجة علاقات جنسية بين الملائكة كما يذكر وبنات البشر، والخبر وارد بهذا الوضوح في التّوراة والأسفار القديمة كذا في الألواح الطينية السّومرية وفي ما يسمّى أساطير الشّعوب القديمة، إلاّ أنّ الملائكة في ترجمة التّوراة التي بين أيدينا تسمّيهم أبناء الله أما عند السومريين فهم آلهة، أما في الأساطير فالحديث عن آلهة وأنصاف الالهة، كما هو الحال في كتاب Popol Vuh وهو الكتاب المقدس لشعوب المايا، فلنتتبّع الوارد في تراجم التّوراة:
التوراة السّامرية[210]: الإصحاح السّادس، 4، والجبابرة كانوا في الأرض في تلك الأيام. وأيضاً بعد ذلك دخل بنو السّلاطين إلى بنات النّاس فولدن لهم. هم الجبابرة الذين من العالم ذوي الاسم.
من الملاحظ في هذا النّص كيف يتبدّل المعنى بالنّقطة التي وضعت بعد الأيام حتى لا تكون ”بعد ذلك“ عائدة للأيام، أمّا الملائكة أو أبناء الله حسب نصوص أخرى فعوّضت ببني السلاطين.
العهد القديم، الإصحاح السّادس، 4: كَانَ فِي الأَرْضِ طُغَاةٌ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ. وَبَعْدَ ذَلِكَ أَيْضاً إِذْ دَخَلَ بَنُو اللهِ عَلَى بَنَاتِ النَّاسِ وَوَلَدْنَ لَهُمْ أَوْلاَداً -هَؤُلاَءِ هُمُ الْجَبَابِرَةُ الَّذِينَ مُنْذُ الدَّهْرِ ذَوُو اسْمٍ.
العهد القديم إصدار تيودور دي رينا CASIODORO DE REINA (1569م)، وكما تمّت مراجعته سنوات (1602) و(1862) و(1909) و(1960):
6:4 Había gigantes en la tierra en aquellos días, y también después que se llegaron los hijos de Dios a las hijas de los hombres, y les engendraron hijos. Estos fueron los valientes que desde la antigüedad fueron varones de renombre.
الترجمة المشتركة من موقع الموسوعة المسيحية العربية الإلكترونية:
6-4: وكان على الأرض في تلك الأيام رجال أشدّاء، وبعدها أيضاً حين عاشر بنو الله بنات الناس وولدن لهم أولادا، وهم الجبابرة الذين ذاع اسمهم من قديم الزمان.
الكتاب المقدّس إصدار كتاب القدس سنة (1976) الطبعة الإسبانية:
6-4:Los nefilim existían en la tierra por aquel entonces (y también después), cuando los hijos de Dios se unían a las hijas de los hombres y ellas les daban hijos: estos fueron los héroes de la antigüedad, hombres famosos.
النفليم (נפלים)، كلمة عبرية يعنى بها في التوراة العبرية كائنات عملاقة نشأت من تزاوج أبناء الله وبنات البشر كما ذكرنا، وذُكرت كذلك في أسفار غير قانونية أخرى، أمّا في سفر أخنوخ الأول وهو سفر معتمد من طرف الكنيسة الأثيوبية حيث توجد نسخة كاملة منه باللغة الحبشية القديمة ويعتقد أنها ترجمت من اليونانية وهذه بدورها ترجمت من الأصل الأرامي كما تبيّن بعد العثور على أجزاء من الكتاب باللغة الآرامية وجدت في مغاور قمران من لفائف البحر الميّت المشهورة، يرجع تاريخها إلى ما بين العهدين، يقول أخنوخ[211] سيدنا إدريس عليه الصلاة والسلام كما جاء في صحيح ابن حبّان من حديث أبي ذر (ض) الطّويل السّابق[212] عن رسول الله ﷺ: ... ثُمَّ قَالَ يَا أَبَا ذَرٍّ أَرْبَعَةٌ سُرْيَانِيُّونَ آدَمُ وَشِيثُ وَأَخْنُوخُ وَهُوَ إِدْرِيسُ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ خَطَّ بِالْقَلَمِ وَنُوحٌ وَأَرْبَعَةٌ مِنَ الْعَرَبِ هُودٌ وَشُعَيْبٌ وَصَالِحٌ وَنَبِيُّكَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ...، من بعض ما يقول:
كتاب السّاهرين، الإصحاح السّادس: (1) وحصل أنه حين تكاثر البشر، وُلد لهم بنات غضّات جميلات. (2) نظر إليهن الملائكة، أبناء السماء، واشتهوهن. وقال الواحد للآخر: "لنختر نساء وسط البشر ونلد اولاداً". إلى أن يقول في الإصحاح الثّامن: (1) وعلّم عزائيل البشر صنع السيوف والحراب والتروس والدروع كما تعلّمها من الملائكة، ودلّهم على المعادن وكيف يشتغلونها. (وكيف يعملون) الاساور والحلي والكحل والاثمد وكل أنواع الحجارة الكريمة والصبغ. (2) فنتج عن ذلك كفر عظيم. فجَرَ الرجال وضلّوا وبادوا في جميع طرقهم. (3) وعلّمهم شميحزا السحر وعلم النبات، وحرموني التقسيمات والرقوة والشعوذة والعرافة. وبرقئيل علم الكواكب. وكوكبئيل علامات النجوم. وزيقئيل علامات النيازك. واراتاقيف علامات الأرض. وشمشئيل علامات الشمس. وسهرئيل علامات القمر. وشرعوا كلهم يكشفون الأسرار لنسائهم.
المهم لدينا هو أنّ أبناء الله حسب تراجم التوراة، أو أبناء السّماء كما يذكر أخنوخ، ولد لهم أبناء عمالقة طولهم 3000 ذراع، هكذا جاء في كتاب الساهرين الإصحاح السابع: (2) حبلت النسوة وولدن الجبابرة بقامة ترتفع ثلاثة آلاف ذراع. لا يمكن لنا أن نثبت أن العمالقة هم فعلا أبناء ملائكة ولا أن ننفي ذلك، ولكن يمكن أن نؤكد باعتماد الوحي الذي بلغنا سالما من التّضارب والتّحريف، أنّ الملائكة علّمت النّاس السّحر وهو ما سقناه سابقا في قصّة هاروت وماروت، وأنّ تواجد عمالقة على الأرض سواء في الفترة الأولى أو الثّانية الغابرتين شبه مؤكّد، لوجود آثار متعدّدة ورسومات قديمة وحتّى إشارات من كتاب الله كقوله تعالى: تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ (20) القمر. كذا: سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) الحاقة. فالتّشبيه في الآيتين للرّيح العاتية التي أبادت قوم عاد وقد جاء عَنِ الضَّحَّاكِ: ”(أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) قَالَ: ”صَرَعَتْهُمُ الرِّيحُ، وَذَكَرَ مِنْ خَلْقِهِمْ وَطُولِهِمْ مِثْلَ النَّخْلَةِ إِذَا قَلَعَتْهَا الرِّيحُ“، إضافة لهذا التّشبيه فقد ورد ما كانوا عليه من قوة، وأنّ إرم ذات العماد لم يخلق مثلها في البلاد، فالعمالقة الجبابرة واقع أكيد بغض الطّرف عن أصلهم العرقي من الملائكة أو مخلوقات أخرى من السّماء أو حتّى شياطين تبعا لسلوكهم ونزعتهم الشّريرة والله أعلم، آخذين بالاعتبار معتقد أهل الكتاب بأنّ الشّياطين هم من الملائكة السّاقطين، ثمّ أنّ تزاوج الجن بالإنس والعكس شأن مشهور عند السّلف ولا يثير استغرابا فقد روي عن الإمام مالك[213]: رَوَى أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ الْعَبَّاسِ الرَّازِيّ، فِي كِتَابِ: الْإِلْهَامِ وَالْوَسْوَسَةِ، فَقَالَ: حَدَّثَنَا مُقَاتِلٌ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ دَاوُد الزُّبَيْدِيُّ قَالَ: كَتَبَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ إلَى مَالِكٍ يَسْأَلُونَهُ عَنْ نِكَاحِ الْجِنِّ، وَقَالُوا: إنَّ هَهُنَا رَجُلًا مِنْ الْجِنِّ يَخْطُبُ إلَيْنَا جَارِيَةً يَزْعُمُ أَنَّهُ يُرِيدُ الْحَلَالَ، فَقَالَ ” مَا أَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا فِي الدِّين وَلَكِنْ أَكْرَهُ إذَا وُجِدَتْ امْرَأَةٌ حَامِلٌ، قِيلَ لَهَا: مَنْ زَوْجُك؟ قَالَتْ: مِنْ الْجِنِّ، فَيَكْثُر الْفَسَادُ فِي الْإِسْلَامِ بِذَلِكَ “ انْتَهَى.
الفترة الثّانية: وهي من حيث الغموض وانعدام المعرفة عدا ما أورد الوحي حتّى الآن، والقرآن الحكيم يرسم خارطة طريق بيّنة للفترة دون الخوض في التّفاصيل علما منه تقدّس وتعالى أنّ الأمة التي اختارها لحفظ وصيانة الوحي تخلّت أو تخلّى أغلبهم عن ما عاهدوا الله عليه، كما يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41) المائدة، وهي فترة وإن لم تحدث فيها إبادة شاملة كما حدث في الطّوفان الذي لم ينجوا منه إلا من ركب السّفين كما قال تعالى: فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ (27) المؤمنون، فلم يبقى على الأرض شيء حي لا في مشرقها ولا في مغربها وإلاّ لا معنى ”فاسلك فيها من كل زوجين اثنين“، ثمّ بناء السّفين وتجميع الأزواج الحيوانية أكيد أنّه تمّ بعون من السّماء كما قال تعالى: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ (37) هود. فالفترة رغم خلوّها من إبادة شاملة إلا أنّها عرفت أكثر من إبادة، وقعت من حين لآخر شملت أقواما من جهات مختلفة، ولا أثارا معروفة عنهم، وإن كان يتم العثور من زمن لآخر على أدوات وآلات يعتبرها العلم الحالي ألغازا محيّرة، كما أنّ من سمات هذه الفترة أنّ أعمار البشر نزلت إلى النّصف فمن 1000 سنة إلى 500 سنة لكن ليس بشكل مفاجئ بل بتدرّج سلس قد لا يكون مدركا في تعاقب الأجيال. ففي التّوراة مثلا نجد سام ابن نوح عاش 98 سنة قبل الطّوفان و502 سنة بعد الطّوفان وأنّ ابراهيم عليه الصلاة والسّلام عاش 175 سنة، وقد يطعن أكثر من واحد في دقّة هذه الأعمار، إلا أنّ سمة التّناقص بيّنة لنسير بها إلى الفترة الحديثة التي لا تزيد الأعمار فيها عن 120 سنة، كما جاء في التّوراة سفر التكوين، الإصحاح السادس، 3 فقال الرّب: لا يدين روحي في الإنسان إلى الأبد، لزيغانه، هو بشر، وتكون أيّامه مئة وعشرينَ سنة.
لا يجوز التّشكيك فيما أورد الوحي غير أنّ الترجمات المتكرّرة من لغة إلى أخرى وتحريف الكلم عن مواضعه كما بيّن ربّ العزّة: فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) المائدة، أوجد كثيرا من التّناقض في النّصوص المقدّسة يقول به أهل تلك الدّيانات قبل غيرهم، مع ذلك يمكن للباحث عن الحقيقة بالمقارنات واستقراء الأمور مع كتاب الله المحفوظ، أن يخلص إلى نتائج موثوقة.
من الشّعوب التي أبيدت في هذه الفترة قوم عاد وقوم ثمود وقوم الرّس وغيرهم من الذين كذّبوا رسلهم ولم يقصصهم لنا القرآن: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاء أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) غافر. ولعل حضارات هذه الفترة شأنها كبير ولا يستبعد أن تكون أرقى من الحضارة الحديثة وأرقى من كل ما تعرّفنا على البعض منه من حضارات بادت. إذا كان ما جاء في نسخ تراجم التوراة عن المدّة الزّمنية لهذه الفترة هي 472 سنة تقريبا، تتالت بها عشرة أجيال (التّكوين الإصحاح 11 إلى 32)، غير أنّ ربّ العرش العظيم يخبر في القرآن الحكيم: وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) الفرقان، والقرون في كتاب الله قد يراد بها أقوام ازدهرت ثمّ دمّرت بعد أن حادت عن الطّريق المستقيم أكثر ممّا هي مدد زمنية كما قال تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17) الإسراء.
الفترة الثالثة: وهي من أبي الأنبياء إبراهيم عليه الصّلاة والسّلام إلى يومنا هذا، وصحف ابراهيم كما ورد في القرآن مفقودة، غير أنّ ذلك لا يمنع أن تعتبر أصلا لكل الدّيانات السّماوية المعروفة حاليّا كما قال رب العزّة: أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) البقرة، وقد يتعدّى ذلك إلى ديانات أخرى كالبرهمية وما تفرّع عنها من هندوسية وبوذية وغير ذلك، إذ أنّ كتبها المقدّسة (الفيدا) التي يعود أقدمها إلى 1500 سنة ق.م، تعتبر أصلا لها حسب ما حاولت إثباته بعض الأبحاث الحديثة كالتي قام بها الدكتور فالح شبيب العجمي[214]. مع الأخذ بعين الاعتبار التّحريف البشري المعهود، ورغم أنّ هذه الفترة أفرزت الدّيانات الكبرى الموجودة إلى الآن، فعلم التّاريخ في قصوره مع أنها مرحلة الكتابة والتّدوين لم يستوفها إلى اليوم، ولم يقدّم لنا رؤية موضوعية عن التّشابه الحضاري لوجود الأهرامات في كل أجزاء المعمورة، ولا الخبر اليقين عن الإبادة التي حلّت بأقوام كقوم لوط ومدين وتبّع وأصحاب الأيكة وغيرهم.
بإيجاز من سمات هذه الفترة عصور مشرقة يجلّيها الوحي ثمّ عصور مظلمة طابعها الكفر والظّلم وعبادة الأوثان،على التّتابع. لم أعتمد في هذا التّقسيم على أي مرجعية معيّنة، غير أنّي وجدت في رسالة أخنوخ عليه السّلام نبوءة تقسّم تاريخ الإنسانية من بدايته إلى نهايته إلى عشرة أسابيع، يقول أخنوخ في الإصحاح 93:
3-تفوّه أخنوخ بمثله (حسب ما كُتب) فقال: "وُلدت السابع، في الاسبوع الاول. مَلَكَ البرُّ (والحقّ) حتى جئت أنا. (يتبيّن أن أخنوخ كان من الجيل السّابع بعد آدم وما سبقه من أجيال كانت صالحة وبعده ساد الفساد، والجيل تقدير زمني نسبي والمعتمد حاليا أنّه يزيد عن 25 سنة أي ما يقابل 250 سنة في الفترة الأولى والله أعلم).
4-بعدي، في الاسبوع الثاني، ازدهر الكذب والعنف. فكانت التتمّة الأولى، ولكن نجا انسان (أيضاً). بعد التتمة نما العنف ولكن وُضع ناموس للخطأة. (الإنسان النّاجي قد يقصد به نوح عليه الصّلاة والسّلام).
5-ثم، في الاسبوع الثالث وفي تتمتّه، اختير انسان كنبتة الدينونة البارة، وصار نسلُه غرسَ برّ إلى الأبد. (قد يكون المقصود إبراهيم عليه الصّلاة والسّلام).
6-ثم في الاسبوع الرابع وفي تتمته، تراءى القديسون والابرار وأعطي لهم ناموس وحظيرة لجميع الاجيال. (قد يكون القصد بعثة موسى عليه الصّلاة والسّلام والناموس الذي جاء به).
7-ثم في الاسبوع الخامس وفي تتمته، تأسّس بيت المجد والمُلك إلى الابد. (ربّما المراد بناء هيكل سليمان عليه الصّلاة والسّلام).
8-ثم في الاسبوع السادس، يعمى كل العائشين فيه وتنسى قلوبهم كلها الحكمة، ولكن يصعد انسان إلى السماء. في تتمة (الاسبوع) يُحرق بيت الملك بالنار ويتشتّت كل نسل الجذر المختار. (الصاعد إلى السّماء ربّما عيسى عليه السّلام، وحرق بيت الملك يعني حرق الهيكل وتشتيت اليهود).
9-ثم في الاسبوع السابع يقوم جيل فاسد: يفعل الكثير وجميع أفعاله تكون فاسدة. (قد يكون المراد ما سبق بعثة خاتم النّبيئين).
10-وفي تتمة (الاسبوع)، يختار (الله) الابرار كشهود الحقّ من نبتة البرّ الأبدي، فينالون الحكمة والمعرفة ستة أضعاف. (قد يكون المراد بعثة الرسول الكريم وما تلي من انتشار الإسلام). ثمّ يقول في الإصحاح 91:
11-"بهم تقتلع أسسُ الاثم وعمل الكذب في التتمة (= الدينونة). (أي بهؤلاء سيتمّ هزيمة الأشرار آخر الزّمن والله أعلم).
12-ثم يأتي اسبوع ثامن، اسبوع البرّ فيه يُعطى سيف لجميع الأبرار ليُتمّوا الدينونة العادلة في كل الأشرار وهؤلاء يُسلمون إلى أيديهم. (كأنّه يقصد أسبوع الحروب والملاحم بين الخير والشّر).
13-في تتمة (الاسبوع) يقتنون أموالاً شرعيّة ويُبنى القصر الملكي (للإله) العظيم في عظمة بهائه لجميع الأجيال. (قد يعني إعادة بناء المسجد الأقصى أو المسجد الحرام والله أعلم).
14-ثم يأتي أسبوع تاسع، يكشف فيه البرُّ والدينونة العادلة لجميع أبناء الأرض كلها. كل عمل الأشرار يزول من الأرض ويُرمى في الهاوية (الابدية) ويرى كل البشر طرق البرّ الابديّ.
15-ثم يأتي أسبوع عاشر. في جزئه السابع تكون دينونة العالم، زمن الدينونة العظيمة التي تتمّ وسط الملائكة. (أي الأسبوع الذي تقوم فيه السّاعة والله أعلم).
إنّ استعمال سيّدنا ادريس عليه الصّلاة والسّلام قياس الزّمن بأسابيع هو أدق من استعمال السّنوات التي تعوّدنا عليها خصوصا عندما يتعلّق الأمر بغيب موحى، يشبه إلى حدّ ما استعمال ربّ العزّة الأيام الستّة في خلق السّماوات والأرض كون الزّمن نسبيا ولا يعقل أن يكون واحدا في الفترات المتباينة والتي تميّزت بتغيّرات جذرية كأنّه عرض لعوالم متباينة في كل صفاتها ومعطياتها، ثمّ إنّ كتابة سيدنا إدريس عليه السّلام الذي يقول عن نفسه أنّه أوّل من استعمل الكتابة والمسلّم بصحّتها كما ورد في الحديث، فهي مع ذلك لم تنج من تحريف حتّى إن لم يكن مقصودا لكثرة اللغات التي ترجمت إليها والعقائد المتباينة لتلك الأقوام.
يتبيّن مما ذكر أنّ الإنسانية اليوم ليست في أوج الحضارة كما ترسم نظرية التّطور، بل هي في طور من أطوار الإنسانية المتعاقبة بين الظّلمة والنّور وبين الجهل والمعرفة، وأنّ ما نعرف لا يرقى بعد إلى ما عرفه من قبلنا رغم التقدّم العلمي السّريع الذي يصعب اللحاق به في شتّى المجالات، فلنقارن ما نحن عليه مع ما بلغنا من أخبار وإن كان الكثير يعتبرها خرافات عن من سبقونا، من أهم سمات حضارتنا سرعة المواصلات، والسّماع والمشاهدة عن بعد، وتحطيم الذّرة وتحسّس الجسيمات الأوّلية، ونظرة أشمل للكون بما فيه من أجرام ومجرّات، فقدرات الإنسان القديم التّي في مشيه يستطيع طيّ الأرض كما هو معروف، والتّخاطب عن بعد، وله امكانية الكشف، ويقدر على نقل جسم هائل كعرش بلقيس في أقل من إرجاع الطّرف إذ يقول تعالى: قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) النّمل. فالعفريت من الجنّ اعتمد على قوّته بدليل قوله وإنّي عليه لقويّ أمين، بينما الذي عنده علم من الكتاب سواء كان من الإنس أو الجنّ فمقدرته من سلطان علم الكتاب، وهو ما تحاول الفيزياء الحديثة تقليده بالنّقل الكونتي للمادة. يكون بيّنا أن حاجيات هذا الإنسان في الحياة غير حاجياتنا واهتماماته غير اهتماماتنا، أما في علوم الفضاء فلنا من الشّواهد ما يدل أنّ تقدّمه أكبر كخرائط جوّية مرسومة على صفائح حجرية وغير ذلك من المسكوت عنه علميا.
الغرب عاش فترة ظلمة ويقرّ بها ولا ينكرها، غير أنّه يردّ معتقدات عصر ظلمته إلى معتقدات الإنسان القديم وهو أمر غير صحيح، فكروية الأرض مثلا شيء معلوم عند كل الحضارات القديمة، أمّا فم الهاوية الذي تنتهي عنده الأرض كما جاء في كتابات مقدّسة، فقد فُهم جهلا من كنيسة الغرب المظلم بأنّ المقصود أطراف الأرض التي نحن عليها، بينما هي حقيقة لا زالت ثابتة في الوحي كما قال ربّ العزّة: أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41) الرّعد، وكذا: بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاء وَآبَاءهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44) الأنبياء، فالقصد من الأرض كل مجرّات الكون الذي نحاول التّعرّف عليه، فمشاهدات علماء الفلك تخبرنا باستعمال مبدأ دوبلر في الانحراف نحو الأحمر لضوء المجرّات التي تصلنا من أطراف الكون المرئي ويفيد ابتعاد المجرّات بسرعة تقترب من سرعة الضّوء، وأنّ المجرّات التي هي أبعد من ذلك لا يمكن أن يصل ضوئها إلينا ما دامت سرعتها تسبق سرعة الضّوء، وحسب أينشتاين تجاوز سرعة الضّوء لجسم مادي مستحيل (نظريا)، وهو ما يقرّه العلم حتّى الآن قبل انهيار الفيزياء برمّتها وهو أمر وارد وغير مستبعد، إذا فالهوة التي يخبر بها الوحي وتسبّب نقصان الأرض من أطرافها هي المجرّات التي تغيب في أطراف الكون المجهولة، وإن كان الموضوع لا زال مثار أخذ وعطاء بين علماء الفلك. ماذا نستنتج من هذه الحقيقة الواردة من الوحي؟ الله تبارك وتعالى يزيد في الخلق ما شاء، ويُنقص من الخلق ما شاء، فكما انهار مبدأ المادة لا تفنى ولا تستحدث، قريبا سينهار قانون حفظ الطّاقة La loi de conservation de l’énergie، الذي يقول: ما يحتويه الكون من طاقة يظل ثابتا دون زيادة ولا نقصان، رغم ذلك يبقى الجدل قائم بين الكفر والإيمان، لأنّ الكفر كما عوّدنا على مدى تاريخ الإنسانية لم يثبت شيئا يذكر، بل كل وسائله هي نفي ما تمّ التثبّت منه.
كتاب الموتة الأولى
بيان الموتة الأولى
إن الاختلاف في مفهوم الموتة الأولى هل التي متناها قبل أن نولد أم أنها الموتة التي تأتي لتضع حدّاً لحياتنا الآنية؟ قائم منذ القدم، وله دلالات من كتاب الله، مثلاً فقد أُخبرنا بما قال كفار قريش: إِنَّ هَؤُلاء لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ (35) الدخان، يقول البيضاوي[215]: إِنَّ هؤُلاءِ يعني كفار قريش لأن الكلام فيهم وقصة فرعون وقومه مسوقة للدلالة على أنهم مثلهم في الإِصرار على الضلالة، والإِنذار عن مثل ما حل بهم. لَيَقُولُونَ: إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى ما العاقبة ونهاية الأمر إلا الموتة الأولى المزيلة للحياة الدنيوية، ولا قصد فيه إلى إثبات ثانية كما في قولك. حج زيد الحجة الأولى ومات. وقيل لما قيل إنكم تموتون موتة يعقبها حياة كما تقدم منكم موتة كذلك قالوا إن هي إلا موتتنا الأولى، أي ما الموتة التي من شأنها كذلك إلا الموتة الأولى. وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ بمبعوثين.. انتهى. فالظاهر أن في قولهم نفي للنشور ونفي للموتة الأولى بترحيلها إلى الموتة الثانية، ولعل هذا الخلط انتقل حتى للمسلمين في فهم الآية الشريفة: لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) الدخان، يقول القرطبي[216]: قَوْلُهُ تَعَالَى:" لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى "أَيْ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ الْبَتَّةَ لِأَنَّهُمْ خَالِدُونَ فِيهَا. ثُمَّ قَالَ:" إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى" عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ، أَيْ لَكِنَّ الْمَوْتَةَ الْأُولَى قَدْ ذَاقُوهَا فِي الدُّنْيَا، انتهى. حسب السياق لهذه الآية أنها بعد يوم الفصل لقوله تعالى: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) الدخان، وهو يوم من أيام القيامة الكبرى والله أعلم، ومعلوم في هذا اليوم يقول الكافرون: قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ (11) غافر، فهما إذاً موتتان وحياتان أي ضعف الحياة وضعف الممات، وفي القرآن آيات أخر تدلُّ على ذلك، والإشكال في فهم هذه الآيات قائم من عصر الصحابة المحسنين رضوان الله عليهم، وللخروج من هذا الالتباس بعون الله لا بدّ من استنباط مفهوم الموت من كتاب الله.
الموت يطال جانبين من مكونات الإنسان وهما الجسم والنفس أما الروح كما سبق أمر من عند الله منه بدأ وإليه يعود، ولا نعرف تأثيرا للموت عليه، فموت الجسم يسمّى هلاكا ويسمّى فناء، وسيشمل كل شيء في هذا الوجود الكوني ”كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ“ وبالضرورة كل البشر قبل ذلك ”كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ“، أما موت النفوس فيمكن اعتباره وضعها في المستودع، بينما حياتها تواجدها في المستقر، ولا شأن للجسم في ذلك، والمستودع ضيقٌ وظلمةٌ، والمستقر نورٌ وانشراحٌ، فقد تكون نفس في جسدها حية حسب اعتبارنا، بينما هي ميتةٌ كما قال تعالى: أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يعْمَلُونَ (122) الأنعام. لأنّ الإيمان كما ذكر نورٌ وظلمته الكفر، والعلم نور وظلمته الجهل، إلى أمثال ذلك، كما قد يكون جسم عظامه رميم ونفسه في نعيم، كالأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، كما أخبر تعالى: وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) آل عمران، وهي حياة لا يشعر بها البشر، كما بيّن تعالى: وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ (154) البقرة، نفس الشيء لا نشعر بحياة الملائكة الذين نؤمن بهم إيماناً جازماً إذ هم من يقينيات الدين، ولا بالجن الذين يقيمون بيننا، أما النفس المستودعة فيقال عنها ميّتة، لكن ليس بمفهوم الموت النّمطي الذي نعتقد، فهي تسمع وقد ترى وتعي ما حولها لكنها في ضيق وظلمة، كالأصلاب أو الأرحام أو القبور أو حتّى النار حيث يقول تعالى: وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) الفرقان، يقول الفخر الرّازي[217] في تفسيره: المسألة الثَّانِيَةُ: نُقِلَ فِي تَفْسِيرِ الضِّيقِ أُمُورٌ، قَالَ قَتَادَةُ: ذَكَرَ لَنَا عَبْدُ اللَّه بْنُ عُمَرَ قَالَ: «إِنَّ جَهَنَّمَ لَتَضِيقُ عَلَى الْكَافِرِ كَضِيقِ الزُّجِّ عَلَى الرُّمْحِ» وَسُئِلَ النَّبِيَّ ﷺ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُمْ يُسْتَكْرَهُونَ فِي النَّارِ كَمَا يُسْتَكْرَهُ الْوَتَدُ فِي الْحَائِطِ» قَالَ الْكَلْبِيُّ: الْأَسْفَلُونَ يَرْفَعُهُمُ اللَّهِيبُ، وَالْأَعْلَوْنَ يَخْفِضُهُمُ الدَّاخِلُونَ فَيَزْدَحِمُونَ فِي تِلْكَ الْأَبْوَابِ الضَّيِّقَةِ ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ»: الْكَرْبُ مَعَ الضِّيقِ، كَمَا أَنَّ الرُّوحَ مَعَ السَّعَةِ، وَلِذَلِكَ وَصَفَ اللَّه الْجَنَّةَ بِأَنَّ عرضها السموات وَالْأَرْضُ، وَجَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ «إِنَّ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنَ الْقُصُورِ وَالْجِنَانِ كَذَا وَكَذَا» وَلَقَدْ جَمَعَ اللَّه عَلَى أَهْلِ النَّارِ أَنْوَاعَ الْبَلَاءِ حَيْثُ ضَمَّ إِلَى الْعَذَابِ الشَّدِيدِ الضِّيقَ، انتهى، الدّليل أنّ من في المستودع لهم وجود واعي حقيقي كمن هم في المستقرّ قوله تعالى: وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (6) هود، من هذا نجد ربّ العزة يستعمل مسمّيات أُخر للموت تفريقا بين موت البدن وما ينتظر النّفس، كالقبض والوفاة والإرجاع والإزهاق أي مدلولات بعيدة عن مدلول الهلاك والفناء أو الكلمات الدالة على ظواهر يتعرّض لها الجسم بعد الموت، وبنفس هذا المعنى يقول ابن القيّم الجوزية في كتابه الرّوح[218]: وَالصَّوَاب أَن يُقَال موت النُّفُوس هُوَ مفارقتها لأجسادها وخروجها مِنْهَا فَإِن أُرِيد بموتها هَذَا الْقدر فَهِيَ ذائقة الْمَوْت وَإِن أُرِيد أَنَّهَا تعدم وتضمحل وَتصير عدما مَحْضا فهي لَا تَمُوت بِهَذَا الِاعْتِبَار بل هِيَ بَاقِيَة بعد خلقهَا فِي نعيم أَو فِي عَذَاب كَمَا سيأتي ان شَاءَ الله تَعَالَى بعد هَذَا وكما صرح بِهِ النَّص انها كَذَلِك حَتَّى يردهَا الله فِي جَسدهَا، انتهى. لنستعرض بإيجاز ما ورد عن السلف فيما يخص المستقر والمستودع، حسب الطبري الذي أورد عدة أقوال في تأويل ”فمستقر ومستودع“ أخص ما قاله ابن عباس رضي الله عنهما، يقول ابن جرير[219]: قال ابن عباس: "وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا"، قال: “المستودع" في الصلب و"المستقر"، ما كان على وجه الأرض أو في الأرض. كما أورد كذلك: حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جيير قال: قال لي ابن عباس، وذلك قبل أن يَخْرُج وجهي[220] أتزوّجت يا ابن جبير؟ قال: قلت لا وما أريد ذاك يومي هذا، فقال: أما إنه مع ذلك سيخرج ما كان في صلبك من المستودَعين.
باستعمال التوضيحات المذكورة يمكننا فهم ”إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ“ بهلاك الأبدان كما أوضح ربّ العزة في سورة غافر: وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ (34) غافر، ونفهم كذلك تحذير ربّ العزّة لرسول الله صلّ الله عليه وسلّم في قول تعالى: إِذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75) الإسراء، وهذا لم يحدث فضلاً من الله ورحمة، فهو حيّ حياة أسمى من الحياة التي عليها الشهداء في الرفيق الأعلى، ونفهم كذلك: لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى وَ وَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) الدّخّان، لأنه حسب السياق من قوله تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) الدخّان، الوصف يرجع إلى المتّقين أي أولياء الله، إذ يعرفهم القرآن باللذين آمنوا وكانوا يتقون، ونفهم إجمالاً أن الموتة الأولى كانت للنفوس لأنها خلقت في ظلمة ثم انتقلت إلى ظلمة الأصلاب ومن هذه إلى ظلمة الأرحام، فهم ظلمات ثلاث والله أعلم. ثمّ كان الإحياء الذي لا موت بعده بالنسبة للنفوس الطّيبة، وسيكون الموت ثم الإحياء لغير ذلك من النفوس، أجارنا الله وإياكم من الموتتين، أما بالنسبة للأجساد فالموتة الأولى تكون عند الهلاك، والحياة الثانية في المعاد، لعل معرفة مفهوم الموت بهذا التفصيل هي التي جعلت أبا بكر الصديق رضي الله عنه يقول: بأبي أنت وأمي طبت حيا وميتا والله لا يجمع الله عليك موتتين أما الموتة الأولى فقد متها، وفي رواية صحيح البخاري[221] بنفس المعنى: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ يُذِيقُكَ اللَّهُ المَوْتَتَيْنِ أَبَدًا. ولعلّ هذا نفسه هو فهم الحلاّج إذ يقول في كتابه الطّواسين[222]: ما أبصره أحد على التّحقيق، سوى الصّدّيق، لأنّه وافقه ثمّ رفقه، لئلاّ يبقى بينهما فريق، انتهى.
النشأة الأولى
كما أكدنا في بيان ”الموتة الأولي“ على وجوب تحديد ماذا نعني هل الجسد أم النفس، كذلك وجب أن نحدد للنشأة الأولى ماذا نعني هل الجسد أم النفس، فبالنسبة للجسد الأمر هيّن، وقال عنه تعالى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذكَّرُونَ (62) الواقعة، سواء أجسادنا أو جسد آدم، أما بالنسبة لخلق النفوس الذي لم يشهده إنسٌ ولا جانٌ، فلا علمَ إلا ما أخبر به الوحي، أما غير ذلك فلن يزيد أن يكون رجماً بالغيب. قد أوردنا حديث ”إن الله خلق خلقه في ظلمة“ عندما قمنا بالاستدلال على أن خلق النفوس سبق خلق آدم في صفته البشرية انطلاقا من قوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) الأعراف، وبيّنا أنّ ظاهر الآية استعصى فهمه فاستُبدل بالتأويل، ثمّ لما خلق الله آدم جعل في صلبه كل ذرّيته، واعتمد ابن عباس رضي الله عنهما أن النشأة الأولى تمت في صلب آدم كما أسلفنا، ولكي نستمر في تصور أن النفوس خلقت قبل خلق آدم لا بد من التوضيح أن النفس تطلق على الشبح الطّيفي قبل أن يتقمص الجسد، وتطلق كذلك على الشخص المكون منهما بعد نفخ الروح، على هذا الأساس نفهم قول الله ”خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها“ أن بدن حواء خلق من بدن آدم عملا بمبدأ الزوجية في كل خلق الله، وليس نفس حواء الشبح الطّيفي هو المخلوق من نفس آدم والله أعلم.
الحقيقة رغم القناعة أن النفوس خُلقت قبل خلق آدم إلا أنه يستعصى الفهم كيف النفوس خلقت من تراب كما جاء في كتاب الله بإلحاح وتكرار، كقوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) غافر، فالنّفوس مخلوقة من تراب في الظّلمة الأولى، أمّا الأبدان فهي من سلالة من طين كما قال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (13) المؤمنون، طور الأصلاب والأرحام أو الظلمة الثانية، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) المؤمنون، طور الرحم أو الظلمة الثالثة، والله أعلم.
يلاحظ في تسلسل هذه الآيات أن النطفة تتكرر، فهي نطفة في الصلب وتنتقل نطفة في الرّحِمِ كذلك، يقول تعالى: أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى (37) القيامة، ويقول كذلك: إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) الإنسان، وعن رسول الله بخصوص طور النطفة في الرّحم ”خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يوْمًا أَوْ أَرْبَعِينَ لَيلَة“ حتى ينتقل إلى طور العلقة.
لمّا أهبط آدم وزوجه إلى الأرض الدنيا كان طبيعيا أن تكون بالنسبة لهما مستقرا، وبالنسبة لكل ذريّتهما مستودعا، لكن الخطاب الإلهي لا يعتمد هذا الفصل في خطابه بين النّفس الشّبح الطّيفي وبين النّقس في الصورة البشرية، فكلاهما نفس والجسم لا يتعدّى كونه شهيدا، كما بيّن ربّ العزّة: إنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) غافر، قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ:” الْأَشْهادُ أَرْبَعَةٌ: الْمَلَائِكَةُ وَالنَّبِيُّونَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْأَجْسَادُ“. كما أنّ مَن في المستودع سيكون في المستقر بعد حين، ومن في المستقر إمّا سيدوم له الاستقرار وإمّا سيعاد للمستودع على شاكلة أخرى مرة ثانية، والمخاطبون سواء كانوا في المستقر أو المستودع يصلهم الخطاب وهم في نفس درجة الوعي أو لنقل كما سيتبيّن لاحقاً أن أصحاب المستودع هم أكثر وعيّاً.
وعي النفوس في الأصلاب
أول ما يجب أن يستوقف الاهتمام في العيشة التي عشناها في الأصلاب أننا كنّا نعرف الله أكثر ممّا نعرفه الآن، بدليل قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) الأعراف. فإن كنّا في هذه الحياة نشهد أن لا إله إلاّ الله، ففي أحسن الأحوال هي شهادة إيمانية بالغيب، أما الشهادة التي شهدنا بها من قبلُ جميعاً من آمن منّا ومن كفر، فهي شهادة عن معرفة يقينية، فشتّان ما بين الشهادتين، ثمّ إن هذه المعرفة كانت مستمرّة وغير منقطعة، عكس ما يقول البعض أن ربّ العزة أحيانا لنشهد وأخذ علينا الميثاق ثمّ أماتنا، أو من يقول أن الله يحيينا في القبر للسّؤال ثمّ يميتنا، مثل هذه الأقوال قد يترتّب عنها أضعاف غير محدّدة للحياة وأضعاف أخر غير محدّدة للممات يزيد عمّا أخبر به الله في كتابه، أنّهما موتتان وحياتان، ثمّ اعتماد حديث رسول الله ﷺ، ”لما خلق الله آدم مسح ظهره “ الذي سبق ذكره، أو ما أخبر به ابن عباس رضي الله عنهما ”أن الله مسح صلب آدم“ السابق أيضاً، دون أن نعير أي اعتبار لقول الله ”وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم“، الذي يبين أن الأمر متكرر وأنه قبل خروج أي نسمة من المستودع إلى المستقر سواء من آدم أو من أيّ من ذرّيته يتمّ الإشهاد، مما يحقق استمرار وتزايد المعرفة التي جبلنا الله عليها والتي عبّر عنها رسوله بالفطرة والله أعلم.
صحيح أن علمنا بالأشياء المادية كان منعدماً كما قال تعالى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) النحل، غير أن معرفتنا كانت في أعلى مراتبها، غير أنّ الخروج للحياة الدّنيا يصاحبه النّسيان كما قال تعالى: وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115) طه. وقد فسّر رسول الله ﷺ هذا النسيان في حديث آدم عندما طلب من ربّ العزّة أن يزيد في عمر داوود أربعين سنة وإنقاصها من عمره وكيف جحد بعد ذلك، فتكون هذه المعرفة غير مدركة في هذه الحياة رغم ما أوتينا من علم بعد ذلك، اللهمّ قلة من عباد الله الصالحين وأوليائه الخالصين الذين ألهموا التّذكر بنسب متفاوتة والله أعلم، فعوضن أن يتزايد وعينا في هذه الحياة الدنيا نظراً لإمكانيات لم تكن قبل متاحة، نلمس تناقص الوعي إلى حدود الانعدام عند بعض الأفراد، ولعلّ هذا ما عبّر عنه الحديث الشّريف ”الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا“ فإن قيل عن الحديث لم يوجد إلا معزواً إلى علي بن أبي طالب عليه السّلام، وهل لعليّ من مصدر للمعرفة سوى مشكاة النّبوّة.
طَبَقًا عَن طَبَقٍ
أقسم ربُّ العزّة في كتابه: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ (19) الانشقاق، وقد فسّرها أغلب أصحاب رسول الله: حالاً بعد حال، وهو تفسير رائع يصلح للسّمو كما يصلح للدّنو، وقد سبق ذكر الأبيات التي مدح العبّاس رضي الله عنه رسول الله والتي استعمل فيها هذا المعنى لبيان الموتة الأولى كما سلف، قائلاً:
تُنْقَلُ مِنْ صَالِبٍ إِلَى رَحِمٍ إِذَا مَضَى عَالَمٌ بَدَا طَبَقُ
وحديث خلق الله جلّ وعَلَا الخلق في ظلمة ورشّ عليهم من نوره، وهو خلق رافق خلق السماوات والأرض قبل أن تبدأ الأزمنة والعصور لأن الزمن مرتبط بحركة الأجرام، وقد طرح ربّ العزّة هذا السؤال: هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا (1) الإنسان، وتنزيهاً للخالق يجب أن لا نستبدل ”قد“ ب ”هل“ فإن كان ظاهر الآية عصيّا على الفهم فلقصور منّا والله أعلم، ثمّ إنّ الآية: خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) التّغابن، تذهب نفس المذهب من أن التصوير الأول أي خلق النفوس اقترن بخلق السماوات والأرض، وفي هذه المرحلة أو الطّبق كان الجميع بما فيهم آدم عليه الصلاة والسلام كنفس واحدة إذ لا أنساب بينهم (يجب التّركيز على ك للتّشبيه)، وهي نفس الوضعية التي سيتمّ بها البعث كما قال تعالى: مَّا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) لقمان. أمّا الطبق التالي هو وضع كل النفوس المخلوقة في صلب آدم فتشكّل بذلك بمعية نفس آدم وجسده نفسا واحدة حقيقتة لا تشبيهاً، آدم في المستقر والذرّية وحواء معهم في المستودع، بدليل قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) الأنعام، بعد ذلك أخرج الله نفس حواء وخلق أو جعل لها جسماً وهو ما عبّر عنه العزيز الحكيم: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1) النساء، ويبدأ من هنا المنطلق رحلة السّلالة وبثّ البشر وفق ما هو معلوم وبقدرة العليم القدير، رحلة مدركة عند كلّ النّاس تنتقل فيها النّسمات من صلب إلى رحم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهي مرحلة الظّلمة الثّانية، تنتهي بنشأة الجنين في بطن أمه وهي مرحلة الظّلمة الثّالثة والله أعلم .
العيش في عالم الذّر
كنا نرزق كما نرزق الآن، صحيح الشكل الذي كنّا نرزق به في الطّبق الأول بعيد عن الإدراك، مع ذلك فقد تكفّل ربّ العزّة بالرزق كما قال: وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (6) هود، أما في الطبق الثاني وما يليه، فالأمر بيّن مَن في الأصلاب يتغذى بما يتغذى به حاملهم، ومَن في الأرحام يتغذى بما تتغذى به حاملتهم، زيادة على ذلك كنا نسمع ونرى ونعقل بدليل قوله تعالى: ثُمَّ سَوَّاهُ وَنفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ (9) السجدة. فالجعل للنّفوس في صلب آدم أو قبل ذلك والله أعلم.
أما الحواس في المستودع الذي يلي هذه الحياة فله شأن آخر كما سنبيّن فيما بعد إن شاء الله، أما إن كان لهذا العيش سلبيات حسب مصطلح العصر، فلم يكن للنسمات قدرة على التأثير في محيطها كما ليس لها قدرة على الخروج من مستودعها باستثناء عندما يأخذها ربّها، كأنها في غرفة مظلمة تشاهد مجريات الأمور على شاشة تترك فيها انطباعاّ من اللذة أو الألم كالانطباع الذي يتولّد عندنا عند مشاهدة فلم سينمائي لكنّه بالنّسبة للنّسمات ثلاثي الأبعاد مع كلّ الواقعية، ولعلّ الخوف وآثاره الذي يولّده الانطباع السّلبي من مشاهدة بيئة كلّها كفرٌ وعنفٌ ما حدا برسول الله نوح عليه الصّلاة والسّلام أن يقول: إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا (27) نوح، والله أعلم. النّفوس عاشت في الجنة وخبرت نعيمها كما قال تعالى: وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) محمد، أورد الطبري[223] عن مجاهد، قال: يهتدي أهلها إلى بيوتهم ومساكنهم، وحيث قسم الله لهم لا يخطئون، كأنهم سكانها منذ خلقوا لا يستدلون عليها أحدا. انتهى. والنّسمات تابعت ما حدث في الدنيا وما جرى بها من جيل إلى جيل حتّى الخروج بالشّكل المعلوم، وربّما لم يخطر ببال أية نسمة منّا أثناء ذلك أن تخفُق في تجربة العيش في الحياة، لذا كانت توّاقة للخروج وتحمّل الأمانة بناء على ما فطرت عليه وما تكوّن لديها من معرفة، والله أعلم.
رؤية الله عزّ وجلّ
معلوم أن موضوع رؤية الله أثار جدلا عند المسلمين لم نتخلّص منه بعد، لكن ما هو ثابت من الكتاب والسنة سنتبنّاه منطلقاً لنجيب هل النفوس رأت ربّها في عالم الذّر عند الإشهاد أم لا؟، الملاحظ من منطوق الآية ”ألست بربّكم“ توحي ما توحيه، مع ذلك حتى نستيقن لا بدّ من اعتماد دلائل أكثر، فالرؤية في هذه الحياة الدّنيا ممتنعة بنصّ قرآني صريح: وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) الأعراف، وبحديث أورده مسلم في صححيه: كتاب الفتن وأشراط السّاعة باب ذكر ابن صيّاد، يتضمّن أنّ رسول الله ﷺ قال: «تَعَلَّمُوا أَنَّهُ لَنْ يَرَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى يَمُوتَ»، فتعذّر الرؤية بالنسبة لسيدنا موسى عليه الصلاة والسّلام أو لباقي المؤمنين لا يستلزم تعذّر قدرة التجلّي لربّ العزّة، وهو ما حدث فعلاّ فهبط الجبل من خشية الله، ثمّ أنّ التعذر لا يعني الاستحالة بل هي ملاءمة من العزيز القدير الذي جعل للعيش في هذه الحياة الدنيا غاية هي أن لا نرى الله إنما أن يرى هو سبحانه وتعالى ماذا نعمل: ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) يونس. من هذا، فالرؤية لنفسٍ في صورتها البشرية ممتنعة، لكن ماذا عن النّفس وهي متوفّية سواء في النوم أو في الممات؟، أورد الطبري[224]: عن ابن عباس، قال: قال رسول الله ﷺ: ”رَأَيْتُ ربِّي فِي أَحْسَن صُورَةٍ، فَقالَ لي: يا مُحَمَّدُ هَلْ تَدْرِي فِيمَ يَخْتَصِمُ المَلأ الأعْلَى؟... الحديث“، وهذا حديث نقله بعض المفسرين، أمّا مِن أهل الحديث فالأمام أحمد في مسنده والدارمي في سننه، والطّبراني في معجمه، وغيرهم بصيغٍ متشابهة، جلهم يقرّ أنّ الرؤية كانت في المنام، كما أن بعض العلماء ذكروا رؤية ربّهم في المنام كالإمام أحمد والإمام الألوسي وغيرهم، فلم ينكر عليهم ذلك علماء السنّة بل ذهب الجمهور منهم إلى جواز رؤية الله تعالى في المنام وصحّتها.
أمّا الشّيعة فقد أرست قاعدة عدم الرّؤية لا في الدّنيا ولا في الآخرة، غير أنّ هذا غير واضح في أقوال سيّدنا عليّ عليه السلام كما جاء في نهج البلاغة[225]:هل رأيت ربّك يا أمير المؤمنين؟ فقال: أَفأَعْبُدُ مَا لا أَرَى؟ قال: وكيف تراه؟ قال: لاَ تُدْرِكُهُ الْعُيُونُ بِمُشَاهَدَةِ الْعِيَانِ، وَلكِنْ تُدْرِكُهُ الْقُلُوبُ بِحَقَائِقِ الأيمان، قَرِيبٌ مِنَ الأشياء غَيْرُ مُلاَمِس، بَعِيدٌ مِنْهَا غَيْرُ مُبَايِن، مُتَكَلِّمٌ بِلاَ رَوِيَّة[226] مُرِيدٌ بِلاَ هِمَّة[227] ، صَانِعٌ لاَ بِجَارِحَة ، لَطِيفٌ لاَ يُوصَفُ بِالْخَفَاءِ، كَبِيرٌ لاَ يُوصَفُ بِالْجَفَاءِ ، بَصِيرٌ لاَ يُوصَفُ بِالْحَاسَّةِ، رَحِيمٌ لاَ يُوصَفُ بِالرِّقَّةِ، تَعْنُو[228] الْوُجُوهُ لِعَظَمَتِهِ ، وَتَجِبُ[229] الْقُلُوبُ مِنْ مَخَافَتِه، انتهى. بيّن أنه من كلام أكبر العارفين بالله، غير أنه ما حُمّل من تأويلات لا تنطبق مع معرفته التي لا شكّ فيها، ولا مع المعرفة التي اشتركنا فيها جميعاً في الموتة الأولى، وهو نفس ما قال به الحسين عليه السّلام كما روي عن ابي بصير انه قال[230] :( قلت لابي عبداللّه (ع ): ـ اخبرني عن اللّه عز وجل هل يراه المؤمنون يوم القيامة ؟ قال (ع ): ـ نعم، وقد رأوه قبل يوم القيامة، فقلت: متى؟ قال (ع ): حين قال لهم: ( الست بربكم قالوا بلى )، ثم سكت ساعة ثم قال (ع ): وان المؤمنين يرونه في الدنيا قبل يوم القيامة، ألست تراه في وقتك هذا؟ قال ابو بصير: فقلت له: جعلت فداك، فاحدث بهذا عنك؟، فقال (ع ): لا، فانك اذا حدثت به فانكره منكر، جاهل بمعنى ما تقوله، ثم قدر ان ذلك تشبيه كفر، وليست الرؤية بالقلب كالرؤية بالعين، تعالى اللّه عما يصفه المشبهون والملحدون، انتهى، ومثل هذا الكلام من عارف كذلك أقرّ الرّؤية في الميتة الأولى، والرّؤية في الحياة الدنيا بإدراك آلائه وآياته، وهي رؤية علمية معتمدة أو قل عنها رؤيا قلبية أو معرفية، فكم في العلم الحديث من جسيمات ودقائق حيّة لا ترى حتّى بالمجاهر القوية مع ذلك تعرف بآثارها، فما يقرّ العلم يستلزم التّصديق وما يقرّ الوحي عليك بالجحود، عجباً!.
أمّا رؤية رسول الله ﷺ ربّه لمّا عُرج به إلى السّماء، فالجدل أشدّ وأطول أمداً، إذ بدأ بين أمّنا عائشة عليها السّلام منكرة، وابن عبّاس رضي الله عنهما مقرّاً بها، وكان عليّ أن أرجّح ما قالته أمنا عائشة عليها السّلام لو كانت القضية فقهية أمّا وأنها إيمانية فالأمر يحتاج لروية، وقد قال ربّ العزّة قبلهما: أَفَتُمَارُونَهُ[231] عَلَى مَا يَرَى، (12) النّجم، بعد هذا التّحذير الإلاهي يجب الامتناع عن الجدل في هذا الأمر أو أن يكتفي المؤمن بما قاله ربّ العزّة: لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبرَى (18) النّجم. لننتقل إلى إمكانية رؤية الله في الآخرة، لكن قبل ذلك لنحدّد ماذا نقصد بالآخرة، كما بيّنا بالنسبة ليوم القيامة كل شخص له قيامته عند انقضاء أجله في الدنيا، وأن الأرض وما عليها لها قيامتها في الزّلزلة، وقيامة ثالثة يوم تقوم السماوات والأرض لربّ العالمين، ذلك يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ أو يوم تطوى السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ، على نفس المنوال نتحدّث عن الآخرة التي هي موجودة الآن وهي من أقطار هذا الكون الفسيح الذي لا يعلم مداه إلا الله، كجنان و نيران وأحوال أخرى كما أخبر بها ربّ العزّة وأخبر رسوله، وأن هذه الآخرة يقيم فيها كل الذين قامت قيامتهم بدليل قوله تعالى: يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7) الروم ، فالغفلة لا تكون إلا عن شيء موجود والله أعلم.
أمّا عن رؤية الله في الآخرة سواء قصد بها الآخرة الموجودة أو الآخرة الموعودة، والراجح أن الحديث الذي سنسوق يصور صورة من صور القيامة الكبرى، فقد جاء في صحيح البخاري[232] من حديث أبي هريرة: أَنَّ النَّاسَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ القِيَامَةِ؟ قَالَ: «هَلْ تُمَارُونَ فِي القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ» قَالُوا: لاَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «فَهَلْ تُمَارُونَ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ» قَالُوا: لاَ، قَالَ: "فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ، يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَيَقُولُ: مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتَّبِعْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ الشَّمْسَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ القَمَرَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ الطَّوَاغِيتَ، وَتَبْقَى هَذِهِ الأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا، فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا، فَإِذَا جَاءَ رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ، فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا، فَيَدْعُوهُمْ فَيُضْرَبُ الصِّرَاطُ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ جَهَنَّمَ، ..الحديث. نستنتج من هذا الحديث أن ربّ العزّة يستطيع أن يتجلّى في أية صورة شاء، وبما أننا رأيناه في الميتة الأولى عندما سُئلنا ألست بربّكم؟، فبتلك الصورة نتمكّن التعرّف عليه ”سما بهاؤه“ دون الحاجة لوسائل أخرى والله أعلم، وأنّ العقل العاجز عن إدراك قدرة الله لا يجوز له أن يمنع أو يحدّ من القدرة ما لم يرد فيه نصّ من الوحي.
فالمسائل الخلافية لا يجب أن تبنى عليها عقيدة ما دام الكلّ يجتهد بمرجعية كتاب الله وسنّة رسوله، والمؤمن يجب أن يعرج بإيمانه إلى مرتبة الإحسان أي أن يعبد الله كأنّه يراه كما هو معلوم، وتبعا لذلك عقيدته أبدا في التّغير حتّى يتبيّن له ما هو من الحقّ بفضل الله وهدايته، وليس بجدل يضعف الإيمان أكثر ممّا يزكّيه. أمّا الذي يريد أن يكون للمسلمين معتقد واحد وإيمان واحد فهو مخالف لما يقرّ به هو نفسه بأنّ الإيمان يزيد وينقص، ويمارس إرهابا فكريا لا علاقة له بالدّين في شيء.
الخروج إلى الدّنيا
قال الله تبارك وتعالى أن النسمات تقيم في ظهور بني آدم، وحدّد رسوله في الأصلاب بالذّات، ومن المعلوم خروجها في نطفة أو نطف، إذ أن النّطفة واردة في الكتاب و السّنة كهمزة وصل بين الصّلب والرحم، فالنطفة كلمة أصلها قطرة من الماء الصافي واستعملت لماء الرجل كذا لتجميع الخلق في الأربعين الأولى داخل الرحم، لكن مع تطوّر المجاهير أصبحنا نعلم أن الأمر يتعلّق بخلية وحيدة تشكّل حيوان مسؤول عن الإخصاب وعن تحديد جنس الجنين، فبقدرة الله يكون هذا الحيوان المهين هو من يحمل النسمة أو الوعاء الذي ستسكنه إلى رحم المرأة، وأكثر من ذلك النسمة ذاتها محملة بكل نسمة قد تلي بعد ذلك في الشّجرة الوراثية إلى آخر يوم تتواجد فيه الإنسانية على ظهر الأرض، هذا يُبيّن كم يمكن أن تكون عليه النسمة من الضآلة بنفس المعيار الذي سبق أن بيّنا كم هي عليه الذرة من الضآلة في تعريف الله، فالنّفس بسمعها وأبصارها وأفئدتها وصورتها الشبحية الطّيفية التي هي نفس صورة صاحبها بل أحسن تقويماً لأنها لا تتعرّض للفساد الذي يتعرّض له الجسد لسبب يطرأ عليه، تظلّ غير خاضعة لمعايير الأوزان التي تعوّدنا عليها.
النفوس كانت والله أعلم تواقة للخروج لأنه خروج من عالم متّسم بالمعرفة إلى عالم التّجربة، ولم تكن تعي تمام الوعي ما يمكن أن يحدثه النسيان والافتتان، كما ذكر آنفا من نسيان آدم عليه الصلاة والسلام، والخلق ذرّية بعضها من بعضٍ، ثمّ أنّ التجربة شقّت حتى على الملائكة فكما أورد الطبري[233] وغيره، في قصة الملكين هاروت وماروت عن ابن عباس ما ملخّصه: أن الملائكة لمّا نظروا إلى أعمال بني آدم، قالوا: يا رب، هؤلاء بنو آدم الذي خلقته بيدك، وأسجدت له ملائكتك، وعلمته أسماء كل شيء، يعملون بالخطايا! قال: أما إنكم لو كنتم مكانهم لعملتم مثل أعمالهم. قالوا: سبحانك ما كان ينبغي لنا! قال: فأمروا أن يختاروا من يهبط إلى الأرض، قال: فاختاروا هاروت وماروت. فاهبطا إلى الأرض، وأحل لهما ما فيها من شيء، غير أن لا يشركا بالله شيئا ولا يسرقا، ولا يزنيا، ولا يشربا الخمر، ولا يقتلا النفس التي حرم الله إلا بالحق. فأغرتهم امرأة وفعلوا كل ذلك. وأنهم يعذّبان في الدّنيا إلى أن تقوم القيامة الكبرى. الدليل على صعوبة تجربة الإنسان في الحياة الدنيا، دعاء الملائكة للمؤمنين بالتّوفيق كما أخبر تعالى: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُم وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) غافر.
لكن ليس معنى ذلك أن الإنسان تُرك لخوض غمار هذه التجربة بقدراته الضعيفة، يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا (28) النّساء، بل مُدّ بالعناية والعون والألطاف ما إن أُدركت وشُكرت نجا المشمول بها مهما كثرت زلاته، فعلم الله بما سيقع قبل أن يقع دليل الألوهية: أَلا يعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) الملك. لكنّه ليس إجباراً بوقوعه إن كان يعود لأفعال العباد، وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) الشّمس، ولم يقل سبحانه وتعالى ألزمها فجورها وتقواها، فكل تأويل على غير مراد الله المبيّن في مجمل الكتاب والسّنة قد تدعوا له الأهواء والأغراض لتبرير تصرّف سيّئ أو لتأييد فكر منحرف أو لنصرة جماعة على أخرى، اللَّهُمَّ أَرِنَا الْحَقَّ حَقًّا وَأَلْهِمْنَا اتِّبَاعَهُ، وَأَرِنَا الْبَاطِلَ بَاطِلًا، وَأَلْهِمْنَا اجْتِنَابَهُ، فمن تبع هدى الله وعد من عنده لا يظلّ ولا يشقى.
القضاء والقدر
الكلّ مدركٌ ما أثاره هذا الموضوع من جدل بين المسلمين وانقسامهم في الفهم وحتّى في تعريف المصطلح ذاته، ولا أرى أنّي مخوّلٌ للخوض فيه، غير أنّه لا يجب الخلط في ما يخصّ اللاهوت مع ما يخصّ النّاسوت، فصفات الله المعلومة لدى الجميع غير قابلة للانتقاص بل الأكثر من ذلك لعجز مداركنا لا نستوفيها قدرها كما قال ربّنا: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) الزّمر، فعِلم الله يشمل ما حدث وما يحدث وما سيحدث سواء في الظاهر أو الباطن: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19) النّحل، وقدرته ليس لآفاقها حدود: ﴿فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ المرسلات 23﴾، وكلّ شيءٍ عنده بقدرٍ وتقديرٍ وأجلٍ حتّى قبل أن يكون، ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) القمر﴾، يدبّر الأمر في ملكه وكفى به شهيداً وكفى به حسيباً، وعموماً لا حركة ولا سكون ولا فعل ولا عمل خيراً كان أم شراً إلا بأمره أو بعد إذنه: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (65) الحج﴾، وأكثر من هذا بكثير ما بيّنه الوحي ممّا لا يحتاج لعمل فكرٍ أو نظر، أمّا ما يخصّ أعمال النّاس فهي منظّمة شأنها شأن كل الموجودات بسنن وضعها ربّ العزّة لن تجد لها تبديلا كما قضى، من هذه السّنن تأكيده تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60) غافر.
والدّعوة قد تكون لفظاً أو رغبة نفسية، فهو سبحانه لا تخفى عليه خافية، فإن كان التّوجه لعمل خيّر أعان الله عليه بالتّوفيق، وإن كان لشرّ أبطله العزيز الحكيم بالخذلان، لكن الإلحاح علي هذا الأخير الذي هو عمل الشّر، يفضي لمأذونية العمل وفق سنّة أخرى: وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ ..الآية (29) الكهف. فإذا استمرّ التّمادي دون رجوع عن الكفر والظّلم يوجب غضب الله ومقته كما قال سبحانه: وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ (178) آل عمران. وهذا لا يعدّ إلزاماً بالكفر بل استجابة لما ألحّ في طلبه الطّالب، ولولا حفظ الله الذي لا يدركه المُسيء، لخسفت به الأرض أو لتفجّرت أعضاء بدنه أو يَسقط عليه كسفاً من السّماء، لأنّ كل ما فيه وما حوله مخلوقات مطيعة ومسبّحة لله العلي العظيم وتمقت الكفر والفسوق والعصيان، ولا يمنع من وقوع ذلك إلا أمر الله السّابق لمخلوقاته في التّسخير وأمره للبعض الآخر في التّذليل، فمن سنن الله كذلك أنه أعطى للخلق أجلاً قبل أن يأخذهم أخذ عزيز مقتدر: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا ترَكَ عَلَيهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ (61) النّحل. وملخّص كل هذا، هو ما جاء في الحديث القدسي الذي أورده مسلم في صحيحه[234]: عَنْ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، فِيمَا رَوَى عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: «يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلَا تَظَالَمُوا، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ، إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ، إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي، فَتَنْفَعُونِي، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ، يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيرًا، فلْيَحْمَدِ اللهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ، فَلَا يلُومَنَّ إِلَّا نفْسَهُ».
فالقضاء والقدر صفتان من صفات العزيز الحكيم يقضي بما شاء، ومشيئته غير منفردة عن باقي صفاته جلّ وعلا، كما يجعل لكل شيء قدراً ومقداراً، ومن قضائه أنّ أفعال العباد منسوبة لهم رغم عدم قدرتهم على فعل أي شيء إلاّ بحوله وقوّته وبعد إذنه، فعند عرض الأمانة اختار الإنسان حملها ولم يجبر على ذلك، وعندما أسكن آدم الجنّة أكل من الشّجرة ولم يجبر على ذلك، وعندما نزل إلى الأرض من نزل خيّر بين الكفر والإيمان ولم يلزم بأيّ منهما، بل الأصح أنّه رحيم بخلقه ولا أدلّ على ذلك أنّه سبحانه يصلّي علينا لإخراجنا من الظلمات إلى النور: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) الأحزاب، يتبيّن من كل هذا أنّ ما قضى الله وما قدّر فهو من أمره كما جاء في الذّكر، وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا، وأنّ أمر الله لا رادّ له، وَاللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، ومن أمره وحكمه، اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ، فلا مجال لأيّ تأويل والله أعلم.
وحتّى بعض الأحاديث التي كان يستعصى عليّ فهمها مثل: «إِنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا خَلَقَ النَّاسَ فِي ظُلْمَةٍ ثُمَّ أَخَذَ نُورًا مِنْ نُورِهِ، فَأَلْقَاهُ عَلَيْهِمْ فَأَصَابَ مَنْ شَاءَ، وَأَخْطَأَ مَنْ شَاءَ، وَقَدْ عَلِمَ مَنْ يُخْطِئُهُ مِمَّنْ يُصِيبُهُ، فَمَنْ أَصَابَهُ مِنْ نُورِهِ شَيْءٌ اهْتَدَى، وَمَنْ أَخْطَأَهُ فَقَدْ ضَلَّ»[235] الحديث مشهور وأورده أكثر من واحد، ويفهم دون تمحيص كأن الله سبحانه هو الذي فرض على هذا الشّخص النّور، وعلى الآخر الظّلمة، فلو كان هذا الفهم صحيحا لما صلّى علينا وملائكته ليخرجنا من الظّلمة إلى النّور كما سلف، ثمّ مقارنة صفات العزيز الجبّار بصفات الناس إن لم تكن جهالة مطلقة فهي غفلة معيبة، فلنتصوّر قاضيا أوتي من العلم بحيث يستطيع أن يعرف المتّهم الذي سيكرر جرائمه من الذي لن يعاودها أبدا، فهل نستغرب إذا حكم على قاتل بالبراءة وعلى سارق لشيء تافه بالمؤبّد، إذ غاية العقاب كما نعلم هي الإصلاح بذلك تسمّت السّجون إصلاحيات، التّصور ليس مستحيلا، فقد تعرفنا على سيّدنا الخضر في قتله للغلام وهو عبد من عباد الله أوتي علما فكيف بنا من ربّ العلم وربّ كل شيء، وهذا بيّن في قوله تعالى: بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28) الأنعام. فالأمر إذا أنّ منّا من لا استعداد له لتقبّل النور لنزعة عدوانية، ومثل هذا الواقع قائمٌ الآن، فنحن في ظلمة وأُنزل إلينا نور مبين من ربّ العالمين هو القرآن الكريم، ليس مخصوصاً للبعض دون البعض الآخر، مع ذلك يتقبّله البعض ولا يقبله البعض الآخر، ليس عن جهل بل لاستعداد ينقصه العزم حتّى بالنّسبة لمن علم ما علم، من هذا كان رسول الله ﷺ يستعيذ من علم لا ينفع، وكان السّلف لا يقدّر إلاّ العلماء العاملين، وكلّ فهم عكس هذا، يقصد به إيهامنا بشكل أو آخر أنّ الله ظلاّم للعبيد تنزّه عن ذلك ربّنا تنزيهاً كبيراً.
التّذكّر أم التّقمّص
المتتبّع لعقيدة التّقمّص التي تقول برجوع النّفس (الرّوح عند البعض) إلى بدن جديد بعد الموت لتعيش دورة أخرى من الحياة، يجد على مدى التاريخ أن لا انفصال لها عن تاريخ الأديان كفكرة متّفقة جزئيا مع معتقد النّشور أو البعث الأخير، غير أنّ التّقمّص يقول بتكرار العملية ”موت وبعث“ عدد لا نهائي عند البعض، وعدد نهائي حتّى الخلاص والاتحاد باللاهوت عند البعض الآخر، وتفترق عقيدة التّقمّص عن عقيدة التناسخ بقول الرّجعة في الأولى لبدن من نفس الجنس الذي كان به المتقمّص، أمّا الثانية فتقول بإمكانية الرّجوع إلى أجناس أخرى كحيوانية أو نباتية أو حتّى جمادات، مرجعة أمر ذلك إلى الثّواب والعقاب، حسب ما تمليه الكرما Karma أو القانون المزروع في باطن الإنسان، هذا المعتقد مع إضافات شكلية من متطلّبات خصوصية الجماعة التي تتبنّاه، يوشك أن يكون من المسلّمات التي يقرّ بها العصر الحديث، ربّما مردّ ذلك إشباع التّوجه نحو الأرواحية من جهة، وتفسير الوجود على أنه حلقات دورية لانهائية لا دخل لأحد في تنظيمه وهو ما لا يتعارض مع فلسفة الملحدين من جهة أخرى، لذلك تكاثفت الأبحاث العلمية والشّبه علمية لإثبات التّقمّص، واستعمل التّنويم المغناطيسي كوسيلة لإرجاع المنوّم إلى ذكريات الطّفولة بدءا، ومنها إلى تذكّر أعمق يقال أنه إرجاع إلى حياة سابقة، كما تشكّلت فرق من العلماء الباحثين الميدانيين لتتبّع كل من يتذكّر عيش سابق ويوثّقون الرّوايات ويتحقّقون من صدقيتها، نتيجة ذلك توفّر كمّ كبير من الأبحاث والدّراسات والحالات الموثّقة في كل أنحاء العالم أصحابها لا يرتبطون بمعتقد ديني معيّن وأعمارهم مختلفة والتّركيز يكون غالبا على الأطفال، الظّاهرة موجودة ويكون من الصّعب إنكارها، غير أنّ تفسيرها لا يستلزم بالضّرورة إقرار عقيدة التّقمص، لنستنطق المرجعية من الكتاب والسّنة، الأموات صنفان مؤمنون وكفّار، فالمؤمنون قال عنهم رسول الله كما أورد البخاري[236]: عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «مَا أَحَدٌ يَدْخُلُ الجَنَّةَ يُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا، وَلَهُ مَا عَلَى الأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا الشَّهِيدُ، يَتَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا، فَيُقْتَلَ عَشْرَ مَرَّاتٍ لِمَا يَرَى مِنَ الكَرَامَةِ»، أمّا بالنّسبة للكافر ففي كتاب الله طلب الرجوع حاصل في عدة مراحل من مراحل الآخرة منها: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) المؤمنون، كذا: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِي (99) المؤمنون، كذا: وَلَوْ تَرَى إِذْ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) السّجدة. فلا الذي يرغب، أو الذي لا يرغب، يُسمح له بالرّجوع سوى الرّجوع الشّامل يوم البعث إلى النّشور، وإن كان لا يعني ذلك الاستحالة المطلقة كحال نزول سيدنا عيسى عليه الصّلاة والسّلام أو وجود حالات أخرى لا نعلمها تدلّ على طلاقة القدرة. أمّا تذكّر شخص ما حياة عاشها في صلب جدّ من الأجداد أو في رحم جدّة من الجدّاة فلا يجب أن يستبعد، لأنّ كل عيش الموتة الأولى مخزون في ذاكرة النّفس بنفس القدر التي فيه الصّفات الوراثية مخزونة في كل خلية من خلايا البدن، وحتّى الذي يقول أنّه لا يذكر شيئا من ذلك، قد تنتابه أحيانا أحاسيس غريبة عند رؤية مكان ما أو شخص ما لأوّل مرّة فيعتقد أنّه ليس عنه بغريب، وأكثر من هذا أنّ الحالات التي يقول أصحابها أنّه تذكّر لحياة سابقة لا يمكن إخضاعها لتفسير واحد، لوجود أو عدم وجود ارتباط في شجرة الآباء، أمّا إذا لم يوجد هذا التّرابط قد نكون أمام حالة من مسّ الشّيطان القرين لشخص مات ولا زال قرينه حيّا طليقا، وهي إمكانية واردة لطول أعمار الجنّ، من كلّ هذا، كل دراسة جدّية لا يجب أن تكون لجانب على حساب جانب، بل عليها أن تعتبر الإنسان بكيانه الكامل نفسا وروحا وبدنا وقرينا شيطانا وقرين ملاك، لذا يستحيل على غير المختصين في العلوم الباطنية أن يفرّقوا بين تذكّر قابع في النّفس وبين تذكّر من أثر المّس أو تذكّر نتيجة التلقّي ممّا يطلق عليه خطأ الروحانيات، فالموضوع إجمالا ليس من اختصاص علماء الظّاهر بل يحتاج لتظافر الجهود بين علماء كل المعارف حتّى يمكن تقريب فهم نزيه مجرّد من التّخمين المفتقر للدّليل، أو تأييد منهج التّضليل عن قصد عمدا، أو تبنّيه عن جهل، دون أنّ نغفل ما للشّياطين من إسهام لا يستهان به في دفع بني آدم إلى الزّلل، البيّن أنّ كلّ قاعدة معتمدة تمكّننا من تفسير ظواهر جلّ الحالات لا يجوز أن نطلب منها التّفسير في كل الحالات، ولا الخارج عن تفسيرها يجب أن يعتبر مستحيلا أو غير صائب، لأنّ بملك الله أسرارا عصية الإدراك، وكمثال عن هذا سأسوق بعض الأبيات للقطب مولاي عبد القادر الجيلاني حيث يقول[237]:
وما قلت حتّى قيل لي قل ولا تخـف فأنت وليّ في مقام الولايــــة
أنا كنت مع نوح بأعلــى سفيـنة بحاراً وطوفاناً على كفّ قــدرتي
وكنت وإبراهيم ملقى بنـــــاره وما برّد النّيران إلاّ بدعوتــــي
وكنت مع اسماعيل في الذّبح شاهداً وليس نزول الكبش إلاّ بفتوّتــي
وكنت مع يعقوب في غشو عينـه وما برئت عيناه إلاّ بتفلتـــــي
وكنت مع ادريس لمّا ارتقى العـلا وأقعدته الفردوس أحسن جنـــة
وكنت وموسى في مناجاة ربــه وموسى عصاه من عصاي استمدت
وكنت مع أيوب في زمن البــلا وما برئت بلواه إلاّ بدعوتــــي
وكنت مع عيسى وفي المهد ناطقاً وأعطيت داوداً حلاوة نغمتــــي
فلي نشأة في الحب من قبل آدم وسرّي سرى في الكون من قبل نشأتي
فخوفك أن تصدّق ما لم يبلغ إليك فهمه شيء مشروع ومقبول، أمّا أنّ تكذّبه بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير فشيء آخر، في ذلك يقول ربّ العزّة: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) القلم. وقد أورد ابن أبي شيبة في مصنّفة والدرامي في سننه وغيرهم قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: الْعِلْمُ عِلْمَانِ: عِلْمٌ فِي الْقَلْبِ فَذَاكَ الْعِلْمُ النَّافِعُ، وَعِلْمٌ عَلَى اللِّسَانِ فَتِلْكَ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ.
الفتنة والبلاء
جُماعُ مَعْنَى الفِتْنة: الِابْتِلَاءُ والامْتِحانُ وَالِاخْتِبَارُ، وأَصلها مأْخوذ مِنْ قَوْلِكَ فتَنْتُ الْفِضَّةَ وَالذَّهَبَ إِذا أَذبتهما بِالنَّارِ لِتُمَيِّزَ الرَّدِيءَ مِنَ الجيِّدِ، وفي اللسان[238] كذلك، بَلَوْتُ الرجلَ بَلْواً وبَلاءً وابْتَلَيْته: اخْتَبَرْته، وبَلاهُ يَبْلُوه بَلْواً إِذَا جَرَّبَه واخْتَبَره، وفي الفتنة كما في البلاء اختبار من ربّ العزّة سواء للأفراد أو الجماعات أيّهم أحسن عملا، لا لنقص علم بحالهم سبحانه وتعالى تنزّه عن ذلك، بل لإقامة الحجّة عليهم، ومجالات الابتلاء والافتتان متعدّدة ومتنوّعة ممّا يصعب أن نضع تصانيف لهما، يقول تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِين (155) البقرة، ثمّ أنّ لهما صفة الشّمولية أي لا أحد ولا جمع يمكن أن يكون في منأى عنهما ممّا يجعلهما من سنن الله الثّابتة، يقول تعالى: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ(2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) العنكبوت.
والمؤمن أكثر عرضة للبلاء من غيره كما يقول رسول الله ﷺ حسب ما جاء في صحيح ابن حبّان[239]: ”عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً قَالَ: "الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بلاءه وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ“، من ذلك اشتهرت عبارة ”المؤمن مصاب“ تستخدم في أكثر الأحيان هزوّاً منهم وسخريّاً، والمؤمن عموما بما أوتي من شفافية النّفس، يستطيع أن يميّز بين ما أصابه الذي هو بمثابة عقاب عمّا اكتسب من عمل معيّن، أو ما هو محمول على الذّكرى كما قال تعالى: أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) التّوبة، غير أنّ هذا لا يدلّ على أنّ الكفّار في حلّ من البلاء بل مصابهم غالبا ما يكون أشدّ ليكون عبرة لغيرهم كما قال تعالى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْئَسْ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31) الرّعد، عسى أنّ القارعة هي ما يعبّر عنه بلغة العصر بالكوارث الطّبيعية بعد تتبّع معنى الكلمة في القرآن الحكيم والله أعلم. بعد أن تأكّد أنّ البلاء والافتتان سنّة كونية لا تُستبدل ولا تُحوّل ماذا يمكن أن نقول عن النّسمات التي لم تتمكّن من الخروج إلى هذه الحياة الدّنيا لسبب من الأسباب أو أنّها خرجت وأصابها الموت وهي ما زالت في مرحلة الصّبى أو أنها اعتبرت غير مكلّفة لغياب التّعقّل كما هو معلوم، هل نعتبرها ناجية من البلاء والافتتان؟، نقول لا، ففي السّنة تبيان لمثل هذا التساؤل، ففي صحيح مسلم[240]: عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَتْ: دُعِيَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى جِنَازَةِ غُلَامٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، طُوبَى لِهَذَا، عُصْفُورٌ مِنْ عَصَافِيرِ الْجَنَّةِ، لَمْ يَعْمَلِ السُّوءَ، وَلَمْ يُدْرِكْهُ، قَالَ: أَوَغَيْرُ ذَلِكَ يَا عَائِشَةُ، «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ لِلْجَنَّةِ أَهْلًا، خَلَقَهُمْ لَهَا وَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ، وَخَلَقَ لِلنَّارِ أَهْلًا، خَلَقَهُمْ لَهَا وَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ، وفي المعجم الأوسط للطّبراني[241]: عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، عَنْ نَبِيِّ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «يُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْمَمْسُوخِ عَقْلًا، وَبِهَالِكٍ فِي الْفَتْرَةِ، وَبِالْهَالِكِ صَغِيرًا، فَيَقُولُ الْمَمْسُوخُ عَقْلًا: يَا رَبِّ، لَوْ آتَيْتَنِي عَقْلًا مَا كَانَ مَنْ آتَيْتَهُ عَقْلًا بِأَسْعَدَ بِعَقْلِهِ مِنِّي، وَيَقُولُ الْهَالِكُ فِي الْفَتْرَةِ: يَا رَبِّ، لَوْ أَتَانِي مِنْكَ عَهْدٌ مَا كَانَ مَنْ أَتَاهُ مِنْكَ عَهْدٌ بِأَسْعَدَ بِعَهْدِهِ مِنِّي، وَيَقُولُ الْهَالِكُ صَغِيرًا: لَوْ آتَيْتَنِي عُمُرًا مَا كَانَ مَنْ آتَيْتَهُ عُمُرًا بِأَسْعَدَ بِعُمُرِهِ مِنِّي. فَيَقُولُ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: إِنِّي آمُرُكُمْ بِأَمْرٍ فَتُطِيعُونِي؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ وَعِزَّتِكَ، فَيَقُولُ: اذْهَبُوا فَادْخُلُوا النَّارَ، وَلَوْ دَخَلُوهَا مَا ضَرَّتْهُمْ». قَالَ: «فَتَخْرُجُ عَلَيْهِمْ قَوَابِصُ يَظُنُّونَ أَنَّهَا قَدْ أَهْلَكَتْ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ، فَيَرْجِعُونَ سِرَاعًا». قَالَ: «يَقُولُونَ: خَرَجْنَا يَا رَبُّ، وَعِزَّتِكَ نُرِيدُ دُخُولَهَا فَخَرَجَتْ عَلَيْنَا قَوَابِصُ ظَنَنَّا أَنَّهَا قَدْ أَهْلَكَتْ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ، فَيَأْمُرُهُمُ الثَّانِيَةَ فَيَرْجِعُونَ كَذَلِكَ يَقُولُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: قَبْلَ أَنْ تُخْلَقُوا عَلِمْتُ مَا أَنْتُمْ عَامِلُونَ، وَعَلَى عِلْمِي خَلَقْتُكُمْ وَإِلَى عِلْمِي تَصِيرُونَ، فَتَأْخُذُهُمُ النَّارُ»، فهذا نموذج من نماذج مختلفة ومتعدّدة التي لا يعلمها إلا هو سبحانه وتعالى من أشكال البلاء في الممات مصداقاً لقوله تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الملك، اللهمّ إنّا نعوذ بك من فتنة المحيا والممات ونسألك الصّبر والثّبات، كما جاء في شعب الإيمان[242] عن أنس أنّ رسول الله ﷺ قال: ” الْعَاقِلُ مَنْ عَقَلَ عَنِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ أَمْرَهُ، وَصَبَرَ عَلَى بلْوَى زَمَانِهِ “.
الإنسان الظلوم الجهول غير مأهل لمعرفة على التّحقيق أين هي مصلحته، وتصنيف ما يصيبة بالتّدقيق هل هو من الخير أم من الشر وفي ذلك يقول ربّ العالمين: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216) البقرة ﴾.
كتاب العيش بعد الموت
حدّ كلمة عَيش
استعمال كلمة ”عيش“ للدّلالة على كائن يُرزق وليس كمرادف للحياة؛ فرضته ضرورة التّميز بين العيش في الحياة الأولى والحياة الثاّنية من جهة، والعيش في الموتة الأولى والموتة الثانية من جهة أخرى ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) البقرة﴾، والجدير بالذكر أن المراحل الثلاث الأولى تحدث في الكون الموجود آنياً، أما الإحياء الأخير فليس له مكان ولا زمان وحقيقته من حقيقة وعد الله، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً، في المراحل الحالية العيشُ مستمر متلاحق كما بيّنا، ولا يصنّفه سوى التّواجد في المستقّر أو المستودع بالنسبة للنّفس، أو الوجود على ظهر الأرض أو في القبور بالنّسبة للأبدان، أمّا الوجود والعدم كمصطلحين تناولتهما الفلسفة وسرّبتهما للاّهوت فهما لا يتلاءمان مع الفهم الإسلامي الصّحيح، فالنّفس ليست منزّهة عن الفناء كما قال أفلاطون، لأنّها مخلوقة ولها بدء، وأنّها كائن من كائنات السماوات والأرض الذين لا يعلم عددهم إلا الله، وعندما ستتمّ إعادة الخلق سيطالها ما يطال السماوات والأرض ومن فيهنّ كما أخبر تعالى: يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104) الأنبياء، الخلق الأول استوفيناه قدر الإمكان من أخبار الوحي فهل سيكون الخلق الثاني الموعود ووعد الله حقّ، صورة طبق الأصل من الخلق الأول؟، إذا قلنا نعم سنكون قد عطّلنا صفة من صفات الله ألا وهي الإبداع، سبحانه وتعالى عن جرأة الوهم، ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (117) البقرة﴾، فالنّفس إذاً بعد الموت حسب المصطلح المتداول ستعيش إمّا في المستودع وهو موت لها؛ مستودع ليس من طبيعة مستودع الموتة الأولى بل توجد أصناف متعدّدة للمستودعات تجمعهم خاصية العذاب، أوفي المستقر وهو حياة لها، وتوجد كذلك مستقرات متعددة تجمعهم صفة النعيم، أولا هذا ولا ذاك في منزلة بين المنزلتين. ما هذا القول توهّم ولا اجتهاد بل تصديق لقوله تعالى: فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لاَّ تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96) الواقعة، وفي أدعية رسول الله ﷺ كما أخرج الحاكم وغيره: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ، وَبَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ. أما الذي يظنّ أن هذا لا يحدث بعد الموت مباشرة بل مؤجّل إلى القيامة الكبرى فهو بعيد عن الصواب، لأن في يوم الفصل وهو يوم من أيام القيامة الكبرى يسبقُ يوم الدّين والله أعلم، ﴿إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) الدّخان﴾، في هذا اليوم ينقسم الناس بعده إلى فئتين قال تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7)، الشورى، أما في القيامة الحالية فالناس تنقسم بعد وفاة النّفس وهلاك البدن إلى ثلاثة فرق، المقرّبين وأصحاب اليمين وأصحاب الشّمال كما بيّنت صورة الواقعة.
معرفة الكون
توجد عدة تصوّرات لشكل وطبيعة الكون الذي نعيش فيه، رغم أنه شاسع لا تُعرف أقطاره ولم تتجلّ أسراره، فالإنسان لم يدع جهداً من أجل استكشافه، في الزّخم الموجود لتصورات الكون نميّز بين مدرستين هما المثالية والمادية، ونلحق بالمثالية تعاليم هرمس والفلسفات الشّرقية ومدرسة التيوصوفية الغربية والروحانيّين وغيرهم كثير، ويقولون بوجود أكوان أو مستويات متطابقة ضمن بعض إمّا ثلاثة أو عند البعض سبعة، كالكون المادي، والكون العقلي، و الكون الروحي، إلى غير ذلك، والصعوبة في تقبّل مثل هذه التصوّرات تكمن في أنّ تحرّي الصّدق في إحداهنّ أو جانب منها لا يتأتى كما يقول أصحاب المدرسة أنفسهم إلاّ بعد تطبيق الرياضة الروحية المطلوبة، فالأمر يشبه إلى حدٍ ما العرفان في التصوّف الإسلامي المرتكز على الذّوق أساساً لا على العلم، أما التّصور المادي الواقعي فيعتمد كما هو معلوم على المشاهدة والتجربة باستعمال آخر تطورات التكنولوجيا وبعض القوانين الفيزيائية المعتمدة في العلم الرّسمي، هذا الكون لا يعرف له أبعاد لحد اليوم، فهو حسب أينشتين محدود لانهائي، وهي عبارة مفهومة في الرياضيات ولا تطبيق تجريبي لها في الواقع، وأنّه في اتساع مستمر، وأن الجزء المدرك منه بتقنيات شتّى هو 46.500 سنة ضوئية[243] انطلاقاً من الأرض في جميع الاتجاهات، ومكوّناته 73 في المائة من الطاقة السّوداء و23 في المائة من المادة السوداء، اللذان معرفتنا بهما منعدمة، أما الباقي 4 في المائة فهو من الذّرات التي تشكّل كل ما نعلم من أنواع المادة وما تُصدر من طاقة، والكون لا يعرف له شكل هندسي، وتتوزّع به مجرات بأشكال مختلفة، الأكثر صغراّ من هذه المجرات يمكن أن تحتوي ثلاثة آلاف مليون من النّجوم، أما الأكبر فيمكن أن تصل إلى بليون نجم، في كلّ مجرة زيادة على النجوم توجد الكواكب التابعة لكل نجم ويوجد الغبار والغازات بنسب بين واحد إلى عشرة في المئة حسب كل مجرة، عدد هذه المجرّات حسب التقديرات الغير ثابتة يفوق مائة ألف مليون مجرّة .
مجرّتنا هي درب التبانة وهي مجرة لولبية معدّل قطرها مائة ألف سنة ضوئية ويقدّر أنّ بها من 200 إلى 400 ألف مليون من النّجوم هذا إلى جانب عدد هائل من التجمعات النجمية والسدم والسحب الكونية والثقوب السوداء.
تقع مجموعتنا الشّمسية في احدى أذرع المجرة الست وتسمى ذراع الجبار Bras d'Orion وعلى بعد حوالي 28.000 سنة ضوئية عن مركز المجرة.
هذا التّصوّر كما تلقّن المدارس وما يطرأ عليه من اكتشافات جديدة أو نظريات تفسيرية بدأ يضطرب، لأن فهمنا للمادة والطاقة وعدم إمكانية تجاوز سرعة الضوء حسب نموذج أينشتين لم يعد متّفقاً مع النّتائج التي توصّلت إليها ميكانيك الكم، ممّا يستلزم فهم جديد وقوانين جديدة يمكنها تفسير الظواهر غير المعتادة منطقيّاً حسب نموذج النّسبية العامة، راجع كتاب ”الكون الأنيق“ لبرايان غرين، L’Univers Elegant de Brian Greene حيث يعطي للكون من عشرة إلى أحد عشر بعداً في نظرية الأوتار الفائقة.
رغم أن حقيقة الكون لا زالت مستعصية وأنّ الاكتشافات التي تجيب عن بعض التساؤلات، تأتي في الوقت ذاته بكمً من المجاهيل الجديدة هي الأخرى في حاجة لمن يفسّرها، مع ذلك فهي معرفة تُجلّي إبداع الخلق وعظمة الخالق، وتزيد من إيمان من قال فيهم سبحانه وتعالى: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) آل عمران، دون أن ننتظر أن تكون مقنعة لجميع النّاس، فهي آيات تزيد المؤمنين إيمانا وتزيد الظّالمين كفرا وعنادا لأنّ ذلك من سنّة الله ولن تجد لسنّة الله تبديلا.
أمّا هيئة الكون عند الشّيخ الأكبر ابن عربي الحاتمي وفق الوارد في كتابه شجرة الكون حيث يقول[244]: فإنّي نظرت إلى الكون وتكوينه، وإلى المكنون وتدوينه، فرأيت الكون كلّه شجرة، وأصل نورها من حبّة "كن" قد لقّحت كاف الكونية بلقاح "نحن خلقناكم"، فانعقد من ذلك البزر ثمرة "إنا كل شيء خلقناه بقدر".
لعلّ ابن عربي في تصوّره التقط الإشارة من كلام ربّ العالمين في الذكر الحكيم: فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) القصص، والله أعلم.
الجنّة والنّار
مصطلح الجنّة في كتاب الله يراد به أرض كثيفة الأشجار تجري من تحتها الأنهار، فكل ما انطبقت عليه هذه المواصفات فهي جنّة، ففي الأرض التي نحن عليها الآن توجد جنان، كما ذكر ربّ العزّة: إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) القلم، فهل الجنّة الواردة في الكتاب والسّنة كدار إيمان هي موجودة الآن أم ستخلق يوم تبدّل الأرض غير الأرض والسماوات ؟، في العلم المّادي احتمالات وجود كواكب تابعة لنجوم أخرى غير نجمنا الشّمس ملائمة من حيث درجة الحرارة ووجود الماء إلى غير ذلك كبيرة جدّاً، وبالفعل بدء ترشيح مجموعة يعتقد أنها تستوفي الشّروط والتي هي أقرب إلينا نسبيّا من أجل دراستها، أما في الوحي فإنّ من الغرابة أن المسلمين لا زالوا يتداولون السّؤال رغم تأكيدات من الكتاب والسّنة على وجودها، ففي صحيح ابن حبّان[245]: عَنْ أَنَسٍ أَنَّ أُمَّ حَارِثَةَ أَتَتِ النَّبِيَّ ﷺ وَقَدْ هَلَكَ حَارِثَةُ يَوْمَ بَدْرٍ أَصَابَهُ سَهْمُ غَرْبٍ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ عَلِمْتَ مَوْقِعَ حَارِثَةَ مِنْ قَلْبِي فَإِنْ كَانَ فِي الْجَنَّةِ لَمْ أَبْكِ عَلَيْهِ وَإِلَّا سَوْفَ تَرَى ما أصنع، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَجَنَّةٌ وَاحِدَةٌ هِيَ إِنَّمَا هِيَ جِنَانٌ كَثِيرَةٌ وَإِنَّهُ فِي الْفِرْدَوْسِ الأعلى". وفي كتاب الله: قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) يس، وكذلك في وصف الشّهداء إذ سبق تبيان أنّهم أحياء يقول العزيز الحكيم: فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (170) آل عمران، كذلك من سبق من الآباء والأجداد سنلتحق بهم بمشيئة الله: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) الطّور. فكل جنة مذكورة باسمها في كتاب الله أو سنّة رسوله فهي موجودة والله أعلم، منها ما هي مجموعة جنان كجنات عدن، فالأمر يتعلّق إذا بجنان وليس بجنة واحدة، وبالرجوع إلى حديث المعراج يتبيّن أنّ في كل سماء جنتها أو الأصح جنانها، أما الجنّة أو الجنان والله أعلم التي ستخلق بعد زوال هذا الكون ففي وصفها يستعمل ربّ العزّة كلمة مَثَلْ لأنها لم توجد بعد والله أعلم: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاء حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ (15) محمد. أما النار إذا اعتبرنا الشمس جسما ملتهبا تكون كل النجوم التي ترى بالعين المجردة في السماء كذلك، وإن كان في الحقيقة أننا لا نراها إنما نرى مواقعها إذ لا بدّ من اعتبار الحركة لكل نجم واعتبار المدة التي يستغرق الضّوء في رحلته من النّجم إلينا فأقرب نجم يبعد عنّا 4,29 سنة ضوئية وأبعد نجم يرى بالعين يبعد عنّا 1200 سنة ضوئية، من هذا أقسم جلّ وعلا بمواقع النّجوم: فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) الواقعة، بالإضافة إل نار النّجوم والتي تبلغ إلى 5778 كلفن (5504,85 مئوية) على السّطح في الشّمس مثلاً، تكون كل الكواكب القريبة من النّجم درجة حرارتها عالية، فمثلاً في المجموعة الشّمسية عطارد تصل درجة حرارته في النهار 623 كلفن (349,85 مئوية) وفي الليل تصل 103 كلفن (ناقص 170 مئوية). إذا تأملنا حديث رسول الله ﷺ كما أورد التّرمذي[246]: قَالَ: أُوقِدَ عَلَى النَّارِ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى احْمَرَّتْ، ثُمَّ أُوقِدَ عَلَيْهَا أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى ابْيَضَّتْ، ثُمَّ أُوقِدَ عَلَيْهَا أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى اسْوَدَّتْ فَهِيَ سَوْدَاءُ مُظْلِمَةٌ. ينطبق هذا مع التّصنيف العلمي لدرجة الحرارة في النّجوم المعروفة بالعمالقة الحمر، ودرجة الحرارة بالأقزام البيض التي هي أعلى، ودرجة الحرارة بالثّقوب السّوداء التي تعتبر عند الفزيائيين أنها في حالة تفرّد Singularité أي الزّمكان الذي تتوقّف عنده قوانين الفيزياء.
مجمل القول أنّ الكون الفسيح به من الجنان ومن النيران وما بينهما ما لا يعلمه إلا الله، فهل يمكن أن نرشّح كوكبا أو نجما بأنه جنّة أو نار؟ أقول لا، لأنّ هذا التّصور مادي محض وسبق أن قلنا توجد تصوّرات أخرى مثالية، وكي نفهم بقدرٍ ما الاختلاف بينهما، نجد أنّ القمر عند الروحانيين نور، وقد لا يصدّقون هبوط الإنسان عليه، تصديقاً لقوله تعالى: ألَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) نوح، أورد القرطبي[247] في تفسيره: وَقَالَ الْحَسَنُ: خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا عَلَى سَبْعِ أَرَضِينَ، بَيْنَ كُلِّ أَرْضٍ وَأَرْضٍ، وَسَمَاءٍ وَسَمَاءٍ خَلْقٌ وَأَمْرٌ، وَقَوْلُهُ: أَلَمْ تَرَوْا عَلَى جِهَةِ الْإِخْبَارِ لَا الْمُعَايَنَةِ، انتهى.
أما الماديون فيعتبرونه جسما صخريا فلكيا لا غير، فأيّهما أقرب إلى الصّواب ؟، نعرف جيّداً أن للإنسان جسما ظاهرا وهو مادي له أسراره وله علوم تعمل على فكّ ألغازه، غير أنّه في نفس الوقت له النّفس التي هي باطنه، ولا نعني بالباطن ما بداخله، وللنّفس قوانين غير القوانين المألوفة، فالأمر متعلّق إذاً بباطن وظاهر، والله جلّ جلاله من أسمائه الحسنى الظاهر والباطن: هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) الحديد، فالكون تبعاً لذلك قد يكون له ظاهر وله باطن، فكلّ تصوّر أو تفسير يعتمد الظاهر فقط أو يعتمد الباطن فقط يظلّ غير كامل، وكأمثلة على ذلك الحديث في صحيح مسلم[248] : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «سَيْحَانُ وَجَيْحَانُ، وَالْفُرَاتُ وَالنِّيلُ كُلٌّ مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ»، وهو قريب لما جاء في التّوراة: ”10 وَكَانَ نَهْرٌ يَخْرُجُ مِنْ عَدْنٍ لِيَسْقِيَ الْجَنَّةَ وَمِنْ هُنَاكَ يَنْقَسِمُ فَيَصِيرُ أَرْبَعَةَ رُؤُوسٍ: 11 اِسْمُ الْوَاحِدِ فِيشُونُ وَهُوَ الْمُحِيطُ بِجَمِيعِ أَرْضِ الْحَوِيلَةِ حَيْثُ الذَّهَبُ. 12 وَذَهَبُ تِلْكَ الأَرْضِ جَيِّدٌ. هُنَاكَ الْمُقْلُ وَحَجَرُ الْجَزْعِ. 13 وَاسْمُ النَّهْرِ الثَّانِي جِيحُونُ. وَهُوَ الْمُحِيطُ بِجَمِيعِ أَرْضِ كُوشٍ. 14 وَاسْمُ النَّهْرِ الثَّالِثِ حِدَّاقِلُ. وَهُوَ الْجَارِي شَرْقِيَّ أَشُّورَ. وَالنَّهْرُ الرَّابِعُ الْفُرَاتُ.“ الإصحاح الثاني سفر التّكوين، فالفهم المادي قاصر لتبيان أين توجد الجنة التي بها هذه الأنهار، كذلك نجد في البخاري[249]: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ المَازِنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الجَنَّةِ»، ثمّ السماوات السّبع والباب المؤدي لكل منهم لا يدركه التّصوّر المادي، فما نعتبره الكون برمّته ليس سوى السماء الدّنيا وأنّ النّفاذ إلى سماء أعلى لزاما أن يكون من المعارج كما قال تعالى: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) الذّاريات. وفي اللسان: وحُبُك السَّمَاءِ: طَرَائِقُهَا، والطّرائق جمع طريقة، فللانتقال من سماء إلى سماء أعلى يستوجب طريق وطريقة، وهذا بيّن في عروج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فالعروج إذا ليس مجرّد صعود في السماء كما بيّن تعالى: وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) الحجر، أي أنّه سلس ويسير عند فتح الباب بدليل قول المشركين إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا، ومثل هذا العروج يعرف في العلم الحديث ب”ثقب الدودة“ Trou de ver ويعني الانتقال من نقطة إلى أخرى في الكون في لحظة ومن زمن إلى زمن آخر باختراق نسيج الزمكان وهو أمر قائم نظريا على الأقل، أمّا الصعود فهو مُجهد وشديد كما بيّن تعالى: فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ (125) الأنعام، كما استعمل ربّ العزّة مصطلح ثالث وهو النّفاذ وذلك في قوله تعالى: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) الرّحمن، ثمّ المسافة الواردة بين سماء وسماء في السنّة وهي مسيرة خمسمائة سنة لا تعني أي قياس لنا ما لم تتحدّد مع ماذا تكون المقارنة، بإسقاط هذا الفهم على أنفسنا نجد أنّ الصّورة النّفسية مع الصّورة البدنية عندنا متطابقتان مع ذلك لا يشغلان حيّزا في مكان واحد بالضّرورة إذ سبق تبيان اتصالهما وانفصالهما، أمّا البرزخ بين سماء وسماء هو والله أعلم كالبرزخ بين ماء وماء كما في قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا (53) الفرقان.
الفكر المادي ليس مقصوراً على بعض المدارس الغربية بل تفشّى بين المسلمين إلى حدّ كبير، فكل من يعتقد أنّ الأموات سواء كانوا مؤمنين أو فاسقين كلّهم عظام بالية لا يمكن أن يضرّوا أحدا ولا أن ينفعوا أحدا فإنه من أصحاب الفكر المادي، إلاّ إذا كان يقصد أن الأحياء هم كذلك لا ينفعون ولا يضرّون، أما المأخذ هو مساواة موت الصالحين بموت الكافرين، في هذه الحالة يكون قد عطّل ما ذهبت إليه الآية الكريمة : أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ جْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ (21) الجاثية، أورد الطبري[250]: عن قتادة، لعمري لقد تفرّق القوم في الدنيا، وتفرّقوا عند الموت، تباينوا في المصير. انتهى.
فالمصير يبدأ إذا عند انقضاء ”الأجل المسمّى“؛ عند الموت الذي سمّاه رسول الله ”إقبال من الآخرة“، أما بعد ”الأجل المسمّى عنده“ سيكون البعث للمؤمن والكافر على السواء ليتمّ الحساب والفصل، قال تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ (2) الأنعام، أورد الطّبري[251] عن ابن عباس: ثم قضى أجلا وأجلٌ مسمى عنده"، يعني: أجل الموت "والأجل المسمى"، أجلُ الساعة والوقوفِ عند الله.
استعمل العزيز الحكيم مصطلح آخر للباطن والظاهر والله أعلم، هو الغيب والشهادة في عدّة آيات منها: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (8) الجمعة. ثمّ إنّ السماوات السّبع المتطابقة قد تعني أنها سبعة أكوان متطابقة بمفهوم التّطابق الرّياضي، لكنها ليست من طبيعة واحدة فعند الخلق أوحى ربّ العزّة في كلّ سماء أمرها أي مجموع القوانين المنظمة لكيانها مع ذلك يكون القمر فيهنّ نورا والشّمس سراجاً كما قال العزيز الحكيم، ونكون بذلك أقرب إلى مفهوم الروحانيين القائلين بعوالم متوازية من الأكثر كثافة إل الأكثر لطافة لا بما يراه من يخلدون إلى الأرض من الماديين، وهو ما تقره الأبحاث الفزيائية الجريئة الحديثة، وفي الوقت ذاته كل ما على هذه الأرض له مثيل مطابق في كل من السّماوات السّت العلى، وأنّ الانسيابية ممكنة ومستمرة بحيث الذي ينبع من أعلى يمكن أن يصبّ في الأدنى والله أعلم، بذلك نكون حدّدنا صورة لا ينفصل فيها الظّاهر عن الباطن، واقتربنا من فهم أوفق لبعض أحاديث رسول الله كالحديث الذي ذكر فيه النّيل والفرات كما جاء في البخاري[252]: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ”رُفِعْتُ إِلَى السِّدْرَةِ، فَإِذَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ: نَهَرَانِ ظَاهِرَانِ وَنَهَرَانِ بَاطِنَانِ، فَأَمَّا الظَّاهِرَانِ: النِّيلُ وَالفُرَاتُ، وَأَمَّا البَاطِنَانِ: فَنَهَرَانِ فِي الجَنَّةِ، فَأُتِيتُ بِثَلاَثَةِ أَقْدَاحٍ: قَدَحٌ فِيهِ لَبَنٌ، وَقَدَحٌ فِيهِ عَسَلٌ، وَقَدَحٌ فِيهِ خَمْرٌ، فَأَخَذْتُ الَّذِي فِيهِ اللَّبَنُ فَشَرِبْتُ، فَقِيلَ لِي: أَصَبْتَ الفِطْرَةَ أَنْتَ وَأُمَّتُكَ“.
وفي السّنة كذلك ما يثبت أن الأرض التي نحن عليها بها مناطق طيّبة وأخرى خبيثة كالحديث المروي عن السَّعْدِيُّ[253]، أَنَّ النَّبِيَّ أَتَى وَادِي ثَمُودَ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: «اخْرُجُوا، اخْرُجُوا، فَإِنَّهُ وَادٍ مَلْعُونٌ، خَشِيتُ أَنْ لَا تَخْرُجُوا حَتَّى يُصِبَكُمْ كَذَا وَكَذَا» وفي حديث آخر: عن أنس بن مالك قال[254]: خرجنا مع رسول الله ﷺ إلى وادي العقيق فقال: يا أنس خذ هذه المطهرة املأها من هذا الوادي فإنه واد يحبنا ونحبه، حتى ولو كان الحديث غريب فهو على نمط الحديث المشهور إنّ أُحدا جبل يحبّنا ونحبّه، فكما للعلم بصائر تمكّننا من فهم وإدراك بعض الظّواهر كذلك للإيمان بصائر تمكّن من إدراك ما لا زال خفياً عن العلم المادي لقصوره أو لنهي صارم عن البحث في مجال ما لم تحدّده الجهة الرّاعية، فلا أعلم هل مرّت فترة على الإنسانية كان فيها العلماء عبيد إلى درجة أنّه محظور عليهم أن يعطوا تفسيرا يخص أبحاثهم، ففئة تبحث وفئة تفسّر وفئة ثالثة تذيع وتنشر إلى غير ذلك من توزيع الأدوار تقوم به جهة غير خافية على أحد من المتتبعين للشّأن الدّولي.
لحظة الموت
لا يمكن أن نحدد لحظة الموت كيف تكون بالنّسبة للنّاس أجمعين فكلّ له ساعته و قيامته، إنسا وجانا أو حيوانا ونباتا أو كوكبا ونجما، وفي ”الأجل الذي عنده“ الكون بكلّيته، مع ذلك سنسوق نموذجا لحالة عادية نقيس بها ما هو مشترك مع أحوال أُخر، عندما يذكر المحتضر أنه يرى بعض أقاربه الذين سبق أن ماتوا ويكلّمهم كأنّهم حضور، فهي علامة تأكّد قرب انتهاء الأجل، أما العلامة الأخيرة؛ عندما تدور عينيه في اتجاهات لا ترتكز على الحاضرين فقط، وهو التّشبيه الذي استعمله ربّ العزة ”تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ“، إذاك والله أعلم تكون الملائكة المكلّفة بقبض النّفس حاضرة في المكان ويراهم بعيني جسمه وعيني نفسه ويترتّب عن ذلك الفزع أو الدّهشة أو الارتباك أو الاطمئنان، حسب حاله وحال أعماله، وتكون صور الملائكة كما قال رسول الله بيض الوجوه أو سود الوجوه حسب المحتضر أمؤمن هو أم كافر، و في هذه الحالة الأخيرة يبدأ نوعٌ من العذاب في حينه، يقول تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) الأنفال، وعذاب الحريق ربّما والله أعلم قبل عذاب النار، لأنّ الأمر متعلق بحال لا زال المحتضر معها من الأحياء في مفهومنا، وقد حُكي عن محتضرين يصرخون أنّ النار مشتعلة فيهم، فهي نوع من الحمى تفوق الحمّى العادية التي قال عنها رسول الله: «الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ فَأَبْرِدُوهَا بِالْمَاءِ» فتستمرّ الحال بشيء من العذاب أو شيء من الابتلاء بالنسبة للمؤمنين قد يطول أو يقصر فكلّ شيء عنده بمقدار، إلى إن تخرج النّفس فتصعد بها الملائكة إلى السّماء إن كانت مؤمنة وتردّ دون أن تفتّح لها أبواب السّماء إن كانت كافرة، ( نقصد بالسّماء السموات العلا وليس السّماء الدّنيا) مصداقاً لقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) الأعراف، والدليل أن الجنّة المقصودة هي الجنّة الموجودة حالياً وليس بعد القيامة الكبرى من السيّاق: قَالَ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِن لاَّ تَعْلَمُونَ (38) الأعراف.
هذا دخول بالتتالي سبق من سبق وسيلتحق من لحق، أما في القيامة الكبرى يقول ربّ العالمين: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) الزمر، وهذا يكون في يوم الفصل: يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) النبأ، فبعد الحساب وكل الأهوال تنقسم تلك الأفواج زمراً إلى النار وزمراً إلى الجنّة والله أعلم.
بالرجوع إلى النّفس بعد إرجاعها علماً أن العروج إلى السّماء لا يستغرق وقتاً يذكر بالنسبة لأوقاتنا، إذ يكفي المقارنة بالوقت الذي استغرق رسول الله في الإسراء والعروج، بعد ذلك تعاد إلى جوار بدنها، فترى وتسمع كلّ ما يدور حولها، بدنها الملقى أي الشّخص الذي هو نفسه، وبكاء الأهل عليه؛ يخاطبهم فلا يردّون، في حيرته يتألم مما يشاهد، جاء في صحيح البخاري[255] عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمَّا أُصِيبَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَعَلَ صُهَيْبٌ يَقُولُ: وَاأَخَاهُ، فَقَالَ عُمَرُ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «إِنَّ المَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الحَيِّ». هكذا تعيش النّفس المتوفّاة كل الأحوال التي يصنع ببدنها الهالك؛ إلى أن يوضع في القبر، ويكون ارتباط الهالك بالحياة الدنيا هو نفس الارتباط الذي لدى النّفس ببدنها، فيصعب أن تنفصل عنه، وعكس ذلك يحكى عن بعض الصالحين أن هناك من يشترك في الصلاة على جنازته وهو راضٍ بحاله الجديد الذي هو أحسن مما كان عليه.
عذاب القبر
وَجد موضوع عذاب القبر اهتماماً من المسلمين ويستعمله رجال الدّين والدّعاة بشكل مفرط وتصوير مادّي غير واقعي، عذاب القبر حقّ ولكن عذاب النّار كذلك حقّ، وأنواع العذاب المختلفة التي أُخبرنا بها مثل التي وردت في رؤيا رسول الله، ورؤيا الأنبياء حقّ: عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ[256]، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا صَلَّى صَلاَةً أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَالَ: ”مَنْ رَأَى مِنْكُمُ اللَّيْلَةَ رُؤْيَا؟» قَالَ: فَإِنْ رَأَى أَحَدٌ قَصَّهَا، فَيَقُولُ: «مَا شَاءَ اللَّهُ» فَسَأَلَنَا يَوْمًا فَقَالَ: «هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رُؤْيَا؟» قُلْنَا: لاَ، قَالَ: «لَكِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي فَأَخَذَا بِيَدِي، فَأَخْرَجَانِي إِلَى الأَرْضِ المُقَدَّسَةِ، فَإِذَا رَجُلٌ جَالِسٌ، وَرَجُلٌ قَائِمٌ، بِيَدِهِ كَلُّوبٌ مِنْ حَدِيدٍ» قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ مُوسَى:" إِنَّهُ يُدْخِلُ ذَلِكَ الكَلُّوبَ فِي شِدْقِهِ حَتَّى يَبْلُغَ قَفَاهُ، ثُمَّ يَفْعَلُ بِشِدْقِهِ الآخَرِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَيَلْتَئِمُ شِدْقُهُ هَذَا، فَيَعُودُ فَيَصْنَعُ مِثْلَهُ، قُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالاَ: انْطَلِقْ، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُضْطَجِعٍ عَلَى قَفَاهُ وَرَجُلٌ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِهِ بِفِهْرٍ -أَوْ صَخْرَةٍ -فَيَشْدَخُ بِهِ رَأْسَهُ، فَإِذَا ضَرَبَهُ تَدَهْدَهَ الحَجَرُ، فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ لِيَأْخُذَهُ، فَلاَ يَرْجِعُ إِلَى هَذَا حَتَّى يَلْتَئِمَ رَأْسُهُ وَعَادَ رَأْسُهُ كَمَا هُوَ، فَعَادَ إِلَيْهِ، فَضَرَبَهُ، قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالاَ: انْطَلِقْ فَانْطَلَقْنَا إِلَى ثَقْبٍ مِثْلِ التَّنُّورِ، أَعْلاَهُ ضَيِّقٌ وَأَسْفَلُهُ وَاسِعٌ يَتَوَقَّدُ تَحْتَهُ نَارًا، فَإِذَا اقْتَرَبَ ارْتَفَعُوا حَتَّى كَادَ أَنْ يَخْرُجُوا، فَإِذَا خَمَدَتْ رَجَعُوا فِيهَا، وَفِيهَا رِجَالٌ وَنِسَاءٌ عُرَاةٌ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالاَ: انْطَلِقْ، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى نَهَرٍ مِنْ دَمٍ فِيهِ رَجُلٌ قَائِمٌ عَلَى وَسَطِ النَّهَرِ، قَالَ يَزِيدُ، وَوَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ: عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، وَعَلَى شَطِّ النَّهَرِ رَجُلٌ بَيْنَ يَدَيْهِ حِجَارَةٌ، فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ الَّذِي فِي النَّهَرِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ رَمَى الرَّجُلُ بِحَجَرٍ فِي فِيهِ، فَرَدَّهُ حَيْثُ كَانَ، فَجَعَلَ كُلَّمَا جَاءَ لِيَخْرُجَ رَمَى فِي فِيهِ بِحَجَرٍ، فَيَرْجِعُ كَمَا كَانَ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالاَ: انْطَلِقْ، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ، فِيهَا شَجَرَةٌ عَظِيمَةٌ، وَفِي أَصْلِهَا شَيْخٌ وَصِبْيَانٌ، وَإِذَا رَجُلٌ قَرِيبٌ مِنَ الشَّجَرَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ نَارٌ يُوقِدُهَا، فَصَعِدَا بِي فِي الشَّجَرَةِ، وَأَدْخَلاَنِي دَارًا لَمْ أَرَ قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهَا، فِيهَا رِجَالٌ شُيُوخٌ وَشَبَابٌ، وَنِسَاءٌ، وَصِبْيَانٌ، ثُمَّ أَخْرَجَانِي مِنْهَا فَصَعِدَا بِي الشَّجَرَةَ، فَأَدْخَلاَنِي دَارًا هِيَ أَحْسَنُ وَأَفْضَلُ فِيهَا شُيُوخٌ، وَشَبَابٌ، قُلْتُ: طَوَّفْتُمَانِي اللَّيْلَةَ، فَأَخْبِرَانِي عَمَّا رَأَيْتُ، قَالاَ: نَعَمْ، أَمَّا الَّذِي رَأَيْتَهُ يُشَقُّ شِدْقُهُ، فَكَذَّابٌ يُحَدِّثُ بِالكَذْبَةِ، فَتُحْمَلُ عَنْهُ حَتَّى تَبْلُغَ الآفَاقَ، فَيُصْنَعُ بِهِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَالَّذِي رَأَيْتَهُ يُشْدَخُ رَأْسُهُ، فَرَجُلٌ عَلَّمَهُ اللَّهُ القُرْآنَ، فَنَامَ عَنْهُ بِاللَّيْلِ وَلَمْ يَعْمَلْ فِيهِ بِالنَّهَارِ، يُفْعَلُ بِهِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَالَّذِي رَأَيْتَهُ فِي الثَّقْبِ فَهُمُ الزُّنَاةُ، وَالَّذِي رَأَيْتَهُ فِي النَّهَرِ آكِلُوا الرِّبَا، وَالشَّيْخُ فِي أَصْلِ الشَّجَرَةِ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، وَالصِّبْيَانُ، حَوْلَهُ، فَأَوْلاَدُ النَّاسِ وَالَّذِي يُوقِدُ النَّارَ مَالِكٌ خَازِنُ النَّارِ، وَالدَّارُ الأُولَى الَّتِي دَخَلْتَ دَارُ عَامَّةِ المُؤْمِنِينَ، وَأَمَّا هَذِهِ الدَّارُ فَدَارُ الشُّهَدَاءِ، وَأَنَا جِبْرِيلُ، وَهَذَا مِيكَائِيلُ، فَارْفَعْ رَأْسَكَ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا فَوْقِي مِثْلُ السَّحَابِ، قَالاَ: ذَاكَ مَنْزِلُكَ، قُلْتُ: دَعَانِي أَدْخُلْ مَنْزِلِي، قَالاَ: إِنَّهُ بَقِيَ لَكَ عُمُرٌ لَمْ تَسْتَكْمِلْهُ فَلَوِ اسْتَكْمَلْتَ أَتَيْتَ مَنْزِلَكَ“. فكلّ هذه الأنواع من العذاب لا يمكن تصويرها تصويرا مادّيا صرفا، وأنها بالضرورة يجب أن تقع على البدن، لأننا نعلم كأحياء أنّ البدن لا يتألّم بعد خروج النّفس، فبالمخدّر يمكن تقطيع الجسد دون رد فعل من هذا يذكر، فكلّها مشاهد باطنية وليست ظاهرية، دون أن ننسي أنّ حقيقة الباطن أشدّ واقعية من حقيقة الظّاهر.
فما حقيقة عذاب القبر إذاً؟ عذاب القبر عذاب وهو أخف من عذاب النّار، وأنه غير واقع بكلّ الناس لزاما، كما قال تعالى على لسان موسى صلّ الله عليه وسلّم: إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) طه. وقال رسول الله ﷺ: "من قَتَلَهُ بَطْنُهُ لَمْ يُعَذَّبْ فِي قَبْرِهِ"[257]، فالأمر متعلّق إذاً بمن حقّ عليه العذاب من المسلمين كما جاء في الحديث: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا[258]، مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَبْرَيْنِ فَقَالَ: «إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ مِنْ كَبِيرٍ» ثُمَّ قَالَ: «بَلَى أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ يَسْعَى بِالنَّمِيمَةِ، وَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لاَ يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ» قَالَ: ثُمَّ أَخَذَ عُودًا رَطْبًا، فَكَسَرَهُ بِاثْنَتَيْنِ، ثُمَّ غَرَزَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى قَبْرٍ، ثُمَّ قَالَ: «لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا» ومن غير المسلمين كما جاء في حديث آخر: عَنْ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ[259]: خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ وَجَبَتِ الشَّمْسُ، فَسَمِعَ صَوْتًا فَقَالَ: «يَهُودُ تُعَذَّبُ فِي قُبُورِهَا»، أمّا محاولة تفسير كل الظواهر الباطنية بعودة الروح إلى البدن في السّؤال وفي القبر وفي السلام على أهل القبور تولّد التّشكك عند المسلمين أكثر من أن تؤدّي بهم إلى اليقين، وعلى من يتشبث بالنصوص الأخذ بعين الاعتبار الخلط القائم في التراث بين النّفس والروح ونتائجه غير المحمودة، كما لا يجب الخلط بين السؤال وبين عذاب القبر، فالسّؤال حقّ كما قال تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) الزخرف، وقال رسوله كما أورد البخاري[260]: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ حَدَّثَهُمْ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: ”إِنَّ العَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ، وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ، أَتَاهُ مَلَكَانِ فَيُقْعِدَانِهِ، فَيَقُولاَنِ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَّا المُؤْمِنُ، فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، فَيُقَالُ لَهُ: انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنَ الجَنَّةِ، فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا - قَالَ قَتَادَةُ: وَذُكِرَ لَنَا: أَنَّهُ يُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى حَدِيثِ أَنَسٍ - قَال: وَأَمَّا المُنَافِقُ وَالكَافِرُ فَيُقَالُ لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَيَقُولُ: لاَ أَدْرِي كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ، فَيُقَالُ: لاَ دَرَيْتَ وَلاَ تَلَيْتَ، وَيُضْرَبُ بِمَطَارِقَ مِنْ حَدِيدٍ ضَرْبَةً، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ غَيْرَ الثَّقَلَيْنِ“. فالسّؤال قائم سواء في هذه الحالة العامة من الموت أو في باقي الأحوال الخاصة لأن السّؤال هو ما يقابل الحساب في القيامة الكبرى، ولن يعذّب أو ينعّم أحد قبل السؤال والله أعلم، ورغم يُسر السؤال ورغم الوعي الذي تكون عليه النّفس الذي هو أكبر من وعينا الحالي فإنّ جلل المشهد قد يسبّب الارتباك، وقد فسّر رسول الله الآية: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاء (27) إبراهيم ، بأنه تثبيت عند الحساب، وممّا جاء في صحيح ابن حبّان عن سؤال القبر: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، ذَكَرَ فَتَّانَيِ الْقَبْرِ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: أَتُرَدُّ عَلَيْنَا عُقُولُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: «نَعَمْ، كَهَيْئَتِكُمُ الْيَوْمَ» قَالَ: فَبِفِيهِ الْحَجَر.
وقد سبق أن فصّل هذا أبو حامد الغزالي في الإحياء حيث يقول[261]: فأمثال هذه الأخبار لها ظواهر صحيحة وأسرار خفية ولكنها عند أرباب البصائر واضحة فمن لم تنكشف له حقائقها فلا ينبغي أن ينكر ظواهرها بل أقل درجات الإيمان التصديق والتسليم فإن قلت فنحن نشاهد الكافر في قبره مدة ونراقبه ولا نشاهد شيئا من ذلك فما وجه التصديق على خلاف المشاهدة فأعلم أن لك ثلاث مقامات في التصديق بأمثال هذا إحداهما وهو الأظهر والأصح والأسلم أن تصدق بأنها موجودة وهي تلدغ الميت ولكنك لا تشاهد ذلك فإن هذه العين لا تصلح لمشاهدة الأمور الملكوتية وكل ما يتعلق بالآخرة فهو من علم الملكوت أما ترى الصحابة رضي الله عنهم كيف كانوا يؤمنون بنزول جبريل وما كانوا يشاهدونه ويؤمنون بأنه عليه السلام يشاهده فإن كنت لا تؤمن بهذا فتصحيح أصل الإيمان بالملائكة والوحي أهم عليك وإن كنت آمنت به وجوزت أن يشاهد النبي مالا تشاهده الأمة فكيف لا تجوز هذا في الميت وكما أن الملك لا يشبه الآدميين والحيوانات فالحيات والعقارب التي تلدغ في القبر ليست من جنس حيات عالمنا بل هي جنس آخر وتدرك بحاسة أخرى.
المقام الثاني أن تتذكر أمر النائم وأنه قد يرى في نومه حية تلدغه وهو يتألم بذلك حتى تراه يصبح في نومه ويعرق جبينه وقد ينزعج من مكانه كل ذلك يدركه من نفسه ويتأذى به كما يتأذى اليقظان وهو يشاهده وأنت ترى ظاهره ساكنا ولا ترى حواليه حية والحية موجودة في حقه والعذاب حاصل ولكنه في حقك غير مشاهد وإذا كان العذاب في ألم اللدغ فلا فرق بين حية تتخيل أو تشاهد.
المقام الثالث أنك تعلم أن الحية بنفسها لا تؤلم بل الذي يلقاك منها وهو السم ثم السم ليس هو الألم بل عذابك في الأثر الذي يحصل فيك من السم فلو حصل مثل ذلك الأثر من غير سم لكان العذاب قد توفر وكان لا يمكن تعريف ذلك النوع من العذاب إلا بأن يضاف إلى السبب الذي يفضي إليه في العادة فإنه لو خلق في الإنسان لذة الوقاع مثلا من غير مباشرة صورة الوقاع لم يمكن تعريفها إلا بالإضافة إليه لتكون الإضافة للتعريف بالسبب وتكون ثمرة السبب حاصلة وإن لم تحصل صورة السبب فالسبب يراد لثمرته لا لذاته، انتهى.
أكثر من هذا، كثير من المسلمين يشكّكون في وقائع ثابتة في الدّين كالإسراء والمعراج، غير مكترثين بما سمّي به أبو بكر الصّديق صدّيقا، ولا بما ورد في الأحاديث المفصّلة للموضوع كشقّ الصّدر وركوب البراق وكثير من الجزئيات المبيّنة لهذه الحقيقة المطلقة، فلو كان الأمر حلماً لقاله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الموصوف من طرف عرب الجاهلية بالصّادق الأمين، أم أنّ تصديق معاوية بن أبي سفيان أولى؟ كما أورد الكثير ومنهم الطّبري[262]: عن يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الْأَخْنَسِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ، كَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ مَسْرَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كَانَتْ رُؤْيَا مِنَ اللَّهِ صَادِقَةً.
المتمسّك بالكتاب و السّنة لا يحتاج لفهم السّلف في أمور الدّين حتّى يحسن إسلامه، وأنّ كل اجتهادات المتقدّمين يجب اعتبارها للاستئناس لا غير، ومن حاجّك بقول فلان أو علاّن عوض قال الله وقال رسوله فهو من دعاة التّفرقة في الدّين، ويعلم الله بعد ذلك القصد والغاية، يقول محمد رشيد بن علي القلموني الحسيني (المتوفى: 1354هـ) في تفسير المنار: إنّ المسلمين تَبِعَ جَمَاهِيرُهُمْ سَنَنَ مَنْ قَبْلَهُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ وَأَضَاعُوا حُجَّةَ دِينِهِمْ بِتَقْلِيدِ فَلَانٍ وَعِلَّانٍ، وَعَكَسُوا الْقَاعِدَةَ الْمَأْثُورَةَ عَنْ سَلَفِهِمْ وَهِيَ "اعْرِفِ الرِّجَالَ بِالْحَقِّ لَا الْحَقَّ بِالرِّجَالِ" وَلَوْلَا حِفْظُ اللهِ جَلَّ وَعَلَا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَتَوْفِيقُهُ سَلَفَ الْأُمَّةِ لِلْعِنَايَةِ بِتَدْوِينِ سُنَّةِ الْمُصْطَفَى ﷺ وَأَخْذُ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ بِهَدْيِهِمَا فِي كُلِّ زَمَانٍ، لَضَاعَ مِنَ الْوُجُودِ هَذَا الْإِسْلَامُ كَمَا ضَاعَتْ مَنْ قَبْلِهِ سَائِرُ الْأَدْيَانِ، وَلَمْ يُغْنِ عَنْ ذَلِكَ وُجُودُ الْأُلُوفِ الْمُؤَلَّفَةِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ وَكُتُبِ الْكَلَامِ. انتهى.
العيش في القبر
العيش مصطلح استعمل في الميتة الأولى وفي الحياة الأولى والآن في الميتة الثانية، وأقصد به في كل الأحوال كائناً يُرزق، فلا عيش لمن لا يرزق، ترى هل يوجد عيشٌ في القبر؟ كما هو الحال فيما سلف لا بُدّ من التّعرّف على ماذا يوجد في القبر، أكيد أنّه يوجد بدنٌ في طريقه إلى الفناء فهو ميّت ولا عيش له، وقد توجد نفس بعد وفاتها كما سبق لا تريد أن تفارق بدنها سواء بإرادتها أو مجبرةٌ على ذلك، فنقول تعيش في المستودع وذلك موتٌ لها؛ ولكنها في هذه الموتة الثانية تعي كل شيء وتحسّ بكل شيء، وترزق كما كان الحال في الموتة الأولى، وإن كنّا لا نعرف بالضّبط نوعية هذا الرّزق، فقد سبق ذكر تكفّل الملك الحقّ بالرّزق لكل دابة سواء في المستودع أو المستقر ، أكيد لن يكون رزقاً حسناً لأنّ الأمر يتعلّق بالعذاب، إذ نعلم من الوحي عن فئة أخرى تعذّب في النّار وأنّ رزقهم من شجر الزّقوم يقول تعالى: لآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ (52) الواقعة لتبسيط تصوّر النّفس والبدن نقول أمامنا كائنين لهما نفس الصّورة أحدهما مادّي كثيف والآخر أثيري لطيف، أحدهم يسمع ويرى ويعقل وهي النّفس؛ والآخر يسمع ولا يرى ولا يعقل وهو البدن، والدّليل على هذا حالة الإنسان وهو نائم أو في غيبوبة، السؤال هل من في القبور سيظلون في هذا الشّكل من العذاب إلى يوم البعث في القيامة الكبرى؟، لا يمكن الجواب لأنّ الأمر قد يتعلّق بفتنة أو بلاء أو عقاب، أمّا بالنّسبة للنّار وهو عذاب أشد يقول ربّ العزّة بالنسبة للأشقياء: أَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ (107) ونفس الشيء بالنسبة للسّعداء يقول تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) هود، والدّليل أنّ هذا الأمر لا يتعلّق بالقيامة الكبرى قوله تعالى: وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ، وهو أجل الإنسان المكتوب والمعلوم عند من شاء الله من خلقه كالملاك الذي كتب رزقه وأجله، أمّا أجل السماوات والأرض فهو أجل مسمّى عنده وفق ما سبق.
الرابط بين النّفس والبدن
الرابط القائم بين النّفس والبدن قبل الموت يبقى قائماً بعد الموت وهو السّمع كما تبيّن، فهل الجثّة بعد التّحلل تسمع؟ نقول نعم، والله أعلم، فالشّخص البشري عندما كان مركّب من بدن ونفس كان لبدنه بصرٌ خاص به وكان له قلب خاص به، لكن لم يكن له سمع خاص به، بل كان سمعه مشترك مع سمع نفسه، لذا قال سبحانه وتعالى: قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ (23) الملك، فَعَدّدَ الأبصار وعَدّدَ الأفئدة لسمع واحد، وبغير هذا الفهم لا يمكن فهم كثير من أخبار الوحي والله أعلم، مثل قوله ﷺ: إِنَّمَا القَبْرُ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الجَنَّةِ أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ، معلوم أن الحديث ضعّفه أكثر من واحد، إلا أنّ أحاديث أخرى تؤكّده مثل حديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ[263]: عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «الْمُؤْمِنُ فِي قَبْرِهِ فِي رَوْضَةٍ، وَيُرَحَّبُ لَهُ قَبْرُهُ سَبْعِينَ ذِرَاعًا، وَيُنَوَّرُ لَهُ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، أَتَرَوْنَ فِيمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ»: "فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا، وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى" طه: 124، قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا الْمَعِيشَةُ الضَّنْكُ؟»، قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «عَذَابُ الْكَافِرِ فِي قَبْرِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُ لَيُسَلَّطُ عَلَيْهِمْ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ تِنِّينًا، أَتَدْرُونَ مَا التِّنِّينُ؟»، قَالَ: «تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ حَيَّةً لِكُلِّ حَيَّةٍ سَبْعَةُ رُءُوسٍ يَنْفُخُونَ فِي جِسْمِهِ وَيَلْسَعُونَهُ، وَيَخْدِشُونَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ». إذا أضفنا لخاصية اشتراك السّمع بين النّفس والبدن خاصية قدرة النّفس الطّليقة أن تتواجد في أكثر من مكان في وقت واحد ما يعرف في الفيزياء الحديثة بالتّراكب الكمّي La superposition quantique، وهي خاصية أُثبتَ وجودها علميّاً بالنسبة للجسيمات الدّقيقة المادية حتّى الآن، من ذلك يمكن أن نفهم أن النبيّ ﷺ ليلة أسري به قال: رأيت موسي يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ، وعندما عرج إلى السّماء وجد موسى ﷺ في السماء السادسة، فإذا لم يكن الأمر هكذا كيف أُمرنا أن نسلّم على أصحاب القبور، ثمّ في تحية الصلاة كيف نسلّم على النبيّ وعلى عباد الله الصالحين، هل أننا نسلّم على من لا يسمع؟ وفي الحديث المشهور حسب البخاري وغيره، قال رسول الله: «مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ مِنْهُمْ، وَلَكِنْ لاَ يُجِيبُونَ»، ثمّ كيف نهينا عن الجلوس على القبور كما جاء في صحيح مسلم[264]: عَنْ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «لَا تُصَلُّوا إِلَى الْقُبُورِ، وَلَا تَجْلِسُوا عَلَيْهَا»، وفي حديث آخر عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لَأَنْ يَجْلِسَ أَحَدُكُمْ عَلَى جَمْرَةٍ فَتُحْرِقَ ثِيَابَهُ، فَتَخْلُصَ إِلَى جِلْدِهِ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى قَبْر» فكيف يعتقد البعض أنّ القبور ليست سوى كومة تراب لا علاقة لها بأصحابها مع كل ما جاءت به السّنة الشّريفة؟، وكيف يعتقدون أنّ القبور يجب أن تسوّى بالأرض ولا يكون لها أيّ معلم يميّزها،ألا يجب احترامها كما قال أبو العلاء المعرّي رغم عدم صفاء عقيدته الدّينية ونظرته التشاؤمية؟:
صاح هذي قبورنا تملأ الرّحب فأيـن القبور من عهد عاد
خفّف الوطء ما أظنّ أديــم الأرض إلا من هذه الأجساد
أمّا من يسأل كيف يسمع من لم يقبر بل أحرق بدنه ونثر رمادا في البحار أو غير ذلك، فأراه عذابا إضافيا والله أعلم اختاره الشّخص لنفسه إذ أنّه سيسمع ضجيجا لا يطاق من كلّ المساحة التي تناثر بها الرّماد، فكما للشّخص في بدنه عوالم، فإنّ لكل خلية منه بها عوالم كذلك، ومن يقدر أن يستبعد أن يكون لكلّ ذرّة من خليته عوالم أيضا، فخلق الله ما عرفنا عنه لا يعني الإحاطة ولا أنّه منتهى العلم، لكن من المؤكّد أنّه يوجد سرّ مكنون يختصّ به خلق الله من المجرّة إلى الذّرة بحيث أي جزء تختاره تجد فيه صفاة الكلّ، كأنّه تحدّي من العزيز الحكيم ولسان الحال: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ (11) لقمان.
العيش بعد الموت
كل من يموت لا يخلو أن يكون من المقرّبين أو من أصحاب اليمين أو أصحاب الشّمال، كما بيّن ربّ العزّة في سورة الواقعة، فبالنّسبة لأصحاب الشمال هم مشتركون في العذاب، إلا أن العذاب قد لا يكون واحداً فمن العذاب ما وصفه ربّ العالمين بالأليم ومنه المهين ومنه المقيم ومنه العظيم ومنه الشّديد إلى غير ذلك، أما في القيامة الكبرى فأشد من كل ذلك، في هذا يقول تعالى: وَمَا يَنظُرُ هَؤُلاء إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ (15) وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16) ص، حسب فهمي والله أعلم ”هؤلاء“ في السياق القرآني هم قوم نوح وقوم عاد وقوم فرعون وقوم ثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة، ”عجّل لنا قطّنا قبل يوم الحساب“ أي عجّل لنا العذاب قبل العذاب الذي سيلي يوم الحساب في القيامة الكبرى، والدّليل والله أعلم قوله تعالى: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46) غافر، وليس معنى هذا أنهم لا يعذّبون الآن ففي الآية التي قبلها ”وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ“، فكل أهل القيامة الآنية سواء من أهل الجنّة أو أهل النار تعرض عليهم الجنّة الأخرى أو النار الأخرى وفي هذا يقول رسول الله صلّ الله عليه وسلّم: كما أورد البخاري[265] عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمْ، فَإِنَّهُ يُعْرَضُ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالعَشِيِّ، فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، فَمِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ» ومن شأن هذا العرض أن يزيد المنعّمين نعيماً وأن يزيد المعذّبين عذاباً، أما بالنسبة للسابقين؛ فهم في نعيم في الجنان يرزقون وفي كتاب الله مشاهد تبيانيه تغني عن وصفنا القاصر، إلا أنه ليس عيشاً واحداً، فالجنان درجات كذلك، كما قال تعالى: انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (21) الإسراء. أما الفئة الثالثة وهم أهل اليمين فيبدو أنّ حالهم مسكوتٌ عنه، إلا أنّ سورة الأعراف تصوّر والله أعلم مشاهد من حالهم: وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) الأعراف. فالأعراف حسب اللغة وحسب ما قاله الطّبري فإن ”الأعراف“ جمع، واحدها ”عُرْف“، وكل مرتفع من الأرض عند العرب فهو ”عُرْف“ فالصورة لسلسلة جبال بين الجنّة والنار لا نقول أنهم يعذّبون بل نقول أنهم في شيء من البلاء لأن البلاء يكون في الحياة كما يكون في الموت كما سبق التبيان، وعن رسول الله في تعوّذه من فتنة الممات جاء في البخاري[266] عن أبي هريرة: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَمِنْ عَذَابِ النَّارِ، وَمِنْ فِتْنَةِ المَحْيَا وَالمَمَاتِ، وَمِنْ فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَّجَّالِ»، ففي المحيا فتنة وفي الممات فتنة والله أعلم، غير أنّه باستقراء كتاب الله يتبيّن أنهم قبل أن تقوم ساعة الأرض وتقع الواقعة سيؤولون إلى الجنّة وأنّهم في نعيم، كأن الأمر يتعلّق بالتّكفير عن سوء الأعمال بنسب مختلفة ومُددٍ مختلفة والله أعلم .
مقارنة بين أنواع العيش
استعرضنا العيش في الأصلاب والأرحام، ثمّ العيش في الحياة الدّنيا، وبعده العيش في الآخرة الآنية، ومعلوم أنّ هذه الأحوال تتواجد في وقتٍ واحد، ففي أيّ زمن نعتبره مرجعاً يوجد من يعيش في إحدى الحالات الثّلاث، من هذا، فالتّفكير في البدء والمصير بشكل ظروف متلاحقة كأنها تسير في خطّ مستقيم متتالي، تصوّرٌ خاطئ، فجميع حركات الكون المشاهدة والمدركة ليست كذلك، فنحن إذاً أمام حركة أطوار وليست حركة تطوّر، فالارتقاء والاندحار والصّعود والهبوط حركات لا تختصّ بطور دون غيره، فالخلق بعد الظّلمة الأولى كان في أعلى مرتبة له، قال تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) التّين.
ثمّ إذا سلّمنا أنّ تعاقب الموت والحياة كتعاقب الليل والنّهار لابدّ له من نهاية سواء باستنتاج علمي أو إيماني، يجيب ربُّ العزّة مبيّنا ذلك: يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104) الأنبياء. فكل طور إذا سيعقبه طور آخر، ولسنا مخوّلين لوضع نهاية لهذه الأطوار في أمر خصّ به الملك الحقّ نفسه، الذي نعلم أنّ انطلاقتنا كانت مع بداية خلق السماوات والأرض وعشنا بالتّتالي الموتة الأولى، عيشا داخل خلية واحدة أو أدنى، أشبه بعيش مخلوقات كالفيروسات أو خلق أصغر من ذلك لم نكتشفه بعد، قد لا نتذكّر حال ذلك العيش، غير أنّ النّسيان لا يعني أنّه ذهب بدون رجعة، غالباً أننا سنتذكّره كاملا في الموتة الثانية والله أعلم، والعيش في أية مرحلة يتحدّد بالرزق وهو مكفول، والوعي وهو متغير يحدّد جزء منه محيط البيئة والجزء الآخر ذاتي، والمعرفة وهي منحة ربّانية تزيد وتنقص بالإيمان، والعلم وهو ما نزل به الوحي، والدّليل على أنّ ما اكتسب الإنسان في الحياة الدّنيا التي هي دار التّلقّي من علمٍ أو معرفةٍ يتميّز به في الآخرة قوله تبارك وتعالى: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ (56) الروم، منطقيٌّ أن يسعى المرء إلى استبدال العيش من مكان ضيّق إلى مكان فسيح، وهذا ما حدث بين الموتة الأولى والحياة الأولى، ويكفي العبرة من الحيوانات المنويّة في تسابقها المستميت من أجل الهدف والغاية التي خرجت من أجله، غير أن هذا السّعي يسكن بين الحياة الأولى والميتة الثانية رغم أنّه خروجٌ من ضيّق لفسيح، ألأنّ المتردّد أدرك من معرفته المخزونة في عقله الباطنيّ كما يقول علماء النّفس أنّه منتقلٌ من فسيح لضيّق؟، ربّما أنّه مُصيب، لكن أليس تغيير الاتجاه بيده وبمقدوره كما يقول تعالى: إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً (19) المزمّل، العيش في ضيق أو في فسحة أمر نسبي؛ فقد يسجن الشّخص فيحسّ بالضّيق وقد يجبر على الإقامة في منزله وقد يحرم من جواز سفره، فيكون له نفس الشّعور، لذا يقول رسول الله: «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ، وَجَنَّةُ الْكَافِرِ»[267]. النّفس في الموتة الأولى كان لها ذات وذاتها هي مجموع ما لها من مميّزات وصفات، ولمّا خرجت للدّنيا كان لها جسم ضمن ذاتها، وبعد الموت تترك جسمها وتحتفظ بذاتها، فالذات إذاً شمولية الصّفاة لذلك علماء الإسلام ينفون عن الله جلّ جلاله الجسمية ولا ينفون الذّاتية، تنزّه سبحانه وتعالى عن كل ظنّ، فأن يكون للنّفس بعد الموت ذات ليس بدعة ولا هي أوّل مخلوق يتميّز بذات غير مادّية فقد سبقه لذلك الملائكة والجان، فإذا قال قائل أنّ من له ذات مادية خيرٌ ممّن ذاته غير مادية؟ نقول لا، لأن من له ذات غير مادية يستطيع أن يظهر بذات مادية والعكس هو المتعذّر، والدّليل على هذا ما يقول البعض بعد الموت: حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) المؤمنون، فلو أنّ الرجوع غير ممكن ومستحيل لما قالوها، ثمّ الكل يعلم نزول عيسى عليه الصّلاة والسّلام وهو الآن في حالة وفاة ولن يحتاج لولادة جديدة حتّى ينزل، تبعاً للفهم الذي يعتقد أصحاب فكرة التّقمص، أما البرزخ فما هو إلا حفظٌ من جملة ما يحفظ به العزيز الحكيم السماوات والأرض ويدبّر الأمر بينهما لحكمة هو سبحانه وتعالى أعلم بها يمنع اختلاط خلق في مستوى بخلق آخر في مستوى مغاير، دون إغلاق لبعض منافذ الاتصال فوق برزخيه أو تحت برزخيه كما هو معلوم عند الشّامان والسّحرة والمشتغلين بالعلوم الباطنية، ثمّ الرّؤى عند المؤمنين اتصّال حقيقي واقعي كما جاء في صحيح البخاري: عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، قَالَ: «الرُّؤْيَا الحَسَنَةُ، مِنَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ، جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ»، فنحن نعيش على أرض يسكنها النّاس الذين نسمّيهم أحياء وكثير جدّا من الأموات الذين لم تفتّح لهم أبواب السّماء، إضافة إلى الجن والملائكة التي تتنزّل وغير ذلك ممّا لا يعلمه إلاّ الله كما يقول تعالى: أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاء وَأَمْوَاتًا (26) المرسلات، في اللسان كَفَتَ الشيءَ يَكْفِتُه كَفْتاً، وكَفَّتَه: ضَمَّه وقَبَضَه، أي اخطلات غير مدرك.
قيام الساعة
سبق الذّكر أنّ لكلّ ساعته، فكلّ منّا له ساعته الخاصة كما أورد مسلم في صحيحه[268]: عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: أنّ رجلاً سأل البيّ صلّ الله عليه وسلّم متى تقوم الساعة؟ قال فسكت رسول الله هنيهة ثمّ نظر إلى غُلَامٌ بين يديه من أزدِ شَنوءَةً، فَقَالَ: «إِنْ عمّر هَذَا، فَلَنْ يُدْرِكَهُ الْهَرَمُ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ» وكذلك في حديث عن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ، يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ، يَقُولُ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِشَهْرٍ: «تَسْأَلُونِي عَنِ السَّاعَةِ؟، وَإِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللهِ، وَأُقْسِمُ بِاللهِ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ تَأْتِي عَلَيْهَا مِائَةُ سَنَةٍ»، جاء في شرح السّيوطي: أَي سَاعَة المخاطبين بِأَن يموتوا انتهى، وفي كتاب الله ما يدلّ على هذا المعنى والله أعلم: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ (31) الأنعام، كذلك الأرض التي نحن عليها لها ساعتها، ولدينا كمّ وافر من أحاديث رسول الله ﷺ تفصّل أشراطها وأحوالها، وفي كتاب الله: ياأيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) الحج.
غير أنّه لا يجب الخلط بين الصّيحة أو الزّلزلة لقيامة الأرض التي يموت فيها الناس فتهلك أبدانهم ولكن تبقى نفوسهم منتبهة كما أسلفنا، وبين النّفخ في الصّور لقيامة السماوات والأرض كما قال تعالى: وَمَا يَنظُرُ هَؤُلاء إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ (15) النّازعات، والتي ليس لها فواق إلى أن يعيد الله الواحد الأحد الخلق كما بدأه من قبل، وقد بيّنا سابقاً ما المقصود بهؤلاء وطلبهم تعجيل العذاب قبل يوم الحساب، فإذا كانت ساعة الأرض سيعيشها كثير من الناس منهم الحي على ظهرها ومنهم الذين يعذّبون في القبور أو في النّار أي الذين لم تفتّح لهم أبواب السماء، كما قال تعالى: القَارِعَة (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ (5) القارعة، فالتّشبيه بالفراش المبثوث لا ينطبق على الناس بأبدانهم، بينما نجد تشبيه قرآني آخر ينطبق علي النّاس بعد النّفخة الثانية من القيامة الكبرى في قوله تعالى: خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ (7) القمر، أمّا قيامة السماوات والأرض سيعيشها الجميع إنس وجن وملائكة وما لا نعلم من سكّان السماوات والأرض قال تعالى: يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87) النّمل، الدّليل من السّنة على خشية الملائكة من هذا اليوم ما أورده الطّبراني في معجمه الكبير[269]: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: ”بَيْنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ وَمَعَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُنَاجِيهِ إِذِ انْشَقَّ أُفُقُ السَّمَاءِ فَأَخَذَ جِبْرِيلُ يَدْنُو مِنَ الْأَرْضِ، وَيَتَمَايَلُ فَإِذَا مَلَكٌ قَدْ مَثُلَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَخْتَارَ بَيْنَ نَبِيٍّ عَبْدٍ، وَمَلِكٍ نَبِيٍّ قَالَ: " فَأَشَارَ جِبْرِيلُ إِلَيَّ بِيَدِهِ أَنْ تَوَاضَعَ فَعَرَفْتُ أَنَّهُ لِي نَاصِحٌ فَقُلْتُ: عَبْدٌ نَبِيٌّ فَعَرَجَ ذَلِكَ الْمَلَكُ إِلَى السَّمَاءِ فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ قَدْ كُنْتُ أَرَدْتُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْ هَذَا فَرَأَيْتُ مِنْ حَالِكَ مَا شَغَلَنِي عَنِ الْمَسْأَلَةِ، فَمَنْ هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذَا إِسْرَافِيلُ خَلَقَهُ اللهُ يَوْمَ خَلَقَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ صافًّا قَدَمَيْهِ لَا يَرْفَعُ طَرْفَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّبِّ سَبْعُونَ نُورًا مَا مِنْهَا مِنْ نُورٍ يَكَادُ يَدْنُو مِنْهُ إِلَّا احْتَرَقَ، بَيْنَ يَدَيْهِ لَوْحٌ فَإِذَا أَذِنَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي شَيْءٍ فِي السَّمَاءِ أَوْ فِي الْأَرْضِ ارْتَفَعَ ذَلِكَ الْوَحْيُ فَضَرَبَ جَبْهَتَهُ فَيَنْظُرُ فَإِنْ كَانَ مِنْ عَمَلِي أَمَرَنِي بِهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ عَمِلِ مِيكَائِيلَ أَمَرَهُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ عَمِلِ مَلَكِ الْمَوْتِ أَمَرَهُ بِهِ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ، وَعَلَى أَيِّ شَيْءٍ أَنْتَ؟ قَالَ: عَلَى الرِّيحِ وَالْجُنُودِ قُلْتُ: عَلَى أَيِّ شَيْءٍ مِيكَائِيلُ؟ قَالَ: عَلَى النَّبَاتِ وَالْقَطْرِ قُلْتُ: عَلَى أَيِّ شَيْءٍ مَلَكُ الْمَوْتِ؟ قَالَ: عَلَى قَبْضِ الْأَنْفُسِ وَمَا ظَنَنْتُ أَنَّهُ نَزَلَ إِلَّا لَقِيَامِ السَّاعَةِ وَمَا الَّذِي رَأَيْتَ مِنِّي إِلَّا خَوْفًا مِنْ قِيَامِ السَّاعَةِ “.
المشاهد المصوّرة في كتاب الله عن قيام السّاعة متوفّرة إلاّ أن الخلط يقع في التّعرّف عن من هي القيامة المعنية، والقاعدة التي يمكن الاستعانة بها هي، بعد قيامة الأفراد أو قيامة الأرض التي نحن عليها يكون الناس متفرّقين إلى ثلاث فئات بينما في القيامة الكبرى وما يليها من حشر وحساب يفصل بين النّاس إلى فرقتين، وأنّ الدخول للجنّة والنّار يكون مرة بالتتالي كما قال تعالى: قَالَ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِن لاَّ تَعْلَمُونَ (38) الأعراف، ويكون مرة أخرى دفعة واحدة كقوله تعالى: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) الزّمر، أو كما قال تعالى: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) مريم، والله أعلم. من نماذج ساعة الأرض في كتاب الله نأتي بما يلي: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانشَقَّتِ السَّمَاء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) الحاقة، يكون المشهد لقيام ساعة الأرض اعتماداً على تقسيم الناس الوارد في سورة الواقعة. كذلك، وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99) الكهف، المشهد بيّن لأنّ المراد بهم يأجوج ومأجوج. كذلك، فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً فَقَدْ جَاء أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18) محمد، وهذا بيّن إذ الأشراط التي قد جاءت القصد منها ساعة الأرض التي نحن عليها. ومن السّنة كما جاء عن رسول الله: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: ”لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَإِذَا طَلَعَتْ فَرَآهَا النَّاسُ آمَنُوا أَجْمَعُونَ، فَذَلِكَ حِين: (لاَ يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ، أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا) الأنعام: 158 وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ نَشَرَ الرَّجُلاَنِ ثَوْبَهُمَا بَيْنَهُمَا فَلاَ يَتَبَايَعَانِهِ، وَلاَ يَطْوِيَانِهِ، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدِ انْصَرَفَ الرَّجُلُ بِلَبَنِ لِقْحَتِهِ فَلاَ يَطْعَمُهُ، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَهُوَ يَلِيطُ حَوْضَهُ فَلاَ يَسْقِي فِيهِ، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ رَفَعَ أَحَدُكُمْ أُكْلَتَهُ إِلَى فِيهِ فَلاَ يَطْعَمُهَا “. لعلّ ما هو أهمّ من التّعرف على الساعة المقصودة في كتاب الله إلى من تعود، هو الخشية منها لأن ساعة الأرض تطال كل من على ظهر الأرض أو في أحشائها أو في سمائها من إنس وجان وحيوان ونبات حيّاً أو ميتا باستثناء من فتّحت لهم أبواب السّماء، والساعة الكبرى تطال جميع هؤلاء إضافة إلى سكّان السماوات ما علمنا وما لا نعلم، فالخشية لازمة للمؤمنين بالغيب وللموقنين على السواء، كما قال تعالى: الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) الأنبياء. فإذا كانت كل الكتب السماوية ذكّرت بالساعة فلأنّ الأمر لا يتعلّق بزمان ولا مكان بل بواقع مَعيش يعيشه كلّ النّاس إلاّ من استثنى الملك الحقّ.
زوال السماوات والأرض
السماوات والأرض كجسم هائل من حيث الكبر، مع ذلك يمكن تشبيهه بجسم الأنسان فيه خلايا تولد وخلايا تموت، لكن عندما تقوم ساعته لن يؤخّر لكون كواكب ونجوم لم تمت بعد أو أنّ هناك نجوم حديثة الولادة، فالساعة واحدة تأتي بغتة سواء ساعة الواحد من النّاس أو ساعة الأرض بمن فيها ومن عليها أو ساعة الكون بجملته، ثمّ أنّ مفهوم الفناء لا يعني العدم حسب الفهم النّمطي الذي في أذهاننا، بل تفكّك وتحلل على منوال المشاهد لما يحدث لأبداننا، فزوال الكون قد يشبه ذلك والله أعلم، والدليل عندي قوله تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) الزّمر، فلا التّقديرات ولا التّوقّعات تردّ أمراً من الله كان مفعولا، وكوننا لم نشهد خلق السماوات والأرض كما سبق، كذلك لن نشهد ما سيحدث بعد الصّعق من نفخة الصّور، قال تعالى: مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51) الكهف، فالأمر يتعلّق بإعادة للخلق وما كان لنا أن نجزم به لولا وعد ربّنا: يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104) الأنبياء. فمن شاء النّجاة والفرار من أبنية تتهاوى بالفناء الواحدة بعد الأخرى وهو أمر واقعي مدرك حتى في العلم الحديث، فعليه الفرار إلى الله العزيز الحكيم الذي أنشأ هذه الأبنية، لأنّه القادر على أن يسكنه أين شاء متى شاء دون أن تُؤذيه كل هذه الانهيارات والأهوال المصاحبة لها، كما قال تعالى: لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (103) الأنبياء، فلنتصوّر من لا تفتّح له أبواب السّماء فيكون حظّه أن يذوق كلّ هذه المهالك. رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ.
كتاب النّشور
النّشور هو حالٌ من الأحوال التي سيعيشها الإنسان في وجوده الأخرويّ ويتبيّن هذا من قوله تعالى: وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا (3) الفرقان، يقول البيضاوي[270]: ولا يملكون إماتة أحد وإحياءه أولاً وبعثه ثانياً ومن كان كذلك فبمعزل عن الأُلوهية لعرائه عن لوازمها واتصافه بما ينافيها، وفيه تنبيه على أن الإِله يجب أن يكون قادراً على البعث والجزاء. انتهى. أي أنّ النّشور حالة غير الموت وغير الحياة، فكلّ نفس ذاقت أو تذوق الموتة الأولى، كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) العنكبوت، غير أنّ منها من لن يذوق الموت بعد الموتة الأولى أبداً، لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) الدّخان، ومنها من لن يذوق الحياة إلا أيام قليلة مقارنةً بالمدى الزّمني منذ خلق الله السماوات والأرض إلى لحظة الصّعق الشّامل، قد يقول قائل أن الحظوظ غير متساوية سواء للأحياء أو للأموات لعدم اختيارنا الوقت الذي مكثنا فيه في الموتة الأولى؟؛ فقد سُئل مثل هذا السّؤال من أصحاب النّار في قوله تعالى: قَالَ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِن لاَّ تَعْلَمُونَ (38) الأعراف، فانسيابية الزّمن معقّدة في الدّنيا بالأحرى عند ربط الدّنيا بالآخرة، أمّا النّشور فهو حياة للجميع إلى أن يفصل الملك الحقّ بين النّاس فريقٌ في الجنّة وفريقٌ في السّعير.
حديث الصّور
حديث الصّور حديث مشهور أورده الطّبريّ[271] في تفسيره، بسند، حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن إسماعيل بن رافع، عمن ذكره، عن محمد بن كعب القرظي، عن أبي هريرة، وتبعه في ذلك بعض من المفسّرين. أما من كتب الحديث فقد أورده إسحاق بن راهويه في مسنده بسندٍ أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ الرُّوَاسِيُّ، حدثنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ رَافِعٍ الْمَدَنِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، ونقله البيهقيّ في كتاب البعث والنّشور[272]، وقد ضعّف هذا الحديث أكثر من واحد وقال عنه ابن كثير في تفسيره[273] هَذَا حَدِيثٌ مَشْهُورٌ وَهُوَ غَرِيبٌ جِدًّا، وَلِبَعْضِهِ شَوَاهِدُ فِي الْأَحَادِيثِ الْمُتَفَرِّقَةِ وفي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ نَكَارَةٌ. تَفَرَّدَ بِهِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ رَافِعٍ قَاصُّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ وَثَّقَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ ضَعَّفَهُ، وَنَصَّ عَلَى نَكَارَةِ حَدِيثِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ، كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَأَبِي حَاتِمٍ الرَّازِيِّ، وَعَمْرِو بْنِ عَلِيٍّ الفَلاس، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ فِيهِ: هُوَ مَتْرُوكٌ. وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: أَحَادِيثُهُ كُلُّهَا فِيهَا نَظَرٌ إِلَّا أَنَّهُ يَكْتُبُ حَدِيثَهُ فِي جُمْلَةِ الضُّعَفَاءِ. وَأَمَّا سِيَاقُهُ، فَغَرِيبٌ جِدًّا، وَيُقَالُ: إِنَّهُ جَمَعَهُ مِنْ أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ، وَجَعَلَهُ سِيَاقًا وَاحِدًا، فَأُنْكِرَ عَلَيْهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ. وَسَمِعْتُ شَيْخَنَا الْحَافِظَ أَبَا الْحَجَّاجِ الْمِزِّيَّ يَقُولُ: إِنَّهُ رَأَى لِلْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ مُصَنَّفًا قَدْ جَمَعَ فِيهِ كُلَّ الشَّوَاهِدِ لِبَعْضِ مُفْرَدَاتِ هَذَا الْحَدِيثِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ، انتهى. ونصّ الحديث هو التّالي:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: حدثنا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ قَالَ: ”إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمَّا فَرَغَ مِنْ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ خَلَقَ الصُّورَ، فَأَعْطَاهُ إِسْرَافِيلَ، فَهُوَ وَاضِعُهُ عَلَى فِيهِ شَاخِصٌ بِبَصَرِهِ إِلَى الْعَرْشِ يَنْتَظِرُ مَتَى يُؤْمَرُ» ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الصُّورُ؟ قَالَ: «الْقَرْنُ» ، قَالَ: قُلْتُ: كَيْفَ هُوَ؟ قَالَ: "عَظِيمٌ، وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ، إِنَّ عِظَمَ دَائِرَةٍ فِيهِ كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَيَنْفُخُ فِيهِ ثَلَاثَ نَفْخَاتٍ: الْأُولَى نَفْخَةُ الْفَزَعِ، وَالثَّانِيَةُ نَفْخَةُ الصَّعْقِ، وَالثَّالِثَةُ نَفْخَةُ الْقِيَامِ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، فَيَأْمُرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِسْرَافِيلَ بِالنَّفْخَةِ الْأُولَى فَيَقُولُ: انْفُخْ نَفْخَةَ الْفَزَعِ، فَيَنْفُخُ نَفْخَةَ الْفَزَعِ، فَيَفْزَعُ أَهْلُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ، فَيَأْمُرُهُ فَيَمُدُّهَا وَيُطِيلُهَا، وَلَا يَفْتُرُ، وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {مَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ}، فَيُسَيِّرُ اللَّهُ الْجِبَالَ، فَتَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ، فَتَكُونُ سَرَابًا، فَتَرُجُّ الْأَرْضَ بِأَهْلِهَا رَجًّا، فَتَكُونُ كَالسَّفِينَةِ الْمُوقِرَةِ فِي الْبَحْرِ تَضْرِبُهَا الرِّيَاحُ وَتَكْفِيهَا الرِّيَاحُ، أَوْ كَالْقِنْدِيلِ الْمُعَلَّقِ بِالْعَرْشِ تُرَجِّحُهُ الْأَرْوَاحُ، وَهِيَ الَّتِي يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ} النازعات (7)، فَتَمْتَدُّ الْأَرْضُ بِالنَّاسِ عَلَى ظَهْرِهَا، فَتَذْهَلُ الْمَرَاضِعُ، وَتَضَعُ الْحَوَامِلُ، وَيَشِيبُ الْوِلْدَانُ، وَتَطِيرُ الشَّيَاطِينُ هَارِبَةً مِنَ الْفَزَعِ، حَتَّى تَأْتِيَ الْأَقْطَارَ، فَتَلْقَاهَا الْمَلَائِكَةُ تَضْرِبُ وُجُوهَهَا، فَتَرْجِعُ فَتُوَلِّي النَّاسَ مُدْبِرِينَ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ، يُنَادِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَوْمَ التَّنَادِ} (غافر: 32)، بَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ تَصَدَّعَتِ الْأَرْضُ، فَانْصَدَعَتْ مِنْ قُطْرٍ إِلَى قُطْرٍ، فَرَأَوْا أَمْرًا عَظِيمًا لَمْ يَرَوْا مِثْلَهُ، وَأَخَذَهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْكَرْبُ وَالْهَوْلُ مَا اللَّهُ بِهِ عَلِيمٌ، ثُمَّ نَظَرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَإِذَا هِيَ كَالْمُهْلِ، ثُمَّ انْشَقَّتْ فَانْتَثَرَتْ نُجُومُهَا، فَانْخَسَفَتْ شَمْسُهَا وَقَمَرُهَا"، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «وَالْأَمْوَاتُ يَوْمَئِذٍ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ»، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَمَنِ اسْتَثْنَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ حَيْثُ قَالَ: {فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ}، قَالَ: " أُولَئِكَ هُمُ الشُّهَدَاءُ، فَإِنَّمَا يَصِلُ الْفَزَعُ إِلَى الْأَحْيَاءِ، وَهُمْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، وَقَاهُمُ اللَّهُ فَزَعَ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَأَمَّنَهُمْ، وَهُوَ عَذَابٌ يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى شِرَارِ خَلْقِهِ، وَالَّذِي يَقُولُ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} (الحج: 1)، إِلَى قَوْلِهِ: {وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} (الحج: 2) ، فَيَمْكُثُونَ فِي ذَلِكَ الْبَلَاءِ مَا شَاءَ اللَّهُ إِلَّا أَنَّهُ يُطَوَّلُ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ يَأْمُرُ اللَّهُ إِسْرَافِيلَ، فَيَنْفُخُ نَفْخَةَ الصَّعْقِ، فَيَصْعَقُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ، فَإِذَا خَمَدُوا جَاءَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى الْجَبَّارِ فَيَقُولُ: قَدْ مَاتَ أَهْلُ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شِئْتَ، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ أَعْلَمُ: مَنْ بَقِيَ؟ فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، بَقِيتَ أَنْتَ الْحَيُّ الَّذِي لَا تَمُوتُ، وَبَقِيَتْ حَمَلَةُ الْعَرْشِ، وَبَقِيَ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ، وَبَقِيَتُ أَنَا، فَيَقُولُ جَلَّ وَعَزَّ: فَيَمُوتُ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ، فَيُنْطِقُ اللَّهُ الْعَرْشَ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، يَمُوتُ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ، فَيَقُولُ: اسْكُتْ، إِنِّي كَتَبْتُ الْمَوْتَ عَلَى كُلِّ مَنْ تَحْتَ عَرْشِي، فَيَمُوتَانِ، ثُمَّ يَأْتِي مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى الْجَبَّارِ فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، قَدْ مَاتَ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ، فَيَقُولُ وَهُوَ أَعْلَمُ: فَمَنْ بَقِيَ؟ فَيَقُولُ: بَقِيتَ أَنْتَ الْحَيُّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، وَبَقِيَتْ حَمَلَةُ عَرْشِكَ، وَبَقِيَتُ أَنَا، فَيَقُولُ: لِيَمُتْ حَمَلَةُ عَرْشِي، فَيَمُوتُوا، فَيَأْمُرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْعَرْشَ فَيَقْبِضُ الصُّورَ مِنْ إِسْرَافِيلَ، ثُمَّ يَقُولُ: لِيَمُتْ إِسْرَافِيلُ، فَيَمُوتُ، ثُمَّ يَأْتِي مَلَكُ الْمَوْتِ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، قَدْ مَاتَ حَمَلَةُ عَرْشِكَ، فَيَقُولُ وَهُوَ أَعْلَمُ: فَمَنْ بَقِيَ؟ فَيَقُولُ: بَقِيَتَ أَنْتَ الْحَيُّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، وَبَقِيَتُ أَنَا، فَيَقُولُ: أَنْتَ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِي، خَلَقْتُكَ لِمَا رَأَيْتَ فَمُتْ، فَيَمُوتُ، فَإِذَا لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ إِلَّا اللَّهَ الْوَاحِدَ الْأَحَدَ الصَّمَدَ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، فَكَانَ آخِرًا كَمَا كَانَ أَوَّلًا، طَوَى السَّمَوَاتِ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكِتَابِ، ثُمَّ دَحَاهَا، ثُمَّ تَلَقَّفَهُمَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قَالَ: أَنَا الْجَبَّارُ، ثُمَّ يَقُولُ عَزَّ وَجَلَّ: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، ثُمَّ يَقُولُ لِنَفْسِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ، ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ، فَيَبْسُطُهَا بَسْطًا يَمُدُّهَا مَدَّ الْأَدِيمِ الْعُكَاظِيِّ، لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا، ثُمَّ يَزْجُرُ اللَّهُ الْخَلْقَ زَجْرَةً وَاحِدَةً، فَإِذَا هُمْ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ الْمُبَدَّلَةِ فِي مِثْلِ مَا كَانُوا مِنْهُ مِنَ الْأُولَى، مَنْ كَانَ فِي بَطْنِهَا كَانَ فِي بَطْنِهَا، وَمَنْ كَانَ عَلَى ظَهْرِهَا كَانَ عَلَى ظَهْرِهَا. ثُمَّ يُنْزِلُ اللَّهُ عَلَيْكُمْ مَاءً مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ كَمَنِيِّ الرِّجَالِ، ثُمَّ يَأْمُرُ اللَّهُ السَّمَاءَ أَنْ تُمْطِرَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، حَتَّى يَكُونَ فَوْقَهُمُ اثْنَا عَشَرَ ذِرَاعًا، وَيَأْمُرُ اللَّهُ الْأَجْسَادَ أَنْ تَنْبُتَ كَنَبَاتِ الطَّرَاثِيثِ أَوْ كَنَبَاتِ الْبَقْلِ، حَتَّى إِذَا تَكَامَلَتْ أَجْسَادُهُمْ، فَكَانَتْ كَمَا كَانَتْ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: لِيَحْيَا حَمَلَةُ الْعَرْشِ، فَيَحْيَوْنَ، ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ: لِيَحْيَا جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ فَيَحْيَوْنَ، فَيَأْمُرُ اللَّهُ إِسْرَافِيلَ، فَيَأْخُذُ الصُّورَ، فَيَضَعُهُ عَلَى فِيهِ، ثُمَّ يَدْعُو اللَّهُ بِالْأَرْوَاحِ فَيُؤْتَى بِهَا يَتَوَهَّجُ أَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ نُورًا، وَالْأُخْرَى ظُلْمَةً، فَيَقْبِضُهَا جَمِيعًا، ثُمَّ يُلْقِيهَا فِي الصُّورِ، ثُمَّ يَأْمُرُ اللَّهُ إِسْرَافِيلَ أَنْ يَنْفُخَ نَفْخَةَ الْبَعْثِ، فَتَخْرُجُ الْأَرْوَاحُ كَأَنَّهَا النَّحْلُ قَدْ مَلَأَتْ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَيَقُولُ اللَّهُ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي، لَيَرْجِعَنَّ كُلُّ رُوحٍ إِلَى جَسَدِهِ، فَتَدْخُلُ الْأَرْوَاحُ فِي الْخَيَاشِيمِ، ثُمَّ تَمْشِي فِي الْأَجْسَادِ مَشْيَ السُّمِّ فِي اللَّدِيغِ، ثُمَّ تَنْشَقُّ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا، فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ، فَتَخْرُجُونَ مِنْهَا إِلَى رَبِّكُمْ تَنْسِلُونَ مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِي، فَيَقُولُ الْكَافِرُونَ: {هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} (القمر: 8)، حُفَاةً، عُرَاةً، غُرْلًا، ثُمَّ يَقِفُونَ مَوْقِفًا وَاحِدًا مِقْدَارَ سَبْعِينَ عَامًا لَا يَنْظُرُ إِلَيْكُمْ، وَلَا يَقْضِي بَيْنَكُمْ، فَتَبْكُونَ حَتَّى تَنْقَطِعَ الدُّمُوعُ، ثُمَّ تَدْمَعُونَ دَمًا تَعْرِقُونَ، حَتَّى يَبْلُغَ ذَلِكَ مِنْكُمْ أَنْ يُلْجِمَكُمْ أَوْ يَبْلُغَ الْأَذْقَانَ، فَتُصْبِحُونَ فَتَقُولُونَ: مَنْ يَشْفَعُ لَنَا إِلَى رَبِّنَا، فَيَقْضِي بَيْنَنَا فَيَقُولُ: مَنْ أَحَقُّ مِنْ أَبِيكُمْ آدَمَ خَلَقَهُ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، وَكَلَّمَهُ قِبَلًا، فَتَأْتُونَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَتَطْلُبُونَ ذَلِكَ إِلَيْهِ، فَيَأْبَى وَيَقُولُ: مَا أَنَا بِصَاحِبِ ذَلِكَ ، فَيَأْتُونَ الْأَنْبِيَاءَ نَبِيًّا نَبِيًّا، كُلَّمَا جَاءُوا نَبِيًّا يَأْبَى عَلَيْهِمْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «حَتَّى يَأْتُونِي فَأَنْطَلِقُ مَعَهُمْ، فَآتِي الْفَحْصَ فَأَخِرُّ سَاجِدًا»، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْفَحْصُ؟ قَالَ: " قُدَّامُ الْعَرْشِ، حَتَّى يَبْعَثَ اللَّهُ مَلَكًا فَيَأْخُذُ بِعَضُدِي فَيَقُولُ لِي: يَا مُحَمَّدُ، فَأَقُولُ: نَعَمْ يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: مَا شَأْنُكَ؟، وَهُوَ أَعْلَمُ قَالَ: " فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، وَعَدْتَنِي الشَّفَاعَةَ، وَشَفَّعْتَنِي فِي خَلْقِكَ، فَاقْضِ بَيْنَهُمْ، فَيَقُولُ اللَّهُ: قَدْ شَفَّعْتُكَ أَنَا آتِيهِمْ فَأَقْضِي بَيْنَهُمْ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: " فَأَرْجِعُ فَأَقِفُ مَعَ النَّاسِ، فَبَيْنَا نَحْنُ وُقُوفٌ إِذْ سَمِعْنَا حَسًّا مِنَ السَّمَاءِ شَدِيدًا، فَهَالَ فَنَزَلَ أَهْلُ السَّمَاءِ الدُّنْيَا بِمِثْلَيْ مَنْ فِي الْأَرْضِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، حَتَّى إِذَا دَنَوْا مِنَ الْأَرْضِ أَشْرَقَتْ بِنُورِهِمْ، وَأَخَذُوا مَصَافَّهُمْ، قَالَ: قُلْنَا لَهُمْ: دُونَكُمُ اللَّهُ، قَالُوا: لَا، ثُمَّ تَنْزِلُ أَهْلُ السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ بِمِثْلَيْ مَنْ نَزَلَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَمِثْلَيْ مِنْ فِيهَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، حَتَّى إِذَا دَنَوْا مِنَ الْأَرْضِ أَشْرَقَتْ بِنُورِهِمْ وَأَخَذُوا مَصَافَّهُمْ، ثُمَّ ذَكَرُوا نُزُولَ أَهْلِ كُلِّ سَمَاءٍ عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ مِنَ التَّضْعِيفِ، ثُمَّ يَنْزِلُ الْجَبَّارُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةِ، {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} (الحاقة: 17) ، وَهُوَ الْيَوْمُ، أَرْبَعَةُ أَقْدَامِهِمْ عَلَى نُجُومِ الْأَرْضِ السُّفْلَى، وَالْأَرْضُ إِلَى حُجَزِهِمْ، وَالْعَرْشُ عَلَى مَنَاكِبِهِمْ، لَهُمْ زَجَلٌ بِالتَّسْبِيحِ، يَقُولُونَ سُبْحَانَ ذِي الْعَرْشِ وَالْجَبَرُوتِ، سُبْحَانَ ذِي الْمُلْكِ وَالْمَلَكُوتِ، سُبْحَانَ الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، سُبْحَانَ الَّذِي يُمِيتُ الْخَلَائِقَ وَلَا يَمُوتُ، سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ، سُبْحَانَ رَبِّنَا الْأَعْلَى رَبِّ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ، الَّذِي يُمِيتُ الْخَلْقَ وَلَا يَمُوتُ. فَيَضَعُ اللَّهُ كُرْسِيَّهُ حَيْثُ شَاءَ مِنْ أَرْضِهِ، ثُمَّ يَهْتِفُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَائِلًا: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، إِنِّي قَدْ أَنْصَتُّ لَكُمْ مُذْ خَلَقْتُكُمْ إِلَى يَوْمِكُمْ هَذَا، أَسْمَعُ قَوْلَكُمْ، وَأُبْصِرُ أَعْمَالَكُمْ، فَاسْمَعُوا إِلَيَّ، فَإِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ وَصُحُفُكُمْ تُقْرَأُ عَلَيْكُمْ، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ، ثُمَّ يَأْمُرُ اللَّهُ جَهَنَّمَ، فَيَخْرُجُ مِنْهَا عُنُقٌ سَاطِعٌ مُظْلِمٌ، ثُمَّ يَقُولُ: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} (يس: 60) ، إِلَى قَوْلِهِ: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} (يس: 59)، فَيُمَيِّزُ اللَّهُ النَّاسَ، وَتَجْثُوا الْأُمَمُ، وَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا} (الجاثية: 28)، فَيَقْضِي اللَّهُ بَيْنَ خَلْقِهِ إِلَّا الثَّقَلَّيْنِ الْإِنْسَ وَالْجِنَّ، فَيَقْضِي بَيْنَ الْوَحْشِ وَالْبَهَائِمِ، حَتَّى إِنَّهُ لَيُقِيدُ لِلْجَمَّاءِ مِنْ ذَاتِ الْقَرْنِ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَبْقَ تَبَعَةٌ عِنْدَ وَاحِدَةٍ لِلْأُخْرَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: كُونِي تُرَابًا، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقُولُ الْكَافِرُ: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا} (النبأ: 40)، فَيَقْضِي اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ الْعِبَادِ، فَيَكُونُ أَوَّلَ مَا يَقْضِي فِيهِ الدِّمَاءُ، فَيَأْتِي كُلُّ قَتِيلٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، يَأْمُرُ اللَّهُ كُلَّ قَتِيلٍ فَيُحْمَلُ رَأْسَهُ، وَأَوْدَاجُهُ تَشْخَبُ دَمًا، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، سَلْ هَذَا فِيمَ قَتَلَنِي؟ فَيَقُولُ وَهُوَ أَعْلَمُ: لِمَ قَتَلْتَهُ؟ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، قَتَلْتُهُ لِتَكُونَ الْعِزَّةُ لَكَ، فَيَقُولُ اللَّهُ: صَدَقْتَ، فَيَجْعَلُ اللَّهُ وَجْهَهُ مِثْلَ نُورِ الشَّمْسِ، ثُمَّ تُشَيِّعُهُ الْمَلَائِكَةُ إِلَى الْجَنَّةِ، ثُمَّ يَأْمُرُ اللَّهُ كُلَّ قَتِيلٍ قُتِلَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَيَأْتِي يَحْمِلُ رَأْسَهُ، وَيَشْخَبُ أَوْدَاجُهُ دَمًا، وَيَقُولُ: يَا رَبِّ، سَلْ هَذَا فِيمَ قَتَلَنِي؟ فَيَقُولُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ: لِمَ قَتَلْتَهُ؟ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، قَتَلْتُهُ لِتَكُونَ الْعِزَّةُ لِي، فَيَقُولُ اللَّهُ: تَعِسْتَ، ثُمَّ لَا يَبْقَى بَشَرَةٌ قَتَلَهَا إِلَّا قُتِلَ بِهَا، وَلَا مَظْلَمَةٌ ظَلَمَهَا إِلَّا أُخِذَ بِهَا، ثُمَّ يَصِيرُ فِيمَا بَقِيَ فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ رَحِمَهُ، ثُمَّ يَقْضِي بَيْنَ مَنْ بَقِيَ مِنْ خَلْقِهِ، حَتَّى لَا يُبْقِي مَظْلَمَةً عِنْدَ أَحَدٍ إِلَّا أَخَذَهَا الْمَظْلُومُ مِنَ الظَّالِمِ، حَتَّى إِنَّهُ لَوْ كُلِّفَ شَائِبُ اللَّبَنِ بِالْمَاءِ أَنْ يُقَلِّبَهُ حَتَّى يُخَلِّصَ اللَّبَنَ مِنَ الْمَاءِ، فَإِذَا فَرَغَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ نَادَى مُنَادٍ يُسْمِعُ الْخَلَائِقَ كُلَّهُمْ فَيَقُولُ: أَلَا لِيَلْحَقْ كُلُّ قَوْمٍ بِآلِهَتِهِمْ، وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَلَا يَبْقَى أَحَدٌ عَبَدَ شَيْئًا مِنْ دُونِ اللَّهِ إِلَّا مُثِّلَتْ لَهُ آلِهَتُهُ، وَيَجْعَلُ اللَّهُ تَعَالَى مَلَكًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى صُورَةِ عُزَيْرٍ، وَيَجْعَلُ اللَّهُ مَلَكًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى صُورَةِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، فَيَتَّبِعُ الْيَهُودُ عُزَيْرًا، وَيَتَّبِعُ النَّصَارَى عِيسَى، ثُمَّ تَقُودُهُمْ آلِهَتُهُمْ إِلَى النَّارِ، وَهُمُ الَّذِينَ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِمْ: {لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} (الأنبياء: 99)، وَإِذَا لَمْ يَبْقَ إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ، وَفِيهِمُ الْمُنَافِقُونَ، جَاءَهُمُ اللَّهُ فِيمَا شَاءَ مِنْ هَيْئَةٍ، فَيَقُولُونَ: وَاللَّهِ مَا لَنَا إِلَهٌ إِلَّا اللَّهُ، وَمَا كُنَّا نَعْبُدُ غَيْرَهُ، فَيُكْشَفُ لَهُمْ عَنْ سَاقٍ وَيَتَجَلَّى لَهُمْ، وَيُظْهِرُ لَهُمْ مِنْ عَظَمَتِهِ مَا يَعْرِفُونَ بِهِ أَنَّهُ رَبُّهُمْ فَيَخِرُّونَ سُجَّدًا عَلَى وُجُوهِهِمْ وَيَخِرُّ كُلُّ مُنَافِقٍ عَلَى قَفَاهُ، وَيَجْعَلُ اللَّهُ تَعَالَى أَصْلَابَهُمْ كَصَيَاصِيِّ الْبَقَرِ، ثُمَّ يَأْذَنُ لَهُمْ فَيَرْفَعُونَ رُءُوسَهُمْ، وَيَضْرِبُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الصِّرَاطَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ جَهَنَّمَ كَعَدَدِ أَوْ كَعَقْدِ الشَّعْرِ أَوْ كَحَدِّ السَّيْفِ، عَلَيْهِ كَلَالِيبُ، وَخَطَاطِيفُ، وَحَسَكٌ كَحَسَكِ السَّعْدَانِ، دُونَهُ جِسْرٌ دَحْضٌ مَزِلَّةٌ، فَيَمُرُّونَ كَطُرُوفِ الْعَيْنِ أَوْ كَلَمْحِ الْبَرْقِ أَوْ كَمَرِّ الرِّيحِ أَوْ كَجِيَادِ الْخَيْلِ أَوْ كَجِيَادِ الرِّيَاحَاتِ أَوْ كَجِيَادِ الرِّجَالِ، فَنَاجٍ سَالِمٌ، وَمَخْدُوشٌ، وَمَكْدُوشٌ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَهَنَّمَ، فَإِذَا أَفْضَى أَهْلُ الْجَنَّةِ إِلَى الْجَنَّةِ قَالُوا: مَنْ يَشْفَعُ لَنَا إِلَى رَبِّنَا، فَنَدْخُلَ الْجَنَّةَ، فَيَقُولُونَ: مَنْ أَحَقُّ مِنْ أَبِيكُمْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَلَقَهُ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، وَكَلَّمَهُ قِبَلًا، وَأَسْجَدَ لَهُ مَلَائِكَتَهُ، فَيَأْتُونَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَيَطْلُبُونَ ذَلِكَ إِلَيْهِ فَيَذْكُرُ ذَنْبًا، فَيَقُولُ: مَا أَنَا بِصَاحِبِ ذَلِكَ، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِنُوحٍ؛ فَإِنَّهُ أَوَّلُ رُسُلِ اللَّهِ، فَيُؤْتَى نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَيُطْلَبُ ذَلِكَ إِلَيْهِ، فَيَذْكُرُ ذَنْبًا، فَيَقُولُ: مَا أَنَا بِصَاحِبِ ذَلِكَ، عَلَيْكُمْ بِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ اتَّخَذَهُ خَلِيلًا، فَيُؤْتَى، فَيُطْلَبُ ذَلِكَ إِلَيْهِ، فَيَذْكُرُ ذَنْبًا، فَيَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَرَّبَهُ نَجِيًّا، وَكَلَّمَهُ تَكْلِيمًا، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ التَّوْرَاةَ، فَيُؤْتَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَيُطْلَبُ ذَلِكَ إِلَيْهِ، فَيَذْكُرُ ذَنْبًا، فَيَقُولُ: مَا أَنَا بِصَاحِبِ ذَلِكَ، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِرُوحِ اللَّهِ وَكَلِمَتِهِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، فَيُؤْتَى عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ﷺ، فَيُطْلَبُ ذَلِكَ إِلَيْهِ، فَيَقُولُ: مَا أَنَا بِصَاحِبِ ذَلِكَ، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُحَمَّدٍ ﷺ، فَيَأْتُونِي وَلِي عِنْدَ رَبِّي ثَلَاثُ شَفَاعَاتٍ وَعَدَنِيهُنَّ، فَأَنْطَلِقُ فَآتِي الْجَنَّةَ، فَآخُذُ بِحَلْقَةِ الْبَابِ، ثُمَّ أَسْتَفْتِحُ، فَيُفْتَحُ لِي فَأُحَيَّا وَيُرَحَّبُ بِي، فَإِذَا أُدْخِلْتُ الْجَنَّةَ، فَنَظَرْتُ إِلَى رَبِّي تَبَارَكَ وَتَعَالَى خَرَرْتُ سَاجِدًا، فَيَأْذَنُ اللَّهُ لِي مِنْ حَمْدِهِ وَتَمْجِيدِهِ شَيْئًا مَا أَذِنَ بِهِ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ يَا مُحَمَّدُ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ، فَإِذَا رَفَعْتُ رَأْسِي، قَالَ اللَّهُ وَهُوَ أَعْلَمُ: مَا شَأْنُكَ؟ فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، وَعَدْتَنِي الشَّفَاعَةَ، فَشَفِّعْنِي فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: قَدْ شَفَّعْنَاكَ، وَأَذِنْتُ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ"، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: "وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ، مَا أَنْتُمْ فِي الدُّنْيَا بِأَعْرَفَ بِأَزْوَاجِكُمْ وَمَسَاكِنِكُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِأَزْوَاجِهِمْ وَبِمَسَاكِنِهِمْ، فَيَدْخُلُ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِمَّا يُنْشِيءُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَثِنْتَيْنِ آدَمَيَّتَيْنِ مِنْ وَلَدِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَهُمْ فَضْلٌ لِعِبَادَتِهِمَا اللَّهَ فِي الدُّنْيَا، فَيَدْخُلُ الْأَوَّلُ مِنْهُمْ فِي غُرْفَةٍ مِنْ يَاقُوتَةٍ عَلَى سَرِيرٍ مِنْ ذَهَبٍ مُكَلَّلٍ بِاللُّؤْلُؤِ، وَعَلَيْهَا سَبْعُونَ حُلَّةً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ، ثُمَّ يَضَعُ يَدَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهَا، ثُمَّ يَنْظُرُ إِلَى يَدِهِ مِنْ صَدْرِهَا مِنْ وَرَاءِ ثِيَابِهَا وَجِلْدِهَا وَلَحْمِهَا، وَإِنَّهُ لَيَنْظُرُ إِلَى مُخِّ سَاقِهَا، كَمَا يَنْظُرُ أَحَدُكُمْ إِلَى السِّلْكِ فِي قَصَبَةِ الْيَاقُوتِ، كَبِدُهَا لَهُ مَرْآةٌ وَكَبِدُهُ لَهَا مَرْآةٌ، فَبَيْنَمَا هُوَ عِنْدَهَا لَا يَمَلُّهَا وَلَا تَمَلُّهُ، مَا يَأْتِيهَا مَرَّةً إِلَّا وَجَدَهَا عَذْرَاءَ، مَا يَفْتُرُ ذَكَرُهُ، وَلَا يَشْتَكِي قُبُلُهَا، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ نُودِيَ: إِنَّا قَدْ عَرَفْنَا أَنَّكَ لَا تَمَلُّ، إِلَّا أَنَّهُ لَا مَنِيَّ وَلَا مَنِيَّةَ، إِلَّا أَنَّ لَكَ أَزْوَاجًا غَيْرَهَا، فَيَخْرُجُ فَيَأْتِيهُنَّ وَاحِدَةً وَاحِدَةً، كُلَّمَا جَاءَ وَاحِدَةً قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا أَرَى فِي الْجَنَّةِ شَيْئًا أَحْسَنَ مِنْكَ، وَمَا فِي الْجَنَّةِ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْكَ، فَإِذَا رُفِعَ أَهْلُ النَّارِ إِلَى النَّارِ رُفِعَ فِيهَا خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ رَبِّكَ قَدْ أَوْبَقَتْهُمْ أَعْمَالُهُمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ النَّارُ إِلَى قَدَمَيْهِ لَا تُجَاوِزُ ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ النَّارُ إِلَى نِصْفِ سَاقَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ النَّارُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ إِلَى حِقْوَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ فِي جَسَدِهِ كُلِّهِ إِلَّا وَجْهَهُ يُحَرِّمُ اللَّهُ تَعَالَى صُورَتَهُمْ عَلَيْهَا". قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: " فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، مَنْ وَقَعَ فِي النَّارِ مِنْ أُمَّتِي، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَخْرِجُوا مِنَ النَّارِ مَنْ عَرَفْتُمْ، فَخَرَجَ أُولَئِكَ، حَتَّى لَا يَبْقَى مِنهُمْ أَحَدٌ، ثُمَّ يَأْمُرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الشَّفَاعَةِ، فَلَا يَبْقَى نَبِيُّ، وَلَا شَهِيدٌ، إِلَّا شَفِعَ، فيقُولُ اللَّهُ: أَخْرِجُوا مِنَ النَّارِ مَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ زِنَةَ الدِّينَارِ، فَيَخْرُجُ أُولَئِكَ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهُم أَحَدٌ، ثُمَّ يَشْفَعُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: أَخْرِجُوا مَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ ثُلُثَيِ الدِّينَارِ إِيمَانًا، وَنِصْفَ وَرُبُعَ دِينَارٍ، ثُمَّ يَقُولُ: قِيرَاطٌ، وَيَقُولُ: حَبَّةٌ مِنْ خَرْدَلٍ، فَيَخْرُجُ أُولَئِكَ حَتَّى لَا يَبْقَى أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَحَتَّى لَا يَبْقَى أَحَدٌ لَهُ شَفَاعَةٌ إِلَّا شَفَعَ، حَتَّى إِنَّ إِبْلِيسَ لَعَنَهُ اللَّهُ لَيَتَطَاوَلُ لِمَا يَرَى مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ رَجَاءَ أَنْ يَشْفَعَ لَهُ، ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ: بَقِيَتُ أَنَا، وَأَنَا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، فَيُخْرِجُ مِنْهَا مَا لَا يُحْصِيهِ كَثْرَةً، كَأَنَّهُمُ الْجَمْرُ يُثَبِّتُهُمُ اللَّهُ عَلَى نَهَرٍ يُقَالُ لَهُ: الْحَيَوَانُ، فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الْحَبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ، مَا يَلِي الشَّمْسَ مِنْهَا أُخَيْضِرُ، وَمَا يَلِي الظِّلَّ مِنْهَا أُصَيْفِرُ، فَيَنْبُتُونَ كَنَبَاتِ الطَّرَاثِيثِ، حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَ الدُّرِّ مَكْتُوبَةً فِي رِقَابِهِمُ الْجَهَنَّمِيُّونَ عُتَقَاءُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَيَعْرِفُهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ بِذَلِكَ الْكِتَابِ، مَا عَمِلُوا خَيْرًا قَطُّ، فَيَمْكُثُونَ فِي الْجَنَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ، وَذَلِكَ الْكِتَابُ فِي رِقَابِهِمْ، ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبَّنَا، امْحُ عَنَّا هَذَا الْكِتَابَ، فَيَمْحَوهُ عَنْهُمْ “
الحديث رغم الاستغراب والضّعف الذي وصف به، فهو يطلعنا على تصوّر المسلمين الأوائل لأنباء القيامة الكبرى وما يليها ثمّ له شواهد في أحاديث أخرى، لذا سنعتمده لتبيان تلاحق الأحداث كذا لإبراز المفاهيم وفق ما يوفّق إليه العليم الخبير، معتمدين على ما بلغنا من أخبار ومدى مطابقتها لما ورد في كتاب الله فاحصين ما قد يقع من خلط بين القيامة الأولى والقيامة الأخيرة، بسبب تباين فهم النّصوص لأمور يخبر بها الوحي لا دخل للمنطق والعقل في فكّ رموزها وتسلسلها، ممّا يستلزم أن يعذر كلّ على فهمه، لأنّه من المستبعد أن يتعمّد أحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يضيف شيئا من عنده سوى تأثّره في فهمه لنصوص الوحي بثقافة عصره أو ثقافة أمم كان للوحي دور في صياغة تراثها.
النّفخ في الصّور
الصور كما ثبت عن رسول الله ﷺ : من حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، قال: قال أعربيّ : يَا رَسُولَ اللهِ، مَا الصُّورُ؟ ” قَالَ قَرْنٌ يُنْفَخُ فِيهِ “ أخرجه الإمام أحمد وصحّحه ابن حبّان[274]، وقيل أن النّافخ فيه إسرافيل عليه الصلاة والسّلام كما جاء في الحديث السابق، وقيل ملاك أو ملكان غيره، خلاف آثاره ليست ذي شأن، كما اختلف في عدد نفخات الصّور فقيل ثلاث كما جاء في حديث الصور، وقيل نفختان فقط حسب فهمهم لقوله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ (68) الزمر، وهو قول القرطبي وغيره، وكأنّ الذين قالوا بنفخة الفزع استنبطوها من قوله تعالى: وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87) النّمل. بالتّأمل في الآيتين نجد في الأولى يصعق من في السماوات والأرض ونجد في الثانية يفزعُ من في السماوات والأرض كذلك، فإذا سلّمنا أنّهما نفختان نكون قد ألغينا عنصر المباغتة كما قال تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (187) الأعراف، أما إذا قُصِدَ بنفخة الفزع قيام ساعة الأرض دون باقي ما في السموات، فلا مجال لفزع أهل السماوات؛ فنعرف حالياً نجوما تموت ونجوماً أخرى تتكوّن في الكون الشاسع ولا تحدِث فزعاً شاملا، لذا نقول أنّ لقيامة الأرض التي نحن عليها زلزلة، ولقيامة السماوات والأرض نفخة الفزع والصّعق في وقت واحد أو نفخة فزع تتلوها نفخة الصّعق كما يحتضر الشّخص بفزع قد يطول أو يقصر يتلوه الموت والله أعلم، والحالة سيعيشها الجميع، أي فزع يتلوه الموت بالنّسبة للأحياء من غير ساكني هذه الأرض، أو فزع يتلوه إغماء بالنّسبة لمن نعتبرهم أمواتاً من المؤمنين، ثمّ نفخة القيام بعد ذلك ويعلم الله ما بينهما إذ لا زمان ولا مكان حينئذٍ. يقول تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) الرّعد. قال ابن حجر[275]: ”وأخرج البيهقي بسند قوي عن ابن مسعود موقوفا " ثُمَّ يَقُومُ مَلَكُ الصُّورِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَيَنْفُخُ فِيهِ وَالصُّورُ قَرْنٌ فَلَا يَبْقَى لِلَّهِ خَلْقٌ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَاتَ إِلَّا مَنْ شَاءَ رَبُّكَ ثُمَّ يَكُونُ بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ “. النّفخ في الصور مرادف للصيحة كما تبيّن فيما سبق ”صيحة واحدة ما لها من فواق“ وفي كتاب الله تفاصيل أخرى عن أقوامٍ أخذوا بالصّيحة كما قال العزيز الحكيم: فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40) العنكبوت، ومن آيات أخر نستنبط أنّ الصّيحة الصّوتية بغض النّظر عن من مسبّبها يمكن أن تهلك البشر دون أن تلحق دمارا بالبيوت أمّا في حالة نفخة الصّور فيمكن اعتباره دمارا شاملا والله أعلم. ممّا ذكر تكون نفخة الصّور التي نحن بصددها نفخة تقوم بعدها السماوات والأرض بكلّيتهما، وفزعها عام وشامل فلا أرض إذ ذاك ولا شمس ولا قمر فكلاهما مكوّران في النّار، أورد البخاري[276]: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «الشَّمْسُ وَالقَمَرُ مُكَوَّرَانِ يَوْمَ القِيَامَةِ»، لكن رغم الصورة المرعبة فإن لله عباد لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فيهم قال تعالى: لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104) الأنبياء .
الصَّعقُ الشّامل
سبق القول أنّ الأرض التي تكون مقرونة بالسموات ليست الأرض التي نحن عليها بالضّرورة، بل تشمل كل الأرضين ما علمنا وما لم نعلم، والحق هو القائل: وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السماوات والأرض وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَآبَّةٍ وَهُوَ على جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ (29) الشورى، فما المراد بالصّعق إذاً؟ بالرجوع لكتاب الله نجد: وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) الأعراف، حيث الصّعق بمعنى فقدان الوعي أي الإغماء، أما في قوله تعالى: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) البقرة، فالصّعق جاء بمعنى الموت، فاختيار ربّ العزّة كلمة الصّعق التي تحمل المعنيين معاً لحكمةٍ هو سبحانه وتعالى أعلم بها، تفيد أنّ من كان حيّا سيموت وليس المقصود النّاس طبعاً، ومن كان من الأموات حيّاً أي النّفوس التي في المستقر أو من كان ميّتاً أي النّفوس التي في المستودع، الكلّ سيفقد الشعور بعد الصّعق ولا يدري ولا يحسّ بما يجري حتّى يفيق في كونٍ آخر لا علاقة له بزمن ومكان هذا الكون المعلوم. ولا يعلم إلا الله كم تكون المدّة الفاصلة بين النفخة الأولى ونفخة البعث فكل ما وصلنا من الوحي هو أربعون مبهمة ولا مرجعية لها في مقاييس الزّمن شأنها شأن الأيام الستّة التي خلق فيهنّ القادر الجبّار السماوات والأرض، جاء في البخاري[277]: عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعُونَ» قَالُوا: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَرْبَعُونَ يَوْمًا، قَالَ: أَبَيْتُ، قَالَ: أَرْبَعُونَ سَنَةً، قَالَ: أَبَيْتُ، قَالَ: أَرْبَعُونَ شَهْرًا، قَالَ: «أَبَيْتُ وَيَبْلَى كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الإِنْسَانِ، إِلَّا عَجْبَ ذَنَبِهِ، فِيهِ يُرَكَّبُ الخَلْقُ» وبمثل ما أوردنا قال ابن حجر[278]: ”بل هما نفختان فقط، ووقع التغاير في كل واحدة منهما باعتبار من يسمعهما، فالأولى: يموت بها كل من كان حيا ويغشى على من لم يمت ممن استثنى الله، والثانية: يعيش بها من مات ويفيق بها من غشي عليه والله أعلم“.
أرض المحشر
وردت بعض الأحاديث تذكر أرض المحشر منها ما خصّت بيت المقدس ومنها ما خصّت الشام عامة، إلا أنها تتعلّق بالحشر الذي ستسبّبه نار تدفع الناس إلى أرض المحشر كعلامة من العلامات العشر لقيام الساعة والله أعلم، أورد الطّبرانيّ[279] في معجمه الكبير: من حديث حُذَيْفَة بْن أَسِيدٍ صَاحِبِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: كُنَّا نَتَحَدَّثُ فِي ظِلِّ غُرْفَةٍ، فَأَشْرَفَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ مِنْ تِلْكَ الْغُرْفَةِ، فَقَالَ: مَا تَحَدَّثُونَ؟ قُلْنَا: نَتَحَدَّثُ عَنِ السَّاعَةِ. قَالَ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَخْرُجَ عَشْرُ آيَاتٍ: طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَالدَّجَّالُ، وَالدُّخَانُ، وَدَابَّةُ الْأَرْضِ، وَثَلَاثَةُ خُسُوفٍ: خَسْفٌ بِالْمَشْرِقِ، وَخَسْفٌ بِالْمَغْرِبِ، وَخَسْفٌ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَيَخْرُجُ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ، وَتَخْرُجُ نَارٌ مِنْ قَعْرِ عَدَنَ تُحِيطُ بِالنَّاسِ لَا يَتَخَلَّفُها أَحَدٌ تَسُوقُهمْ إِلَى أَرْضِ الْمَحْشَرِ، فَتُقِيمُ حَتَّى يَقْضُوا حَوَائِجَهُمْ، ثُمَّ تَحَرَّكُ بِهِمْ فَتُرَحِّلُهُمْ. أمّا الذي نحن بصدده فهي الأرض بعد أن تبدّل ويخرج النّاس من الأجداث، ليحشروا في صعيد واحد كما أُخبر عن رسول الله ﷺ من حديث[280] سَهْل بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: «يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى أَرْضٍ بَيْضَاءَ عَفْرَاءَ، كَقُرْصَةِ نَقِيٍّ» قَالَ سَهْلٌ أَوْ غَيْرُهُ: «لَيْسَ فِيهَا مَعْلَمٌ لِأَحَدٍ»، كما شمل الصّعق كلّ من في السماوات ومن في الأرض كذلك سيشمل الحشر هؤلاء جميعاً قال تعالى: وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) الأنعام، وفي السّنة في مسند الإمام أحمد[281]: عَنْ أَبِي ذَرٍّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ جَالِسًا، وَشَاتَانِ تَعْتلفَانِ، فَنَطَحَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى، فَأَجْهَضَتْهَا، قَالَ: فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَقِيلَ لَهُ: مَا يُضْحِكُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «عَجِبْتُ لَهَا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَيُقَادَنَّ لَهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وبصيغة " لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى يُقْتَصَّ لِلشَّاةِ الْجَمَّاءِ مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ نَطَحَتْهَا وبصيغة أخرى[282] ”يقتص الخلق بعضهم من بعض حتى الجماء من القرناء وحتى الذرة من الذرة“ وبهذا المعنى في كتاب الله: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (8) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9) النّحل. وقد بذل أصحاب التّفسير جهداً حتّى لا يعود الضّمير في منها إلى الخيل والبغال والحمير، فقالوا: ومنها جائر، لأن السبيل يؤنث ويذكر، فأنثت في هذا الموضع، وقد كان بعضهم يقول: وإنما قيل: ومنها، لأن السبيل وإن كان لفظها لفظ واحد فمعناها الجمع. كلّ هذا حفاظاً على المبدأ الذي يتبنّاه الكثير أن كل المخلوقات الدنيا غير مكلفين إلا الثّقلين، مبدأ لم أجد له أصلاً والله أعلم. أمّا الرّاجح أن يكون الطّيب من إنس وجن وحيوان ونبات وحتّى من جماد إلى الجنّة أما ما خبُث فإلى النار تبياناً لقوله تعالى: لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37) آل عمران.
تصورنا الذي لا يستطيع أن يتخلّص من حجب الواقع الذي نعيشه حاليّا ويعجز عن إدراك الحال والشّكل الذي يمكن أن تكون عليه أرض المحشر انطلاقاً طبعاً من أخبار الوحي، مع ذلك نسوق بعض الفروق مع الأرض التي نحن عليها الآن:
• أرض المحشر تتّسع لكلّ الخلائق التي عاشت على هذه الأرض لملايين السّنين؛ إذ التقديرات الجيولوجية لعمر الأرض حالياً حوالي 4540 مليون سنة، وستسع لمخلوقات كالجنّ التي تقيم في السّماء الدنيا، وغيرهم من الدواب مما لا نعلم من سكّان كونٍ عمره حسب المشاهدة الفلكية واعتماد نظرية الانفجار الكبير (دون التّبنّي) 13700 مليون سنة، فالحوت الذي التقم سيّدنا يونس عليه الصّلاة والسّلام مثلاً سيبعث كما قال ربّ العزّة: لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) الصّافات.
• كلّ الأخبار تدلّ أنّ النّواميس والقوانين التي تحكم وجودنا الحالي متغيّرة في أرض المحشر، مثلاً الشّمس في المحشر تدنو دون إحداث تفكّكٍ في المنظومة، كما جاء في صحيح مسلم[283] من حديث الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ، يَقُولُ: «تُدْنَى الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْخَلْقِ، حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ» -قَالَ سُلَيْمُ بْنُ عَامِرٍ: فَوَاللهِ مَا أَدْرِي مَا يَعْنِي بِالْمِيلِ؟ أَمَسَافَةَ الْأَرْضِ، أَمِ الْمِيلَ الَّذِي تُكْتَحَلُ بِهِ الْعَيْنُ -قَالَ: «فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فِي الْعَرَقِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى حَقْوَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إِلْجَامًا» قَالَ: وَأَشَارَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِيَدِهِ إِلَى فِيهِ. وفي الحديث إشارة كذلك إلى عدم وجود الجاذبية لأن العرق لا يسيل والله أعلم.
• ما وصلنا لا يدلّ على أنّ أرض المحشر هي جزء من كون جديد مستقر، فحديث أمنا عائشة عليها السّلام يذكر أنّ الناس يوم تبدل الأرض تكون على الصّراط وأخبار أخرى بأن الصراط آلية من آليات الحساب كالميزان، يجعل التّرجيح أنّ أرض المحشر في كون أثناء تكوينه والله أعلم سماواته وأرضيه لم تتماسك بعد كما قال ربّ العزّة: وَفُتِحَتِ السَّمَاء فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20) النّبأ، والآيتان في وصف يوم الفصل؛ أي اليوم الذي سيفصل فيه الخلق إلى فريقين فريق في الجنّة وفريق في السّعير والله أعلم.
خروج النّاس
لعلّ السّؤال المحيّر كيف يخرج الناس وباقي الخلق من بطن أرض لم تكن أصلاً موجودة؟ فالقبور والرفات تنتسب لأرض زُلزلت ودمّرت تدميراً، فمن المشاهدات العلمية الحالية يتحدّد شكل موت نجم حسب كتلته إمّا بتحوّله إلى عملاق أحمر أو قزم أبيض وفي حالات ينفجر انفجاراً هائلا يسمّى السوبرنوفا، supernova، أما ما يخص موت الكون برمّته فهو أمر غير مشاهد ممّا يفسح المجال لنظريات وتوقّعات مختلفة إمّا بانخفاض درجة حرارته تحت الصّفر المطلق نتيجة تمدّده، أو بدء مرحلة ينكمش فيها على نفسه في اتجاه معكوس لحركة الانفجار الكبير، جميعها ظنون تعتمد على التّحول من طاقة إلى مادة والعكس، وفق معادلة أينشتاين، فما مدى اتفاق هذه النّظريات مع الوحي؛ في الحالة الأولى يقول تعالى: فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاء فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) الرحمن،
وهو تشبيه رائع للمشاهدات المصوّرة عن موت نجم، أما في الحالة الثّانية، فلا زالت المعطيات العلمية غير كافية لفهم أدق للكون لأنّ ربّ العزّة كما سبق الذّكر خلق المادة من الطاقة وخلق الطّاقة من المعلومات أي من كلماته التامات جلّ وعلَا، من ذلك والله أعلم كانت صورة زوال هذا الكون في كتاب الله، كطيّ السّجل للكتب، بعد ذلك ينقل منها ما شاء وكل شيء عنده في كتاب، فإذا كانت كلمة الله روح وشأنها ما زال غائباً عنّا، فالكلمة لها شأنٌ كبير حتّى بالنسبة إلينا كمخلوقات ضعيفة كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء (24) الرعد، وهو تشبيه في الدّنيا وواقع في الآخرة والله أعلم كما بلّغ رسول الله ﷺ: ”لَقِيتُ إِبْرَاهِيمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَقْرِئْ أُمَّتَكَ مِنِّي السَّلَامَ وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ الجَنَّةَ طَيِّبَةُ التُّرْبَةِ عَذْبَةُ المَاءِ، وَأَنَّهَا قِيعَانٌ، وَأَنَّ غِرَاسَهَا سُبْحَانَ اللَّهِ وَالحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ “[284]، يتبيّن من هذا أنّ نقل الرفات إلى أرض جديدة بقدرة الله يسير باليسر الذي ينقل به إلى كتاب جديد اقتباس من كتاب آخر والله أعلم.
سبق البيان أن النّفس في حالة الوفاة تكون بوعيٍ أكبر ومعرفةٍ أكمل، سواء التي تكون في المستقرّ أو التي في المستودع، من هذا، أصحاب النّار عند نفخة زوال السماوات والأرض يدركون أنهم سيخُرجون من الأجداث في النفخة الثانية والله أعلم كما قال تعالى: يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَّخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) النّازعات. والقول سيقال حسب سياق القرآن الحكيم: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7)، والله أعلم بمراده، أما في خروجهم من الأجداث يقول ربّ العزّة: خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ (7) القمر، ويقول كذلك: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) المعارج، فكيف يخرج النّاس؟، كل الأخبار تؤكد أنهم ينبتون كما ينبت البقل وأن الله عزّ وعلَا يمطر ماءً أو سائلا من السماء فتنشقّ عنهم الأرض ويرسل النّفوس والأرواح ليعود كلّ منها إلى بدنه، كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) الأعراف، فما مدى المقاربة بين هذه الأبدان التي يخرجها الخالق البارئ ويردّ إليها نفوسها وأرواحها والأبدان الحالية؟، الأخبار تذكر أنّ الناس ستكون بأبدان طولها ستّون ذراعاً بنفس الطّول الذي كان عليه آدم عليه الصلاة والسّلام، حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا بقدرات بدنية ونفسية خارقة، نفسهم وروحهم غير محجوبة عنهم كما هو الحال الآن. يقول تعالى: وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) ق، فالسّياق القرآني يحدّد هذا المجيء بعد النّفخ في الصّور إذ قال تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) ق، فلعلّ السائق هو الرّوح والشّهيد هو البدن والله أعلم، لأنّ البصر حينئذ حديد، كما يُرى القرين من الجنّ وعموماً يزول كل القصور في الحواس الحالية ليكون أكثر ملاءمة لما شاء الله أن يكون في أرض الوعد والوعيد.
يبقى أن نسأل هل سيكون الناس سواسية في الحشر؟، أورد المفسّرون حديثا عن معاذِ بن جبلٍ جاء فيه: ” يَا مُعَاذُ يُحْشَرُ النَّاسُ عَشْرَةَ أصْنَافٍ مِنْ أُمَّتِي أشْتَاتاً قَدْ بَدَّلَ اللهُ صُوَرَهُمْ وَغَيَّرَهُمْ مِنْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَبَعْضُهُمْ عَلَى صُورَةِ الْقِرَدَةِ. .. الحديث“، غير أنّه وصف بالضّعيف من أكثر من واحد. لكن في مسند أبي داوود الطّيالسي[285]: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:” يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ: رُكْبَانًا، وَمُشَاةً، وَعَلَى وُجُوهِهِمْ“، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَيَمْشُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ؟، قَالَ: «الَّذِي أَمْشَاهُمْ عَلَى أَقْدامِهِمْ قَادِرٌ أَنْ يُمْشِيَهُمُ عَلَى وُجُوهِهِمْ» وهو بيان لما جاء في كتاب الله: الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلاً (34) الفرقان، والأهم من كل هذا يكون الناس في دهشة شديدة ولا يذكرون شيئا مما عاشوه كما قال تعالى: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) المجادلة، ونتيجة النّسيان فلا أنساب بينهم كما قال تعالى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءلُونَ (101) المؤمنون، ولعلّ هذا ما يفسرّ الفزع الذي ينتاب حتّى أنبياء الله كما هو وارد في السّنة.
يوم الجمع
استعمال يوم الجمع بدل يوم الحشر رغم أنهما لغة يعبّران عن شيء واحد، ذلك لأنه في كتاب الله لم يرد يوم الحشر بصيغة ”يوم“ قال تعالى: يومَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) ق، أما يوم الجمع فقد قال تعالى: كَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) الشّورى، فكل من الحشر أو الجمع يكون مرّتين كما سبق، مرة بالتتالي ومرة جملة واحدة، ففي المرة الأولى كما قال تعالى: قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكَثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (26) الجاثية. فلو كان الجمع في الآية يعني يوم الجمع الذي نحن بصدده لكان والله أعلم القول، يحييكم ثمّ يميتكم ثمّ يحييكم ثمّ يجمعكم، بينما الجمع في الآية وارد بعد الموتة الثانية فهو ليوم الجمع الأول حيث الناس ثلاثة أصناف، وهو نفس المعنى الذي جاء في الآية الشّريفة: وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ (158) آل عمران، أما يوم الجمع الذي يسمّيه ربّ العزّة بيوم الفصل كذلك: هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ (38) المرسلات، فسينتهي بفرز النّاس إلى فئتين لا أكثر، لذا كل أيام الله الواردة في كتابه الحكيم هي في حاجة من علماء المسلمين إلى فحص وتدقيق جدّي حتى يعلم أهل الملّة ما ينتظرهم في كل مرحلة، وما هو المدى الزمني لكل مرحلة سواء حسب ما نعدّ أو حسب التعداد الذي فصّله ربّ العزّة في خلق السماوات والأرض.
لا نستطيع أن نقدّر الكرامة والرحمة اللذين يخصّ بهما مالك الملك أولياءه وعباده المتّقين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، إذ يدخلهم الجنة مباشرة بعد موتهم، فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) الواقعة، ثمّ يخلّدهم في جنة أخرى ما دامت السماوات والأرض، وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) هود، ثمّ بعد بعثهم يقيمهم في جنة في ذات الوقت الذي يقيم الطاغين في جهنّم أحقاباً كما وعد: لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) النّبأ، يقول القرطبي: (لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً) أَيْ مَاكِثِينَ فِي النَّارِ مَا دَامَتِ الْأَحْقَابُ، وَهِيَ لَا تَنْقَطِعُ، فَكُلَّمَا مَضَى حُقُبٌ جَاءَ حُقُبٌ. وَالْحُقُبُ بِضَمَّتَيْنِ: الدَّهْرُ وَالْأَحْقَابُ الدُّهُورُ. وَالْحِقْبَةُ بِالْكَسْرِ: السَّنَةُ، وَالْجَمْعُ حِقَبٌ انتهى، ثمّ بعد ذلك يدخلهم جنة الخلد، أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاء وَمَصِيرًا (15) الفرقان، والله أعلم. أليس هذا بالفوز العظيم؟، فهم أربعة جنان إذاً جنّتان رئيسيتان إحداهنّ في هذا الكون والأخرى في كون بعد أن يتبدّل، وجنّتان ثانويتان إحداهنّ في هذا الكون والأخرى في الآخر، وفي هذا والله أعلم يقول العزيز الحكيم: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)، وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) الرحمن، أمّا ما سيلاقيه الأشقياء فخيرٌ لك أن لا تسأل عن أصحاب الجحيم.
وضع الكتاب
يقول تعالى: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49) الكهف، يعلم الله شكل وأوصاف الكتاب الذي سيوضع، لكن المؤكّد عند وضعه يعود للنّاس تذكّرهم لكل أعمالهم في الحياة الدّنيا على الأقل، بل أكثر من التذكّر فهو حضور لتلك الأعمال كأنها تباشر في حينها، ويبقى غائباً والله أعلم حتّى على أهل السعادة كيف سيكون عليه الحساب بدليل ما جاء في الصّحيح[286]: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أُتِيَ بِلَحْمٍ فَرُفِعَ إِلَيْهِ الذِّرَاعُ، وَكَانَتْ تُعْجِبُهُ فَنَهَشَ مِنْهَا نَهْشَةً، ثُمَّ قَالَ: ”أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَهَلْ تَدْرُونَ مِمَّ ذَلِكَ؟ يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، يُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي وَيَنْفُذُهُمُ البَصَرُ، وَتَدْنُو الشَّمْسُ، فَيَبْلُغُ النَّاسَ مِنَ الغَمِّ وَالكَرْبِ مَا لاَ يُطِيقُونَ وَلاَ يَحْتَمِلُونَ، فَيَقُولُ النَّاسُ: أَلاَ تَرَوْنَ مَا قَدْ بَلَغَكُمْ، أَلاَ تَنْظُرُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ؟ فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ: عَلَيْكُمْ بِآدَمَ، فَيَأْتُونَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فَيَقُولُونَ لَهُ: أَنْتَ أَبُو البَشَرِ، خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، وَأَمَرَ المَلاَئِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلاَ تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ، أَلاَ تَرَى إِلَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ آدَمُ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ اليَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنَّهُ قَدْ نَهَانِي عَنِ الشَّجَرَةِ فَعَصَيْتُهُ، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى نُوحٍ، فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَقُولُونَ: يَا نُوحُ، إِنَّكَ أَنْتَ أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ، وَقَدْ سَمَّاكَ اللَّهُ عَبْدًا شَكُورًا، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلاَ تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ فَيَقُولُ: إِنَّ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ قَدْ غَضِبَ اليَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنَّهُ قَدْ كَانَتْ لِي دَعْوَةٌ دَعَوْتُهَا عَلَى قَوْمِي، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى إِبْرَاهِيمَ، فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُونَ: يَا إِبْرَاهِيمُ أَنْتَ نَبِيُّ اللَّهِ وَخَلِيلُهُ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلاَ تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ، فَيَقُولُ لَهُمْ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ اليَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنِّي قَدْ كُنْتُ كَذَبْتُ ثَلاَثَ كَذِبَاتٍ نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى مُوسَى فَيَأْتُونَ، مُوسَى فَيَقُولُونَ: يَا مُوسَى أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، فَضَّلَكَ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَبِكَلاَمِهِ عَلَى النَّاسِ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلاَ تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ فَيَقُولُ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ اليَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنِّي قَدْ قَتَلْتُ نَفْسًا لَمْ أُومَرْ بِقَتْلِهَا، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، فَيَأْتُونَ عِيسَى، فَيَقُولُونَ: يَا عِيسَى أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَكَلَّمْتَ النَّاسَ فِي المَهْدِ صَبِيًّا، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلاَ تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ فَيَقُولُ عِيسَى: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ اليَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ قَطُّ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ ذَنْبًا، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي اذْهَبُوا إِلَى مُحَمَّدٍ، فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا فَيَقُولُونَ: يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَخَاتِمُ الأَنْبِيَاءِ، وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلاَ تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ، فَأَنْطَلِقُ فَآتِي تَحْتَ العَرْشِ، فَأَقَعُ سَاجِدًا لِرَبِّي عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ مَحَامِدِهِ وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ شَيْئًا، لَمْ يَفْتَحْهُ عَلَى أَحَدٍ قَبْلِي، ثُمَّ يُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ سَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ فَأَرْفَعُ رَأْسِي، فَأَقُولُ: أُمَّتِي يَا رَبِّ، أُمَّتِي يَا رَبِّ، أُمَّتِي يَا رَبِّ، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ أَدْخِلْ مِنْ أُمَّتِكَ مَنْ لاَ حِسَابَ عَلَيْهِمْ مِنَ البَابِ الأَيْمَنِ مِنْ أَبْوَابِ الجَنَّةِ، وَهُمْ شُرَكَاءُ النَّاسِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الأَبْوَابِ، ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ مَا بَيْنَ المِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الجَنَّةِ، كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَحِمْيَرَ أَوْ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَبُصْرَى - “.
أمّا كم يمكث النّاس على هذه الحال، فقد جاء في المستدرك «كَيْفَ بِكُمْ إِذَا جَمَعَكُمُ اللَّهُ كَمَا يُجْمَعُ النَّبْلُ فِي الْكِنَانَةِ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، ثُمَّ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْكُمْ»[287]، ولعلّه كاليوم الذي قال ربّنا عنه: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) المعارج، فلإعطاء مقاربة للزّمن في الآخرة الكبرى نجد من يقول أنّ عمر السموات والأرض في الأولى ستة أيام في التّكوين ويوم واحد هو كلّ زمن عيش النّاس: يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْمًا (104) طه، فنحن إذاً أمام أيام عسيرة عموما وعلى الكافرين أشدّ عسراً، أجارنا الله و إياكم من أهوالها.
يوم الحساب
يوم الحساب من المسلّمات الثابتة في الإسلام سواء في السّنة أو الكتاب، ففي السّنة أورد البخاري[288] على سبيل المثال: عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «مَنْ نُوقِشَ الحِسَابَ عُذِّبَ» قَالَتْ: قُلْتُ: أَلَيْسَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: "فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا" الانشقاق:(8) قَالَ: «ذَلِكِ العَرْضُ»، وما يثبت أنّه يوم من أيام القيامة الكبرى والله أعلم قول ربّنا: يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17) غافر.
ولعلّ سؤال القبر هو نوع من الحساب والله أعلم في القيامة الصّغرى، فاليوم الذي نحن بصدده يحدث في أرض المحشر ويمكّنُ فيه كلّ إنسان بصحيفته التي تحصي أعماله ما صغر منها وما كبر، وليس من سبيل للتّخلّص منها، ولا أدري هل الصراط هو شكل من أشكال الحساب أم هو اجتياز قسري للخروج من أرض المحشر إلى أرض الميعاد، ففي صحيح مسلم من حديث أمّنا عائشة عليها السّلام[289]: عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ عَنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: "يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ" (48) إبراهيم: فَأَيْنَ يَكُونُ النَّاسُ يَوْمَئِذٍ؟ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ: «عَلَى الصِّرَاطِ».
ويفهم من أحاديث أخرى أنّ دخول الجنّة أو النّار لا يكون إلا بعد اجتياز الصّراط، ويبقى الإشكال هل يوم الحساب هو المراد به يوم الدّين أو هو يوم آخر؟، العلم لله، ففي كتاب الله إشارات دالة أنّ يوم الدّين هو أبعد الأيام إلينا وحتّى لإبليس اللّعين، وأنّه يوم يعرّفه ربّ العزّة: يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19) الانفطار، وأن ارتباطه بتأثير الخطايا وأثرها السّيّء على الإنسان وارد في كتاب الله بلسان سيّدنا ابراهيم عليه الصّلاة والسّلام حيث يقول: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) الشّعراء، وفي السّنة من حديث عائشة رضي الله عنها[290]: قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ ابْنَ جُدْعَانَ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَصِلُ الرَّحِمَ، وَيُطْعِمُ الْمِسْكِينَ فَهَلْ ذَلِكَ نَافِعُهُ؟ قَالَ: ”لَا يَنْفَعُهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ “ بذلك يبقى يوم الدّين غائبا عنّا وغائبا أيضا حتّى عن من هم في الآخرة كما جاء في قول تعالى: يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) الذّاريات، لذا ما لم يبيّنه ربّ العزّة يكون من الأفضل أن لا يرتبط بأيّ يوم آخر من أيّام الله والله أعلم، ويكون علمنا أنّ مصيرنا إلى الله كافياً كحافز للسّعي لأن نكون من الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وأن نتعرّف على أيّام مختلفة من أيّام الله دون الخوض في مجهول لا يعلمه إلاّ هو سبحانه وتعالى.
مدى الخلود
تسرّب إلى فهمنا أنّ الخلود هو البقاء إلى اللانهاية، وهذا الفهم لا أصل له في اللغة، ففي اللسان[291]: ”خلد: الخُلْد: دَوَامُ الْبَقَاءِ فِي دَارٍ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا“، كذا: ”خَلَد يَخْلِد ويخْلُدُ خَلْداً وخُلوداً: أَبطأَ عَنْهُ الشَّيْبُ“، وفي كتاب الله نجد ”خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ“ أي خلوداً مقرونا ببقاء السماوات والأرض، ونجد كذلك: ”لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا“ بمعنى مقيمين وهو نفس معنى الخلود، أمّا الحقبة في اللغة فترة من الدّهر ”وعِشْنا بذلك هَبَّةً مِنَ الدَّهْر، أي: حِقْبةً“، ونجد كذلك في كتاب الله ”خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا“ والأبد من مقاييس الدّهر كالحقبة أو لنقل الدّهر كلّه كما جاء في اللسان[292]: الأَبَدُ: الدَّهْرُ، إذا البقاء في أيام الله المختلفة يحدّد بمدّة زمنية قد تكون جزء من الدّهر وقد يكون الدّهر كلّه، والدّهر في السنّة مبيّن بالمدى الزّمني لشيء من بدايته لنهايته مثلا لعمر شخص بشري، جاء في البخاري[293]: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «أُرِيتُ النَّارَ فَإِذَا أَكْثَرُ أَهْلِهَا النِّسَاءُ، يَكْفُرْنَ» قِيلَ: أَيَكْفُرْنَ بِاللَّهِ؟ قَالَ:” يَكْفُرْنَ العَشِيرَ، وَيَكْفُرْنَ الإِحْسَانَ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ، ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا، قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ “ وبالنّسبة للسّماوات والأرض: من حديث أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَالَ ﷺ: قَالَ اللَّهُ: يَسُبُّ بَنُو آدَمَ الدَّهْرَ، وَأَنَا الدَّهْرُ، بِيَدِي اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وبالنّسبة لقياس زمني هو السّنة نجد من حديث عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ العَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «إِنَّكَ لَتَصُومُ الدَّهْرَ، وَتَقُومُ اللَّيْلَ؟»، فَقُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: «إِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ هَجَمَتْ لَهُ العَيْنُ، وَنَفِهَتْ لَهُ النَّفْسُ، لاَ صَامَ مَنْ صَامَ الدَّهْرَ، صَوْمُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ صَوْمُ الدَّهْرِ كُلِّهِ»، قُلْتُ: فَإِنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: «فَصُمْ صَوْمَ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا، وَلاَ يَفِرُّ إِذَا لاَقَى» من كل هذا يتبيّن أنّ الخلود اللانهائي لا يكون إلا لربّ العزّة كما قال: هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ، مع ذلك يمكن القول أنّ خلود الملائكة في هذه الأولى من السماوات والأرض قائم لنفوسهم ومظهرهم بينما للثّقلين فخلود للنّفوس وظهور متبدّل بين الحياة والموت، أمّا في الأخرى بعد الإعادة فقد وُعدنا بخلود على مداها، أمّا اعتبار الخلود لا نهائي في الزّمن فهو منفيّ بقوله تعالى هو الأول ولآخر، وأنّ أي استشراف أو تطلّع لما بعد ذلك يكون خوضاً في غيب لم يذكر الوحي فيه إشارة ولا تبياناً.
كتــــــاب المصيــــــر
صفات الله تعالى
كلّ الصفات الواردة في الكتاب والسّنة لمن تقدّس وتبارك اسمه، قائمة ويجب الإيمان بها، وفي البعض منها، نزر من الشبه مع صفات الإنسان الذي هو من خلقه، إلّا أن الشّبه لا يعني التّماثل ولا الندّيّة ولا المناظرة، بل هو على منوال التّشابه الموجود رياضيّاً بين اللانّهائي المحدود واللانهائي غير المحدود، وثمّ فروق أُخَر بين صفات الخالق والمخلوق، منها مثلا، صفات المخلوق زائدة عن الذّات؛ ممّا يعني إمكانية استخدام واحد أو أكثر منها دون الغير الآخر، أمّا صفات الخالق فهي غير منفصلة عن الذّات ممّا يتعذّر معه إدراكها على الحقيقة، وهو ما عبّر عنه مفكّرو الإسلام بوحدة الذّات والصّفات والأسماء، وحتّى التّقسيم المستعمل تجاوزاً غير قائم، فالكلّ عين ذاته وهو كما بيّن جلّ وعلا في كتابه: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) الإخلاص، في اللغة ”صَمَدَ“ للصَّادِ وَالْمِيمِ وَالدَّالِ أَصْلَانِ: أَحَدُهُمَا الْقَصْدُ، وَالْآخَرُ الصَّلَابَةُ فِي الشَّيْءِ، ففي القصد يقول تعالى: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (50) الذاريات، وفي الصّلابة لا يجوز في حقّه تجزيئ ولا تكوين فهو الواحد الأحد أي ليس كمثله شيء، ولعلّ هذا المعتقد الأصيل في الإسلام كما أورده الإمام ابن خزيمة في صحيحه[294]: عن مِحْجَنِ بْن الْأَدْرَعِ، حَدَّثَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَدْ قَضَى صَلَاتَهُ وَهُوَ يَتَشَهَّدُ وَيَقُولُ:” اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِاللَّهِ الْوَاحِدِ الصَّمَدِ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ أَنْ تَغْفِرَ لِي ذُنُوبِي إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «قَدْ غُفِرَ لَهُ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ»“، أقول هذا المعتقد الذي يوجز ويلخّص كلّ ما سعى أن يبيّنه علم التّوحيد دون إفراط ولا تفريط، معتقد أصيل يتنافى مع معتقدات دخيلة وكثيرة على مدى تاريخ الإسلام، منها على سبيل المثال العصمة التي أحيطت بأقوال متعدّدة؛ فخُصّ بها الرسل تارة وتعدّت لغيرهم تارة أخرى، وشملت كل الذنوب تارة، ووُجّهت للتّبليغ لا غير تارة أخرى، كما يقول الفخر الرّازي[295]: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَضَبْطُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنْ يُقَالَ: الِاخْتِلَافُ فِي هَذَا الْبَابِ يَرْجِعُ إِلَى أَقْسَامٍ أَرْبَعَةٍ: أَحَدُهَا: مَا يَقَعُ فِي بَابِ الِاعْتِقَادِ، وثانيها ما يقع في باب التّبليغ، وثالثها: ما يقع في باب الأحكام والفتيا، ورابعها: ما يقع في أفعالهم وسيرهم، انتهى.
ففي ما يخصّ التّبليغ قال تعالى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ (44) لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) الحاقة. فهل بعد هذا التّحذير الإلهي أن يحتاج أعرف النّاس بربّه وأعلم النّاس بربّه إلى العصمة بمفهومها المتداول، ألم يقل الله العزيز الحكيم، الله أعلم حيث يجعل رسالته، أي أنّه من المصطافين الأخيار؛ وحتّى الاصطفاء فهو اصطفاء عن استحقاق وليس منتوج العصمة المسبقة، فلو لم يكن الأمر كذلك لاحتج الكفّار أو من أحاطت به خطيئته يوم القيامة التي هي قائمة الآن بالنّسبة للكثير من النّاس عند ربّهم أنّهم لم يكونوا معصومين؛ وهذا لم يحدث، فأقصى مطلب قالوه كما بيّن العزيز الحكيم: حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) المؤمنون، وفي هذا إقرار من النّفس واعتراف ممّن لا حجّة عنده أنّ نفسه وحدها المسؤولة في كلّ ما جرى له؛ أي لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت. قدرة الله على أن يختار ويصطفي من خلقه من شاء هي صفة من صفاته تعالى لا تكون منفصلة عن العدل والعلم وكلّ باقي الصّفات والله أعلم، ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ (182) آل عمران، والكلّ يعلم أنّ العبيد أشمل من العباد، أمّا إذا كان المراد من العصمةُ لطف يفعله اللّه بالمكلّف بحيث يمنع من وقوع المعصية كما هو الحال في قصّة يوسف عليه الصّلاة والسّلام، إذ قال تعالى على لسانه: قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ (33) يوسف، فهي عصمة في متناول كلّ المؤمنين، إن لم أقل النّاس أجمعين لوجود من لا رغبة لهم فيها، فالذي يخشى ربّه وأحاطت به الظّروف إلى حدّ استشعر فيه أنّ مقدرته لن تعصمه من الخطيئة، ثمّ دعا ربّه وهو أعلم بحاله، أفلا يجيب المضطرّ إذا دعاه؟، وهذه عصمةٌ حقيقيةٌ واقعة جرّبها من جرّبها وعليه أن يجرّبها من لم يجرّبها.
كثيرة هي العقائد عند طوائف الملّة التي لا تتفق مع الوارد في الكتاب، نسوق على سبيل المثال، عقيدة عدم تخليد أهل الكبائر في النار، ففي العقيدة الطّحاوية[296]، 89-"وأهل الكبائر من أمّة محمد ﷺ في النّار لا يخلدون إذا ماتوا وهم موحّدون-وإن لم يكونوا تائبين- بعد أن لقوا الله عارفين مؤمنين" انتهى، ويفهم من هذا بلا عناء أنّ كل المسلمين لن تمسّهم النار إلا ايام معدودة، فإذا أسقطنا هذا القول على اليهود وهم موحّدون كذلك، وجب الحكم أنهم لن يخلدوا في النّار تبعا لذلك، اللّوم ليس موجّها لمن يعتمد على خبر الآحاد في العقيدة أم من لا يعتمد إلا على المتواتر من الحديث، مثل هذا الخلاف ليس ذا أهمّية، بل الذي يستوجب اللوم ويستوجب الاستبعاد وأن يخصّ بكل تمحيص قبل النّطق به، أن يفهم من رسول الله ﷺ ما يتعارض ولا يتّفق مع الكتاب، ففي هذا الشّأن قال تعالى: وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (80) البقرة، فهذه العقيدة إذا من الاسرائيليات، لأنّ العقائد التي هي موضع خلاف بين أهل الكتاب أو بين بعضهم البعض، الطابع المميّز لها عدم ورودها في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن، وهو ما يؤيّده قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (24) آل عمران، أم أنّ المسلمين ليسوا أهل كتاب؟، الاعتقاد باطل لمخالفته نصّا صريحا من كتاب الله: بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) البقرة. أورد الطّبري[297]: عن السدي: (بلى من كسب سيئة)، أما السيئة، فهي الذنوب التي وعد عليها النار...انتهى. فإن قيل أن مرتكب الكبيرة متروك للمشيئة، وأنّ التّوبة تجبّ ما قبلها، وجب التّيقّن أنّ المشيئة لا تنفرد عن باقي الصّفات الربّانية ومنها العدل، وأنّ شروط التّوبة التي ساقها الفقهاء أغفلت شرطاً أتى به العزيز الحكيم في الكتاب ولم يعتبروه: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18) النّساء. كما أنّ التّوبة ليست خالصة من فعل الإنسان وحده، بل ينسبها ربّ العزّة لنفسه: وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) التّوبة، فكلّ الطّروحات التي تفصل السّنة عن الكتاب أو تنتقي من السّنة أو من الكتاب تبعا للهوى في استنباط الأحكام فهي مذمومة، مع ذلك لا يجب أن يفهم عنّي دعوة إلى عدم التّصديق بكلّ ما صحّ عن رسول الله وهو متّفق مع كتاب الله حتّى ولو عدّ ضعيفا، مثل: ”مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ“ وقد وردت بصيغ متعدّدة وفي أكثر من رواية والصيغة المتّفقة مع كتاب الله: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19) محمد. وهي كما أخرج أَحْمد وَمُسلم وَالنَّسَائِيّ وَابْن حبَان وَالْبَيْهَقِيّ عَن عُثْمَان قَالَ: قَالَ رَسُول الله ﷺ: ﴿من مَاتَ وَهُوَ يعلم أَن لَا إِلَه إِلَّا الله دخل الْجنَّة﴾، فالمراد والله أعلم العلم، ليس مجرّد القول باللسان، وحتّى القول باللسان فقد يكون كافيا في الفترة التي كان فيها الإسلام مضطهداً، أمّا بعد أن صارت الغلبةً للإسلام فكثير من كان يقولها نفاقا وتقيّة من شوكة المسلمين، فإذا كان ربّ العزّة يطلب ممّن هو أعلمنا بربّه أن يعلم لا إله إلاّ الله، فكيف يكون حال أغلب المسلمين الذين يصعب عليهم أن يحدّدوا شعب الشّرك الخفي حتّى لا يتّبعوها، ففي السّنة تبيان لعدّة سلوكيات تعتبر من الشّرك الأصغر مثل الرياء والرقي والتّمائم والتّطيّر إلى غير ذلك، فمن منّا مثلا لم يستعمل في حديثه ” لولا كذا ما حصل لي كذا “ عن غفلة غير مقصودة، كأن يعتقد لولا تدخّل الطّبيب المعيّن ما كان ليشفى، وهذا شرك خفي يتبيّن عند مقارنته مع قوله تعالى على لسان سيدنا إبراهيم ﷺ: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) الشّعراء، وعند مقارنته مع السّنة كما جاء في صحيح ابن حبّان[298]: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ”الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ الْخَيْرُ، فَاحْرِصْ عَلَى مَا تَنْتَفِعُ بِهِ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجِزْ، فَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ اللو تفتح عمل الشيطان“. المجمل من عَلم أن لا إله إلا الله فقل عنه أنّه أدرك منتهى العلم، وهذا بيّن في قوله تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) آل عمران.
وكمثال ثان ما جاء في حديث أنس بن مالك كما أورده الطّبراني ”من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشرا ومن صلى علي عشرا صلى الله عليه مائة ومن صلى علي مائة كتب الله له بين عينيه براءة من النفاق وبراءة من النار وأسكنه الله يوم القيامة مع الشهداء“ فالحديث بيان لقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56) الأحزاب، فالتّصديق به مرغوب والإتّباع ملزوم حتّى وإن ظلّت قاصرة في تقبّله العقول، الأسلم في كلّ فهم، ما هو من شأن الله، يجب أن لا يكون عرضة لخلاف البشر ولا حتّى الخوض فيه، قد يقول البعض أنّ هذا الحديث أو ذاك ضعيف، وكلّ يعلم أنّ الضّعف والاستحسان وغير ذلك من التّصانيف لا علاقة لها بمنطوق الحديث بل تجريح في راوٍ من سلسلة رواة الحديث، لذا عند اتفاق منطوق الحديث مع ما جاء في كتاب الله أو ما عُرف من سيرة رسول الله، تكون بلا معنى كل هذه التّصانيف والذي يبقى قائماً قوله تعالى: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ"(31) آل عمران. أمّا الذين يعتمدون على حديث واحد في أحكامهم دون البحث عن شواهد له في السّنة قبل القرآن، فهو أمر آخر، شبيه بما قال عنه ربّ العزّة: الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) الحجر. قال القرطبي[299]: وَوَاحِدُ الْعِضِينَ عِضَةٌ، مِنْ عَضَّيْتُ الشَّيْءَ تَعْضِيَةً أَيْ فَرَّقْتُهُ، وَكُلُّ فِرْقَةٍ عِضَةٌ انتهى. وبمثل ذلك قال رسول الله ﷺ كما أورده الإمام أحمد في مسنده[300]: عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ:” سَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمًا يَتَمَارُونَ فِي الْقُرْآنِ فَقَالَ: "إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِهَذَا، ضَرَبُوا كِتَابَ اللهِ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، وَإِنَّمَا نَزَلَ كِتَابُ اللهِ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَلَا تُكَذِّبُوا بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، فمَا عَلِمْتُمْ منه فَقُولُوا، وَمَا جَهِلْتُمْ، فَكِلُوهُ إِلَى عَالِمِهِ“، فعلى المؤمن أن يحذر مما ورد في علم الكلام أي علم التّوحيد تلطّفا، لأنه لا يؤدّي إلى اليقين ولا ينفع في معرفة الله، فلا تكفير ولا جزم بما سيفعله الله لأنه لا يجوز ذلك في حقّه، وكل ما قيل من علماء الملّة أصاب أم أخطأ لا يجوز تسميته بالمبتدع ولا الضال ولا غيرها من النّعوت المتداولة ما لم يتبيّن يقينا أنه من أصحاب الجحيم، كما قال تعالى: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) التوبة، فعلم التّوحيد الذي كان منتظراً منه تصحيح العقيدة ورفع مستوى الإيمان نجده فرّق المسلمين إلى ما نحن عليه، فقد قال مولاي عبد السلام ابن مشيش شيخ الإمام الشّاذلي في صلاته المشهورة: ”وَزُجَّ بِي فيِ بِحارِ الأَحَدِيَّةِ وَانْشُلْني مِنْ أَوْحَالِ التَّوْحِيدِ وَأَغْرِقْني فيِ عَيْنِ بَحْرِ الوَحْدَةِ حَتَّى لاَ أرَى وَلا أسْمَعَ وَلا أَجِدَ وَلاَ أُحِسَّ إِلاَّ بِها“، يقصد أنّ علم التّوحيد كالوحل يعرقل سير السائر على الطّريق، والله أعلم.
معرفة الله
في مقولة لسيمون فأيل[301] Simone Weil، أوردها ديباك شوبرا[302] Deepak Chopra في كتابه ”معرفة الله“ تقول: ”فيما يتعلّق بالشّؤون اللاهوتية، الإيمان غير ملائم، فقط تتلاءم مع اليقين. كلّ شأن أقل من اليقين لا يفي حقّ الله“، انتهى. من شواهد تلازم اليقين بالمعرفة، المروي عن رسول الله ﷺ الذي ساقه أكثر من واحد حتّى وإن ضعّف سنده فالمهمّ معناه، فقد جاء في مصنّف ابن أبي شيبة[303]: عَنْ زُبَيْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا حَارِثَ بْنَ مَالِكٍ؟ قَالَ: أَصْبَحْتُ مُؤْمِنًا حَقًّا، قَالَ: «إِنَّ لِكُلِّ قَوْلٍ حَقِيقَةً فَمَا حَقِيقَةُ ذَلِكَ؟» قَالَ: أَصْبَحْتُ عَزَفَتْ نَفْسِي عَنِ الدُّنْيَا وَأَسْهَرْتُ لَيْلِي وَأَظْمَأْتُ نَهَارِي ; وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى عَرْشِ رَبِّي قَدْ أُبْرِزَ لِلْحِسَابِ , وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ يَتَزَاوَرُونَ فِي الْجَنَّةِ، وَكَأَنِّي أَسْمَعُ عُوَاءَ أَهْلِ النَّارِ، قَالَ: فَقَالَ لَهُ: «عَبْدٌ نُورُ الْإِيمَانِ فِي قَلْبِهِ، إِنْ عَرَفْتَ فَالْزَمْ».
اليقين لا يُدرك مع وجود شكوك فيما يتعلّق بالغيبيات، لأنّ ما نسمّيه غيبيات ليست سوى أركان الإيمان، أليس اهتمامنا بأركان الإسلام يبيح تكفير من يشكّ في ركن من أركان الإسلام أو يبطله؟، فهل الإيمان أقل شأنا من الإسلام؟ قال تعالى: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5) المائدة، أورد الطّبري[304] في تفسير ومن يكفر بالإيمان: عن قتادة قال: ذكر لنا أن ناسًا من المسلمين قالوا: كيف نتزوّج نساءهم = يعني: نساء أهل الكتاب = وهم على غير ديننا؟ فأنزل الله عز ذكره:" ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين"، فأحل الله تزويجهن على علم. انتهى.
فإذا كان من غير المقبول أن نصف كتابيّة أو كتابيا بأنّه غير مؤمن وحُذّرنا من ذلك، فكيف نتجاوز إلى رمي مسلم بهذا النّعت، أمّا ما يتعلّق بالإسلام فهو الظّاهر من الأعمال حيث نُدرك دون عناء من حسُن إسلامه كما كان يقول السّلف أو من لا زال يتعثّر في طريقه، من ذلك يكون الأيسر أن تقول لشخص أنت غير مسلم من أن تقول له أنت غير مؤمن، فالحالة الأولى حكم على الظّاهر بينما الثّانية حكم على الباطن، وقد أورد كثير من المفسّرين قوله ﷺ: «نَحْنُ نَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ واللَّه يَتَوَلَّى السَّرَائِر»، أمّا أهل الحديث فينكرونه ويقولون لا أصل له رغم أنّ معناه يتّفق مع أحاديث كثيرة منها على سبيل المثال ما أورد مسلم في صحيحه: «إِنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أَنْقُبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ، وَلَا أَشُقَّ بُطُونَهُمْ» وبأية صيغة اعتبرت فهي قاعدة نبوية، وليست قاعدة أصولية وفقهية فقط، أي يستعملها العالم متى شاء ويتخطّاها متى شاء.
ما هو المعتمد لدى المسلمين في معرفة الله ؟، لا شكّ أنّ التّوحيد أو علم الكلام هو الذي يرجع إليه المسلمون لمعرفة الله أو لنقل كل فرقة إلى علمها، لأنّ الإسلام تفرّق إلى فرق منذ أيامه الأولى وتحديداً بعد الفتنة التي لا زالت تلقي بأوزارها إلى اليوم، فلنتتبّع أوصاف هذه المعرفة: أورد أبو الحسن علي الأشعري في كتابه مقالات الإسلاميين[305]: أجمعت المعتزلة على أن الله واحد ليس كمثله شيء وهو السميع البصير وليس بجسم ولا شبح ولا جثة ولا صورة ولا لحم ولا دم ولا شخص ولا جوهر ولا عرض ولا بذي لون ولا طعم ولا رائحة ولا مجسة ولا بذي حرارة ولا برودة ولا رطوبة ولا يبوسة ولا طول ولا عرض ولا عمق ولا اجتماع ولا افتراق ولا يتحرك ولا يسكن ولا يتبعض، وليس بذي أبعاض وأجزاء، وجوارح وأعضاء، وليس بذي جهات ولا بذي يمين وشمال وأمام وخلف وفوق وتحت، ولا يحيط به مكان، ولا يجري عليه زمان، ولا تجوز عليه المماسة ولا العزلة ولا الحلول في الأماكن ولا يوصف بشيء من صفات الخلق الدالة على حدثهم ولا يوصف بأنه متناه ولا يوصف بمساحة ولا ذهاب في الجهات وليس بمحدود، ولا والد ولا مولود، ولا تحيط به الأقدار، ولا تحجبه الأستار، ولا تدركه الحواس، ولا يقاس بالناس، ولا يشبه الخلق بوجه من الوجوه ولا تجري عليه الآفات، ولا تحل به العاهات، وكل ما خطر بالبال وتصور بالوهم فغير مشبه له، لم يزل أولاً سابقاً متقدماً للمحدثات، موجوداً قبل المخلوقات، ولم يزل عالماً قادراً حياً ولا يزال كذلك، لا تراه العيون ولا تدركه الأبصار ولا تحيط به الأوهام ولا يسمع بالأسماع، شيء لا كالأشياء، عالم قادر حي لا كالعلماء القادرين الأحياء، وأنه القديم وحده ولا قديم غيره ولا إله سواه، ولا شريك له في ملكه، ولا وزير له في سلطانه، ولا معين على إنشاء ما أنشأ وخلق ما خلق، لم يخلق الخلق على مثال سبق، وليس خلق شيء بأهون عليه من خلق شيء آخر ولا بأصعب عليه منه، لا يجوز عليه اجترار المنافع ولا تلحقه المضار، ولا يناله السرور واللذات، ولا يصل إليه الأذى والآلام، ليس بذي غاية فيتناهى، ولا يجوز عليه الفناء ولا يلحقه العجز والنقص، تقدس عن ملامسة النساء، وعن اتخاذ الصاحبة والأبناء. فهذه جملة قولهم في التوحيد وقد شاركهم في هذه الجملة الخوارج وطوائف من المرجئة وطوائف من الشيع انتهى. وكما جاء في كتاب ”العقيدة الإسلامية كما جاء بها القرآن الكريم“[306]، لمحمد أبي زهرة: هذا كلام الأشعري نقلناه عن كتابه "مقالات الإسلاميين" وقد ذكر أنّه كلام المعتزلة ولكنّا وجدناه يتّفق مع معنى القرآن الظاهر إلا في عبارات قد تكون مخالفة للظّاهر فحذفناها ليكون العقل متّفقاً مع النّصوص الظّاهرة للقرآن، وهي تتفق مع آراء العلماء جميعاً في معنى وحدانية الذّات بعد حذف العبارات التي كانت مثار الاختلاف بين العلماء، مثل عبارة "لا تدركه الأبصار ولا يسمع بالأسماع" إذ أنّ الأولى فيها ما يشير إلى نفي الرّؤية يوم القيامة وذلك موضوع خلاف، والثانية فيها ما يشير إلى نفي صفة الكلام عن الله تعالى : وذلك موضع كلام بين علماء الكلام، والاختلاف فيه وفي سابقه نفياً وإثباتاً لا يمسّ وحدانية الذّات، بل هو اختلاف جزئي، وليس اختلافاً في أصل الفكرة انتهى.
قد يكون في هذا الكلام كثير من الصّواب وهو ما جاء في كتاب الله واصفاً ربّ العزّة نفسه به، لكن يوجد حشو ما أنزل الله به من سلطان، متعلّق بنفي لا مرجعية له في الكتاب والسّنة، منه ”ولا صورة“ وهو ما لا يتفق مع حديث رسول الله ﷺ الذي أورده البخاري[307] ومعمر بن راشد في الجامع والإمام أحمد في مسنده وغيرهم: من حديث أبي هريرة: (... فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ فِي غَيْرِ الصُّورَةِ الَّتِي يَعْرِفُونَ، فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ، هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا، فَإِذَا أَتَانَا رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ، فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ فِي الصُّورَةِ الَّتِي يَعْرِفُونَ، فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا فَيَتْبَعُونَهُ، وَيُضْرَبُ جِسْرُ جَهَنَّمَ "...الحديث)، ومنه ”ولا يتحرّك“ وهو ما لا يتّفق مع عدّة أحاديث تذكر أن الله عزّ وجلّ ينزل إلى السّماء الدّنيا، بعد أن علمنا أنّ الله تعالى على العرش استوى. وقد روي عن الإمام مالك مقولة ”الاستواء معلوم والكيف مجهول“ أو ”الكيف غير معقول“ وأنّ ابن قدامة المقدسي في كتابه ”إثبات صفة العلو“ جمع من الكتاب والسّنة ما يثبت ذلك العلو، غير أنّ كيفية النّزول لا يجب أن تقارن بكيفية نزولنا، فإذا كنّا نقبل أن لبعض النّاس القدرة على التواجد في مكانين أو أكثر في وقت واحد فأين نحن من خالق القدرات، ومنه الذي لا يتّفق كذلك ”شيء لا كالأشياء“، الشيء كما سلف من عالم الخلق فلا يجوز أن يوصف به تعالى لا نفيا ولا إيجابا، وأنّ الروح من عالم الأمر وليس بشيء، مع ذلك تمثّل بشراً سوياً في قصة سيّدتنا مريم رضي الله عنها، لذا لا يجوز وصف ربّ العزّة تشبيها بالشّيء ولا بالرّوح، فما الرّوح إلا من أمره، ومنه ”لا يناله السّرور“ وهو ما يتنافى مع أحاديث بصيغ مختلقة تأكّد «إِنَّ اللَّهَ لَيَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ كَمَا يَفْرَحُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَجِدَ ضَالَّتَهُ بِوَادٍ، فَخَافَ أَنْ يَقْتُلَهُ فِيهِ الْعَطَشُ».
فلا أدري هل هذه العقيدة تبيان مفصّل لقول الرّب الواحد القهّار”لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ“ مع إسقاط المقارنة على الجانب المادي فقط من الكيان البشري، غافلين وجودا في أنفسنا وفي الآفاق عجزت في فكّ ألغازه العلوم ولا عرفه حقّا عارف، ثمّ بعد ذلك نتجرأ بعلم ومعرفة على ربّ الوجود متجاهلين قوله تعالى: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) طه، كما أنّ العلم حسب كتاب الله لا نهائي ألم يقل: نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ، فهو تتالي لا نهائي، وأنّ أرقى مخلوقات الله وهم الملائكة المكرّمين العارفين كلّ حسب مقامه بما في السماوات والأرض أقروا: قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) البقرة، فلا ينتظر أن تتشكل معرفة بالله تناقض كل الأسس العلمية الواردة في كتاب الله.
فهل من وسيلة نعرف بها الله، أو على الأصح نسترجع بها معرفتنا لله؟ سئل أبو سعيد أحمد بن عيسى الخرّاز (المتوفى:277 هجرية) رحمه الله عن المعرفة فقال[308]: المعرفة تأتي من وجهين من عين الجود وبذل المجهود، انتهى، ففي هذه الجملة المقتضبة معان جليلة، أولاها أن المعرفة لا تدرك بالعقل ولا بالنّقل، بل هي منّة من الرّحمن الرّحيم شأنها شأن الإيمان كما قال تعالى: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ (100) يونس، لذا يقول الصّوفية ”العارف بالله“ أي استمدّ كل ما يعرف من الله، ولا يقولون يعرف الله، وثانيها أنّ سبيل المعرفة المجاهدة كما قال تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69) العنكبوت. ففصل الشّريعة عن الحقيقة لم يقل به أحد من القوم، بل كل باطن يخالفه ظاهر فهو باطل.
يقول حسين الحلاّج في كتاب الطّواسين[309]: من قال "عرفته بفقدي" فالمفقود كيف يعرف الموجود؟. ومن قال "عرفته بوجودي" فقديمان لا يكونان. ومن قال "عرفته حين جهلته" والجهل حجاب، والمعرفة وراء الحجاب، لا حقيقة لها. ومن قال "عرفته بالاسم" فالاسم لا يفارق المسمّى لأنّه ليس بمخلوق. ومن قال "عرفته به" فقد أشار إلى مخلوقين. ومن قال "عرفته بصنعه" فقد اكتفى بالصّنع دون الصّانع. ومن قال "عرفته بالعجز عن معرفته" فالعاجز منقطع، والمنقطع كيف يدرك المعروف؟. ومن قال "كما عرّفني عرفته" فقد أشار إلى العلم، فرجع إلى المعلوم، والمعلوم يفارق الذّات، ومن فارق الذّات كيف يدرك الذّات؟. ومن قال "عرفته كما وصف نفسه" فقد قنع بالخبر دون الأثر. ومن قال "عرفته على حدّين" فالمعروف شيء واحد، لا يتحيّز ولا يتبعّض. ومن قال "المعروف عرَف نفسه" فقد أقرّ بأنّ العارف في البين، متكلّف به، لأنّ المعروف لم يزل كان عارفاً بنفسه. ومن قال "عرفته بالحقيقة" فقد جعل وجوده أعظم من وجود المعروف، لأنّ من عرف شيئا على الحقيقة، فقد صار أقوى من معروفه حين عرفه، انتهى.
العلم والمعرفة
العلم مكتسب، والمعرفة فطرة الله التي فطر الناس عليها كما قال سبحانه وتعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (30) الروم، أليست معرفة الوليد كيف يتغدّى من ثدي أمّه خيراً له من أن يعلم تفاصيل النّسبية؟، ليس في هذا انتقاص من فضل العلم وشرفه، إنّما تذكير لعدم إهمال دور المعرفة وآفاقها، العلم في غاياته الوصول إلى معارف شتّى، لكن الأسس الذي تبنى عليه معرفته ليست علمية، فالرياضيات أسبق العلوم لتوقّعات معرفية مثلاً، تنطلق من بديهيات أوّلية لا تخضع لمقاييس العلم ذاته، في حين؛ أنّ المعرفة معراج اليقين الذي لا يحتاج لتأكيد ولا نفي من اعتبارات البرهان، المسلمون سلكوا الطّريقين معا، طريق استحصال علوم الدّين والدّنيا، وطريق التّحقق بالعرفان؛ أي ما يعبّر عنه ببساطة بالتّعلّم والتفقّه والتّصوّف، وهو نفس ما نقل عن الإمام مالك بن أنس ”من تصوف ولم يتفقه فقد تزندق، ومن تفقه ولم يتصوف فقد تفسق، ومن جمع بينهما فقد تحقق“ سواء كانت المقولة له أم لا، لأننا في زمن يوجد فيه من يشكّك في كل شيء إذا لم ينسجم مع معتقد فرقته، ولا أقول عقيدة الإسلام، لأنّي أجد في كل علماء الإسلام المعروفين بالتّقوى والورع سمات لتصوّفهم لا يمكن أن تمحى ولا أن تستبدل باستبدال المسمّى، غير أنّ حال المسلمين اليوم كما يشخّصه من هو أقدر على التّشخيص، قد لا يكون مرضيّاً، رغم ذلك لا مدعاة للتشاؤم ما دامت وسيلة النّهوض مدركة، فقد أورد الحاكم في المستدرك[310]: عَنْ أَبِي مُوسَى الْغَافِقِيِّ، قَالَ: آخِرُ مَا عَهِدَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «عَلَيْكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَسَتَرْجِعُونَ إِلَى قَوْمٍ يُحِبُّونَ الْحَدِيثَ عَنِّي - أَوْ كَلِمَةٌ تُشْبِهُهَا - فَمَنْ حَفِظَ شَيْئًا فَلْيُحَدِّثْ بِهِ، وَمَنْ قَالَ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّار». فالقرآن كتاب علم ومعرفة، هدى ونور، روحٌ من عنده قال عنه تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) القيامة، فالقرآن تقرّبٌ بالحقّ إلى الحق، وما يمكن أن يقوله لك لن يقدر على قوله أحد مهما كبر علمه أو تجلّت معرفته. العلم الذي لا يؤدّي إلى خشية الله كما قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) فاطر، علمٌ غير نافع، أو الأصحّ أن بين المعلّم والمتعلّم يوجد تضليل وخداع كما قال تعالى: وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (116) الأنعام، فتكون المعرفة حينذاك المقياس المثالي الواقي من الزّيغ والضّلال، القرآن علمٌ كما قال ربّ العزّة: كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ (151) البقرة، وفي ذات الوقت معرفة، كما بيّن سبحانه وتعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (20) الأنعام، ولا مجال أبداً أن يكون المستنبط من القرآن معرفة خاطئة، لأنّه من ربّ العالمين ومحفوظ من أهواء البشر كما قال تعالى: وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (37) يونس، فليعلم من أراد الاغتراف من معين القرآن أنّ تنزّله على الرّسول الكريم كان منجّماً، كذلك يكون فهم بعض آياته يتأتّى مع الزّمن مرتّبا، يقول الحقّ المبين: فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114) طه، قال قتادة: وحيه أي بيانه أو تبيانه[311]، انتهى.
ظهرت في هذا الزّمن ولله الحمد لطائف للقرآن أفصح عنها علماء أجلاء محقّقون وإن لم تتبلور في موضوع متماسك بعد، إلا أنها بشائر خير لعطاء القرآن، وأسوق مثلا لذلك الصّيدلي وجدي حسن سري الذي استنبط من القرآن كتابا سمّاه اللآلئ السّبع القرآنية[312] تخصّ الخلق والنّشأة والبعث إذ يقول في المقدّمة: كيف سأفهم الآيات البينات كلها وبمفردي، وأنا لم يسبق لي أن حفظت القرآن عن ظهر قلب، أو درست الفقه أو الحديث واللغة والبلاغة وأخذت العالمية أو الشّهادات العليا في علوم الدّين المختلفة، انتهى، مع ذلك أورد استنباطات جيّدة لم يستنكرها الدّكتور محمد سيّد طنطاوي كما جاء في تقديم الكتاب، وهذا هو المرغوب من علمائنا، أن يشجّعوا الفهم والاستنباط من كتاب الله وسنّة رسوله، فعن الرسول الأكرم كما جاء في مسند الإمام أحمد[313]: عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَخْنَسِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: لَا تَنَافُسَ بَيْنَكُمْ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ أَعْطَاهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ الْقُرْآنَ، فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، وَيَتَّبِعُ مَا فِيهِ، فَيَقُولُ رَجُلٌ: لَوْ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَعْطَانِي مِثْلَ مَا أَعْطَى فُلَانًا، فَأَقُومَ بِهِ كَمَا يَقُومُ بِهِ، وَرَجُلٌ أَعْطَاهُ اللهُ مَالًا، فَهُوَ يُنْفِقُ وَيَتَصَدَّقُ، فَيَقُولُ رَجُلٌ: لَوْ أَنَّ اللهَ أَعْطَانِي مِثْلَ مَا أَعْطَى فُلَانًا فَأَتَصَدَّقَ بِهِ، قيل الكثير عن الفرق بين المعرفة والعلم، منها: أَنَّ الْمَعْرِفَةَ لُبُّ الْعِلْمِ، وَنِسْبَةُ الْعِلْمِ إِلَيْهَا كَنِسْبَةِ الْإِيمَانِ إِلَى الْإِحْسَانِ. وقيل: المعرفة يقابلها الإنكار والعلم يقابله الجهل. وقيل: الْعلم يثبت بالمعرفة وَالْعقل يثبت بِالْعلمِ وَأما الْمعرفَة فَإنَّهَا تثبت بذاتها. وقيل: تبيّن الْأَشْيَاء على الظَّاهِر علمٌ، وتبينها على استكشاف بواطنها معرفَة. وقيل: الْمعرفَة معرفَة الْأَشْيَاء بصورها وسماتها، وَالْعلم علم الْأَشْيَاء بحقائقها، وأرى أنّ من العلم ما نقبله ولسنا متيقّنين منه، أما ما نعرفه لا ريب فيه ويقرّه العقل مع الوجدان، وحتّى وإن لم يكن ما عرفناه هو الحقّ؛ فيكفي ما يستقرّ في النّفس من اطمئنان وانشراح يعمل على زيادة الإيمان وقد يرتقي بالإيمان إلى يقين يجنّب العارف من الوساوس والأوهام، وهو حال قد لا يعرفه إلاّ أولياء الله المتّقون وعباده الصّالحون، ولا أدّعي أنّي منهم بل مجرّد مستشرف لأحوالهم.
الغاية والمهمّة
الغاية التي من أجلها وجد الخلق إنسهم وجنّهم هي معرفة الله، كما قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56) الذّاريات، وفسّرها ابن عبّاس رضي الله عنهما ”ليعرفون“، فما هي المناسبة بين المعرفة والعبادة؟، ثمّ ألم نذكر أنّه في الموتة الأولى كان الإنسان عارفاً لربّه، فما الحاجة إلى المعرفة الثّانية؟، تساؤلات مشروعة والإجابات عنها مبيّنة في كتاب الله وسنّة رسوله، المعرفة الأولى فطرية وقد لا تكون كافية لبلوغ الغاية المرسومة من ربّ العزّة والله أعلم، فتجربة أبينا آدم عليه الصلاة والسّلام خير دليل على ذلك، بينما تجربة إبليس الملعون أدهى وأمر، في حين أنّ المعرفة الثانية علمية شأنها شأن الرياضيات تنطلق من مسلّمات فطرية لتتوصّل إلى معارف معقّدة التّركيب سليمة المبنى قادرة على التّوجّه الصّحيح، لذا يقول رسول الله ﷺ:«إِنَّ أَتْقَاكُمْ وَأَعْلَمَكُمْ بِاللَّهِ أَنَا»[314] كما يقول: «أنا أعرفُكُم بالله، وأنا أتقاكم له»[315] فجمع بين العلم والمعرفة، فهل العبادة منهج علمي يوصل إلى المعرفة المرجوة؟، نعم. لنتأمّل قوله تعالى: حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) الكهف، في هذا التّفويض الإلهي لذي القرنين؛ نجد إرادة ذي القرنين تتّفق مع الإرادة الإلهية، وهذا لن يتأتّى إلا بعد معرفة علمية ساهمت في تكوينها العبادة والتّقوى، وهو اتفاق لا نقول عنه اتّحاد[316] أو فناء[317] حسب الصّوفية، أو” أنا الحق“ من مآخذ شطحات الحلاج، فالقوم يعبّرون عن أحاسيس قد يجلّيها الحال وليس المقام والله أعلم، يقول الحسين بن منصور الحلاج في نصوص الولاية: أن الأنبياء سُلطوا على الأحوالِ فملكوها، فهم يصرفونها لا الأحوال تصرفهم، وغيرهم سُلطت عليهم الأحوال، فالأحوال تصرفه، لا هم يُصرّفون الأحوال. انتهى. فالواقع ببساطة دون استعمال مصطلحات التّصوّف التي تؤوّل شرقاً وغرباً بكيدية وتعسّف، نقول الواقع أشبه بما ورد في قصّة الخضر وموسى عليهما الصّلاة والسّلام، فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا ، في حالة السّفينة، فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا، في حالة الغلام، فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا، في حالة اليتيمين، فالأولى إرادة ذاتية مستقلّة، والثانية إرادة مشتركة بين العبد وربّه، والثالثة إرادة إلاهية صرفة، والإرادات الثلاث نظّمت سلوك العبد الذي أوتي رحمة وعُلّم علما، وبنفس المعنى في الحديث القدسي عن أبي هُرَيْرَةَ، قَالَ[318]: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ” إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ المُؤْمِنِ، يَكْرَهُ المَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ “ أو كما ورد في الأثر دون أن يصحّ كحديث قدسي لكن معناه صحيح «يَا عَبْدِي أَنْتَ تُرِيدُ وَأَنَا أُرِيدُ وَلَا يَكُونُ إلَّا مَا أُرِيدُ، فَإِنْ سَلَّمْت لِي مَا أُرِيدُ أَعْطَيْتُك مَا تُرِيدُ، وَإِنْ لَمْ تُسَلِّمْ لِي مَا أُرِيدُ أَتْعَبْتُك فِيمَا تُرِيدُ وَلَا يَكُونُ إلَّا مَا أُرِيدُ»، من هذا تكون المعرفة الثّانية مدخلا لأمر عظيم سيخصّ به ربّ العالمين عباده الصالحين بعد أن تبدّل الأرض كما قال تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) الأنبياء.
فالإنسانية في طور تربيّة وتعلّم من أجل مسؤوليات أكبر وأجل، فلا يعقل أن يدخل الجنّة من ما زال في نفسه قدر من الشّر، خصوصا أنّ القدرات حينذاك هائلة تكاد تلبّى الرغبة بأمر كن كما قال تعالى: لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ (57) يس، ففي صفة الجنّة لأبي نعيم الأصبهاني يقول: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، ثنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، ثنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ الدِّمَشْقِيُّ، ثنا أَيُّوبُ بْنُ سُوَيْدٍ، عَنْ سُفْيَانَ، قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ قَالَ: إِذَا اشْتَهُوا شَيْئًا قَالُوا: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ، فَأَتَاهُمْ عَلَى قَدْرِ مَا اشْتَهُوا، انتهى.
فمثل هذه القدرات إذا أسيء استعمالها قد تنتج كوارث أبعادها أكبر من التي عرفناه في الدّنيا، فالنّاس حينئذ سيكونون ملائكة في الأرض يخلفون والله أعلم، إذا كان في اعتقاد البعض أنّ الملائكة مخلوقات منزوعة الإرادة مجبولة على الطّاعة والخير وخشية الله، فهو انتقاص من قدرهم، ويتنافى مع قول العزيز الحكيم: وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29) الأنبياء، فملك الله أكبر وأسمى وأبدع من أيّ تصوّر من تصوّراتنا القاصرة.
إذا كانت الغاية بالنّسبة للنّاس أجمعين واحدة وإمكانات بلوغها واحدة، لا فرق بين فقير وغنيّ، ولا بين قويّ وضعيف، ولا بين جاهل ومتعلّم، ولا بين مريض وسليم، ولا بين غبيّ وذكي، فالمهمّة التي أُنشأ كل فرد من أجلها ليست واحدة، بل متعدّدة تعدّد الأفراد أنفسهم، كما يقول الصّوفية عدد الطّرق إلى الله بعدد مخلوقات الله، وهذا ما يستلزمه والله أعلم تدبير الملك، تبعاً لذلك إمكانية التّعرّف على الغاية التي أنشأ كل فرد من أجلها لا يمكن أن تكون إلا ذاتية، فكل توجّه من الإنسان يجد فيه شدّة وشقاء معناه أنه يسلك طريقا غير ميسّر له، فالتطلّع والطموح يجب أن يتّفقا مع ما يريده الله لنا، كما قال عطاء الله السّكندري: إرادَتُكَ التَّجْريدَ مَعَ إقامَةِ اللهِ إيّاكَ في الأسْبابِ مِنَ الشَّهْوَةِ الخَفيَّةِ، وإرادَتُكَ الأَسْبابَ مَعَ إقامَةِ اللهِ إيّاكَ فِي التَّجْريدِ انْحِطاطٌ عَنِ الهِمَّةِ العَلِيَّةِ. أو كما أورد البخاري[319]: عَنْ عِمْرَانَ، قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فِيمَا يَعْمَلُ العَامِلُونَ؟ قَالَ: «كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ» وكما قال تعالى: فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) الشّمس، فقال ألهمها ولم يقل ألزمها، ولغة الفرق شاسع بين الإلهام والإلزام، الذي يدفع النّاس إلى استبدال المهمة الميسّرة بمهمّة غير ملاءمة وشاقة، هو الهوى والشّهوة والشّيطان، رغم أنّ المهمة الميسّرة ترفع صاحبها إلى الدّرجات العلى، وأنّ المهمّة العسيرة تهوي بصاحبها إلى الدّركات السّفلى، وكلاهما يفعلان فعلهما عن وعي وإدراك وفي هذا يقوا تعالى: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) القصص، فكل من توسّم مهمّته وأخلص فيها ومارسها على أكمل وجه مستعينا بالرضى والإتقان، كان له السّبق حتّى على من كانت درجته الدّنيوية أعلى، لأنّ الملك عندما يجازي جنده لا تهمّه رتبة الجندي بقدر ما يهمّه إنجاز المهمّة، وفي هذا يقول تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) الحجرات.
الإيمان والإسلام
يقول الفقهاء في تعريف الإيمان أَنّهَ اعْتِقَادٌ بِالْجَنَانِ، وَنُطْقٌ بِاللِّسَانِ، وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ، وقال البعض أنّ الاعمال ليست داخلة في تعريف الإيمان بدليل الوارد في كتاب الله، الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فالْعَطْفُ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ، وهو قول قد يُقبل إذا اعتبرنا الأعمال الواجبة غير الأعمال الصّالحة، ويُعرّف كتاب الله المؤمنون: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) الأنفال. وفي تعريف آخر: وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) الأنفال، والفرق بين التّعريفين أنّ هناك إيمانا يتبعه التّقوى، وإيمانا يتبعه العمل الصّالح، والله أعلم، ومن المعلوم أنّ الإيمان يزيد وينقص وذروته العليا هو اليقين، بدليل قول رسول الله ﷺ كما جاء في صحيح البخاري[320]: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَشْرَبُ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَالتَّوْبَةُ مَعْرُوضَةٌ بَعْدُ»، وتبعاً لذلك كل من التّقوى والصّلاح يزيدان وينقصان، أو لنقل أنّهما درجات أو مراتب متفاوتة أعلاهما ولاية الله بالنّسبة للمتّقين، كما قال تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ (63) يونس، والانتساب لعباد الله الصالحين بالنّسبة لمن كانت وجهتهم العمل الصالح، كما قال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) العنكبوت، أمّا الإسلام فهو الجانب الظاهر من الإيمان لكنّه لا يستوفيه بدليل قوله تعالى: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (14) الحجرات، فقد يوجد إسلام دون إيمان، كما قد يوجد إيمان دون إسلام، الحالة الأولى مظهر من مظاهر النّفاق، أمّا الحالة الثانية فكثير ما يوجّهُ إليها الخطاب في كتاب الله من أجل الهداية أو تحذيرهم من تأخير توبتهم، كما قال العزيز الحكيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (102) آل عمران.
ويختلف العمل الواجب عن العمل الصالح بأنّ هذا الأخير يجب أن يكون بتمامه خالصاً لوجه الله تعالى وبذلك نال الشّهداء مرتبتهم، كما قال تعالى: مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (121) وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) التّوبة. فالعمل الصّالح يتميّز بالمبادرة والإقدام والمجاهدة في سبيل الله دون الخوف من لومة لائم ولا يقتصر على العمل الواجب والابتعاد عن المنهي عنه، لذا تجد في كتاب الله العبارة ”الذين آمنوا وعملوا الصّالحات“ تعرّفهم بأنّهم السّابقون من أهل الجنّة مهما كانت الملّة المنتسبون إليها. قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِؤُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحًا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (69) البقرة. فاختلاف الشّرائع لا يستلزم اختلاف الأديان فالدّين عند الله هو الإسلام، وليس الإسلام سوى الإيمان بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر على أن يعقب ذلك العمل الصّالح.
الكفر والتّكفـــير
الكُفْرُ: نَقِيضُ الإِيمان؛ والكُفْرُ: كُفْرُ النِّعْمَةِ، وَهُوَ نَقِيضُ الشُّكْرِ، والكُفْرُ: جُحود النِّعْمَةِ، وَهُوَ ضِدُّ الشُّكْرِ، هكذا جاء في اللسان[321]، وقال الطّبري[322]: ”الكافر“ في كلام العرب، هو الساتر شيئًا بغطاء، وكونه نقيض الإيمان، فتعريف غير دقيق، حيث يقول المناطقة النقيضان لا يجتمعان، فالأولى أن يقال الكفر يقابل الإيمان، لأنّ الكفر يسكن القلب شأنه شأن الإيمان ويظهر بعض منهما في الأعمال، فتوجد صعوبة في التّعرف عليه كما يصعب التّعرّف على الإيمان، وكونه ستر الشّيء بغطاء، فهو تعريف جيّد يسمح أن يوجد مع وجود الإيمان في آن واحد، من ذلك كفر إبليس اللّعين الذي استكبر وفسق عن أمر ربّه كما قال تعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) البقرة، وبما أنّ الإيمان يزيد وينقص كذلك الكفر يزيد وينقص، ومن المؤكّد أنّه لا يعلم درجات كل منهما إلا الله عزّ وجل، وأنّ اجتهادات الفرق الإسلامية في الموضوع تظلّ قاصرة حتّى ولو احتوت جزء من الصّواب، والكفر في كتاب الله وسنّة رسوله أنواع، منها كفر بأركان الإسلام كقوله تعالى: فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ (97) آل عمران، أو كما أخرج ابن حبّان[323]: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ: قال رسول الله ﷺ إن العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر، تبيان لقوله تعالى: وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ (54) التّوبة، كما أنّ أكل الربا كفر، كما قال تعالى: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) البقرة، أو كفر بركن من أركان الإيمان كما قال تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136) النّساء، حسب تقدير آخر إحصائية قامت بها مؤسّسة جالوب (The Gallup Organization) أنّ عدد الملحدين ( لا يقرّون بوجود إلاه) في المعدّل العالمي هو حوالي 13% من السكان، وهذا لا يعني أنّ هذه الأقلّية هم من الكافرين فقط، فقد أخبر ربّ العزّة: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ (106) يوسف، كما أنّ المعاصي والظّلم والاستكبار والعدوان واليأس من رحمة الله، كلها عناوين تندرج في قائمة الكفر كما قال تعالى: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14) النّساء، وباستقراء كثير من آيات الله نجد أنّ المخلّدين في النّار هم الكافرون، كما قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39) البقرة، فالكفر والفسوق والعصيان أمور متلازمة كما بيّن تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ (7) الحجرات، فالكفر تبعا لما ذكر يطال السّلوك كما يطال المعتقد المخالفين لما أمر به الله ورسوله، رغم ذلك، الكلّ يعلم أنّ رسول الله ﷺ لم يقاتل المنافقين لأنّه أمر أن يحكم بالظّاهر كما ورد في البخاري: من حديث أبي هريرة: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ” أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَمَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي نَفْسَهُ وَمَالَهُ، إِلَّا بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ “ رَوَاهُ عُمَرُ، وَابْنُ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، وحتّى نستوضح أكثر التّداخل الحاصل بين الكفر والإيمان، نورد ما جاء في الكتاب والسّنة من أمراض القلب:
الختم، يقول تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7) البقرة، هذا الصّنف من الكفّار صدر في حقّهم حكم الله في الدّنيا قبل الآخرة ولا توبة لهم، فمن هم يا ترى؟ يقول تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الضَّالُّونَ (90) آل عمران. أو: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137) النّساء.
الطّبع، وهو السّجية أي جعل الله لهم طبيعة ملازمة، يقول تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) المنافقون، توجد في كتاب الله آيات تبيّن من هم، منها: الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) غافر، وهذا الصّنف من الفاسقين الذين يستحبّون الحياة الدّنيا عن الآخرة، قد يغفر لبعضهم بعد التّوبة والله أعلم، يقول تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (38) الأنفال.
الرّين، يقول تعالى: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) المطفّفين، هذا الصنف هم الكفّار أصحاب المعاصي والله أعلم، أورد الطّبري[324]: عن الحسن البصري، قال: وقرأ (كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) قال: الذنب على الذنب حتى يموت قلبه. قَالَ مُجَاهِدٌ: الرَّين أيسرُ مِنَ الطَّبَع، والطَّبَع أيسرُ مِنَ الإْقَفال، وَالْإِقْفَالُ أشدُّ ذَلِكَ كُلّه. وقد بيّن ذلك رسول الله كما أورد ابن حبّان[325] وغيره: عن أبي هريرة، عن رسول الله ﷺ، قال: ”إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكت في قلبه نكتة، فإن هو نزع واستغفر وتاب صقلت، فإن عاد زيد فيها، وإن عاد زيد فيها حتى تعلو فيه، فهو الران الذي ذكر الله جل وعلا : كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون “، وهذا الصّنف قد تسعفه مغفرة الله إذا اجتنب كبائر الإثم والله أعلم، يقول تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31) النّساء. إنّ الذين طُبع على قلوبهم أو ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون هم من أصحاب النّار إذا ماتوا قبل توبتهم وهداية الله لهم كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) محمد. على هذا يكون الكفر ملازما لكلّ منّا ولا نجاة إلا بتصحيح المعتقد والاستقامة في السّلوك، ولا وجود لفرقة ناجية فالفرق شأنها شأن الأفراد لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت، وتسويق الدّين لأغراض سياسية ممارسة بدأت مباشرة بعد مقتل عثمان بن عفّان عليه الرّضى من الله، فيما يعرف بالفتنة الكبرى والأجدر أن تسمّى الفتنة الأولى هذا إذا قبلنا أنّها فتنة ما دام الحقّ والباطل فيها كان بيّناً واضحا.
أمّا التّكفير ويراد به نسبة أحد من النّاس أو جماعة من أهل القبلة إلى الكفر، وهو سلوك لازم المسلمين بعد الفتنة الأولى إلى يومنا هذا، سواء بقول صريح أو مبطّن كمبتدع وضال ومارق وقبوري وزنديق ومن أهل الأهواء وغيرها من المصطلحات التّي تدلّ على كراهية المدّعي الشّديدة لمن ليس على رأي مذهب فرقته، فلا مرجعية لهذا السّلوك في الكتاب والسّنة، بل على العكس من ذلك أنّه في الصّحيح[326] عن أبي هريرة: أن رسول الله ﷺ قال: ”إذا قال الرجل لأخيه يا كافر، فقد باء به أحدهما “. وبنفس المعنى في مسند الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر وفي مراجع سنّية أخرى، ولا يمكن استبيان نشأة هذه البدعة أو لنقل دخيلة دون أن نعرّف من هو الصّحابي؟ ودون أن نعرّف من هم آل البيت؟، ومعلوم عند الجميع أنّه لا يوجد اتفاق في تعريف المصطلحين، فكيف يُقبل من ذي عقل أن يقرّ بعقيدة بنيت على موضوع مختلف فيه، فالصّحابي عند أهل السّنة والجماعة كما يقول الحافظ ابن حجر في الإصابة[327]: الصحابيّ: من لقي النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم مؤمنا به، ومات على الإسلام، لا شكّ أنّ مثل هذا التّعريف يشمل منافقي المدينة الذي قال فيهم تعالى: وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101) التّوبة، يقول القرطبي[328]: وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا تَعْلَمُ يا محمد عاقبة أمورهم وَإِنَّمَا نَخْتَصُّ نَحْنُ بِعِلْمِهَا، وَهَذَا يَمْنَعُ أَنْ يُحْكَمَ عَلَى أَحَدٍ بِجَنَّةٍ أَوْ نار. انتهى، ولا أجد لهذا التّعريف غاية في وضعه سوى إلحاق معاوية ابن أبي سفيان الذي أسلم بعد الفتح إلى زمرة الصّحابة الذين عرّفهم ربّ العزّة في كتابه: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) التّوبة، هل من المسلمين من لا يعرف معنى المهاجر ومعنى من قاتل لنصرة الإسلام، وأنّ لا هجرة ولا نصرة بعد الفتح، كما في الصّحيح[329]: عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله ﷺ: ”لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا “، فمن نعرفه من المهاجرين والأنصار السّابقين قبل الفتح وجب أن نقول رضي الله عنه، وهو إقرار برضى الله وحسابهم عنده، أمّا من أسلم بعد الفتح أو حتى أسلم قبل الفتح ولم يهاجر ولم يقاتل، فكيف نلزم أن نقول رضي الله عنه، يقول تعالى: يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96) التّوبة، والدّليل أنّ التّصنيف سياسي وليس عقديا ما أورده أبو داوود الطّيالسي في مسنده[330]: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) قَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى خَتَمَهَا ثُمَّ قَالَ: «أَنَا وَأَصْحَابِي حَيِّزٌ وَالنَّاسُ حَيِّزٌ لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ» قَالَ أَبُو سَعِيدٍ فَحَدَّثْتُ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ وَكَانَ أَمِيرًا عَلَى الْمَدِينَةِ فَقَالَ: كَذَبْتَ، وَعِنْدَهُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَزَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ فَقُلْتُ: أَمَا إِنَّ هَذَيْنِ لَوْ شَاءَا لَحَدَّثَاكَ وَلَكِنَّ هَذَا يَخْشَى أَنْ تَنْزِعَهُ عَنِ الصَّدَقَةِ وَهَذَا يَخْشَى أَنْ تَنْزِعَهُ عَنْ عِرَافَةِ قَوْمِهِ فَرَفَعَ عَلَيَّ الدِّرَّةَ فَلَمَّا رَأَيَا ذَلِكَ قَالَا: صَدَقَ، انتهى، أمّا الذين اتّبعوهم بإحسان فتعني كلّ من اتّبع السّابقين في منهجهم وعملهم الصّالح إلى أن تقوم الأرض لربّ العالمين، والإحسان معرّف في حديث جبريل عليه الصّلاة والسّلام، وهو لا يتأتّى إلاّ بعد استكمال الإسلام واستكمال الإيمان، فلا مجال للخلط أو الإغفال، أمّا تعريف الصّحابي عند الشّيعة فيستثني المنافقين ومن ثبت عندهم بغضه لعليّ عليه السّلام أعتبر منهم، وفق حديث صحيح عند السّنة والشّيعة سواء، والحديث له أكثر من راوٍ منهم: حسب كتاب فضائل الصّحابة لأحمد بن حنبل[331]: عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عليها السّلام قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِعَلِيٍّ: «لَا يُحِبُّكَ إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَلَا يُبْغِضُكَ إِلَّا مُنَافِقٌ»، وحتّى الصحابة الذين رضي الله عنهم؛ لا يعني ذلك عصمة أو عدالة أي التّنزيه من الذّنب والخيانة ففي صحيح البخاري وغيره كتاب الجهاد و السّير باب الجاسوس، قصّة حاطب بن أبي بلتعة المشهورة، تنفي العدالة أو كل قداسة لا أصل لها في الدّين، ثمّ في صحيح البخاري[332] كذلك بأكثر من صيغة: عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ”لَيَرِدَنَّ عَلَيَّ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِي الحَوْضَ، حَتَّى عَرَفْتُهُمْ اخْتُلِجُوا دُونِي، فَأَقُولُ: أَصْحَابِي، فَيَقُولُ: لاَ تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ“، كما ورد في موطأ مالك[333]: حَدَّثَنَا أَبُو مُصْعَبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلى الله عَلَيه وَسَلم، قَالَ: للِشُهَدَاءِ بأُحُدٍ هَؤُلاَءِ أَشْهَدُ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَسْنَا من إِخْوَانِهِمْ؟ أَسْلَمْنَا، كَمَا أَسْلَمُوا، وَجَاهَدْنَا كَمَا جَاهَدُوا؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلى الله عَلَيه وَسَلم: وَلَكِنْ لا أَدْرِي مَا تُحْدِثُونَ بَعْدِي فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ قَالَ: إنَّا لَكَائِنُونَ بَعْدَكَ؟. ومعلوم عند الجميع أنّ المؤمنين الذين لم يعيشوا زمن الرسول ﷺ ويحبّونه ويحبّهم لا يسمّيهم الرسول أصحابي بل يسمّيهم إخواني.
أما تعريف الآل عند السّنة فهو موضوع خلاف كذلك، يقول ابن قيّم الجوزية[334]: وَاخْتلف فِي آل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على أَرْبَعَة أَقْوَال، فَقيل هم الَّذين حرمت عَلَيْهِم الصَّدَقَة وَفِيهِمْ ثَلَاثَة أَقْوَال للْعُلَمَاء، أَحدهَا أَنهم بَنو هَاشم وَبَنُو الْمطلب وَهَذَا مَذْهَب الشَّافِعِي وَأحمد فِي رِوَايَة عَنهُ، وَالثَّانِي أَنهم بَنو هَاشم خَاصَّة وَهَذَا مَذْهَب أبي حنيفَة وَالرِّوَايَة الثَّانِيَة عَن أَحْمد وَاخْتِيَار ابْن الْقَاسِم صَاحب مَالك، وَالثَّالِث أَنهم بَنو هَاشم وَمن فَوْقهم إِلَى غَالب فَيدْخل فيهم بَنو الْمطلب وَبَنُو أُميَّة وَبَنُو نَوْفَل وَمن فَوْقهم إِلَى بني غَالب وَهَذَا اخْتِيَار أَشهب من أَصْحَاب مَالك حَكَاهُ صَاحب = الْجَوَاهِر = عَنهُ وَحَكَاهُ اللَّخْمِيّ فِي التَّبْصِرَة عَن أصبغ وَلم يحكه عَن أَشهب وَهَذَا القَوْل فِي الْآل أَعنِي أَنهم الَّذين تحرم عَلَيْهِم الصَّدَقَة هُوَ مَنْصُوص الشَّافِعِي وَأحمد والأكثرين وَهُوَ اخْتِيَار جُمْهُور أَصْحَاب أَحْمد وَالشَّافِعِيّ وَالْقَوْل الثَّانِي أَن آل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هم ذُريَّته وأزواجه خَاصَّة حَكَاهُ ابْن عبد الْبر فِي التَّمْهِيد قَالَ فِي باب عبد الله بن أبي بكر فِي شرح حَدِيث أبي أَحْمد حميد السَّاعِدِيّ اسْتدلَّ قوم بِهَذَا الحَدِيث على أَن آل مُحَمَّد هم أزواجه وَذريته خَاصَّة لقَوْله فِي حَدِيث مَالك عَن نعيم المجمر[335] وَفِي غير مَا حَدِيث اللَّهُمَّ صل على مُحَمَّد وعَلى آل مُحَمَّد وَفِي هَذَا الحَدِيث يَعْنِي حَدِيث أبي حميد اللَّهُمَّ صل على مُحَمَّد وأزواجه وَذريته، قَالُوا فَهَذَا تَفْسِير ذَلِك الحَدِيث وَيبين أَن آل مُحَمَّد هم أَزوَاجه وَذريته قَالُوا فَجَائِز أَن يَقُول الرجل لكل من كَانَ من أَزوَاج مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمن ذُريَّته صلى الله عَلَيْك إِذا واجهه وَصلى الله عَلَيْهِ إِذا غَابَ عَنهُ وَلَا يجوز ذَلِك فِي غَيرهم. انتهى.
أمّا عند الشّيعة فأهل البيت يحدّدهم حديث الكساء المشهور وهم كلهمّ معصومون ما يقابل عند السّنة كل الصّحابة عدول، ففي المستدرك[336]: عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّهَا قَالَتْ: فِي بَيْتِي نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ) الأحزاب: 33، قَالَتْ: فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، أَجْمَعِينَ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي» قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَنَا مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ؟ قَالَ: «إِنَّكِ أَهْلِي خَيْرٌ وَهَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي اللَّهُمَّ أَهْلِي أَحَقُّ»، لا أدري لما الأقوال المختلفة في شيء بيّن في كتاب الله وسنّة رسوله، ففي كتاب الله نجد: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) الأحزاب. وسياق الآية وظاهرها يعنيان أمّهات المؤمنين عليهنّ السّلام، وإلى ذلك ذهب ابن عبّاس كما قال عكرمة وكما قال سعيد بن جبير، كما أنّه يتوافق مع الآية الشّريفة: قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73) هود، وهو ما لا يستسيغه كثير من الشّيعة، وحديث الكساء الذي لا يشكك فيه أحد لا من السّنة ولا من الشيعة يعني عليّا وابنته فاطمة والحسن والحسين عليهم السّلام، فكيف يكون الخلاف في ما أخبر به الله ورسوله؟، أمّا عندنا في المغرب فنعتبر من آل البيت كلّ ذرّية الحسن والحسين عليهما السّلام إلى آخر الزّمن، ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، ولنا أدلة متعدّدة من السنّة تنص أنّ المهدي مثلا قال عنه رسول الله ﷺ فَيَبْعَثُ اللَّهُ رَجُلًا مِنْ عِتْرَتِي مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، والأحاديث عن المهدي أخرجها محدّثين كثر عن روّاة متعدّدين، ولا أدري لما البعض يستثقل هذا الاعتبار إذ ما المطلوب في حقّ آل البيت بالشّيء الكثير سوى المودّة، كما قال تعالى: ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) الشّورى. يقول البيضاوي[337]: روي: أنها لما نزلت قيل يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت مودتهم علينا قال: «علي وفاطمة وابناهما».
إذا الفتنة قسّمت المسلمين إلى ثلاث فئات المناصرين لمعاوية وحكّام الأمصار، ومن خذلوا عليّا عليه السّلام من الخوارج، ومن تشيّعوا لآهل البيت بعد ذلك، أي بعد ما تبيّن لهم أنّ البيعة أصبحت طوعا أو كرها وأنّ السّيف هو المرجعية الوحيدة بالنّسبة للحاكم، وأنّ العلماء مطلوب منهم التّنظير للواقع الجديد بالإفتاء واستنباط الحجج ليتكدّس تراث غير مفهوم ولا مقنع لمن يعتبر الإسلام الدّين المتّسم باليسر والبساطة التي كان يبيّنها رسول الله ﷺ لمن كانوا يلتحقون به، فلم تكن تعاليمه تزيد عن الاستماع إلى القرآن أو تلاوته، وإتيان الشّرائع كما هو معلوم من أركان الإسلام، وتثبيت الأخلاق الحميدة ونبذ أخلاق الجاهلية، ولم يشترط ﷺ في تفسير القرآن أي فهمه، أن يكون عارفا لأصول الدّين وأصول الفقه وجميع علوم اللغة ومعرفة النّاسخ والمنسوخ وعلم القراءات وعلم الموهبة إلى غير ذلك من الحواجز التي وضعت بين العبد وربّه، وهذا لا يعني أن علماء الإسلام لم يقدّموا خدمة جليلة للمسلمين، فما بلغنا من أفكارهم وحتّى من لم يبلغنا من فكره شيء لقصر اطلاعنا أو لحجب قسري عمدا عنّا، أو بلغ بشكل مشوّه بواسطة الخصوم، فكلّهم اجتهدوا فأصابوا فيما أصابوا وأخطأوا فيما أخطأوا، ولم يقل أحد منهم ما جئت به هو الحقّ الذي لا حقّ غيره، أمّا الإتباع بجهل وتعصّب وهو أمر حاصل في جميع الفرق، فيصدق عليه قوله تعالى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الْأَسْبَابُ (166) البقرة، يقول البيضاوي[338]: وقيل من الرؤساء الذين كانوا يطيعونهم لقوله تعالى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا ولعل المراد أعم منهما وهو ما يشغله عن الله يُحِبُّونَهُمْ يعظمونهم ويطيعونهم كَحُبِّ اللَّهِ كتعظيمه والميل إلى طاعته، أي يسوون بينه وبينهم في المحبة والطاعة. انتهى.
القداسة التي تعزى إلى المجتمع الإسلامي الأول مبالغ فيها، فالمجتمع شأنه شأن الإنسان صراع ظاهر أو خفي بين الخير والشّر ولمن له الغلبة يشكّل السّمة ولا تعني الاستئصال، يقول الشهرستاني[339]: كما قررنا أن الشبهات التي وقعت في آخر الزمان هي بعينها تلك الشبهات التي وقعت في أول الزمان، كذلك يمكن أن نقرر في زمان كل نبي ودور صاحب كل ملة وشريعة: أن شبهات أمته في آخر زمانه؛ ناشئة من شبهات خصماء أول زمانه من الكفار والملحدين وأكثرها من المنافقين. وإن خفي علينا ذلك في الأمم السالفة لتمادى الزمان، فلم يخف في هذه الأمة أن شبهاتها نشأت كلها من شبهات منافقي زمن النبي عليه السلام، إذ لم يرضوا بحكمه فيما كان يأمر وينهى، وشرعوا فيما لا مسرح للفكر فيه ولا مسرى، وسألوا عما منعوا من الخوض فيه، والسؤال عنه، وجادلوا بالباطل فيما لا يجوز الجدال فيه، انتهى.
أمّا الذين آمنوا فلم يكن بينهم يوما شقاق ولا بغضاء كما قال أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام[340]: لَقَدْ رَأَيْتُ أَصْحَابَ مُحَمَّد ﷺ، فَمَا أَرَى أَحَداً يُشْبِهُهُمْ مِنْكُمْ! لَقَدْ كَانُوا يُصْبِحُونَ شُعْثاً غُبْراً، قَدْ بَاتُوا سُجّداً وَقِيَاماً، يُرَاوِحُون[341] بَيْنَ جِبَاهِهِمْ وَخُدُودِهِمْ، وَيَقِفُونَ عَلَى مِثْلِ الْجَمْرِ مِنْ ذِكْرِ مَعَادِهِمْ! كَأَنَّ بَيْنَ أَعْيُنهِمْ رُكَبَ الْمِعْزَى مِنْ طُولِ سُجُودِهِمْ! إِذَا ذُكِرَ اللهُ هَمَلَتْ أَعْيُنُهُمْ حَتَّى تَبُلَّ جُيُوبَهُمْ، وَمَادُوا[342] كَمَا يَمِيدُ الشَّجَرُ يَوْمَ الرِّيحِ الْعَاصِفِ، خَوْفاً مِنَ الْعِقَابِ، وَرَجَاءً لِلثَّوَابِ! انتهى، والقول الفصل قوله تعالى: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134) البقرة. فالرّضى على من ورد في حقّه الرّضى، والصّلاة والسّلام على من ورد في حقّه السّلام، وهذه أمور ليست خفيّة عن علماء الأمة لكن.......
قد يقول قائل لما الخوض في أمور جانبية قد تضرّ أكثر من أن تنفع المسلمين؟، الجواب أنّ الأمر أخطر ممّا نتصوّر، أو على الأقل فيما كنت أتصوّر أنا كواحد من المسلمين إذ كنت أعتمد في إسلامي على ما بلغني من ذوي الاختصاص من معارفي فقط دون التّعميم، والخطورة تكمن في سلامة المعتقد، فكل مسلم مثلا في صلاته عند التّشهد ينطق اللهمّ صلّ على محمد وعلى آل محمد دون أن يكون محدّدا من هم الآل الذين يصلّي عليهم، وأكثر من ذلك في صيغ أخرى للصّلاة؛ اللهمّ صلّي على محمد وعلى آله وصحبه، أي بزيادة لا أصل لها في الكتاب والسّنة؛ فالذين رضي الله عنهم هم الذين بايعوا تحت الشّجرة أو السّابقين من المهاجرين والأنصار الذين هم محسنون، والإحسان أسمى من الإسلام وحتّى من الإيمان، والغريب أنّ الزّيادة التي عندنا ” سيّدنا“ في التّصلية أي اللهمّ صلّ على سيّدنا محمد، تعتبر بدعة وضلالة، رغم الوارد في السّنة، ففي المستدرك[343] مثلا: عن جابر بن عبد الله ، قال: صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "من أنا ؟" قلنا: رسول الله، قال: "نعم، ولكن من أنا ؟" قلنا: أنت محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف قال: "أنا سيد ولد آدم ولا فخر" قال عنه الحكم هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. حتّى إن لم تكن هذه الأمور من الأصول إلا أنّه على المؤمن من حين لآخر أن يدقّق في مثل هذه الجزئيات حتّى يصحّح ما يجب تصحيحه من معتقده قدر ما يتيسّر له لأنّ الإيمان لا يمكن أن يزيد بالتّقليد والجمود.
من العيوب المتفشّية في الملّة كذلك المقارنة في الخيرية بين بعض الصّحابة وبعض أهل بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومعتقدي أنّ مثل هذه المقارنة تأذي النبي الذي أمرنا أن نحبّه أكثر ممّا نحبّ أنفسنا، لأنّ من منّا لا يؤذيه أن يسمع مقارنة بين أحد من أصحابه وفرد من آله حتّى ولو كانت المقارنة موضوعية.
القرآن المهجور
يجد القارئ لكتاب الله آيات كثيرة تحثّه على تلاوة القرآن، وأخرى على تدبّره، وأخرى على اتباعه والعمل به، وقد تساءلت ونقلت تساؤلي إلى معارفي من الفقهاء كونهم ذوي الاختصاص، لماذا لم تشرّع تلاوة القرآن كفرض أو واجب كما هو الحال في باقي العبادات؟، والحقيقة أنّ أجوبتهم وإن كانت سليمة من حيث المرجعية وهي كتب التفاسير التي بين أيدينا، فهي غير مقنعة بالمنطق السّليم، فلنتتبّع ما قيل في بعض الآيات على سبيل المثال: إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ (92) النّمل، بيّن أنّ رسول الله في الآيتين أُمِر بعبادة الله وأن يكون من المسلمين وأن يتلو القرآن، أمّا نحن لا يختلف اثنان أنّه أمرنا بالاقتداء وبالإتّباع، لكن التّفاسير تذهب فيما يخصّ تلاوة القرآن، إلى أنه يجوز ان يكون معنى وأن اتلو القرآن وأواظب على تلاوته للناس، حتّى لو سلّمنا أنّ هذا الفهم مناسب عندما كان رسول الله بين النّاس، فمن يتلوه علينا اليوم؟.ثمّ في آية أخرى: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (20) المزمّل، بيّن أنّ الخطاب لرسول الله وطائفة من الذين معه، أي المحسنين من أصحابه، وأنّ تلاوة القرآن غير الصّلاة، وإلاّ لما قيل فاقرؤوا ما تيسّر منه وأقيموا الصّلاة، وإن كان الجمع بينهما وارد لمن يقدر على ذلك، وهو متعذّر على من لا يحفظ كتاب الله، إلاّ أنّ التفاسير مصرّة على أنّ المراد بهذه القراءة؛ القراءة في الصلاة، ومن تجاوز هذا القول قال: دراسته، وتحصيل حفظه وأن لا يعرض للنسيان، وأيّ القولين اخترناه فهو لا ينطبق على مجتمعنا الحالي. ثمّ إذا كان قد وردت نصوص في كتاب الله في شأن الكتابيين للذّكرى أو الاتعاظ فهي بذلك للمؤمنين أولى كما قال تعالى: وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) الأعراف، فالآية على من منوال ”استعينوا بالصّبر والصّلاة“ الذي خاطب بها الحقّ سبحانه وتعالى اليهود وخاطب بها بعد ذلك المؤمنين في سورة البقرة، وفي آية أخرى يقول تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ (29) فاطر. هذه الآية الشّريفة تسوق تلاوة القرآن قبل الصّلاة وقبل الزّكاة، فلو لم يكن في القرآن إلا هذه الآية التي تحضّ على تلاوة القرآن لكانت كافية للإقرار بالوجوب على غير الأميّ، أمّا التّفاسير فلم تجد لها تأويلا يقرنها بالصّلاة، يقول البيضاوي[344]: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ؛ يداومون على قراءته أو متابعة ما فيه حتى صارت سمة لهم وعنواناً والمراد بكتاب الله القرآن أو جنس كتب الله فيكون ثناء على المصدّقين من الأمم بعد اقتصاص حال المكذّبين. انتهى.
جلّ المسلمين يردّدون العبارة القرآنية ما فرّطنا في الكتاب من شيء، كذا، ولو كان من غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا، تُرى يستوعبونهما عن قناعة ويقين؟ أترك الجواب للقارئ الكريم، أمّا ما يخصني شخصيّا فقد كانت لي أسئلة دون جواب، وكنت أجد اختلافا بين بعض الآي من القرآن، أو بين الكتاب و السّنة، أو بين السّنة والسّنة، فلو رجعت بالاستفسارات التي كانت تشغلني إلى الأقوال، لما اهتديت إذا أبدا، بل الرّجوع إلى الكتاب والسّنة يجلّي اللّبس وينشر في القلب الطمأنينة وبذلك أمر ربّنا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59) النّساء، لست مجتهدا ولا منكرا لاجتهادات أئمة الإسلام، بل مصحّحا لمعتقدي قدر المستطاع منحازا لرأي سواء اختلف فيه أم لم يختلف فيه إذا أمكن أن أتوسّم معناه في الكتاب، فوجود الخلاف في التّفسير والتّأويل وحتّى في الأحكام من العصر الإسلامي الأول إلى يومنا، لا يعني أنّ القضايا الخلافية يجب أن تظلّ خلافية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فمثل هذا جمود يتنافى مع مبادئ الإسلام وليس من رضى الله ورسوله لنا بل هو ما يُرضي أعداء الإسلام، فعلم النّاسخ والمنسوخ مثلاً، يجب أن يسمّى بحق علم الخلاف، فرغم أنّ المصادر ترجع إلى ابن عباس رضي الله عنهما وإلى علي بن أبي طالب عليه السلام القول بالنّاسخ والمنسوج فلم أجد مثال واحد منقول عن أحدهما حتى نستبين مرادهما، غير أنّ جمع من العلماء بعدهم وضعوا قوائم للأيات المنسوخة على هواهم دون اتفاق بينهم، وباعتماد علمهم تجاوزا لا نجد في الكتاب كلّه سوى آيتين منسوختين بإجماع من تناول الموضوع وهما (إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً) و (نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً)، ثمّ أنّ النّسخ حسب ظنّي لا يجب أن يفهم منه التّخلّي، بل القصد والله أعلم تفعيل آية أو الحكم بآية أو تعطيل الحكم بآية لظروف واقعية اجتماعية دون الخروج في جميع الأحوال عن الكتاب والسّنة، مثلا؛ تعاملنا مع الملل الأخرى يكون بالرّفق واللين، والمجادلة بالتّي هي أحسن، وبالبرّ والقسط، وبالقتال، فاستعمال سلوك من هذه السّلوكيات في غير وقته ومحلّه يكون خروجا عن الدّين، وحتّى لا نقع في فتنة وضع ربّ العزّة ضابطا للاستنباط من كتابه فيما يخصّ الأحكام: وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً (83) النّساء.
وكما سبق أن تبيّن أنّ الكفر ملازم للأفراد، كذلك يكون ملازما للمجتمعات بنصّ صريح يطال من لم يحكم بما أنزل الله، فواقعنا عالم ليس فيه دولة يهودية ولا نصرانية ولا مسلمة، ومن يقل بغير هذا، فهو من الذين يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة، أو أنّه من الذين يصدرون الحكم قبل الاستنباط، فالواقع متغيّر والاستنباط تبعا لذلك متغيّر وكتاب الله لا نهائي شامل لكل أحوال الدّنيا والآخرة، لذلك نجد السّلف لا يجعلون له انتهاء عند ”الجنّة والنّاس“، بل يتعاملون معه على أنّه دوّار فكلما زادت عدد الدّورات زاد الإلمام والإيحاء، والأمر من البداهة بحيث إذا طلبنا من مبتدئ في الرياضيات أن يرسم لنا خطا لا نهائيا في سطح نهائي محدود، ليس له سوى أن يرسم دائرة عدد دوراتها لا نهائية. فالشخص الذي لا يستنبط مقلّد كما يقول تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21) لقمان. والمجتمع الذي لا يستنبط تابع لغيره كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) المائدة. فالأمر أيسر ممّا يصوّر محور الشّر المتمثّل في الشّيطان والمال والإعلام، ليصدّوا عن سبيل الله أو ليطفئوا نور الله: يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) التّوبة.
القرآن أسمى من أن يكون كتاب أخبار وأسباب النّزول، أو كتاب لغة وبلاغة، أو كتاب إعجاز علمي وعددي، أو كتاب أحكام ومتشابهات التي لا يعلم تأويلها إلا الله، بل هو مرآة وجودك فإن وجدت خيرا فاحمد الله وإن وجدت غير ذلك فلا تلومنّ إلا نفسك، وقد قال تعالى على لسان رسوله: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30) الفرقان، سواء قالها من قبل لمشركي قريش أو سيقولها بعد يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً، فالمشاهد والملاحظ على الأخص في أيامنا هذه، أنّ أقوال الرّجال من هذا المذهب أو ذاك أكثر اتّباعا من اتّباع القرآن الحكيم واتباع سنّة المبعوث رحمة للعالمين، فالإسلام ميسّر من ربّ العالمين ومن سيرة الرّسول الكريم بحيث لا يحتاج إلى ترجمان لا يقدر سواه على البيان، ففي جيل الآباء حيث الأمّية هي الغالبة ومن له قدر من التّعليم فهو دون المتوسّط في عرفنا اليوم، مع ذلك كان لهم إيمان يصعب أن يدرك، فقد كانوا يتّسمون بالفراسة، وكان لهم رؤى صائبة، وكانوا ينطقون بحكم بالغة، ولم تكن معرفتهم بالمذهب المالكي المتّبع عندنا أكثر ممّا يذكر الذي يقدّم خطيب الجمعة بقوله: قال إمامنا مالك: «إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ: أَنْصِتْ، وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَقَدْ لَغَوْتَ». وإجمالاً على المؤمن أن يتلو ما أنزل إليه من ربّه كما قال تعالى: وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27) الكهف، فإن قيل لك أنّ الخطاب ليس موجّها إليك؛ ذكّره بقول الله: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (19) الأنعام، أورد الطّبري عن ابن عباس قوله: ”وأوحي إليّ هذا القرآن لأنذركم به“، يعني أهل مكة ”ومن بلغ“، يعني: ومن بلغه هذا القرآن، فهو له نذير انتهى، فالأمر يجب أن يؤخذ مأخذ الجد حتّى لا نكون ممّن قال فيهم تعالى: هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (53) الأعراف. وعن رسول الله ﷺ كما جاء في مصنّف ابن أبي شيبة[345]: عَنْ عَلِيٍّ غليه السلام، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ خَبَرُ مَا قَبْلَكَمْ، وَنَبَأُ مَا بَعْدَكُمْ، وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ، هُوَ الْفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ، هُوَ الَّذِي لَا تَزِيغُ بِهِ الْأَهْوَاءُ، وَلَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ، وَلَا يَخْلَقُ عَنْ كَثْرَةِ رَدٍّ، وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، هُوَ الَّذِي مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللَّهُ، وَمَنِ ابْتَغَى الْهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ، هُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ، وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ، وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، هُوَ الَّذِي مَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ، وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ، وَمَنْ دَعَا إِلَيْهِ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. ومنتهى الأمر كلّه قوله تعالى: اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ (3) الأعراف.
الرّوح والروحانيات
الرّوح من عالم الأمر كما سبق التّبيان، وينتقل بالنّفخ أو التّنزيل والإرسال، شأنه شأن كلام الله، فقد قال تعالى: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) الشّورى، توجّه جلّ المفسّرين إلى أنّ الوحي المباشر يكون عن طريق الإلهام، أو من وراء حجاب كحال تكليم موسى عليه الصّلاة والسّلام، أو إرسال رسول كما هو معلوم في حال جبرائيل مع محمد عليهما الصّلاة والسّلام، والملائكة الكرام كلّهم رسل من رسل الله، كما قال تعالى: لْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) فاطر. ومهام الملائكة أكثر من أن تحصر، فمن حملة العرش إلى تسيير الكواكب إلى إخراج النّبات إلى رعاية الأجنة إلى الحفظة إلى الكتبة إلى المكلّفين بوفاة النّفوس إلى خزنة جهنّم إلى ما لا يعلمه إلا الله، ورغم أنّ الأوامر حسب فهمنا متعدّدة ومختلفة، إلا أنّ الروح واحد، لأنّه صادر عن الواحد الأوحد، فلا نجد في كتاب الله صيغة الجمع، كما سبق التّبيان. أمّا في السّنة الشّريفة فما يقصد به الأرواح يعني النّفوس لا الرّوح كما سبق ذكره، على نفس منوال التّكليم تكون الروح بنفخ مباشر كحال سيدنا آدم عليه الصلاة والسلام، أو بإرسال رسول من الملائكة كحال سيّدتنا مريم عليها السلام، أو بمأذونية للملائكة كحال الأجنّة في بطون أمّهاتهم، أو حتّى لبشر كحال سيّدنا عيسى عليه الصلاة والسّلام الذي يخلق من الطّين كهيئة طائر فينفخ فيه الروح، أو حال من اصطفى من عباده المؤمنين كما قال تعالى: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22) المجادلة، حيث الروح في الآية الحكيمة المؤيّدون به هو على منوال ”روح القدس“ الذي أيّد به عيسى عليه الصلاة والسلام، وليس الروح الذي نُفخ من طرف ملاك في الرّحم عند بداية النّشأة البشرية، عموما لا يُتصوّر أن توجد ذرّة في السماوات والأرض لم يبلغها روح؛ أي الأمر الذي ينظّم وجودها وكيانها والمهمّة المطلوبة منها، هل هذا الروح الذي يسري في الكون بكلّيته والذي تمّ به إبداع السماوات والأرض هو المقصود عند أهل الحكمة بما يسمّونه الروحانيات؟ لا أدري، لأنّ اطّلاعي على الموضوع متواضع خصوصا الجانب العملي منه، ولست ملمّا بجوانبه المتعدّدة المعقّدة، لنتبيّن ما يعرّفون به الروحانيات أهل الاختصاص أنفسهم، وإن كنّا لا نجد تعريفا يتّفقون عليه، منهم من يقول: الروحانيات عبارة عن طبقة دون الملائكة الكرام وأرفع درجة من الجنّ، هذا التّعريف لا تؤيّده الشّريعة لأنّ الوحي أخبر عن خلق من نور وهم أمم لا يعلمهم إلا الله، وخلق من نار وهم أمم كذلك وخلق من تراب ما دبّ وما يطير وما يمشي على بطنه وما يمشي على رجلين وما يمشي على أربع، صحيح بين مملكة خلق وأخرى توجد حدود شبه متداخلة وفق ما علمناه بين مملكة النّبات ومملكة الحيوان، لكنّه لا يؤدّي إلى تصنيف ثالث، فالأمر في ظنيّ أنّه تلبيس أكثر منه تصريح، والتّعريف الثّاني يقول: كل شيء خلقه الله خلق له روحانيات ما وبشكل ما، وإن كان هذا التّعريف جيّد إلا أنّ سمته الغموض والإبهام، التّعريف الثالث يقول: الروحانيات تكون من الجان ومن الملوك العلوية أو الأرضية أو من الطّبقات الثمانية والعشرين التي تتحكّم في كل الأعمال الروحانية وهم ملوك أو أعوان أو خدّام، وهو تعريف لا يوضّح هل الملوك العلوية هم من الملائكة أم من الجان؟، أمّا التّعريف الذي يمكن أن نقول عنه أنه معاصر بشكل ما، يقول: الروحانيات بمعناها الواسع توجّه أو اهتمام الإنسان نحو كل ما يتعلّق بالرّوح والنّفس وبالقيم الأبدية وكل ما يمكن أن يشرح الطّبيعة الكلّية للخلق والعالم، هذا التّعريف شامل ليكون جامعا لكل العلوم الروحانية لدى كل الشّعوب القديمة والحديثة، لكنّه أغفل التّوجه الرئيس في العلوم الروحانية الذي هو رغبة إشباع الضّعف الإنساني بجلب المنافع وطرد الأضرار، فمن مواضيع هذا العلم: علم الفلك، وعلم الحرف، وعلم الكسر والبسط، وعلم الأوفاق (الجداول)، وعلم الأسماء الحسنى وخواص آيات وسور القرآن، وعلم الرّمل، وعلم الطّلاسم، واستخدام الخبير، إلى غير ذلك، فما علاقة هذه العلوم بالسّحر إذا؟، يقول أحد الروحانيين من الذين بسطوا نفوذهم على الإنترنت: ”أنّ الذي يحرّم هذه العلوم لا يفرّق بين العلوم الروحانية وأقسامها والسّحر الذي يراد به إلحاق الضّرر بالنّاس والذي حرّمه القرآن الكريم والسنّة النّبوية“، جميل، وطبعاً يكون إلحاق الضّرر بنفس هذه العلوم لأنّ خارجها لا يوجد علم اسمه السّحر، لا أنكر أنّي وجدت عند هذا القائل تعريفا أدق لما هو روحاني حيث يقول: ”المقصود من كلمة روحاني من الجن أو روحانيون هم صالحو الجن ومؤمنوهم الذين هم أحرص الجان على عبادة الله تعالى وتقواه، فيرتقون من مستوى الجن إلى مستوى الملائكة بالعبادة والطّاعة لله تعالى فيسمّون روحانيين وهذه اللفظة أصبحت تطلق على المشتغل بالعلوم التي لها علاقة بالجن والأرواح“، فنحن أمام علم له علاقة وطيدة بالجن، أمّا الأرواح الواردة في التّعريف فقد يراد بها الجن كذلك فالسّلف من الجدّات بفطرتهم تسمّيهم ”الأرياح“ والخلط بين ريح وروح في نسخ التّوراة قد ذكر، وهذه الحقيقة لا تقلّل من شأن هذا العلم، فقد قامت عليه حضارات بائدة وبلغ ذروته في مُلك سليمان وما كفر سليمان ولكنّ الشّياطين كفروا، ثمّ لا مصادر لدينا موثوقة عن هذا العلم حتّى يمكن استرجاعه خاليا ممّا امتزج به من ضلالة، أمّا التّحريم في الإسلام فلحكمة اقتاضاها ربّ العالمين، فكل شأن يصير ضرّه أكثر من نفعه يستوجب تحريما والله أعلم، وإجمالا فالملاحظات العامة حول هذا العلم تتلخّص فيما يلي:
أولا، من التّعاريف التي سقناها نجد تهرّبا من الاعتراف بطريقة غير مُقنِعة، بأنّ هذا العلم هو منفذ التّواصل بين الإنس والجن، كما قال تعالى: وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ (128) الأنعام، وأنّ الحالات الكثيرة التي أدّت لجنون وموت كثير من الشبّان نتيجة محاولة اشتغالهم بهذه العلوم خصوصا ما يسمّى تحضير الأرواح عن طريق ”الويجا“ (Ouija) تؤكّد حضور الشّياطين في جلّ الأحوال ولا نستبعد في بعض الحالات أن يكونوا من ملّة أخرى، غير أنّ ذلك لا يبرر المشروعية؛ إذ لا قدرة للمستحضر في اختيار من سيحضر، هكذا أظنّ ما لم يثبت عندي العكس.
ثانيا، دخول الخلوة بشروط لكي تستجيب الروحانية وأهمها: اجتناب أكل ذي روح أو ما خرج منه، فقد يبدوا هذا الشّرط بريئا لكنّه يحرّم ما أحلّ الله، وفاعله آثم كما لو أنّه أحلّ ما حرّم الله، يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) المائدة، والشّرط الآخر التّحصّن بالتّحصين القاطع، فعمل مثل هذا ينافي الشّرع، أخرج ابن حبان[346]: عن رسول الله ﷺ:”مَنْ عَلَّقَ تَمِيمَةً فَلَا أَتَمَّ اللَّهُ لَهُ وَمَنْ عَلَّقَ وَدَعَةً[347] فَلَا وَدَعَ الله له“ وفي حديث آخر: ”مَنْ عَلَّقَ تَمِيمَةً فَقَدْ أَشْرَكَ “. والشّرط الآخر، عدم النّوم إلا إذا اضطر لذلك، من هذا الشّرط ومن شروط أخرى كتقليل الأكل مثلا، تكون الغاية حسب ما أظنّ ادخال الشّخص في حال من الضّعف والوهن وتشوّش في الإرادة تمهيدا لغلبة الشّيطان العاجز عن إيذاء الإنسان أصلا، كما قال تعالى: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) النّحل، ومن الشّروط كذلك النيّة وتلاوة العزيمة والقسم وعدم افشاء السّر والبخور المخصوص، ويمزج كل هذا بأعمال مشروعة كالوضوء، والصلاة على رسول الله، والصلوات المفروضة في أوقاتها إلى غير ذلك ممّا قد يكون مجرّد تمويه.
ثالثا، الفشل الكبير للأعمال الروحانية خصوصا عند المبتدئين والذي كثيرا ما يعزوه المشايخ المتمرّسون إلى عدم الحصول على الإذن، أو عدم صدق النّية، أو عدم علوّ الهمة، بينما في الحقيقة أنّ العناية الربّانية تحول دون انزلاق الغافلين إلى ما هم مقدمون عليه إمّا لشغفهم باستطلاع الأسرار، وإمّا لميل عاطفي يدفعهم إلى ذلك، وإمّا لسبب آخر، غير أنّ الإلحاح على الطّلب والتّكرار المستميت حكمه ما سبق أن بيّناه من سنّة الله المنظّمة لعمل الإنسان، أمّا الإذن الحق الذي يمكن اعتباره فهو إذن ربّ العزّة كما يقول تعالى: وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ (102) البقرة، وهذا الإذن قد يكون في حاجة إليه الشّيخ المعلّم قبل الضّحية المتعلّم.
رابعا، الروحانيات إن جرّدت من الخرافة ومن عناصر الضلالة، يمكن اعتبارها فنّ التعامل مع أشكال الطّاقة، فالطّاقة الذّرية حينذاك تكون أضعف هذه الأشكال مقارنة بالطّاقة النّفسية وطاقة الحروف والكلمة وهو ما تجري عليه الأبحاث في الدّول المتقدمة بتكتّم وسرّية، وكمثال على ذلك منطقة 51 القاعدة العسكرية المحصّنة أرضا وجوا ومن تحت الأرض الواقعة على بعد 170 كم من مدينة لاس فيجاس ولاية نيفادا والتي لا يمكن لأحد أن يقترب منها، والتي كانت تنفي السلطات الأمريكية وجودها لعقود خلت والتي هي مثار تكهنات منها الموضوعي ومنها ما غايته التّلبيس، وما تسرّب يشير إلى وجود تعاون تكنولوجي بين الأمريكان ورجال الفضاء؛ أي الجن الطّيار، وهو أمر غير مستبعد، فإذا كان مشايخنا في العالم الثّالث يقدرون على فتح قنوات الاتصال مع الجن، فكيف لا يقدر أناس يعبدون الشّيطان عبادة وليس نتيجة ضلالة.
إجمالا يتبيّن أن لا علاقة على الإطلاق بين الرّوح وبين ما يطلق عليه روحاني أو روحانية أو حتّى ما يسمّى استحضار الأرواح، اللهم التّعسّف اللغوي في الخلط بين النّفس والرّوح، وأنّ الأمر متعلّق فقط بالجن، وأنّ تغيير المسمّى إمّا للتّلبيس وإمّا للاحترام الزائد كما يسمّيهم البعض من العامة الأسياد، وهو سلوك وممارسة قديمة كما قال تعالى: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) الجن، أمّا العلوي والسّفلي والأرضي وما إلى ذلك، فلن يزيد أن يكون إشارة إلى الجن المقيم في السّماء والمقيم بيننا والمقيم تحت الأرض كما جاء في المستدرك[348]: عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «الْجِنُّ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ صِنْفٌ لَهُمْ أَجْنِحَةٌ يَطِيرُونَ فِي الْهَوَاءِ، وَصِنْفٌ حَيَّاتٌ وَكِلَابٌ، وَصِنْفٌ يَحِلُّونَ وَيَظْعَنُونَ[349]»، لعلّ هذا الصّنف من الحيات هم من يطلق عليهم في وقتنا reptiliens الذين يستخدمونهم من يسيطرون على العالم، أمّا الصّنف الطيّار فيطلق عليهم رجال الفضاء les extraterrestres ويشاهدون بأطباقهم الطائرة، كما يروّج أنّ الفضل يعود إليهم في خلق الإنسان حسب ما وجدوا من ضلالة عند السوماريين الذين يسمّونهم الأنوناكي Anunnaki ليعودوا بنا إلى وثنية الأمم التي دمّرت، فالملاحظ أنّ العلوم الروحانية بدأت تسترجع مكانتها أو لنقل أكثر، فزيادة على الاهتمام الرّسمي الذي لا نعرف عنه شيئا يذكر، يوجد اهتمام شعبي غير مسبوق، سواء ممارسة طقوس من الثّقافات الشّرقية وحتّى من الفرعونية، إلى من يؤسّسون لأديان جديدة المرجعيّة فيها كتب ورسائل كتبت عن طريق البسيكوغرافيا؛ الكتابة التّلقائية الباطنية (psychographie) وهي تقنية معروفة على مدى التّاريخ يسمّيها الروحانيون عندنا ”خدمة اسماعيل الكاتب“، مثل كتب أورنتيا the urantia book أو رسائل اكرييون Messages de Kryeon وغيرهما المتداول على الشّبكة المعلوماتية إلى حدّ كبير، فعصرنا إذا عصر الدّجل سيدعّم بالسّحر والروحانيات إلى أن يبلغ أوجه بخروج المسيح الدّجال، وفتنة هذا الأخير فتنة أظنّ أن ليس لها سابقة في عصور الإنسانية لذا حذّر جميع رسل الله منها وأن يستعيذ كل مؤمن بالله منها، فتنة حسب النبوءات مرتبطة بعلو اليهود في الأرض، وعملهم على تفشّي الفساد.
الوهم والواقع
آخر ما توصّل إليه علم فيزياء الكم أن المادة لا وجود لها أي شبه منعدمة، إذ يستطيع جسيم منعدم الكتلة أن يكوّن لنفسه كتلة وقبل أن يَثبت هذا تجريبيا كان يتوقّع بيتر هيجز[350] Peter Ware Higgs وجود بحر محيط كوني من جسيمات لا هي مادية ولا هي طاقة صرفة، يجعل للجسيمات غير ذي كتلة التي تسبح فيه كتلة نتيجة تجمّع أو التصاق هذه البوسونات بالجسيم السّابح، وآلية التّجمع ليست واحدة بالنّسبة لكل الجسيمات بنفس الشدّة، مشبّهين ذلك بقاعة بها أنّاس فيدخل عليهم رجل مشهور فيزدحم الناس من حوله بينما يدخل عامل اصلاح الكهرباء فلا يهتم به أحد، فبقدر هذا الازدحام تتشكّل الكُتلُ المختلفة، وقد سمّي هذا البسون الذي يعدّ الحلقة المفقودة في معادلة الكون أو النّموذج العياري le modèle standard بجسيم أو بسون هيجز (Le boson de Higgs)، وقد أطلق هيجز نظريته سنة 1964م، وتمّ التّثبت منها تجريبيا من طرف المنظّمة الأوروبية للأبحاث النّووية (CERN) بجنيف بتاريخ 4-07-2012م بحضور هيجز نفسه، وذلك بعد سلسلة تجارب عديدة غايتها البحث عن هذا الجزيء الذي يعتبر الحلقة الوسطى بين الجزيئات ذات الكتلة مثل الكوارك والليبتونات، والجسيمات العديمة الكتلة مثل الفوتونات حسب ما يتطلب النموذج العياري المعمول به في الفيزياء الحديثة.
فالمادة إذا ليست سوى فراغ تحدث الطّاقة به اهتزازات مختلفة التّردد فتعطينا صورة في أبعادها الثلاثة؛ أي أن العالم افتراضي أكثر منه واقعي، ولعلّ سلسلة أفلام ماتريكس Matrix تشير إلى هذا من بين مغازيها، وهذا رجوع بشكل ما لما قاله ويقوله الروحانيون أو المثاليون منذ القدم كأفلاطون ومن سار على نهجه وقبل ذلك كل فلاسفة الشّرق، فهل لعاقل أن يتصوّر إهمال من يسعون إلى الجبروت وحكم العالم بالقوّة هذه العلوم بعد أن أقرّها العلم الرّسمي مع التّأويل الإلحادي المصاحب، ثمّ إن الإنسان المكوّن من بدن ونفس وروح أكيد أنّ هذا الثّالوث ليس من طبيعة واحدة، لنترك الرّوح جانبا لقلّة ما أوتينا من علم عنه، ولنقارن بين الوجود البدني والوجود النّفسي، كمثال على ذلك الإنسان في صحوه ومنامه، فمن منّا لا يعرف أنّ في عالم المنام لا توجد جاذبية، وأنّ السّقوط من أعلى لا يسبّب ضررا، وأنّ طي الأرض ممكن، وأنّ التجوّل تحت الماء ممكن، وأنّ الطّيران في الهواء ممكن، وأنّ الإنفلات من الزّمن ممكن، وأنّ التزاور مع أصدقاء أو أقرباء ممكن سواء كانوا أحياء أم أمواتا، ونعلم كذلك جميع القوانين التي تنظّم الصّحو، فلنفترض شخصا ما تناول من مخدّر قدرا ينسيه وجود بدنه ولا يحسّ إلا بوجود نفسه، فيقفز من أعلى طابق في العمارة معتمدا على واقع نفسي صحيح، ماذا سيكون حكم النّاس عليه؟ الاجابة أنه كان واهم، وآخر يرى في منامه رُأى صادقة تنبّهه عن شيء أو تُعلمه بشيء لم يخطر على باله من قبل، فيخبر النّاس بذلك، ماذا سيكون حكم النّاس عليه؟ أنّه واهم كذلك، لحل هذا الأشكال ينبغي أن نسأل أيّ الوجودين أسبق الوجود البدني أم الوجود النّفسي؟، فإذا كان الوجود البدني أسبق فكل ما نراه في الأحلام أوهام، أما إذا كان الوجود النّفسي أسبق فكل ما نراه في الصّحو أوهام، وإلى هذه الحقيقة يذهب الحديث: «الناس نيام.. فإذا ماتوا انتبهوا» سواء كان من قول الرسول الأكرم أو من قول عليّ عليه السّلام لا تتأثّر الصدقيّة، جاء في فيض القدير[351]: وسائر ما تراه في هذه الدنيا خيال ومن لا يعرف مرتبة الخيال فلا عنده من المعرفة رائحة بحال وقد قال عليه الصلاة والسلام الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا فنبه به على أن ما أدرك في هذه الدار كإدراك النائم في النوم وهو خيال فبالموت يرى أنه استيقظ، انتهى، فالوهم أو الخيال إذا استعمال قوانين وخواص المنام في الصّحو، وكذلك استعمال قوانين وخواص الصّحو في المنام، فمن منّا لم يعش في أحلامه كوابيس وآلام أشدّ من آلام الأبدان لأنّه تشبّت بقوانين الصّحو في منامه، ألا ترى أنّ النّفس إذا اشتدّ عليها الألم في المنام تفزع إلى الصّحو، وإذا اشتدّ عليها الألم في الصّحو تفزع إلى المنام فيصاب الشّخص بالغشية فيغمى عليه، ورغم هذا لا يجوز أن نقول أنّ العالم الذي حولنا مجرّد وهم، لأنّ الحقّ سبحانه وتعالى خلق السماوات والأرض بالحقّ، أمّا ما نسمّيه حياة فهي مجرّد اختبار سريعا ما ستزول ولا يبقى منها إلا الأعمال كما بيّن تعالى: وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يعْلَمُونَ (64) العنكبوت.
في اللسان[352]: قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: الحَياةُ والحَيَوان والحِيِّ مَصادِر، وَتَكُونُ الحَيَاة صِفَةً كالحِيُّ كالصَّمَيانِ لِلسَّرِيعِ، انتهى.
بالعودة إلى التّصوّر العلمي للواقع؛ نعرف في الفيزياء أن القوى المنظّمة لكل الوجود المادي أربعة هي: قوّة الجاذبية المعرّفة بقانون نيوتن الشّهير أثارها معلومة ويمكن حسابها لكن كنهها لا زال مجهولا، قوة كهرومغناطيسية وهي أكثر انتشارا وتشمل الضوء والحرارة وأمواج الراديو وغير ذلك، قوّة نووية قوية وهي أقوى القوى الأربع غير أنّ تأثيرها لا يمتد بعيدا وهي المسؤولة عن تجميع البروتونات في نواة الذّرة على الرغم من أنّها من طبيعة كهربائية واحدة ما يلزم التّنافر، قوّة نووية ضعيفة وهي الفاعلة في الاندماج النووي كتحول الهدروجين إلى هليوم في جرم الشّمس مثلا، ويسعى علماء الفيزياء إلى توحيد القوانين الأربعة في قانون واحد يكون معبّرا عن كل ما يحدث في الطّبيعة، انطلاقا من هذه المعطيات لنتأمل جسما فيزيائيا وليكن شخص ببدنه؛ فهو فراغ حدوده الخارجية سحابة إلكترونات، لا تتبعثر منطلقة في جميع الاتجاهات نتيجة جذب البروتونات، وأنّ هذا الشّخص ما به من كتلة نسبة إلى الفراغ لا يكاد يذكر، فإن ذكرت فهي مجرد طاقة مجمّعة، فالشّخص إذا صورة إلكترونية مسوّرة في الفراغ بأبعاده الثلاثة، مثله مثل صورة ضوئية مسوّرة بأبعادها الثلاثة لكن ليس في التلفاز بل في الفراغ المكاني، ومعلوم في فيزياء الكم أن تصرّفات الإلكترون والفوتون متشابهة؛ فكلاهما له طبيعة ازدواجية موجة-جسيم، وأنّ هذا الشّخص ولنسمّه الشّبح الإلكتروني لا يستطيع أن يخترق جدار غرفته مثلا؛ لأنّ الجدار بدوره سحابة إلكترونية فيحدث تنافر لأن الشحنات الكهربائية التي من نفس الطّبيعة تتنافر، وهكذا يحدث مع كل الأجسام المادية الصّلبة أمّا ما يخصّ السائل والغاز رغم أنّ التركيبة الذّرية واحدة إلا أنّ الجزيئات في حالة السّائل يتكوّر بعضها على البعض ممّا يقلل المقاومة لولوج جسم خارجي فيه، وفي حالة الغاز الجزيئات تتباعد عن بعضها البعض فلن يمكن أن يكون حاجزا لأجسام مادية أخرى، السّؤال الآن ماذا لو وجد شبح آخر بوزتروني (البوزترون جسيم مضاد الإلكترون يشبهه في كل شيء إلا أنّ شحنته الكهربائية موجبة) هذا الشّبح المكوّن من ذرات نواتها سالبة مكونة من مضاد البروتون ومضاد النيوترون، معلوم أنّ كل هذه الجسيمات معروفة ويمكن تحسّسها في المختبرات، مذا لو وجد كائن من هذا النوع من الذرات؟، المؤمن يقول لا غرابة، الله الخالق على كلّ شيء قدير، لكن مثل هذا الجواب لا يرضي أصحاب نظرية التّطوّر، فلنستقرئ نظرية التّكوين العلمية؛ ألا تقول أنّ الكون في الانفجار الكبير لم يكن سوى حساء من الجسيمات الأوّلية، ولن نعترض على أنّ الذي كان يعتبر أوّليا في زمن غير بعيد عنّا ثبت بعد ذلك أنّه مركّب، وما هو أوّلي اليوم قد لا يعتبر كذلك بعد سنوات قليلة، لكن هل قانون الاحتمالات يمنع تشكّل ذرّات أخرى مقلوبة في هذا الحساء؟، لا يهم الجواب، فمتى كان للكفر منطق، الشّبح البوزتروني الذي هو عبارة عن صورة بوزترونية مسوّرة في نفس الفضاء الذي نحن فيه بأبعاده الثّلاثة، يستطيع أن يخترق الجدار وأن يصول ويجول في عالمنا كأننا غير موجودين بالنّسبة إليه، وأكثر من ذلك قد يشيّد مدنا ويقيم حضارات، فلا نحن زاحمناه ولا هو زاحمنا، وبالتّعميم أكثر، ماذا لو وجد شبح فوتوني، وشبح كهرومغناطيسي من طبيعة أخرى وهكذا، القاسم المشترك في هذه الأمثلة هو أن تكون الصّورة مسوّرة أي وجود قوّة تمنع تفكك وتلاشي الطّاقة، وقد ركّز الخالق البارئ المصوّر في كتابه على التّصوير فقال في الخلق الأول: خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) التّغابن، وفي الخلق الثّاني: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) آل عمران، فعلى الذين يودّون أن ينفذوا من أقطار الأرض وأقطار السّماء من الإنس و الجان أن يصبّوا جهدهم العلمي وامكانات الاكتشاف على معرفة أنفسهم أوّلا، لا أقصد بهذا وضع تصوّر واقعي لكينونة الجن أو كينونة الملائكة، بل مجرّد إبراز إمكانية افتراضية من الإمكانيات اللامحدودة للقدرة الإلاهية التي تدخل في عنوان إنّ الله على كلّ شيء قدير.
الروحانيات والتّصوّف
الذي يتذكّر طريقة التّدريس القديمة والتي كانت سارية إلى أمد ليس بالبعيد، كان المتعلّم يبدأ بالكُتّاب إلى أن يحفظ القرآن، ثمّ ينتقل إلى مدرسة نظامية لتعلّم علوم الأوراق كما كانوا يسمّونها، وإذا لم توجد هذه، كان يختار شيخا يعلّمه ما هو مختصّ فيه ذلك الشّيخ حتّى يجيزه، بعد ذلك ينتقل إلى شيخ آخر، وهكذا دواليك إلى ما يقابل ما نسمّيه التّخرّج في نظامنا، وذلك بان يُولّى القضاء أو يُعتمد كشيخ في التّدريس، في هذه البيئة الثّقافية الحرّة حيث الطالب هو الذي يختار المادة التي يريد دراستها وحتّى المعلّم الذي سيدرّسه، طبيعي أن يكون للمشايخ مكانة اجتماعية متميّزة، ومكانة عند طلبتهم أشبه بالتّقديس، ولعلّ أولى المواد التي شملها التّدريس هي الفقه والتّفسير والحديث وفي نهاية القرن الأول الهجري بدأت حركة التّرجمة التي استمرّت إلى بداية القرن الثامن الهجري، فتنوّعت العلوم وبرز مشايخ في فنون مختلفة، فجرى الحديث عن طبقة الفقهاء وطبقة المفسّرين وطبقة المحدّثين وطبقة الفلاسفة وطبقة الأطباء وطبقة الروحانيين أو أهل الحكمة وطبقة الصّوفية إلى غير ذلك، لم تكن هذه الطّبقات تخصّصات كما نفهم اليوم، بل كان علم الشّيخ يحيط بجلّ إن لم نقل كل هذه العلوم، إلا أنّه تميّز في علم ما حسب مواهبه، الذي يعنينا من كل هذا أن الروحانيات والفلسفة كان التّحذير منهما في الإسلام موجودا، كما شمل التّحذير التّصوّف خصوصا بعد ظهور الزّندقة في العصر العبّاسي، إلا أنّه نهيٌ للعوام ولا يمنع المشايخ من الاطلاع أو الممارسة، من هذا نستنتج أن السّلف لم يضعوا للعلم حدودا سوى حدود الشّريعة، لكن مع نشأة الفرق والمذاهب المختلفة في كل فرقة، أصبح مفهوم الشّريعة نفسه محل أخذ ورد لسوء الحظ، بالعودة إلى الروحانية لا يمكن لأيّ منّا أن يقول أنّه في منأى عنها لا لنفخ الرّوح فيه عند نشأته، بل للقرين من الجنّ الذي يلازمه كما قال تعالى: وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) الزّخرف، أورد الطّبري[353] عن قتادة، قوله: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا) يقول: إذا أعرض عن ذكر الله نقيض له شيطانا (فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) انتهى، ومعنى يعشُ، من العَشا، مَقْصورَةً: سُوءُ البَصَرِ باللَّيْلِ والنَّهارِ يكونُ فِي الناسِ والدّوابِّ والإِبلِ والطَّيْرِ، ومعنى نُقيّض من التّقييض وهو الإتاحة، ولا أستسيغ هذا التّعريف رغم أنّه مستخرج من بعض المعاجم اللّغوية، لأنّه يوحي للفهم أنّ من يذكر الله ليس له شيطان قرين، وهذا غير صحيح، فقد ذكرنا حديث مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنْ الْجِنِّ وَقَرِينُهُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ، كما أنّ بعض آيات الكتاب تؤكّد ذلك: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) الصافات، يقول الفخر الرازي في تفسيره[354]: الْقَوْلُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ الْأَزْوَاجِ أَنَّ الْمُرَادَ قُرَنَاؤُهُمْ مِنَ الشَّيَاطِينِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (الْأَعْرَافِ:202)، لنرجع إلى قيّض، فأصل الكلمة حسب لسان العرب[355] القَيْضُ: قِشرةُ البَيْضة العُلْيا اليابسةُ، وَقِيلَ: هِيَ الَّتِي خَرَجَ فرْخُها أَو مَاؤُهَا كلُّه، ومنه جاءت المقايضة بمعنى الاستبدال، كأنّ معنى الآية والله أعلم أن من لا يذكر الله يخرج من نفسه شيطان ليحلّ بدله، وهو نفس معنى استحوذ والله أعلم إذ يقول تعالى: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمْ الْخَاسِرُونَ (19) المجادلة، كأنّ نفس الانسان تقايض بنفس الشّيطان (راجع ما يقوله علماء الغرب عن مادة الايكتوبلازمEctoplasme التي تخرج من الوسيط الروحاني)، والشّيطان القرين يسري في الانسان مجرى الدّم، ففي البخاري[356] من حديث عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ عليهما السّلام: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي المَسْجِدِ وَعِنْدَهُ أَزْوَاجُهُ فَرُحْنَ، فَقَالَ لِصَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ لاَ تَعْجَلِي حَتَّى أَنْصَرِفَ مَعَكِ، وَكَانَ بَيْتُهَا فِي دَارِ أُسَامَةَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهَا، فَلَقِيَهُ رَجُلاَنِ مِنَ الأَنْصَارِ فَنَظَرَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ أَجَازَا، وَقَالَ لَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَعَالَيَا إِنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ»، قَالاَ: سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ الإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ، وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يُلْقِيَ فِي أَنْفُسِكُمَا شَيْئًا».
على هذا يكون الشّيطان القرين هو الزّوج لكلّ إنسان فهو شبهه في كلّ شيء إلا أنّه من طبيعة مغايرة، كما رأينا في الجسيمات الأوّلية، وهو دليل الحكمة الربّانية: وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) الذّاريات. سيقول قائل حسب الفيزياء تواجد المادة والمادة المضادة في حيّز واحد يؤدّي إلى فنائهما وتحوّلهما إلى طاقة وفق معادلة أينشتاين، نقول أن معلوماتنا لا زالت بدائية في المجال وأنّ الله قادر على جمع الأضداد، ألم يفعل ذلك في نواة الذّرة عندما جمع البروتونات وهي من نفس الإشارة الكهربائية؟، هل يكفي أن نقول أنّها جمعتهم قوّة نووية قوية ليكون الحال معلوماً؟، متى كان إعطاء اسم لشيء ما دليلا على معرفته الحقّة والإحاطة بأسراره؟ وهذا ما يفعله العلم الحديث في كثير من المجالات، وعلى الأخص التي تؤدّي إلى الاعتراف بقدرة الله، فالوجود الرّوحاني الذي أفضّل أن يسمّى الوجود النّفساني، لا يتعدّى كونه اهتزازات تثيرها الطّاقة أو الاسم الأصح القدرة، وأنّ سرّ الأسرار هو الفراغ المطلق لا الفراغ الذي يمكن أن نتوهّم إمكانية الحصول عليه بنسبة ما في المكان ذي الأبعاد الثلاثة، بل الفراغ الخالي حتّى من الأبعاد والذي يمكن أن ينشأ به جسم بما شئنا من الأبعاد، ولعلّ الهواء الذي جاء في حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: كَانَ فِي عَمَاءٍ مَا تَحْتَهُ هَوَاءٌ، وَمَا فَوْقَهُ هَوَاءٌ، أبلغ تعبير عن هذا الفراغ، وأنّ الطّاقة أنواع منها ما تعرّفنا على بعض خواصه ومنها ما لم نعرف كنهه ومنها ما لم يخطر بالبال بعد، لذلك تبادل التّأثير بين أنواع الطّاقة وارد وقائم وله سننه أي بلغة العصر قوانينه، فالكلمة مصدر من مصادر الطّاقة قد تكون إيجابية أو سلبية أي بلغة القرآن طيّبة أو خبيثة، والكلمة الطّيّبة قد تكون بالغة التّأثير أو ضعيفة التّأثير لذا يقول ربّ العزّة: مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) فاطر، جاء في تفسير الآية عند الطّبري[357] عن ابن عباس قوله: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيْبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) قال: الكلام الطيب: ذكر الله، والعمل الصالح: أداء فرائضه، فمن ذكر الله سبحانه في أداء فرائضه حمل عليه ذكر الله فصعد به إلى الله، ومن ذكر الله، ولم يؤد فرائضه رد كلامه على عمله فكان أولى به.
القرآن طاقة لأنّه نور كما أخرج البخاري[358]: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: وَكَّلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ فَأَتَانِي آتٍ فَجَعَلَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ فَأَخَذْتُهُ، فَقُلْتُ لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ- فَذَكَرَ الحَدِيثَ- فَقَالَ: إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الكُرْسِيِّ، لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ، وَلاَ يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ ذَاكَ شَيْطَانٌ» فهكذا بالذّكر والقرآن لن يجعل الله للشّيطان على الإنسان سبيلا، وأريد بالقرآن القرآن الذي يسكن الصّدور وليس القرآن المرسوم في المصاحف.
بتتبّع آثار العلوم الروحانية في التّصوّف نلمس تسريبات كبيرة الشّأن، منها في الطّرق الصّوفية، كالورد والوقت والعدد، فالصّوفي عموماً هو شخص يريد أن يتقرّب إلى الله لا من أجل غاية بل حبّاً في الله، وهو أمر أكثر من مشروع بل هو مطلوب، كما قال العزيز الحكيم: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) البقرة. وبما أنّ كل نفس لها عيوبها وصاحبها أدرى بها وأنّ التغلّب على تلك العيوب ليس بالأمر الهيّن رغم وجود رغبة لتخطّيها، يضطرّ المبتدأ في التّصوّف أن يبحث له عن شيخ يكون بمثابة طبيب للنّفس يعينه على حاله، وهو ما قال به أكابر المتصوّفة حتّى ثبّتت العبارة المشهورة ”من لا شيخ له فالشّيطان شيخه“ وهو قول به جانب كبير من الصّواب، فكل علم أو فنّ تريد ممارسته لزاما عليك الاستفادة من خبرة من سبقك إليه، لكن السّؤال، هل كل شيوخ الطّرق الصّوفية مؤهّلون لهذه القيادة الذّوقية؟ يقول الإمام أبو القاسم الجنيد الخزّاز[359] عندما سئل من العارف؟ يقول: ”من نطق عن سرّك وأنت ساكت“ وهي عبارة قصيرة لكنّها بليغة، فالشّيخ يجب أن يعرف عيوبك دون أن تكشفها له كما يجب أن يكون لك عونا للبلوغ إلى مقصدك، والسّر هو ما لم يطّلع عليه حتّى قرينك من الجن، لأنّ القرين يعلم كل شيء عن أحوالك الظّاهرة وقد يخبر بها من يستخدمون الجن من الروحانيّين، أمّا أن تتخذ لك شيخاً دون توفّر هذا الشّرط، فكأنك أتيت مقلوب العبارة أي من لا شيطان له فالشّيخ شيطانه، لا أقصد أنّ الطّرق الصوفية ليس بها رجال من أهل الله، إذ يعرّف الله أهله بمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحًا، دون أن يحدّه بدين ولا فرقة ولا مذهب، فالأمر أمره والشّأن شأنه، لكن التّحذير موجّه للمريدين الذين يسبّقون الورد الذي أعطاهم الشّيخ عن الأوراد التي أمر بها الله، مثل أمر الله: وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (42) الأحزاب، أو: وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40) ق، والأوراد التي أمر بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وحتّى إن ورد فيها عدد فالعدد سرّه تأكيد الانتساب والله أعلم، وورد الشّيخ يجب أن يكون من هذه الزّيادة، أمّا الغفلة عن مثل هذا فقد ينطبق عليها قول الله عزّ وجلّ: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ (146) الأعراف. من خصائص الشّيخ كذلك أن يهيّئك للشّأن الذي قصدته في مدّة زمنية قد تطول أو تقصر حسب استعدادك، أما أن يظلّ الشّيخ شيخا والمريد مريدا عمرا بأكمله فلا أعرف صوفيّا قال بذلك، فشيخي سيّدي احمد الوهّابي من سكّان جبل العَلَم حيث مرقد الصّوفي الكبير مولاي عبد السّلام المشيش، في أول لقاء لي معه ورغم أنّه لم يكن عاقلا في فهمنا بل كان من المجاذيب الذين يصعب فهم إشاراتهم وقصدهم، مع ذلك وبعد مجهود فكري ليس باليسير فقد وجّهني التّوجيه الذي أنا عليه في لقاء واحد لم يتجاوز سويعات، وأسأل الله أن يجازيه عنّي أوفر جزاء، وسرّ الأمر المستنبط من سير أهل التّصوّف نجد لا أحد عزم على سلوك الطّريق فوجد شيخه في أوّل من اختار من الشّيوخ، بل لزاما التّأكيد أنّ المؤمن عند توبته من المعاصي والتزامه بالشّريعة ثمّ يصدق النّية في البحث عن الطّريق إلى الله فإنّ العزيز الحكيم هو الذي يختار له الشّيخ المرشد فيعرفه بإشارات ودلائل لا يمكن تجاهلها، وفي مثل هذا يقول الشّيخ الأكبر ابن عربي الحاتمي في رسالة سمّاها ”كنه ما لا بدّ للمريد منه“: ومما لا بد منه: شيخ مرشد، والصدق شعار المريد، لأنه إذا صدق مع الله تعالى: جعل كل شيطان في حقه ملكا، يرشده إلى الخير، ويلهمه الخير، فإن الصدق هو: الإكسير الأعظم، ما وضع على شيء إلا قلب عينه، انتهى.
الشّأن الثّاني من هذا التسريب ما نجده في الكتابات الصّوفية لرجال لهم سطوتهم الإيمانية والعلمية لكنّهم يعترفون بالتّلقّي من كائن روحاني، قد يكونون صادقين وقد يكون ما جاءوا به هو الحق لثقتي بواسع علمهم وكمال تفقههم، لكن هذا لا يمنع رغم علمي القليل في إطار محاولة فهم قد لا تكون ميسّرة في مقامي المتدني لتبقى مجرّد استفسار وأسأل من الله التّوفيق، وكنموذج على ذلك اخترت كتابات محيي الدين ابن عربي الفقيه المفسّر الأديب الشّاعر الصّوفي الفيلسوف الحكيم، ونظرية وحدة الوجود التي تنسب إليه، وهي ليست كما يروّج منتقديه أو الذين يكتبون ما يسمّونه دراسات ولا صلة لهم الباتة بالتّصوّف، بل قصده والله أعلم لا وجود بالحقيقة إلا لله، أمّا غيره فوجوده بالتّبعية، نجده في مقدّمة فصوص الحكم[360] يقول: أما بعد: فإنّي رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مبشّرة أريتها في العشر الآخر من محرم سنة سبع وعشرين وستمائة بمحروسة دمشق، وبيده صلّى الله عليه وسلّم كتاب، فقال لي: هذا "كتاب فصوص الحكم" خذه واخرج به إلى النّاس ينتفعون به، فقلت: السّمع والطّاعة لله ولرسوله وأولي الأمر منّا كما أمرنا. إلى أن يقول: فما ألقي إلا ما يُلقي إليّ، ولا أنزل في هذا المسطور إلاّ ما ينزِّل به عليّ. ولست بنبيّ رسول ولكنّي وارث ولآخرتي حارث. انتهى. ويقول في الفتوحات المكّية: (الباب الأول) في معرفة الرّوح الذي أخذت من تفصيل نشأته ما سطّرته في هذا الكتاب وما كان بيني وبينه من الأسرار، وبعد أبيات شعرية يقول: اعلم أيّها الوليّ الحميم والصّفيّ الكريم انّي لمّا وصلت مكّة البركات ومعدن السّكنات الروحانية والحركات، وكان من شأني فيه ما كان، طفت بيته العتيق في بعض الأحيان، فبينما أنا أطوف مسبّحا وممجّدا ومكبّرا ومهلّلا تارة ألثم وأستلم وتارة للملتزم ألتزم، إذ لقيت عند الحجر الأسود، باهت الفتى الفائت، المتكلّم الصّامت، الذي ليس بحيّ ولا مائت، المركّب البسيط، المحاط المحيط، انتهى. من هذه الكتابة ومن كتابات أخرى يذكر فيها عبارة ”قال لي الروح الأمين“ ومن العدد الهائل لكتابات ابن عربي ومؤلّفاته يتبيّن والله أعلم أنّ كتاباته نوع ما من البسيكوغرافيا أي الكتابة التّلقائية الباطنية، لذلك سنقارن نظريّته في وحدة الوجود إذا سلّمنا بوجودها مع ما جاء في الكتابة التّلقائية لأشخاص آخرين.
ورد ما اعتبر فكرة وحدة الوجود في كتابات ابن عربي في فقرات متفرّقة، لا أعرف هل هو تفرّق مقصود يراد به الغموض داخل أسلوبه الغامض أصلا، إلا أن بعض الفقرات جليّة المعالم، منها في فصّ حكمة إلهية في كلمة آدمية[361]: وقد كان الحقّ سبحانه أوجد العالم كلّه وجود شبح مسوّىً لا روح فيه، فكان كمرآة غير مجلّوة. ومن شأن الحُكم الإلهي أنّه ما سوّى محلا إلا ويقبل روحا إلهيّا عبّر عنه بالنّفخ فيه؛ وما هو إلا حصول الاستعداد من تلك الصّورة المسوّاة الفيض التّجلّي الدّائم الذي لم يزل ولا يزال. وما بقي إلا قابل، والقابل لا يكون إلا من فيضه الأقدس. فالأمر كلّه منه، ابتدائه وانتهائه، "وإليه يرجع الأمر كلّه" كما ابتدأ منه. ويقول في فصّ حكمة نورية في كلمة يوسفية[362]: اعلم أنّ المقول عليه "سوى الحقّ" أو مسمّى العالم هو بالنّسبة إلى الحقّ كالظّل للشّخص، وهو ظلّ الله، وهو عين نسبة الوجود إلى العالم لأنّ الظلّ موجود بلا شكّ في الحسّ، ولكن إذا كان ثمّ من يظهر فيه ذلك الظّل: حتّى لو قدّرت عدم من يظهر فيه ذلك الظّل: كان الظلّ معقولا غير موجود في الحسّ، بل يكون بالقوّة في ذات الشّخص المنسوب إليه الظّل. إلى أن يقول: وإذا كان الأمر على ما ذكرته لك فالعالم متوهّم ما له وجود حقيقي، وهذا معنى الخيال، أي خيّل لك أنّه أمر زائد قائم بنفسه خارج الحق وليس كذلك في نفس الأمر. ألا تراه في الحسّ متّصلا بالشّخص الذي امتدّ عنه، يستحيل عليه الانفكاك عن ذلك الاتصال لأنّه يستحيل على الشيء الانفكاك عن ذاته، انتهى. لا تبتعد نظرية ابن عربي عن النّظرة العلمية الحديثة للوجود، ولا عن مقولة المجاذيب الأميّين الذين تعرّفت عليهم ”مَكَيِنْ غِير الله“ باللغة الدّارجة المغربية بمعنى لا وجود على الحقيقة إلاّ لله، وهي لا تقول بوحدة الوجود كما تفهم في عصرنا، مع ذلك وحدة الوجود تكون صائبة إذا اعتبرنا حقيقة الموجودات هي أرواحها، لأنّ الأرواح مجازا هي كثرة في وحدة ووحدة في كثرة، ثمّ الروح من أمر الله منه بدأ وإليه يعود، لكن ما هو الحال إذا اعتمدنا ما يميّز الأشياء هي النّفوس رغم اشتراكها في الرّوح؟، قد أوجز ربّ العزّة ما جاء في كتبه وما بلّغ به كلّ رسله في آية واحدة هي: مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43) فصّلت، فالوجود خلق بالحق فهو حق والنفوس مسؤولة وهو حقّ آخر. إذا كان كلّ سالك يعلم عدم وجود حَلاوَةٌ أَحْلَى مِنْ مَحَبَّةِ اللهِ، فليدرك قول الله: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) آل عمران، ومن أخصّ خصائص هذا الاتّباع العمل بقوله صلّى الله عليه وسلّم: رأس الحكمة مخافة الله.
لنقارن وحدة الوجود كما جاءت في كتاب ” إنجيل عصر الدّلو لليسوع المصلوب “[363] وقد كتبه Levi Dowling ليفي دولينغ ( 1844 – 1911 م) مع فكرة ابن عربي، وهو رجل دين وكاتب وطبيب تفرّغ في آخر عمره للكتابة الروحانية، ولد في بيوبيل Belleville من ولاية أوهايو في الولايات المتّحدة، وهو يؤكّد أنّ ما أورد في كتابه منقول من الملف الأكاشيك Akáshico ، ما يشبه في عقيدتنا باللوح المحفوظ، في فقرة من الكتاب بعنوان ما هو الإنسان يقول: لم يوجد دهر لم يكن فيه الإنسان موجودا. لو كان لوجود الإنسان بداية، لزاما أن تكون له نهاية. علم الله غير قابل للإحاطة. لا يمكن لعقل نهائي أن يدرك اللانهائي. النهائي يكون متحوّل، كل نهائي يتوقّف عن الوجود، لأنّه قد وجد زمن لم يكن فيه موجودا. أبدان ونفوس النّاس نهائية، ما يعني إمّا أن تتحوّل وإمّا أن يأتي يوم لن يكون لها وجود. الأمر الخالق جعل للإنسان الأنا، وأعطى لروح الإنسان نفسا حتى يتفاعل في مستوى الفكر الواعي، وأعطاه بدنا حتى يتفاعل في المستوى المادي للمظاهر الفزيائية. لماذا الأمر الخالق أعطى للإنسان نفسا تنفعل في مستوى الفكر الواعي؟ استمعوا إليّ، ويوجّه خطابه إلى كل المخلوقات العليا والدّنيا، الرّطبة واليابسة، إلى أن يقول: استمعوا إليّ كلّكم كل من هو كائن وكل من سيكون، لأنّ المعرفة هي التي تخاطبكم من المستوى الأعلى للحياة الروحية. الإنسان من علم الله وعلم الله لانهائي ولا يمكن أن يقاس بالزّمن، لأنّ كل موجود في المستوى الذي فيه الزّمن يكون له بداية وتبعا لذلك تكون له نهاية. علم الله هو من القدم الذي لا بداية له إلى الأزل الذي لا نهاية له، كذلك الإنسان، الإنسان الرّوح. لكن الإنسان شأنه كشأن أيّ جانب من جوانب علم الله مثله كبذرة تتجلّى فيه صفات الربوبية تماما مثل البذرة النباتية التي تتجلّى في أعماقها كل صفات تلك النّبتة الخاصة. هكذا إذا يكون الإنسان الروح، كبذرة من الله يتّصف في عمق أعماقه بكل صفة من صفات الربوبية. لكن كون البذور مثالية من كمال الأصل التي هي منه إلا أنّها لم تستكمل نموّها في عالم مستوى أشكال الظّواهر. يكون الجنين في الرحم كاملا كمال أمّه. الإنسان البذرة يجب أن يغرس عميقا في أرض تسمح له بالنّموّ والازدهار تماما كما تخرج الزهرة من البرعم. بذرة الإنسان التي صدرت من ربّ العزّة غاية نشأته أن يسود مستوى العالم النّفسي، ومستوى العالم الذي له أشكال مجسّدة. هكذا الخالق لكل شيء ألقى ببذرة الإنسان في مستوى العالم النّفسي، ونما الإنسان حتّى كان نفسا حيّة إلى أن أصبح سيّدا في مملكة النّفوس. استمعوا إليّ جميع الخلائق: مستوى النّفس ما هو إلاّ أثير مستوى الروح حيث اهتزازاته متوسطة التردد وفي أدنى هذ المستوى حيث الاهتزاز أقل تظهر مميّزات الحياة: كالروائح والأحاسيس وكل ما هو انفعال و حب. وهذه المميزات للنّفس هي التي ستعطي الجمال للبدن. في مستوى النّفس الإنسان عليه أن يتعلّم كثيرا من الدّروس وهناك سيسكن لعدّة دهور حتّى يلمّ بها. في حدود مستوى النّفس الأدنى الأثير يبدأ في الاهتزاز بتردد أقل فأقل فيجعل الروائح والأحاسيس والمحبة يلبسون أشكالا بدنية والإنسان يأخذ مظهرا فيزيائيا. كون الإنسان الكامل عليه أن يجتاز كل طرق الحياة، تظهر فيه طبيعة الشهوات التي تفجّرت من الأشياء الجسدية. دون أعداء الجندي لن يعرف قوّته، الفكر يجب أن ينمو بتمارين المقدرة. هكذا هذه الشّهوة الجسدية سريعا ما أصبحت العدو الذي على الإنسان مواجهته ليعرف ويحقّق إرادة الله في التّجلّي. كل شيء حي ليقف وليستمع. الإنسان هو سيد كل عوالم الظّهور، عالم البروتوبلازم وعالم المعادن وعالم النّبات وعالم الدّواب، لكنّه تخلّى عن استحقاقاته فقط ليلبّي الأنا الدّنيا، أنا الشهوة. أكثر من ذلك الإنسان سيسترد وضعه المفقود، إرثه، إلا أنّ الاسترجاع سيكون معركة لا توجد كلمات تقدر على وصفها. سيتعرّض لآلام وتجارب متعدّدة، ولكن ليعلم أنّ الملائكة والأرواح التي تحكم النّجوم سيدُلّونه إلى النّصر. الإنسان سينجو وينال العفو ويبلغ الكمال نتيجة عذابه في المستوى المادي والمستوى النّفسي. عندما يجتاز الإنسان المستوى المادي شكله البدني يكون قد أنهى مهمّته فيختفي ولن يوجد أكثر. إذ ذاك دون تتابع سيجد ما لا يعد من الأعداء الذي عليه أن يغلبهم واحدا بعد الآخر. هكذا سيكون الأمل وُجهَته، نفس الإنسان لن تفشل لأنّ العناية دليله وبذلك سيكون النّصر حليفه، الإنسان لا يمكن أن يموت، الإنسان الروح هو واحد مع الله، ما دام الله حيّا الإنسان لن يموت. عندما يتغلّب الإنسان على كل المجاهيل في عالم النّفس، البذرة تكون قد نمت تمام النّمو وتحوّلت إلى النّفخ المقدّس. إذ ذاك تكون النّفس قد أتمّت مهمّتها والإنسان لن يحتاجها أكثر. إذ ذاك الإنسان يكون قد وصل الكمال ووصل إلى الاتحاد مع الله.
لا شك أنّ المقارنة تظهر شكلا من التّشابه مع احتفاظ كلا الرجلين بعقيدته الدّينية، فعند ابن عربي لا حقيقة لوجود الظّل إلا حقيقة المنسوب إليه ذلك الظّل، وهذا يقرّبنا أكثر إلى وحدة الشّهود، أمّا عند ليفي فلا خلاص إلا بفناء الأبدان في عالم المحسوسات وآلام ومصاعب في مستوى عالم النّفوس وتحوّلها إلى النّفخ المقدّس؛ أو أنّه لن يخلد في النّار، نفس الفكرة الواردة في الإسرائيليات ولعلّها عقيدة عتاة أهل الظلمات، كما نستنتج عدم الإقرار بالنشور وهي فكرة مخالفة لما جاء به الوحي، غير أنّ المشترك إن وجد جدلا هو تحديد الماهية أو الأنا في الروح والله أعلم، فشتّان بين الملقي في حالة ابن عربي والملقي في حالة ليفي، فما مدى تطابق هذه النّظرة الأخيرة مع الوحي الذي بلغنا؟، الروح أو أرواح تجاوزا من عالم الأمر ولا يطلق عليها كلمة ”شيء“ وهي قديمة قدم كلام الله، وذلك لا يمنع أن يحدث أمر من الله في وقت ما وهو ما يعبّر عنه ربّ العزّة بالنّفخ أو الوحي أو التّنزيل، كما قال تعالى: مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) الأنبياء، ثمّ لا نعرف تمام المعرفة هل الروح مقيمة فينا أم أوامر مكتوبة في نفوسنا عند النّفخ كما هو الحال في الأوامر المكتوبة في جينات خلايانا؛ حسب ما تبيّن سابقا من حديث الرّسول الأكرم: ثُمَّ يُبْعَثُ إِلَيْهِ الْمَلَكُ فَيُؤْذَنُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ فَيَكْتُبُ رِزْقَهُ وَأَجَلَهُ وَعَمَلَهُ وَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ ثُمَّ يَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ، وكما هو حال القرآن الرّوح المكتوب في مصاحفنا، فرغم أنّ للرّوح وجودا لا يمكن التّشكيك فيه، وسريانه كما بيّنا ينطلق من كلام الله الذي قال عنه تعالى: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) لقمان، إلا أنّ الأنا البشرية فيها فجور وتقوى وهو ما عرّف به ربّ العزّة النّفس، والانا عند الجنّ كذلك، أمّا الأنا عند الملائكة بقدر شبه منعدم من ذلك، فمع جلال قدرهم وطاعتهم وعدم عصيانهم لأوامره يقول تعالى: وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29) الأنبياء، والرّوح قد تدخل في تأييد ملائكة كما يقول ربّ العزّة: تَنزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ (4) القدر، أو تدخل في تأييد بشر كما قال ربّ العزّة: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87) البقرة، وإجمالا الروح كثرة في وحدة، ووحدة في كثرة، وهي طبقة والله أعلم بين الوحدة المطلقة وبين التّكاثر الذي يشمل كل العوالم، أمّا الرجوع إلى الله فهو شامل سواء لمن كان من عالم الخلق أو من عالم الأمر وعندئذ: يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39) الرّعد، في اعتقادي والله أعلم كل مصير لم يخبر به الوحي هو سابق لأوانه كما قال تعالى: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) النّور، أمّا اعتبار كنه الشّيء أو حقيقته هو الرّوح إذ ذاك، تكون نظرية وحدة الوجود حقيقة مطلقة لا مجال للتّشكيك فيها، وحتّى في هذه الحالة يظلّ الواحد الأحد هو الله ولا يشترك معه في ذلك مخلوق ولا روح وأعتقد بمثل هذا ما جاء في الوحي ومن أصدق من الله قيلا، جاء في تفسير البحر المحيط[364]: وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: أَصْلُ الْبَصِيرَةِ الْإِبْصَارُ لَمَّا كَانَ الْقُرْآنُ سَبَبًا لِبَصَائِرِ الْعُقُولِ فِي دَلَالَةِ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ أُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُ الْبَصِيرَةِ تَسْمِيَةً لِلسَّبَبِ بِاسْمِ الْمُسَبَّبِ وَالنَّاسُ فِي مَعَارِفِ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ، أَحَدُهَا: الَّذِينَ بَالَغُوا فِي هَذِهِ الْمَعَارِفِ إِلَى حَيْثُ صَارُوا كَالْمُشَاهِدِينَ لَهَا وَهُمْ أَصْحَابُ عَيْنِ الْيَقِينِ فَالْقُرْآنُ فِي حَقِّهِمْ بَصَائِرُ، وَالثَّانِي: الَّذِينَ وَصَلُوا إِلَى دَرَجَاتِ الْمُسْتَدِلِّينَ وَهُمْ أَصْحَابُ عِلْمِ الْيَقِينِ فَهُوَ فِي حَقِّهِمْ هُدًى، وَالثَّالِثُ: مَنِ اعْتَقَدَ ذَلِكَ الِاعْتِقَادَ الْجَزْمَ وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ مَرْتَبَةَ الْمُسْتَدِلِّينَ وَهُمْ عَامَّةُ الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ فِي حَقِّهِمْ رَحْمَةٌ.
تسرّب علم ما في الكتابة الصّوفية أمر طبيعي وعادي لأنّ الإنسان ليس له من وسيلة للتّعبير إلا ثقافة عصره، غير أنّ التّعبير مهما كان بليغاً لا يمكن أن يَنقُل بأمانة التّجربة الصّوفية، لأنّ التصوّف ليس علماً ولا فنّاً بل ذوقاً وتجربة شخصية غير قابلة للتّكرار، وقد قيل الطُّرُقُ إِلَى اللَّهِ بِعَدَدِ أَنْفَاسِ الْمَخْلُوقَاتِ ولا يعني ذلك أنّ لكل واحد شريعته ومنهجه، بل يعني أنّ الله تعالى خلق الخلائق لعبادته ورسم لهم الطريق فعن رسول الله: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى» ثمّ أنّ التصوّف سلوك كل علماء الإسلام الصّادقين، سواء سمّي صاحبه صوفيا أم لم يتسمّ، وقد وردت عن الإمام مالك العبارة المشهورة: ”مَنْ تَفَقَّهَ وَلَمْ يَتَصَوَّفْ فَقَدْ تَفَسَّقَ، وَمَنْ تَصَوَّفَ وَلَمْ يَتَفَقَّهْ فَقَدْ تَزَنْدَقَ، وَمَنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فَقَدْ تَحَقَّقَ“، وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ: ”هُمَا عِلْمَانِ أَصْلِيَّانِ لَا يَسْتَغْنِي أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ بِمَنْزِلَةِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ مُرْتَبِطٌ كُلٌّ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ“، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب قاعدة في المحبّة[365]: ”وإذا كان الحبّ أصل كلّ عمل من حقّ وباطل، وهو أصل الأعمال الدّينية وغيرها، وأصل الأعمال الدّينية حبّ الله ورسوله، فالتّصديق بالمحبّة هو أصل الإيمان“. أمّا ابن القيّم الجوزية فهو متصوّف خالص وارد اسمه في طبقات الصّوفية، ومن شذّ عن هذا فلا حكم عليه، والتّصوف ليس في حاجة لمن يدافع عنه، فهو موجود في كل الأديان وموجود في الإسلام في كل الفرق والمذاهب بنسب قد تكون متفاوتة، وأنّ من يقول بفرقة ناجية أو مذهب ناج قد يكون آثم، لأنّه يحكم بحكم لا يختصّ به إلا الله، وعلى من يسعى للتّكريم الإلهي ليعلم أنّه لن يجده باتباع فرقة أو مذهب بل هو موجود في التّقوى والعمل الصّالح تصديقا لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) الحجرات، أورد الطّبري في تفسيره: عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «النَّاسُ لِآدَمَ وَحَوَّاءَ كَطَفِّ الصَّاعِ لَمْ يَمْلَأُوهُ، إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْأَلُكُمْ عَنْ أَحْسَابِكُمْ وَلَا عَنْ أَنْسَابِكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ»، فلا فضل لأحد على أحد في الدّين إلا بالتّقوى، والتّقوى تسكن القلب كما أورد مسلم في صحيحه[366]: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ التَّقْوَى هَاهُنَا» وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ «بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ».
الوحي والإلهام
الإلهام تلقين يدور رحاه في الصّدر بين النّفس، والقرين من الجنّ، والقرين من الملائكة، وهو أمر طبيعي وعادي لدى كلّ النّاس، ويسمّيه البعض حديث النّفس، بينما حقيقته حديث مع النّفس، ومُدرك بوضوح أنّ أحدهما يدعو للتّقوى والآخر للفجور، كما قال تعالى فألهمها فجورها وتقواها، أي جعل لها من يلهم التّقوى ومن يلهم الفجور، غير أنّه لا سلطان لكليهما على النّفس، لكن بإرادة من النّفس ذاتها يمكن أن تكون مطواعة وتنقاد لأحدهما، فتتزكّى النّفس وتعلو، أو تتدسّس[367] في الأسفل فيستحوذ عليها الشّيطان، وكون الملائكة رسل الله فيمكن اعتبار الإلهام إلى الخير من الرّحمان، وإلهام الشّر من الشّيطان، والله خير مطلق، وعبارة ”والله خير الماكرين“ تدلّ أنّ مكره خير في كل الأحوال لا يشبه مكر الخلائق، في هذا الصّدد يقول هرمس مثلّث الحكمة في مجموعة المتون الهرمسية[368] Corpus Hermeticum: الله ليس هو الذّكاء بل السّبب في وجود الذّكاء. ليس هو الرّوح، بل السّبب في وجود الرّوح. ليس هو النّور بل السّبب في وجود النّور. أمّا المقدّر في جنب الله فهو الاسم الذي ينتمي إليه ولا ينتمي لأحد غيره. لأنّ لا أحد من الآخرين الذين يسمّون آلهة (يقصد الملائكة) ولا أحد من النّاس ولا أحد من الشّياطين يمكن أن يكون بشكل من الأشكال هو الخير، فقط الله هو الخير وليس أيّ اعتبار آخر، كل المخلوقات عاجزة عن الاحتفاظ بطبيعة الخير، فهم أجسام ونفوس وليس لديهم وعاء حيث يمكن الاحتفاظ بالخير انتهى.
أمّا الوحي فهو من نفس طبيعة الإلهام إلا أنّه بلغ قدرا كبيراً من القوّة فتحوّل من وسوسة في الصّدر إلى كلام مسموع عند الشّخص وقد يدعّم بالرّؤية، لذلك لما سئل رسول الله ﷺ عن سيّدنا آدم أنبيّ هو، أجاب[369]: « نَعَمْ، مُكَلَّمٌ »، يكون تبعاً لذلك الوحي نوعين؛ وحيّ من الرّحمان ووحيّ من الشّيطان، ومن الفروق بين الوحي الملائكي والشّيطاني زيادة عن دعوة أحدهم إلى الفضيلة والآخر إلى الرّذيلة، أنّ الوحي الملائكي لا يكون بمشيئة المتلقّي لا في المضمون ولا في التّوقيت، وقد ثبت في السّنة أنّ رسول الله ﷺ كان يمرّ بفترات يتأخّر عليه الوحي ممّا يُسبّب له قلقا نفسيا لعدم معرفة أسباب التّأخر، والظّاهرة واردة في كتاب الله: وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) مريم، أمّا وحي الجان عموما شياطين أو أصحاب ملّة فيتحوّل إلى علاقة حميمة بين الملقي والمتلقّي، ثمّ أنّ أنبياء الله عندما كانوا يسمعون الوحي لم يكونوا يجيبون الملقي، بل يتوجّهون بردّهم لربّ العزّة ومردّ ذلك ربّما لعلمهم والله أعلم أنّ أيّ شيطان لن يجرؤ أن يبلّغ عن الله، مثلا عن ذلك عندما خاطبت الملائكة مريم رضي الله عنها، إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ.. الآية، كان جوابها: رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ.. الآية، ونفس الشّيء وقع مع سيّدنا زكريا عليه الصّلاة والسّلام لمّا نادته الملائكة وهو قائم يصلّي كان جوابه ربّ أنّى يكون لي غلام.. الآية. وعند الشّيعة وعند أهل الله يعرّفون مرتبة وسطى بين الإلهام والوحي وهي التّحديث ولعلّ الفرق بين الإلهام والتّحديث أنّ الملهم قد لا يدرك أنّه يلهم بينما المحدّث يعي أنّه يحدّث. جاء في تفسير الميزان[370]: عن حمران بن أعين قال: أخبرني أبو جعفر (عليه السلام): أن عليا كان محدثا فقال أصحابنا: ما صنعت شيئا ألا سألته من يحدثه؟ فقضي أني لقيت أبا جعفر فقلت: ألست أخبرتني: أن عليا كان محدثا؟ قال: بلى قلت: من كان يحدثه؟ قال: ملك، قلت: فأقول: إنه نبي أو رسول؟ قال: لا، بل قل مثله مثل صاحب سليمان وصاحب موسى، ومثله مثل ذي القرنين، انتهى.
فإذا كان الوحي الملائكي قد انقطع كما هو معلوم، فالوحي من الجان يعرف ازدهارا منقطع النّظير قد يجرّ الإنسانية إلى أزمات كبرى لا يعلم حجمها إلاّ الله تبارك وتعالى، فالمتتبّع للاتجاهات الروحية في الغرب والشّرق يجد كثيرا من الجمعيات والجماعات التي تدّعي أنّها تتلقّى المعرفة من كائنات نورانية، تطالعنا بمعلومات مبهرة قد يكون الصّواب السّمة الغالبة فيها غير أنّ صوابها ما هو إلا غلاف لكفر أو شرك لا يمكن أن تستبينه إلا بعد عرض الأمر على شريعة السّماء، أمّا الإلهام عند كل شخص فهو يزيد وينقص حسب تدرّجه في التّقوى أو انحداره في الفجور أي؛ ضعيف في الحالة الوسطى وقويّ كلّما اقترب من قطبي المجال، من هذا فليس منّا من لم ينطلق من فطرة سليمة وبعد ذلك يتلقّى العون والمدد من الإلهام بالقدر الذي يتّفق مع درجة التّقوى عنده، فيكون على بيّنة من أمره، وكلّ ما سيصيبه هو حصاد أفعاله كما بيّن تعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (23) الجاثية.
وجود الله جلّ جلاله
يطالعنا الملحدون في كل آن وحين بسؤالهم ما دليلكم على وجود الله؟، والإلحاد في هذا الزّمن حيدَ به عن معناه اللغوي والقرآني الذي هو التّكذيب والعدول عن القصد والإعراض، إلى مرادف لمصطلح غربي Athéisme معناه عدم الاعتقاد بوجود إلاه أو آلهة، الملحدون لا يقرّون بالدّليل الإيماني ويتشبثون بالدّليل العقلي والدّليل الحسّي العلمي، والأمر في حدّ ذاته إيجابي وقد يؤدّي إلى نتائج صحيحة باهرة، فطلب الدّليل أو الاستدلال ليس عيباً؛ فقد سبق إليه أبونا إبراهيم عليه الصّلاة والسّلام: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260) البقرة، ثمّ كلّ ما في الكون آيات، وكلّ ما في الأنفس آيات، وما جاءت به كتب الله آيات، والآيات أدلّة معجزة، لأنّ الله تبارك وتعالى أكبر من أن يُشير إليه دليل واحد، فعلى من يطلب الدّليل أن يستعمل أدوات الدّليل التي هي القياس والتّمثيل والاستقراء، وكلّها حركات فكرية للانتقال من الجزئيات إلى الكلّي أو من الكلّي إلى الأجزاء أو التّماثل بين جزء إلى جزء آخر، ولا يهم المنطلق أهو من النّفي أو الإثبات، فالنّفي أو الإثبات بالنّسبة لقضية منطقية هو تعبير عن كينونة واحدة، فلا وجود لإثبات منفصل عن النّفي، ولا نفي منفصل عن الإثبات، وهو ما يتّفق مع مبدأ القطبية لهرمس مثلّث الحكمة، ثمّ إنّ الذي يعرف أنّه لا يعرف فقد عرف، أمّا الجهل فهو ظنّ معرفة ما لا يعرف، فسواء كان منطلق الانسان من الإيمان أو الإلحاد شريطة الصّدق في المسعى يتوصّل الإنسان إلى نفس النّتائج، والشّواهد كثيرة على ذلك لملحدين تحوّلوا لإيمان متميّز، أمّا الكذب فهو مهلكة للملحد والمؤمن على السواء، ففي موطّأ[371] الإمام مالك: عَنْ صفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، أَنَّهُ قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ جَبَانًا؟ قَالَ:" نَعَمْ " قِيلَ: أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ بَخِيلًا؟ قَالَ: "نَعَمْ" فَقِيلَ لَهُ: أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ كَذَّابًا؟ قَالَ: "لَا“، وفي حديث شبيه به أورده الخرائطي[372]: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَرَادٍ، أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، هَلْ يَزْنِي الْمُؤْمِنُ؟ قَالَ: «قَدْ يَكُونُ مِنْ ذَلِكَ». قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ يَسْرِقُ الْمُؤْمِنُ؟ قَالَ: «قَدْ يَكُونُ مِنْ ذَلِكَ». قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، هَلْ يَكْذِبُ الْمُؤْمِنُ؟ قَالَ: «لَا». ثُمَّ أَتْبَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ:(إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ) (105) النحل، ودلالة الحديثين أنّ الكذب أكبر من كلّ المعاصي فهو في الملحد يصيّره كافراً، وفي المؤمن يصيّره منافقاً، ومن ذا الذي يقدر أن يقول لنا أيّهما أشرّ من الآخر؟، بالعودة إلى الاستدلال، فالمؤمن عليه بالقياس أي ينطلق من وجود الله إلى إثبات وجود نفسه ووجود ما حوله، أمّا الملحد فعليه بالاستقراء أي أن يثبت وجود نفسه أوّلا، ثمّ ينطلق إلى إثبات باقي الموجودات، وهذا ما فعله ديكرتRené Descartes (1596-1650م) أكبر الفلاسفة العقلانيين الذي صاغ عبارته المشهورة Cogito ergo sum ”أنا أفكّر إذا أنا موجود“ والفكر الذي برهن به ديكارت عن وجوده ليس له ماهية خارج نفوسنا وليس بمادة ولا يدرك بالحواس، والماديّون أنفسهم يعتمدون عليه في الرياضيات وباقي العلوم البحتة، وحتّى العلوم التّجريبية ما هي سوى ظنّيات مبنية على قليل من المشاهدات التي تمّت مراقبتها بالصّدفة، القانون غير المعروف كما يقول هرمس، فأين نحن من عبارة ما يقرّه أو لا يقرّه العلم؟، وأكثر من هذا، عندما ننتقل إلى المعرفة الحسّية وفق منهج ديكارت نجد أنّ حواسنا لا تنقل إلينا كلّ ما في الوجود رغم الاستعانة بأدوات للتّكبير وأدوات للتّصغير وأدوات للاستشعار وأدوات لتعويض قصور الحواس، ولا إمكانية للتّعرف على الوجود شكلا ولا ماهية، فكل مخلوق يعرف وجودا حسب ما تستقبله حواسه، فوجودي قد لا يكون نفس وجودك، ووجود كلينا بعيد كل البعد عن الوجود الذي يستقبله الخفّاش مثلا، وعند تعميم هذه الحالة على باقي المخلوقات المعروفة على الأقل والتي تمتلك حواس أشدّ من حواسنا نكون أمام صور مختلفة لموجود نعتبره واحداً وفي حقيقته وجودا مختلفاً بالنّسبة لكل مخلوق، وهو ما عبّر عنه الصّوفية من أَن الطّرق إِلَى الله بِعَدَد أنفاس الْخَلَائق، واعتبر البعض أنّ هذا الكلام ضرب من الزّندقة، فهل من هؤلاء الدّعاة والفقهاء من يستطيع أن ينقل معرفته بالله إلى غيره حتّى ولو سلّمنا أنّه الأعرف بالله؟ وهل الوحي المنزّل هو وحي من الله إلى رسوله فقط أم وحي لكل المؤمنين بل حتّى للمشركين كما قال تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ (6) التّوبة، فمن ذا الذي يريد أن يفرض علينا وصاية ثمّ في الآخرة يتبرّأ منها؟، أليس كلام الله وحياً لا زال يوحى ويتنزّل في ليلة القدر من كل عام، وأنّ ما يخبرك به عند تلاوته ليس بالضّرورة ما يخبر به غيرك، والأكثر من ذلك الآية الواحدة تلمس منها إيحاء اليوم قد يختلف عن الإيحاء الذي يصلك منها فيما بعد من أيام، هل في كلام البشر ما يقترب من مثل ذلك؟، ليس القصد بهذا أنّ فهمنا للقرآن خير من فهم علماء السّلف ولا علماء العصر، بل أدعو أن نستمع لكل الأقوال باحترام وتدبّر ونتّبع ما استحسنناه منها كما يقول الإمام مالك ”كلّ يؤخذ من كلامه ويردّ إلا صاحب هذا القبر“ وإن كان يطلع علينا من يقول هذا في الخلافات الفقهية أما العقدية فهي مسلّمات مبنية على التّوقيف، غير أنّ الواقع يظهر لنا أنّ الخلاف في العقيدة أكبر وأخطر من الخلاف الفقهي، وعنه تشكّلت الفرق المختلفة النّاجية والضّالة والرّافضة إلى غير ذلك، أليس ربّ العزّة هو القائل: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ (18) الزّمر، ثمّ إذا تبيّن لمسلم فساد جزئي في عقيدة فرقته، أيلزم باتباع ما فسد منها، أليس الخروج عن الفرقة أسلم من الخروج عن الإسلام؟، أم علينا أن نستمرّ متشبثين بالرأي وفق المبادئ التي زرعتها الصهيونية كالثّبات على المبدأ، كيف يتخلّص المسلم من حيرة ما يعرض عليه من كل صاحب دعوى أنّ مذهبه هو المسلك الوحيد والسّليم لاتباع كتاب الله وسنّة رسوله، ألا يمكن أن نتبيّن فيما صدقوا ونعلم فيما كذبوا بالذي بين أيدينا من كتاب الله وسنّة رسوله؟، فلنبن قناعتنا من كتاب الله وسنّة رسوله وإن قلّ علمنا وتفقّهنا، والأمر يسير؛ إذ لا يتطّلب سوى أن تنتقي ما تستحسنه ولا ترتبط بما لا تستسيغه، فالأهون أن يحمل الإنسان وزره على أن يحمل أوزار غيره، أمّا إذا كان العلماء هم ورثة الأنبياء كما قيل، فعليهم أن يبيّنوا الأسباب والدّوافع التي أدّت إلى اختلاف المسلمين في دينهم حسب منهج النّبوة، كما يقول تعالى لنبيّه: وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمْ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) النّحل، ولا قدرة لتبيان الاختلاف لمن هو منغمس فيه وليس جهة محايدة.
الدّليل على وجود الله هو إذاً دليل فردي شخصي لا يمكن أن ينقل إلى الغير، والغير له دليله بشكل يتلاءم مع وجوده، فالوعي بوجودك هو وعي من الله وبه تحصل المعرفة، ولا أظنّ أنّ الملحد يستطيع أن يشكّك في وجود نفسه، إذا كان صادقا مع إلحاده، أمّا إن كان كاذبا فاعلم أنّه قد يكون أعرف بالحقائق منك وأنّ قصده من المجادلة الدّفع بالتّشكيك في ما عندك من قناعات، وهذا مسلك الشّياطين سواء كانوا من الجنّة أو من النّاس، فالكفر لا يعني الجهل بل يعني الجحود والكذب مع وجود المعرفة، وليعلم المؤمن، أنّ لا أحد من النّاس يموت دون أن يصله الدّليل عن وجود الله، لأنّ الله تعالى هو الحقّ المبين: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) فصّلت، وبعد ذلك يكون ممّن حقّ عليه العذاب أو من هداه الله إلى الصّراط المستقيم، وهذا الدّليل يصل للجميع، وليس حكرا لملة دون أخرى أو لأنسان دون آخر، ومن يقل غير ذلك فقد عطّل عدل الله العزيز الحكيم، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يختلفون (25) السّجدة.
نبوءات آخر الزّمن
الشّعب اليهودي أو بنو إسرائيل فضّلهم ربّ العزّة على باقي الشّعوب أو الأمميون، الجوييم Goyem حسب تسميتهم، والتّرجمة راعت عدم إيذاء شعور كل الأمم من غير اليهود، بينما حقيقتها ما بيّنه ربّ العالمين من قصدهم الأميّين وليس الأمميّين كما قال تعالى: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) آل عمران، أما التّفضيل فقد ساقته عدّة آيات منها: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47) البقرة، وتأويل المفسّرين على أنّ مراد الله هو التّفضيل على عالمِي زمانهم فقط، لا يتّفق مع ما جاء على لسان موسى عليه الصلاة والسّلام في الكتاب: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ (20) المائدة، وينمّ عن تعصّب عرقي لا مبرّر له، ففضل الله بمعنى الزّيادة في نعمة أو نعم من نعمه أمر قائم بين الأفراد؛ إذ فضّل البعض عن البعض كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165) الأنعام. وكذا يكون قائم بين الأمم كما قال تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ (110) آل عمران، غير أنّ هذه الخيرية غائبة في أيامنا، وحتّى بعض المجتمعات التي لديها جماعات الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، لا جدّية في سلوكها ما دامت غالبية النّخب من مجتمعهم هم أعتى من يمارس المنكر، ولا أعلم هل هم من المباركين أم من المغيّبين، ثمّ أنّ الفضل لا يعني بحال من الأحوال مكانة خاصة أو محبّة زائدة عند ربّ العالمين، كما بيّن العزيز الحكيم: وَقَالَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) المائدة، بل الفضل في حقيقته ما هو إلا ابتلاء ليُعلمَ من هم أحسن عملا، كما قال تعالى: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) الكهف، فالزّينة قد تكون مادّية أو معنوية.
أمّا أهم مميّزات اليهود على مرّ العصور فهي العلم الذي في حوزتهم، وهو جامع لعلم الأوّلين والآخرين، كما أنّ علمهم بالقرآن الحكيم قد يفوق علم بعض علماء المسلمين، كما قال ربّ العزّة: أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) الشعراء. أمّا ما يعلمون من كتبهم فقد قال تعالى في الشّأن: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) البقرة، ويفهم من عدّة آيات من القرآن الحكيم أنّ الذين يمسّكون بالكتاب ويعملون بما جاء فيه يعتبرون من الصّالحين، سواء كانوا يهودا أو نصارى أو مسلمين كقوله تعالى: وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) الأعراف، الآية واردة في سياق خاص عن بني إسرائيل، مع ذلك هؤلاء في اليهود قلة، وهم الذين يناهضون الصّهيونية ليقينهم أنها ليست من اليهودية في شيء، وأنّ نتائجها عليهم وبالٌ ومجلبة لعذاب قد يصيب اليهود كافة، كما أخبر ربّ العزّة: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (167) الأعراف، وعند المقابل إلى ذلك، منهم علماء نستطيع أن نقول أنّ لهم بعضاً من علم الكتاب ومعارف في السّحر مضنونٌ بها، ونقصد بعلم الكتاب والله أعلم، استعمال سلطان أسماء ربّ العزّة الواردة في كتبه وكذا أسرار التّنزيل في آياته، وهو ما سبقت إليه الإشارة في نقل عرش بلقيس ملكة سبأ كذا ما يتّفق مع قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْئَسْ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31) الرعد. والمعنى كما يقول الزّمخشري[373]: ولو أن قرآنا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ عن مقارّها، وزعزعت عن مضاجعها أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ حتى تتصدع وتتزايل قطعاً أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى فتسمع وتجيب، لكان هذا القرآن لكونه غاية في التذكير ونهاية في الإنذار والتخويف انتهى، لكنّهم يستعملون هذه العلوم للإفساد والفساد في الأرض والهيمنة على كل الشّعوب الأمّيين في العالم، فالعلم كما هو معروف محايد، واستعماله هو الذي يحدد تصنيفه خيرا أم شرّا، وهؤلاء يصفهم العزيز الحكيم بشياطين الإنس، كما قال تعالى: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) البقرة، أورد الطّبريّ[374]: عن ابن عباس: قال: إذا خلوا إلى شياطينهم من يهودَ، الذين يأمرونهم بالتكذيب وخلاف ما جاء به الرسول (قالوا إنا معكم)، أي إنا على مثل ما أنتم عليه (إنما نحن مستهزئون) انتهى، ولا ننسى أنّ قدرات شياطين الإنس تفوق قدرات شياطين الجنّ لأنّ الخلافة في الأرض خصّ بها الإنسان وليس الجان، وهذه الفئة هم الذّين يُنشئون ويتزعّمون كل الجماعات السّرّية في العالم، ويسيطرون على المال والإعلام والسّياسة وسيلتهم في ذلك المكر والتّآمر والإفساد بكل أنواعه كما هو مفصّل في بروتوكولات حكماء صهيون[375]( يمكن تنزيله من الإنترنت)، وتوجد فئه ثالثة يعتبرون أنفسهم من رجال الدّين أو الرّبّانيين بينما حقيقتهم كما قال تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) الجمعة، وهم الأكثر عداءً للإسلام، وآخرون منهم أمّيون، قال تعالى: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) البقرة، يقول البيضاوي[376]: وقيل إلا ما يقرءون قراءة عارية عن معرفة المعنى وتدبره، انتهى، أمّا عيوبهم فهي معلومة للجميع، وفصّلت سورة البقرة الشّريفة ما هم عليه أكثريتهم، وبيّن ربّ العالمين كيف لعنوا على لسان داوود وعيسى ابن مريم عليهما الصّلاة والسّلام، فيكون السّؤال ما علاقة اليهود بنبوءات آخر الزّمن؟، إذا كانت النّبوءات أخبارا غيبية وردت عن أنبياء الله بواسطة الوحي فلا يجوز التّشكيك فيها إذا ثبتت أمانة النّقل رغم الاختلاف النّاتج من اختلاف فهم الرّواة، كما أنّ الكتب المنزّلة ساقت بدورها أخبارا يجب اعتبارها أرقى من النّبوءة إلى حقيقة لزاماً واقعة.
من هذه الحقائق يقول ربّ العالمين: وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) الإسراء، ودون الدّخول في الجدل غير المجدي متى كانت المرّة الأولى ومتى هي المرّة الثانية؟ لأنّ من طبيعة النّبوءات وأخبار الوحي أن لا تدرك ولا تفهم إلا بعد حدوثها، وأنّ كلّ توقّع أو محاولة تفسيرية لا تزيد عن كونها ضرب من الظّن لا تلزم المؤمن في شيء، نقول أنّ علوّهم هذه المرّة بيّن وواضح المعالم، وهو غير خاف على من له ذرّة فكر ومتتبّع لحال العالم، غير أنّ هذا العلو لم يحدث بين عشية وضحاها؛ بل نتج عن تخطيط وتنفيذ لمئات السّنين خلت، باختصار شديد يمكن القول إنّ أول جماعة سرّية نشأت في العالم المسيحي خلال القرون الوسطى هي جماعة فرسان الهيكل التي تأسّست سنة 1119م في بداية الحروب الصّليبية Ordre de Chevaliers du temple، وتعتبر الجناح العسكري لمنظمة سرية تسمى ” أخوية صهيون – Prieuré de Sion“، وتدلّ الأبحاث الحديثة أنّها كانت على علاقة وثيقة بجماعة ”الحشاشين“ أو الأصح ”العسّاسين“[377] الإسماعيلية، التي أسّسها حسن الصبّاح (1031-1124م)، ولا يستبعد أن تكون ذات علاقة كذلك باليهود ومعرفتهم التّراثية، خصوصا أنّهم من الفرسان الرّهبان تهمّهم المعرفة كما يهمّهم النّفوذ، وقد برز دور الجماعة عندما حملت على عاتقها تأمين طريق الحجيج المسيحيين إلى فلسطين، وبلغت من القوّة والنّفوذ المالي على مدى قرنين من الزّمن الشّأن الكبير، ويعود إليهم إنشاء أول مصرف مالي في التّاريخ الحديث ممّا يؤكّد ارتباطهم بالصّهيونية التي لم تكن قد كشفت عن وجهها بعد، وبعد البدء من اجتثاثهم سنة 1307م بأمر الكنيسة الكاثوليكية ومصادرة ممتلكاتهم في كل القارة الأوروبية، أنشأ اليهود في إيطاليا سنة 1406م مصرف سان خيورخيو Banco di san Giorgio كأوّل مصرف عن النّمط الحديث في العالم. بعد نكبة فرسان الهيكل التي يمكن أن نقول دون تحفّظ أنها شملت الجانب الظّاهر من التّنظيم فقط، أمّا الجانب السّرّي وكذا كنوز ووثائق الجماعة تعتبر من الألغاز المحيّرة إلى اليوم، نجد أنّه لم يتأخّر رد فعل الجماعة دون استعمال الاسم القديم طبعاً، بل بظهور حركات تصحيحية ضدّ الكنيسة الكاثوليكية كحركة البروتستانت في ألمانيا سنة 1529م بزعامة مارتن لوتر (1483 – 1546م)، وانفصال الكنيسة البريطانية عن الرومانية سنة 1534م، وتلا ذلك انتشار الفرانكوماسونية أو حركة البنّائين الأحرار كحركة سرّية ظاهرها البنّاؤون الذين كانوا يكلّفون من طرف فرسان الهيكل لبناء الكاتدرائيات في كل ربوع أوروبا والمدرّبون على إخفاء أسرار المهنة، وبعض من أصحاب الفكر والفن والسّياسة وغيرهم، فتكوّنت تبعا لذلك المحافل الماسونية في بريطانيا وروسيا سنة 1717م وفي فرنسا سنة 1721م، وفي سنة 1723م في اسبانيا، وفي سنة 1734م في لاهاي، وفي سنة 1738م في بوسطن بأمريكا الشّمالية، وفي ألمانيا سنة 1760م، إلى غير ذلك.
كما تواجدت في نفس الوقت حركات سرّية أخرى كالصّليب الوردي المؤسسة سنة 1407م من طرف الدّارس والباحث كريستيان Christian Rosenkreuz الألماني الجنسية من مواليد سنة 1378م، والذي تتلمذ في تكوينه في العلوم الباطنية على يد شيوخ من دمشق وفلسطين ومصر والمغرب وغيرهم، حسب ما ورد في المطبوع مجهول المؤلّف الصّادر في كاسل الألمانية سنة 1614م، (انطر الصّورة)، وحركة المتنوّرين الألمانية Illuminati de Bavière التي تأسّست سنة 1776م من طرف اليهودي الألماني Johann Adam Weishaupt (1748 – 1830م )، والتي تمّ حلّها سنة 1784م عندما تمّ اكتشاف وثائق بالصّدفة تبيّن هدفها في السّيطرة على العالم، إلاّ أنّه سنة بعد هذا المنع في أوروبا، ظهرت من جديد أي سنة 1785م بتأسيس محفل المتنوّرين في نيويورك بأمريكا الشّمالية من طرف شخصيات بارزة اجتماعيا ومن هذه تفرّعت عدّة تنظيمات سرّية لا زالت ناشطة إلى يومنا، فالصّهيونية العالمية التي لم تظهر كحركة سرّية يهودية إلا سنة 1897م في مؤتمرها الأوّل بمدينة بال السويسرية برئاسة زعيمهم هيرتزل Theodor Herzl (1860- 1904م) وحضور نحو ثلاثمائة من أعتى الحكماء يمثّلون خمسين جمعية يهودية، كان قد استتبّ لها الأمر ولم تعد تخشى ردّ الفعل من أيّة قوّة في العالم، فهي بواسطة ربائبها من الحركات السّرية التي لا يستطيع أن يقول لنا أي أحد كم عددها؟ ولا كيف تعمل ولا كيف تسيّر؟، تمكّنت من إسقاط أقوى النّظم الملكيّة أو بتحجيم نفوذها، كحال بريطانيا سنة 1689م، والثّورة الفرنسية سنة 1789م بشعارها المشهور الحرّية والمساواة والأخوّة، أي نفس شعار الماسونية، واسقاط الملكية الإسبانية سنة 1873م إلى غير ذلك، كما كانت الماسونية وباقي التّنظيمات السّرّية خلف كل الحروب التي عرفها العالم سواء العالمية أو المحلّية، فحركات التّحرير التي قد يثني عليها الجميع لم تكن بالنّسبة لأهداف الصّهيونية سوى إعادة ترتيب العالم وفق مطلب أسمى هو استعباد العالم برمّته؛ أي ما عُرّف أخيرا بالنّظام العالمي الجديد، وهذا الأمر لم يكن سرّاً فقد سبق أن عبّر عنه الماسوني الرّمادي (حركة جماعة من المحامين الإنجليز) والمشرّع هنري فينش Henry Finch (1558-1625) في كتابه:The World's Great Restorations, or Calling of the Jews إعادة ترتيب العالم أو الدّعوة لليهود سنة 1621م، وقد حدث ما توقّعه، كاستقلال الولايات المتّحدة سنة 1776م، واستقلال كل دول أمريكا الجنوبية بدءا من سنة 1809م إلى غير ذلك، ومن غرائب الأقدار أنّ البروتوكولات سواء تسرّبت صدفة أو سرّبت عن قصد فقد وصلت إلى أحد أعيان روسيا القيصرية وتمّ طبعها ونشرها لأوّل مرّة بالروسية سنة 1902م ولم يمنع ذلك قيام الثورة سنة 1917م بمرحلتها الأولى في فبراير ومرحلتها الثانية البلشفية في أكتوبر تحت إمرة فلاديمير لينين (1870 – 1924م) الذي أمّه من أصل يهودي وكذلك جوزف ستالين (1879 – 1953)، وزعماء يهود هم تروتسكي L.Trotsky (1879 – 1940) الذي أنشأ الجيش الأحمر، سكولينيكوف G.Sokolnikov (1886 – 1939)، زينوفيف Zinóviev G. (1883 – 1936)، كامينيف L.Kámenev (1883 – 1936)، وغيرهم، ولم يكن معهم سوى قياديين مسيحيين، وكان من نتائج هذه الثّورة تطبيق الشّيوعية التي نظّر لها كارل ماركس بالحديد والنّار، ولا أحد إلى اليوم يعرف ما حدث من إرهاب وجرائم خلف ما كان يسمّى بالسّتار الفولاذي أي الاتحاد السّوفياتي سابقا، صحيح أنّ التّاريخ الحديث لا يذكر لنا دور اليهود في مجريات الأحداث لأنّه تاريخ مزوّر ومبتور ما دام اليهود يسيطرون على وسائل الإعلام ومناهج التّعليم وهو نفس ما تعرّض له تاريخ الإنسانية ككل، وباقي العلوم الاجتماعية وحتّى العلوم الطّبيعية عموما، وللتّحقّق من ذلك نستعرض بإيجاز أهم مفكّري العصور الوسطى دون تبيان نفوذ اليهود الفكري والمالي والسّياسي في الخلافة الإسلامية سواء في المشرق أو الأندلس، فمن هؤلاء بارو سبينوزا (1632-1677م)، Baruch Spinoza، يهودي هولندي من أهمّ كتبه "رسالة اللاهوت والسّياسة" طبع سنة 1670م ممّا جاء فيه: أنّ حرّية التفلسف لا تمثّل خطرا على التّقوى (الدّين) ولا على سلامة الدّولة؛ بل إنّ القضاء عليها قضاء على سلامة الدّولة وعلى التّقوى ذاتها في آن واحد، وكتاب "الأخلاق" طبع سنة 1677م، يثبت فيه أنّ الجوهر الإلاهي والجوهر المادّي شيء واحد وكيف أنّ الروح والمادة شيء واحد ممّا يدل على اقتباسه نظرية وحدة الوجود أو لنقل تشويه فكرة وحدة الوجود، ولم تتم شهرته كأحد أهمّ فلاسفة العصر إلا بعد قرن من الزّمن بنفس التّقنية التي يصنع الإعلام بها المشاهير في كل الفنون، ومنهم كذلك موسى مندسون (1729-1786م) Moses Mendelssohn، يهودي ألماني مؤسّس الفكر التّنويري أو الحركة الإصلاحية اليهودية، تأثّر بفلسفة لايبنتز Gottfried Leibnitz (1646-1716م)، ولا ندري قصده هل تلميع صورة اليهود فقط؟ أم غير ذلك، ومنهم اليهودي الألماني كارل ماركس Karl Marx (1818-1883م) يعتبر مؤسس الفكر الشّيوعي والاشتراكي، ومنهم تيودور هيرتزل Theodore Herzl (1860-1904م) يهودي نمساوي مؤسّس الصّهيونية الحديثة، من دعاة الوطنية والقومية أصدر كتاب ”الدّولة اليهودية“ سنة 1896م، ومنهم اليهودي النّمساوي سيجمون فرويد Sigmund Freud (1856-1939م) المشهور في التّحليل النّفسي، ومنهم فرانز كافكا Franz Kafka (1883-1954م) اليهودي النّمساوي المشهور بقصص العنف والصراع النّفسي، ومنهم ألبرت أينشتاين (1979-1955م) اليهودي الألماني الذي يمكن القول عن نظريته النّسبية أنّه بسقوطها ستسقط كل الفيزياء الحديثة، ومنهم لودفيج فون ميزس Ludwig von mises (1881-1973م) اليهودي النّمساوي أحد أعمدة الاقتصاد الليبرالي، ومنهم إريك فروم Erich Fromm ( 1900-1980م) يهودي ألماني ثمّ أمريكي بعد ذلك، فيلسوف وعالم اجتماع ومحلل نفساني تقوم أفكاره على أنّ الإنسان هو الذّئب و الحمل في آن واحد، ومنهم نيلس بور Niels Bohr (1885-1962م) يهودي دنماركي من المساهمين في الفيزياء النّووية وفيزياء الكم، والقائمة تطول غير أنّ الغرض أن نبيّن أنّ مفكّري العالم خصوصاً المشهورين فهم من اليهود أو من المتصهينين من كل الملل، مثل شارل روبرت داروين Charles Robert Darwin (1809-1882م) صاحب نظرية التّطوّر وأمثاله، لا يجب أن يُعتبر ما أسوق رأياً شخصيا، بل لنقرأ ما جاء في البروتوكول الثاني: ”لا تتصوّروا أنّ تصريحاتنا كلمات جوفاء، ولاحظوا هنا أنّ نجاح داروين وماركس ونتشه قد رتّبناه من قبل، والأثر غير الأخلاقي لهذه العلوم في الفكر الأممي سيكون واضحاً لنا على التّأكيد، يتحتّم علينا أن ندرس ونعي في أذهاننا الخط الحالي من الرّأي، وهو أخلاق الأمّة وميولها“[378]، باختصار واقعنا تصنعه الصّهيونية العالمية سياسيا بكل نظمه الاجتماعية، وعلميا بكل النّظريات المعتمدة وبكل الأفكار الرّائجة، وتغيّر القيم الإنسانية فيه كما تشاء وتناهض كل الأديان وتستبدل قيمها الخلقية بالقيم الواردة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان القائمة على الإباحية وإفساد المجتمعات البشرية، ملزمة بذلك الأنظمة القطرية على تبنّيه بقوّة الفصل السّابع لمجلس الأمن، وأذكر عندما طُلب من المغرب التّصديق عليه، حاولت المؤسّسة الملكية اقناع القوى السّياسية بما يحتويه من مخالفة للقيم الإسلامية غير أنّها لم تجد استجابة من أحزاب اليمين ناهيك عن أحزاب اليسار.
إذا كانت الصّهيونية وراء كل التغييرات الاجتماعية وبلورة النّظم وإبراز القيم فهل تؤمن بما يروّجه مفكّروها وأتباعها؟، ففي ما يخصّ الحريّة مثلا تقول في البروتوكول الأول: ”إنّ تجرّد كلمة "الحرّية" جعلها قادرة على إقناع الرّعاع بأنّ الحكومة ليست شيئا آخر غير مدير ينوب عن المالك الذّي هو الأمّة، وأنّ في المستطاع خلعها كقفّازين باليين. وأنّ الثّقة بأنّ ممثّلي الأمّة يمكن عزلهم قد أسلمت ممثّليهم لسلطاننا، وجعلت تعيينهم عمليّا في أيدينا“[379]، وفي ما يخصّ حرّية الإعلام تقول في البروتكول الثّاني:” إنّ الصّحافة التي في أيدي الحكومة القائمة هي القوّة العظيمة التي بها نحصل على توجيه النّاس. فالصّحافة تبيّن المطالب الحيوية للجمهور، وتعلن شكاوي الشّاكين، وتولّد الضّجر أحيانا بين الغوغاء. وأنّ تحقيق حرّية الكلام قد ولد في الصّحافة، غير أنّ الحكومات لم تعرف كيف تستعمل هذه القوّة بالطّريقة الصّحيحة، فسقطت في أيدينا، ومن خلال الصّحافة أحرزنا نفوذاً، وبقينا نحن وراء السّتار، وبفضل الصّحافة كدّسنا الذّهب“[380]، وفي ما يخصّ التّحرر والاستقلال تقول في البروتوكول الثّالث: ”بأن شجّعنا ميولهم التّحرّرية نحو الاستقلال، وقد شجّعنا كل مشروع في هذا الاتجاه ووضعنا أسلحة في أيدي كل الأحزاب وجعلنا السّلطة هدف كل طموح إلى الرّفعة. وقد أقمنا ميادين تشتجر فوقها الحروب الحزبية بلا ضوابط ولا التزامات. وسرعان ما ستنطلق الفوضى، ويظهر الإفلاس في كلّ مكان“[381]. أمّا ما يخصّ الشّعار المشهور الحرّية والمساواة والإخاء تقول في البروتوكول التّاسع: ”إنّ الكلمات التّحرّرية لشعارنا الماسوني هي-الحرّية والمساواة والإخاء- وسوف لا نبدّل كلمات شعارنا، بل نصيغها معبّرة ببساطة عن فكرة، وسوف نقول:*حقّ الحرّية، وواجب المساواة، وفكرة الإخاء- وبها سنمسك الثّور من قرنيه، وحينئذ نكون قد دمّرنا في حقيقة الأمر كل القوى الحاكمة إلاّ قوّتنا، وحين تقف حكومة من الحكومات نفسها موقف المعارضة لنا في الوقت الحاضر فإنّما ذلك أمر صوري، متّخذ بكامل معرفتنا ورضانا، كما أنّنا محتاجون إلى انفجاراتهم المعادية للسّامية“[382]، نستنتج أن كل أنظمة الحكم القائمة في وقتنا الحاضر هي أنظمة فاشلة لا تقيم دولة بل عكس ذلك تسهم في تفكّكها وخلق الصراعات داخلها وتشجّع مجتمعاتها على الانحلال الخلقي وتفشّي الفساد وتبنّي العلمانية أو حتّى الإقرار بعدم وجود إلاه، ولمن يسأل ما هو النّظام الأمثل إذا؟ نجيبه، أنّه هو النظام الذي اختاره حكماء صهيون لدولتهم العالمية وهو النّظام الملكي الأوتوقراطي[383]، صحيح أنّه نظام مستوحى من تراثهم الدّيني، وفي تراثنا أليس خير نظام هو إمام عادل؟ ومن ذلك كانت الخلافة الرّاشدة كما نعلم، أمّا ما يسمّى حكم الأغلبية؛ فإنّ الأكثرية من النّاس لم تكن أبداً على حق، يكفي الرجوع إلى تصانيف الأكثرية في كتاب الله، ففاسقون، أو لا يعلمون، أو كافرون، أو كاذبون، إلى غير ذلك، المجتمعات تتقدّم إذا لأنّ شخصاً أو مجموعة قليلة تجرّأوا أن يعلنوا أنّ الأمور لا يجب أن تسير على ما هي عليه، وهؤلاء إمّا أن يقتّلوا وإمّا أن يغيّروا مجرى التّاريخ، فإذا كان استعباد النّاس مفسدة كبرى، فإنّ تركهم بدون قيادة حكيمة راشدة، مفسدة أكبر، كما جاء عن رسول الله ﷺ :« إِذَا وُسِّدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ »[384]، فالعبودية قائمة في الحاضر أكثر من أيّ عصر سابق من عصور التّاريخ، فكلّ من يطيع رئيسه المباشر طاعة عمياء تسبق طاعة رئيسه الأسمى، فهو عبد وليس حرا، وكل من يؤثر مصلحته الشّخصية على مصلحة باقي النّاس فهو من العبيد وليس من الأحرار، فالحرّ لا يمكن أن يكون عديم الأخلاق والمثل العليا، فحتّى في جاهلية الإسلام مثلا عندما جَاءَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لِتُبَايِعَهُ فَقَالَ: « أُبَايِعُكِ عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكِي بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا تَسْرِقِي وَلَا تَزْنِي». قَالَتْ: أَوَ تَزْنِي الْحُرَّةُ؟، فالحرّية هي ذاتها من المثل العليا، فكيف تدنّس في عصرنا بما ليس منها؟، القارئ لبروتوكولات حكماء صهيون يجد في أواخرها، أنّ الهدف والغاية من سعي اليهود لحكم العالم هو عبادة الله الواحد الأحد وإقامة الشّريعة اليهودية وبناء الهيكل، فلو صدقوا في ذلك لما تأخّرت أن أكون من أعوانهم على ذلك، غير أنّي على يقين أنّ الله لا يصلح عمل المفسدين، ثمّ من يغشّ ويدلّس على كلّ أهل الأرض، ما هي الضّمانة أنّه لا يدلّس على اليهود أنفسهم؟، فلا يبقى إلاّ أنّهم ينتظرون خروج الدجّال المسيح لإقامة ما يسمّونه مملكة داوود الثّالثة، ويكفي لبرهنة صحّة ما جاء في البروتوكولات تعليق قصير صدر في فبراير سنة 1921 حيث أجرت جريدة نيويورك وولد New York Wold مقابلة مع رجل الأعمال المشهور هنري فورد Henry Fordوسألته عن رأيه في البروتوكولات فأجاب ” التّعليق الوحيد الذي يمكن أن أقول عن البروتوكولات هو أنّه تنطبق تماماً مع الأحداث التي يشهد لها الواقع“.
بالعودة إلى نبوءات الفتن في آخر الزّمن، لا يخلو كتاب من كتب السّنة من فصل أو قسم أو باب اختير لتسميته الفتن، فكان من نتائج وفرة الأحاديث الواردة في الفتن وخروج المهدي وخروج المسيح الدّجّال ونزول سيدنا عيسى عليه الصّلاة والسّلام وتواترها لدرجة أنّه لا تجرؤ فرقة ولا أصحاب مذهب من إنكار الوارد بها سوى التّأويل الذي يوافق الهوى، أو استعمال التّصنيفات التي في علم الحديث مثل ضعيف وحسن إلى غيرها لاستبعاد البعض منها أو التّشكيك في صحّتها، ويعلم الجميع أنّ مثل هذه التّصنيفات تخصّ سلسلة السّند وهي تبعاً لذلك لا يمكن أن تورد حكما على المتن، وقد قسّم العلماء أشراط السّاعة إلى كبرى وصغرى، فمن الصّغرى ما قد حدث بالفعل وهي تبعا لذلك معلومة عند كل المسلمين، أمّا الكبرى فمنها العشرة الواردة في صحيح مسلم[385]: ”عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ الْغِفَارِيِّ، قَالَ: اطَّلَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْنَا وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ، فَقَالَ: «مَا تَذَاكَرُونَ؟» قَالُوا: نَذْكُرُ السَّاعَةَ، قَالَ: "إِنَّهَا لَنْ تَقُومَ حَتَّى تَرَوْنَ قَبْلَهَا عَشْرَ آيَاتٍ - فَذَكَرَ - الدُّخَانَ، وَالدَّجَّالَ، وَالدَّابَّةَ، وَطُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَنُزُولَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَأَجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَثَلَاثَةَ خُسُوفٍ: خَسْفٌ بِالْمَشْرِقِ، وَخَسْفٌ بِالْمَغْرِبِ، وَخَسْفٌ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَآخِرُ ذَلِكَ نَارٌ تَخْرُجُ مِنَ الْيَمَنِ، تَطْرُدُ النَّاسَ إِلَى مَحْشَرِهِمْ“، غير أنّ التّرتيب الوارد لا يمكن اعتباره لعدم توافق الروايات ففي صحيح مسلم كذلك: عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ نفسه، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غُرْفَةٍ وَنَحْنُ أَسْفَلَ مِنْهُ، فَاطَّلَعَ إِلَيْنَا، فَقَالَ: مَا تَذْكُرُونَ؟ " قُلْنَا: السَّاعَةَ، قَالَ: "إِنَّ السَّاعَةَ لَا تَكُونُ حَتَّى تَكُونَ عَشْرُ آيَاتٍ: خَسْفٌ بِالْمَشْرِقِ، وَخَسْفٌ بِالْمَغْرِبِ، وَخَسْفٌ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَالدُّخَانُ وَالدَّجَّالُ، وَدَابَّةُ الْأَرْضِ، وَيَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ، وَطُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَنَارٌ تَخْرُجُ مِنْ قُعْرَةِ عَدَنٍ تَرْحَلُ النَّاسَ" قَالَ شُعْبَةُ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ رُفَيْعٍ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، عَنْ أَبِي سَرِيحَةَ، مِثْلَ ذَلِكَ، لَا يَذْكُرُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقَالَ أَحَدُهُمَا فِي الْعَاشِرَةِ: نُزُولُ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقَالَ الْآخَرُ: وَرِيحٌ تُلْقِي النَّاسَ فِي الْبَحْرِ، كما نجد في المستدرك[386]: عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيِّ، حَدَّثَنِي وَاثِلَةُ بْنُ الْأَسْقَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَكُونَ عَشْرُ آيَاتٍ: خَسْفٌ بِالْمَشْرِقِ، وَخَسْفٌ بِالْمَغْرِبِ، وَخَسْفٌ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَالدَّجَّالُ، وَالدُّخَانُ، وَنُزُولُ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، فَيَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَالدَّابَّةُ، وَطُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَنَارٌ تَخْرُجُ مِنْ قَعْرِ عَدْنَ تَسُوقُ النَّاسَ إِلَى الْمَحْشَرِ، تَحْشُرُ الذَّرَّ وَالنَّمْلَ «قال الحاكم هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخْرِجَاهُ».
فعدم اعتبار التّرتيب أو عدم انسجام الروايات لا يعفي المؤمن من التّصديق، ومثل هذا التّضارب وارد كذلك في أحاديث خروج المهدي المنتظر فتشكّل مادة تذكي نار التّجاذب القائم بين السّنة والشّيعة وتأدّي إلى فتور معتقد المسلمين كافة، منها ما أورد نعيم ابن حمّاد في الفتن[387]: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَ فِتْيَةٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، فَتَغَيَّرَ لَوْنُهُ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا نَزَلَ، نَرَى فِي وَجْهِكَ شَيْئًا نَكْرَهُهُ؟ فَقَالَ: «إِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ اخْتَارَ اللَّهُ لَنَا الْآخِرَةَ عَلَى الدُّنْيَا، وَإِنَّ أَهْلَ بَيْتِي هَؤُلَاءِ سَيَلْقَوْنَ بَعْدِي بَلَاءً وَتَطْرِيدًا وَتَشْرِيدًا، حَتَّى يَأْتِيَ قَوْمٌ مِنْ هَاهُنَا مِنْ نَحْوِ الْمَشْرِقِ، أَصْحَابُ رَايَاتٍ سُودٍ، يَسْأَلُونَ الْحَقَّ فَلَا يُعْطَوْنَهُ، مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، فَيُقَاتِلُونَ فَيُنْصَرُونَ، فَيُعْطَوْنَ مَا سَأَلُوا، فَلَا يَقْبَلُوهَا حَتَّى يَدْفَعُوهَا إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، فَيَمْلأُهَا عَدْلًا كَمَا مَلَأوهَا ظُلْمًا، فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَلْيَأْتِهِمْ وَلَوْ حَبْوًا عَلَى الثَّلْجِ، فَإِنَّهُ الْمَهْدِيُّ».
زيادة على عدم وجود ترتيب زمني للنّبوءات وعدم انسجام الروايات في الحديث الشريف بسبب ما اشتملت عليه من أقوال الصحابة والتابعين دون التّفريق إن أمكن بين أقوال الرسول ومن تبعه من الرّواة، بل على العكس من ذلك نجد كل فرقة تعتبر كل رواية من روايات الحديث حجة في ذاتها، هذا إن وافق توجهها، أضف أنّه لا يؤخذ بالحسبان أن الخوض في الغيب لا يزيد عن كونه ظنّاً إن حسنت نيّة المجتهد، أمّا إن قصد الانتصار لرأي ما، فهو إثم له تبعاته، زد على هذا أنّ الفتن متعدّدة كما جاء في المستدرك[388]: عَنْ عُمَيْرِ بْنِ هَانِئٍ الْعَبْسِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، يَقُولُ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ الْفِتَنَ وَأَكْثَرَ فِي ذِكْرِهَا حَتَّى ذَكَرَ فِتْنَةَ الْأَحْلَاسِ، فَقَالَ قَائِلٌ: وَمَا فِتْنَةُ الْأَحْلَاسِ؟ قَالَ: "هِيَ فِتْنَةَ هَرَبٍ وَحَرْبٍ، ثُمَّ فِتْنَةُ السَّرَّى - أَوِ السَّرَّاءِ - ثُمَّ يَصْطَلِحُ النَّاسُ عَلَى رَجُلٍ كَوَرِكٍ عَلَى ضِلَعٍ، ثُمَّ فِتْنَةُ الدَّهْمَاءِ لَا تَدَعُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا لَطَمَتْهُ لَطْمَةً، فَإِذَا قِيلَ انْقَطَعَتْ تَمَادَتْ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ فِيهَا مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، حَتَّى يَصِيرَ النَّاسُ إِلَى فُسْطَاطَيْنِ: فُسْطَاطِ إِيمَانٍ لَا نِفَاقَ فِيهِ، وَفُسْطَاطِ نِفَاقٍ لَا إِيمَانَ فِيهِ، فَإِذَا كَانَ ذَاكُمْ فَانْتَظِرُوا الدَّجَّالَ مِنَ الْيَوْمِ أَوْ غَدٍ «قال الحاكم هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخْرِجَاهُ».
فزمننا زمن فتنة كما بيّنا، وهي فتنة تقودها الصّهيونية لقرون خلت مورس فيها القتل والفساد والدّجل بكلّ أنواعه، ويعلم الله هل بعد هذه فتنة أشدّ، فالمؤمن والحال على ما هو عليه، زيادة على وجوب الإيمان بكل أشراط الساعة التي رويت عن الرّسول الأكرم دون تأويل ولا تفسير، عليه العمل بوصاياه المخصّصة لزمن الفتن منها: ما جاء في صحيح البخاري[389] وغيره، عنَ أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ : «سَتَكُونُ فِتَنٌ القَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ القَائِمِ، وَالقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ المَاشِي، وَالمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي، وَمَنْ يُشْرِفْ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ، وَمَنْ وَجَدَ مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًا فَلْيَعُذْ بِهِ» وكذا ما ورد في مراجع الشّيعة[390] عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: (إِنَّهُ لاَ خَيْرَ فِي الْعَيْشِ إِلاَّ لِعَالِمٍ نَاطِقٍ، أَوْ مُسْتَمِعٍ وَاعٍ، أَيُّهَا النَّاسُ: إِنَّكُمْ فِي زَمَانِ هُدْنَةٍ، وَإِنَّ السَّيْرَ بِكُمْ سَرِيعٌ، وَقَدْ رَأَيْتُم اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ كَيْفَ يُبْلِيَانِ كُلَّ جَدِيدٍ، وَيُقَرِّبَانِ كُلَّ بَعِيدٍ، وَيَأْتِيَانِ بِكُلِّ مَوْعُودٍ، فَقَالَ لَهُ الْمِقْدَادُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَمَا الْهُدْنَةُ؟ فَقَالَ: دَارُ بَلاَءٍ وِانْقِطَاعٍ، فِإِذَا الْتَبَسَتْ عَلَيْكُم الأُمُورُ كَقِطَعِ الَّليْلِ الْمُظْلِمِ فَعَلَيْكُمْ بِالْقُرْآنِ، فَإِنَّهُ شَافِعٌ مُشَفَّعٌ، وَشَاهِدٌ مُصَدَّقٌ، مَنْ جَعَلَهُ إِمَاماً قَادَهُ إِلَى الْجنَّةِ، وَمَنْ جَعَلَهُ خَلْفَهُ سَاقَهُ إِلَى النَّارِ، هَوَ أَوْضَحُ دَلِيلٍ إِلَى خَيْرِ سَبِيلٍ، مَنْ قَالَ بِهِ صُدِّقَ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ، وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ). ليس لي أن أضيف نصحاً لما نصح به خير الخلق، ولكن من قراءة الواقع الذي عاش فيه الجيل الذي أنتمي إليه والجيل الذي لحق به، يمكن الاستنتاج أنّ الصّهيونية وتبعاً لذلك سمات الفتنة التي تمارسها ليست واحدة، فجيلي فُتن بالتّقدّمية والقومية، والجيل الحاضر يفتن بالإسلام المتصهين، وهو الإسلام الذي ينفّذ مخطّطات الصّهيونية ويفرّق بين أبناء الدّين الواحد كما قال تعالى: مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) الرّوم، فالشّرك بيّن المعالم لأنّ الإتّباع في الإسلام لا يكون إلاّ لله ورسوله بينما في واقعنا حاد إلى أقوال منتقاة من هذا أو ذاك توافق الأهواء، ويعلم الله بما ستفتن به الأجيال القادمة، لذا من سينجيه الله من آثار الفتن فقد فاز، وليحمد الله على ذلك، وليقر أن علمه وقدرته كانتا عاجزتين عن ذلك، فالأمر أمره كما بيّن سبحانه وتعالى: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) العنكبوت، أمّا المفسدون ومن يعينهم على ذلك، فلهم عذاب في الدّنيا قبل الآخرة كما أكّد ربّ العزّة: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) النّور، فالحذر كل الحذر من الغفلة والاتّباع الأعمى كما قال تعالى: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116) الأنعام، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ.
واهمٌ من المسلمين من يظنّ أنّ الدّولة الصّهيونية عاجزة عن هدم المسجد الأقصى وبناء الهيكل الثّالث خوفاً من رد الفعل الإسلامي، فالكلّ يعلم موازين القوى الفعلية القائمة، غير أنّ حكماء صهيون ينتظرون علامات كالعجلة الحمراء وغيرها ممّا لا نعلم، حتّى لا يدخلوا في حرب مع السّماء، مثلهم مثل الشّيطان الذي زيّن للمشركين الخروج لمعركة بدر كما أورد تعالى: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48) الأنفال، فالأمر عندهم لا يتّسم بالعجلة والاندفاع، بل بحكمة وروية حتّى يتأكّدوا من اقتراب موعد خروج المسيح الدجّال، أمّا العدّة لذلك فهي مستوفية من كلّ الجوانب وفي جميع المجالات، يقابل ذلك عند المسلمين الوهن الذي يزداد يوما بعد يوم، وعلماء على الفضائيات يشكّكون في أخبار السّماء، وخيرهم إيمانا من نطق بكلمة حق بريئة لا يبغي الإساءة لاحد، مع ذلك يضطهد ويجرّد من كل علمه وسمعته من طرف علماء آخرين كما سمّوا قديما بعلماء السّلطان، ولا أعرف لهم تسمية في الوقت الحاضر حيث السّلطان بيد الشّيطان، فتجد بين عشية وضحاها الإسكات المطبق لأصواتهم هذا إن لم يتعدّى الأمر إلى ما هو أخطر، رغم كل الواقع المرير المدرك، فالمؤمن لا يتشاءم ولا يعتريه الإحباط كما لا يدعو إلى التّهور، لأن قناعته هي ما أخبر به الوحي وما سنّ ربّ العالمين: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) الأنعام، ولن تجد لسنّة الله تبديلا. كما أنّ لله عباد وجند لا تخلو منهم أرض ولا طبقة اجتماعية، قد يكونون داخل الصهيونية نفسها يسمّيهم سلفنا أهل التّصرّف؛ وهم الأولياء أصحاب الإرادة الثّالثة كما سلف والله أعلم، ولا شكّ أنّهم ينتظرون أمر الله كما يقول تعالى: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) النّحل.
الخاتمة
أقوال مأثورة
لا أريد أن أختم هذا العمل المتواضع دون أن أسوق بعض الأقوال أعتبرها ذات مغزى لرجال أهلّتهم الحكمة أو صقلتهم التّجربة القاسية ليرسموا بذلك منهاجا وإن لم يكن قابلا للتّكرار؛ إلاّ أنّه يضع معالم على الطّريق، أعلم أنّ الأقوال لا تهدي، وأن لا هداية لمن لم يهتدِ بالوحي، هذا إن أُذن له، لأنّ الله لا يهدي القوم الظّالمين ولا الفاسقين ولا الكافرين ولا الكاذبين، ولا أنتظر من كلّ ما سقته باختصار في هذه الصّفحات أن يلقى نجاحا، فمن يسعى إلى النّجاح ميزته الاجتهاد في وضع دعوى إلى الضّلالة بشكل صريح أو مبطّن يرضي ذوي النّفوذ غير الظّاهرين، ثمّ أنّي على قناعة من أنّ لا جديد يستحقّ الذّكر لا في العلم ولا في العرفان عن ما هو متداول، فما نعتبره قديما من العلم رغم التّحريف والتكنيز والإهمال المقصود تُطلّ منه الحكمة، وأنّ ما نعتبره حديثا ما هو إلاّ من إفراز بحث دؤوب في مخلّفات ضلالة القدماء التي كانت سبب هلاك قوم نوح والقرون من بعده، لتصاغ في حلّة جديدة ملائمة، ودليلي قوله تعالى: وَقَالَتْ أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ (39) الأعراف. قد اخترت بدءاً مقطعا ممّا قاله الطّبيب والباحث والفيلسوف الدّكتور مصطفى محمود لأنّ بدايته شَبه لبدايتي، فكلانا انطلق من الشّك أو لنقل من على شفا حفرة من الإلحاد، مع الفارق أنّي لم أحظ بما أوتي من ثقافة وعلم وتجارب في الحياة، يقول في مستهلّ كتابه السرّ الأعظم[391]: ليس إنسانا من لم يتوقّف يوماً في أثناء عمره الطّويل ليسأل نفسه.. من أين وإلى أين وما الحكاية، وماذا بعد الموت. أينتهي كل شيء إلى تراب.. أيكون عبثاً وهزلا أم أنّها قصة سوف تتعدّد فصولا.. أكان لنا وجود قبل الميلاد.. ومن أنا على التّحقيق، وما حكمة وجودي.. وهل أنا وحدي في هذه الغربة الوجودية.. أو أنّ هناك من يراني ويرعاني ويعتني بأمري؟
وليس إنسانا من لم يحاول أن يحلّ هذه الألغاز ويجيب عن تلك التّساؤلات ويقرأ بكلّ قلبه، ويستمع بكلّ أشواقه إلى من يقول عندي جواب، فالمسألة ليست ترفاً فلسفياً كما يدّعي المادّيون وإنّما هي كل شيء، وسوف يتوقّف عليها كلّ شيء.. وإذا كان أصحابنا المادّيون قد شغلوا أنفسهم باللّقمة والنّكاح ولذّة السّاعة عن هذا السّؤال العظيم فما أبعدهم عن الإنسانية. وياله من أمر مخز أن تسمع الواحد منهم يلوي وجهه ليقول مشيحاً بيده: هذه مسائل غير مطروحة.. مردّدا بذلك شعارا محفوظا قد وزّعوه عليه في الحزب حيث جعلوا التّفكير أمرا محظوراً؛ ليظل الكلّ عبد لقمة، يقودونهم بالجوع ويدفعونهم بالحقد، ويحرّكونهم بالأهواء قطعانا من البهم، لا ترى إلاّ على مدى شبر أمامها..
بعد هذا لننتقل إلى بداية بدايات الحكمة، وقبله لنعرّف الحكمة؛ ففي كتاب الله تعني الاستنباط الصّحيح لجوامع الكلم من القرآن الحكيم، وفي ذلك يقول تعالى لأمّهات المؤمنين: وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34) الأحزاب، وفي آيات أخر ترد الحكمة مقرونة بالكتاب، وبما أنّ الوحي واحد من آدم إلى محمّد عليهما الصّلاة والسّلام فلا اختلاف ولا تعريفات مختلفة للحكمة، وقد أورد ابن ماجة[392]: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «الْكَلِمَةُ الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ، حَيْثُمَا وَجَدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا»، وقيل عنه غريب كما قال البعض ضعيف، فحالنا إذا كالمثل الذي ضربه رسول الله ﷺ وفق ما أخرج الإمام أحمد في مسنده[393] عن أبي هريرة: ”مثل الذي يجلس فيسمع الحكمة ثم لا يحدث عن صاحبه إلا بشر ما سمع، كمثل رجل أتى راعياً فقال: يا راعي، اجزر لي شاة من غنمك. قال اذهب فخذ بأُذن خيرها فذهب فأخذ بأُذن كلب الغنم“. ألم تكن بعثة الرّسول إلا ليعلّمنا الكتاب والحكمة بدليل منطوق القرآن.
أُورد نبوءة لهرمس مثلّث الحكمة المصري جاءت في ما يعرف بالمتون الهرمسيةCorpus Hermeticum بلغة اليونان، وقد وردت في التّراث الإسلامي باسم الهرمسيات وتعزي إلى الحكيم المصري تحوت أو امحوتب Imhoteb أو "ذي امحت به" كما ذكر كمال جنبلاط سابقا، والذي يُقدّر أنّه عاش في مصر سنة 3000 ق.م، وتراث هرمس غزير ومتناقض ولا يوجد إلاّ عند الجماعات السّرّية، لكن النبوءة في حدّ ذاتها تثبت أنّنا نتلقّى من نبي وذلك بتحقّقها بالكامل، أمّا النبوءات التّي تكون من وحي الشّياطين فلا يكون تحقّقها إلاّ جزئيّا، إذ مصدرها ما يلتقط من أخبار السّماء كما أورد ربّ العزّة على لسان الجنّ اللذين استمعوا للقرآن: وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا (9) الجنّ، وقد ترجمت المتون عن الإغريقية ثمّ قام بترجمتها إلى العربية عمر الفاروق عمر، باسم نبوءات هرمس[394] أمّا في التّرجمة الإسبانية فقد وردت باسمEl pequeño apocalipsis أي الأهوال الصّغرى لآخر الزّمن، يقول هرمس:
الحكمة الخالصة هي الجهد الروحي في التأمل المستمر للوصول الى معرفة الإله الواحد آتوم. لكن، سيأتي زمان لا يطلب فيه أحد بذل جهد في الحكمة بطهارة قلب ووعي.
إن اولئك الذين يحملون الضغينة في نفوسهم سوف يحاولون منع الناس من اكتشاف هبة الخلود التي لا تقدر بثمن. فالحكمة ستصير غامضة مغلفة بصعوبة الفهم وستفسدها النظريات الوهمية، وسوف تشتبك في حيل العلوم المحيرة كالرياضة والموسيقي والهندسة. إن دارس الحكمة الخاصة هو دارس لكل العلوم لا كنظريات مهوّمة[395]، بل كولاء لآتوم، اذ أن تلك العلوم تكشف عن عالم كامل النظام بقوة الأرقام، فقياس أعماق البحار، وقوة النيران، وضخامة أجرام الطبيعة: تذكي الرهبة أمام إبداع الخالق وحكمته.
إن أسرار الموسيقي تشهد علي مقدرة لا حد لها للصانع المتعالي، الذي نظم في جمال كل تلك الأصوات المتنوعة في وحدة شاملة، مفعمة بنغم جذاب. حب طاهر لآتوم يؤيده فكر وتوحد قلب، واتباع الخير الذي يريده، هو الحكمة التي لا تلوثها الأهواء الدنيئة أو الآراء الفارغة.
غير أني أتوقع أن يأتي في قادم الزمان متكلمة أذكياء، غايتهم خداع عقول الناس لإبعادهم عن الحكمة النقية. وفي تعاليمهم سوف يدعون: أن اخلاصنا المقدس كان بلا جدوى، وتقوى القلب وعبادة آتوم التي يرفعها اليه المصريون ليستا سوى جهد ضائع. مصر صورة للسموات ويسكن الكون كله هنا في قدس معبدها. لكن الإله[396] سوف يهجرها، ويعود الى السماء، ويرتحل من هذا البلد الذي كان مقرا للروحانية. ستصبح مصر مهجورة، موحشة، محرومة من وجود الإله، يحتلها الدخلاء الذين سيتنكّرون لتقاليدنا المقدسة. إن هذا البلد الزاخر بالمعابد والأضرحة، سيضحي مليئا بالجثث والمآتم. والنيل المقدس سوف تخضبه الدماء، وستفيض مياهه محملة بالقيح. هل يحملك ذلك على البكاء؟ بل سيتبع ذلك ما هو أنكى. فهذه البلاد التي علمت الروحانية لكل الكائنات الإنسانية، وأحبت الإله يوما بولاء عارم فتفضل بالإقامة في أرضها، هذه البلاد ستتفوق علي الجميع في العنف. سيتجاوز عدد الموتى الأحياء وعدد الذين اختفوا من علي وجه الأرض، وسيعرف المصريون بلغتهم فقط، أما أعمالهم فلن تختلف عن أعمال الأجناس الأخرى. آه يا مصر! لن يبقى من دينك شيء سوى لغو فارغ، ولن يلقى تصديقا حتي من أبنائك أنت نفسك. لن يبقى شيء يروي عن حكمتك الا علي شواهد القبور القديمة. سيتعب الناس من الحياة، ويكفون عن رؤية الكون كشيء جدير بالعجب المقدس. ولسوف تصبح الروحانية، التي هي أعظم بركات الله مهددة بالفناء، وعبئا ثقيلا يثير احتقار الغير. ولن يكون العالم جديرا بالحب كمعجزة من خلق آتوم، ولا كشاهد عظيم على فضله الأصيل، ولا كوسيلة للإرادة الربانية التي تذكي في مشاهدها الاجلال والحمد. ستضحي مصر أرملة. فكل صوت مقدس سيجبر على الصمت. وتفضل الظلمة على النور، ولن ترتفع عين الى السماء. سيدمغ الصالح بالبلاهة، وسيكرم الفاسق كأنه حكيم. وسينظر الى الأحمق كأنه شجاع، وسيعتبر الفاسد من أهل الخير. تصبح معرفة الروح الخالدة عرضة للسخرية والانكار، ولا تسمع ولا تصدق كلمات تبجيل وثناء تتجه الى السماء. لقد كنت الشاهد من خلال العقل الواعي على ما خفي في السماء، وبالتأمل وصلت الى معرفة الحقيقة، وصببتها في هذه المتون. هأنذا هيرميس العظيم ثلاثا، أول انسان وصل الى جماع المعرفة، سجلت في هذه المتون أسرار الإله في رموز خفية، بحروف مصرية مقدسة، في أمشاق على هذه الصخور، وأخفيتها لعالم المستقبل، الذي سوف يحاول الانسان فيه البحث عن حكمتنا المقدسة. انتهى.
لعلّ الاختلاف الوارد في شخصية هرمس وجود أكثر من شخص تسمّوا بهذا الاسم، فكلّ من بلغ في الحكمة مرتبة عليا في زمانه أطلق عليه هرمس، يقول الشّهرزوري[397]: وزعم أبو معشر[398] أنّ الهرامسة كثيرة، إلاّ أنّ أفضلهم وأعلمهم ثلاثة، أوّلهم الذي كان قبل الطّوفان، وتذكر الفرس أنّ جدّه كيومرث وهو أخنوخ عند العبرانيين وإدريس عند العرب.
قال: وهو أوّل من تكلّم في الأشياء العلوية، ومن الحركات النّجومية، وأنّ جدّه جيومَرث عمل ساعات الليل والنّهار. وهو أوّل من بنى الهياكل ومجّد الله تعالى. وأوّل من تكلّم في الطّب وألّف لأهل زمانه قصائد موزونةً وأشعارا معلومةً في الأشياء العلوية والأرضية. وهو أوّل من أنظر بالطّوفان، وأنّ آفة سماويةً تلحق الأرض من الماء والنّار. إلى أن يقول: وهرمس الثّاني بابليّ، سكن مدينة الكلدانيّين: وكان بعد الطّوفان وهو أوّل من بنى مدينة بابل بعد نمرود الجبّار، وكان بارعا في الطبّ والفلسفة عارفا بطبائع الأعداد. وكان تلميذه فيثاغورس وجدّد من العلوم ما دثر بالطّوفان. أمّا ما يقول عن هرمس الثّالث: كان بعد الطّوفان، وهو صاحب كتاب الحيوانٍ ذواتِ السّموم. وكان فيلسوفا طبيبا جوالا في البلاد عالماً بنصبها وطبائع أهلها. وله كلام في الكيمياء، وتلميذه أسقلوموس. انتهى.
بالرّغم أنّ اسم هرمس اسم إغريقي من لغة اليونان مشتق من الجذر"Herm" ويعني الحيوية أو رسول الآلهة أي ما يقابل المرّيخ mercurius عند الرّومان، فهو لم يكن شخصية واقعية عندهم، بل نتاج تقدير وإعجاب بالحكمة التي اغترفوا سواء من مصر أو بلاد ما بين الرّافدين، تبعا لذلك أطلقوا على علومهم الفلسفة Φιλοσοφία، والفلسفة باللغة الإغريقية القديمة مركبة من جذرين "فيلو" تعني محبّة و"صوفية" تعني الحكمة، وقد تنبّأ هرمس المصري من أنّ بعض أقواله ستترجم إلى لغة اليونان فيقول[399]: في مقبل الزّمن ستصير تعاليمي أكثر غموضا، عندما تترجم إلى اليونانية من لساننا المصري، حيث تشوّه التّرجمة كثير من معانيها. إنّ هذه التّعاليم تبدو بسيطة واضحة في لغتنا الأم، حيث يردّد صوت الكلمة المصرية معنى ما يقصد بها. ولا بدّ من اتخاذ كافة الاحتياطات الممكنة حتّى لا تفسد هذه النّصوص المقدّسة بالتّرجمة إلى اليونانية، التي هي لغة مغرورة، ضعيفة، متمظهرة، غير قادرة على احتواء القوّة التي في كلماتي. إنّ اللغة اليونانية تنقصها قوّة الإقناع، والحكمة اليونانية لغو فارغ. لغتنا المصرية هي أكثر من مجرّد كلمات، فإنّ مخارجها تفيض بالقوّة. انتهى.
سأورد مقطعا صغيرا من كلام أبي حيّان التّوحيدي (310–414 هجرية) كون أعلام معتمدين إلى يومنا مثل الذّهبي وأبي الفرج الأصبهاني وابن حجر العسقلاني كما يروّج رموه بالزّندقة، وهو الأديب والفيلسوف والمتصوّف الذي عاش أكثر أيّامه في بغداد التي كانت عاصمة عالمية للفسق والفجور في زمانه، وقد نادم الوزراء في مرحلة من عمره؛ ثمّ إنّي لست مؤهلا للدّفاع عنه وحسابه عند ربّه، غير أنّ أقواله في كتابه الإشارات الإلهية[400] كفيلة أن تعطي القارئ صورة مقرّبة لتوجّهه، يقول في إشارته السّابعة: يا هذا: بأيّة قوة أنعِشك عن صرعتك، وأنا على مثال حالك؟ وبأيّ حجّة أطالبك بالحقّ وأنا مطالب به فيك؟ إلاّ أنّي مع هذه الحال الملتاثة[401]، ومع هذه القحّة الظّاهرة، أقول قولاً صافيه لك وكَدِرُه عليّ، إن قبلت وانتفعت، وراجعت واستمعت، واستقللت وارتفعت. يا هذا: القول في الجملة كثير مختلف، منتشر مشتهر، بقي أن يصادف قلباً علوقاً، ونفساً عشوقاً، حتّى يُعشعشَ فيها تعشيشاً، ويُريّشَها ترييشاً. وأين ذلك القلب؟ وأين تلك النّفس؟ هيهات، عميت الأنباء، وخَبَت الأنوار والأضواء، وخَوَت السّماء والأنواء، وفُقِد الصّباح وأدرك العشاء، فلا كبد إلاّ وهي مقرونة بالحزن، ولا عين إلاّ وهي ذارفة عن القلق والفَرَق. وعند الحقيقة لا مَعاج[402] إلا إلى الله، ولا مُعَرّج إلاّ على باب الله، ولا ظنَّ يحسُنُ إلاّ بالله، ولا أملَ يصحُّ إلاّ في الله، ولا رجاء يستقيم إلاّ في ما عند الله، ولا خير يحقّ إلاّ عن الله، ولا توكّل إلاّ على الله، ولا نجاة إلاّ برَوح الله، ولا أنسَ إلاّ بكرامة الله، ولا مَنفَذ إلاّ بهداية الله، ولا ظفَر إلاّ بنصرِ الله، ولا عزّ إلاّ بتعزيز الله، ولا سُكنى إلاّ في جوار الله، ولا أمن إلاّ في حَرَمِ الله، ولا توجّه إلاّ إلى كعبة الله، ولا غنى إلاّ من خزانة الله، ولا فوز بالجنّة إلاّ بتفضّلِ الله، ولا خلاص من نار الله إلاّ برحمة الله، فاعلم علم هذه الجملة، تنل حقيقةَ التّفصيل عند الله، ودع –قبل كلّ شيء وبعده- الهوى عنكَ ولا تتّخذه شريكاً.
حال العلماء مع كثرة مزاياهم المقدّرة لم يقدروا أن ينزعوا نقيصة فيهم سبّبت إشكالات على مدى التّاريخ؛ وهي أنّهم لا يقرّون بما لم يدركه علمهم، كأنّهم لا يعترفون أنّ فوق كل ذي علم عليم، وفي مثل هذه الأحوال؛ ليتهم سكتوا إذا كان يحرجهم قول لا نعلم، بل كثير منهم يتمادى في تجريح صاحب القول الذي لم يفهمه ويرميه بنعوت غير مقبولة عند فحصها بالوارد في منظومة أخلاق القرآن والسّنة وتبعا لذلك الإسلام، ومثل هذا السّلوك بشري لا يثير الاستغراب، غير أنّ من واجب من يتوارث العلم أن يحقّق ويتحقّق ولا يركن لجاهزية الأحكام، وليست العامة في حِلّ من هذه النّقيصة، فحالنا أكثر سوءا وتهوّرا إلى درجة أنّ عليك أن تقرّ بصحّة كل مقولة طرحت عليك إذا كان الملقي واحدا أعلى مكانة، أمّا في حالة تعدد وجهات النّظر فعليك تبنّي وجهة نظر الأقوى لعلّك تسلم من الازدراء والسّخرية مع عدم الاكتراث، الحكمة شجرة أنوار موجودة في كلّ منّا بدون اعتبار علمي ولا اجتماعي ولا فطنة خاصة، بل هي موهوبة من ربّ العزّة في الفطرة، غير أنّ أكثر عيونها مغلقة؛ وهذا ما يجعل الواحد عند سماع كلمة من الحكمة تتفتّح عنده عين من تلك العيون المغلقة، أي أنّ الأمر لا يتعدّى تذكيرا بما هو عندك معلوم، في ذلك يقول تعالى: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ (21) الغاشية، والمؤمن خصّه ربّ العالمين بذكر حكيم فيه علم الأولين والآخرين إلى درجة أن قال عنه ربّ العزّة ما فرّطنا في الكتاب من شيء، فبه تستطيع أن تحكم على كلّ قول هل هو من الحكمة أو من الضّلالة؟ على أن لا تَتَعدّى بهذا الحكم إلى قائله ما دمت لا تعرف هل هو قائله حقّا أو حرّف ودلّس عليه، ومثل هذه القاعدة يجب تعميم استعمالها لتشمل حتّى ما يعتبر متون مقدّسة عدا القرآن الكريم لأنه محفوظ بمشيئة ربّانية: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) الحجر، وإنّي على يقين لو أدركت الصّهيونية العالمية أنّ المسلمين يتمسّكون بالقرآن ويتلونه حقّ تلاوته ويعملون بما فيه، لما سَمِعته يتلى في الفضائيات، ولما وجدته يستنسخ في مصاحف وأسطوانات، وبشيء من المبالغة لما سمعته يتلى في المساجد. جاء في سنن ابن ماجة[403] وغيره في حديث عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه: قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ، وَأَسْمَعُ مَا لَا تَسْمَعُونَ، إِنَّ السَّمَاءَ أَطَّتْ، وَحَقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ، مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلَّا وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِدًا لِلَّهِ، وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشَاتِ، وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ، تَجْأَرُونَ إِلَى اللَّهِ، وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ شَجَرَةً تُعْضَدُ».
هل يمكن أن نقول أنّه بلغتنا كلّ علوم النّبوّة؟ أكيد لا، وفي هذا يقول عبد الله بن علي السّرّاج الطّوسي[404] : إنّ الله تعالى خصّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعلوم ثلاثة، علم بيّن للخاصة والعامة وهو علم الحدود والأمر والنّهي، وعلم خصّ به قوما من أصحابه دون غيرهم هو العلم الذي كان يَعلم حذيفة بن اليمان رضي الله عنه حتّى كان يسأله عمر بن الخطّاب رضي الله عنه مع جلالته وفضله ويقول يا حذيفة هل أنا من المنافقين، وكذلك رُوِي عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال علّمني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سبعين باباً من العلم لم يُعلّم ذلك أحدٌ غيري قال وكان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أشكل على أحدهم شيء، يلتجئون في ذلك إلى عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وعلم خُصّ به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يشاركه فيه أحدٌ من أصحابه وهو العلم الذي قال لو تعلمون ما أعلم (الحديث)، فمن أجل ذلك قلنا لا ينبغي لأحد أن يظنّ أنّه يحوي جميع العلوم حتّى يخطّئ برأيه كلام المخصوصين ويكفّرهم ويزندقهم وهو متعرِّ من ممارسة احوالهم ومنازلة حقائقهم وأعمالهم. انتهى.
وفي المستدرك[405] من حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَنَا مَدِينَةُ الْعِلْمِ وَعَلِيٌّ بَابُهَا، فَمَنْ أَرَادَ الْمَدِينَةَ فَلْيَأْتِ الْبَابَ» هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ، غير أنّ المؤسف أنّه أُغلق في وجهنا هذا الباب.
هذا الكتاب
لست كاتباً حتّى أسمّيه كتاب، ولا مثقّفاً كي أبرز جانباً من ثقافة العصر الذي أنا فيه، ولا مجتهداً يجوز له الانتقاد وتبنّي الأفكار التي هي أوفق، ولا شخصية اجتماعية بارزة يستهوي النّاس معرفة سيرتها الذاتية، بل شخص عادي له مُثل وقيم يؤمن بها كما لدى كلّ النّاس لكنّها تغيّرت مع الزّمن وتبدّلت، كلّما دقّقت في واحد منها يتبيّن لي زيفها، أو هكذا أظنّ، فأستبدلها بما ظهر لي أنّها أسلم، ولا أدّعي أنّي توصّلت إلى ما لم يصل إليه غيري، إنّما طرحت تصوّرا وحلّقت في أطروحات السّابقين واللاحقين قدر الإمكان، لا قارئا شغوفا ملمّا بالمصادر التي اعتمَدَها إنّما متصفّحا متعجّلا يقف عند الرّأي الموافق لتصوّره فقط، أعرف أنّ مثل هذا المسلك في وسط المثقّفين يعتبر شائناً، أتخطّى ذلك لأوجه خطابا لجيل الأبناء الذين هم في بداية تجربة الحياة عسى أن يوفّر لهم آلية لاجتياز المراحل في وقت أقل، وحتّى في هذا لست متأكّدا، فأطروحاتي لم تكن يوما مقنعة لأهلي ولا لأصدقائي فكيف أتوقّع لها أكبر من ذلك، لذا سأسمّيه دليلا وليس كتابا، دليلا يمكّن القارئ أن يتأكّد بنفسه من صواب أو خطأ ما أوردته ما دامت إمكانيات التّكنلوجية الحديثة تتيح ذلك، وفي نفس الوقت أثبت له أنّ الذي تشغله استفسارات لم يجد لها جوابا عليه أن لا ييأس في البحث عنها دون أن يلتفت لغيره، وأنّ الجزاء بعد ذلك راحة نفسية تستحقّ كل الجهد المبذول من أجلها، لذا إن طُلب منّي أن أوجّه؛ فالوجهة التي أنا متأكّد من أحقّيتها هي الوحي ولا يوجد في هذه الحياة الدّنيا ما يمكن اعتباره حقّا غيره، كما قال تعالى: إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) الواقعة، من السّياق يبدو أنّ اسم الإشارة ”هذا“ يعود للمصير الذي سيلقاه كلّ من السّابقين وأصحاب اليمين والمكذّبين الضّالين، أمر لا ريب فيه، غير أنّه باستنطاق القرآن خصوصا الآيات المثاني يمكن الجزم أنّ اسم الإشارة ”هذا“ يعود زيادة عن ذلك لكلّ القرآن بدليل قوله تعالى: وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) الحاقة، وحتّى الحقّ الذي هو القرآن اختلف في فهمه، غير أنّ هذا الاختلاف ليس له نتائج سلبية إذا كان الصّدق هو المعتمد في الخلاف، فالخلاف لن يكون إذّاك سوى درجات الصّواب التي تكمن في الحق نفسه، أمّا الخلاف من أجل التّضليل فله تبعات غير خافية حتّى على أئمّة الظّلمات، والجدير بالذّكر أنّي لا أدّعي أنّ ما سقته يمثّل القناعة الأخيرة التي لا تقبل التّبدّل ولا التّغيير، بل كلّما ثبت عندي بإقناع من غيري أو بفهم جديد طارئ، وجب تصحيح المفاهيم كما فعلت من قبل، ولا أرى في ذلك عيباً، بل عكس ذلك أعتبر منهاج الارتقاء منهاجا كونيّا يتّفق مع السّنن التي خلق بها الملك الحقّ المبين السماوات والأرض، فمن يسلك مسلكاً وتبيّن له أن الدّاعي شيطان فلينحرف إلى مسلك آخر كما نصح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفق ما جاء في صحيح ابن حبّان[406]: عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطًّا فَقَالَ: "هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ" ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ ثُمَّ قَالَ: "وَهَذِهِ سُبُلٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ" ثُمَّ تَلَا: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) الأنعام.
دعاء الختم
الحمد لله الذي لا تستوفي شكر نعمه جبال الثّناء، ويذوب في أزليته القدم والبقاء، وسع الأكوان بالرّحمة والجود، وهو الغفور الودود، كما بدأ الخلق كلّ إليه يعود، أوجد الأسماء والمسمّيات، وب ”ليس كمثله شيء“ تميّز عن الوجود، أودع في كل مخلوق سرّا من أسرار الشّهود، وألزم من في السماوات والأرض طوعا وكرها الإسلام والسّجود، لا إله إلاّ أنت سبحانك، كلّ عبد هو لك سيأتيك فردا، وقد خسر يومئذ من لم تجعل له ودّا.
اللهمّ صلّ على من أنزلت عليه الكتاب وعلّمته البيان، أقمته على خزائن الرّحمة أنت المعطي وهو القاسم، عظّمت خُلقه وورّثته سرّ الهداية، فهو السّراج المنير لمن سبقت له منك العناية، كشفت له القرب وأشهدته معارج السّماء، وألزمت محبّته متشوّقي الجمع واللقاء، الدّال بك عليك ومردود من لم يرتشف من فضله لديك، محمد ومحمود وحمّاد أرض وسماء وعمد، صلاة تتّصل بصلاتك عليه، اتصال قطرة ببحر زدته مددا، وضاعف بقدرك المقدار تبعا، وعلى الآل الطّاهرين والصّحب المحسنين، وسلام على المرسلين والحمد لله ربّ العالمين.
المراجع
المراجع العربية
لسان العرب: للعلامة أبي الفضل جمال الدّين ابن منظور الأفريقي المصري، دار الفكر، بيروت، 1300 هجرية.
الجامع لإحكام القرآن: محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، دار الكتاب العربي، الطّبعة الثانية، مصر،1952 م.
جامع البيان عن تأويل آيِ القرآن، لأبي جعفر محمّد بن جرير الطّبري، بيروت، دار الفكر، 1988 م.
الافلاطونية المحدثة عند العرب : كتاب معاذلة النفس، منسوب لهرمس مثلث الحكمة، تحقيق عبد الرحمن بدوي، وكالة المطبوعات، الطبعة الثانية، الكويت، 1977م.
دين الإنسان: فراس السّواح، دار علاء الدّين، سوريا، 2002 م.
الديانة المصرية القديمة: ياروسلاف تشرني، ترجمة الدكتور أحمد قدري، دار الشروق، القاهرة، 1966 م.
كتاب الموتى الفرعوني: د. فيليب عطية، ت. من الهيروغليفية السير والس بدج، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1977 م.
فيدون: أفلاطون، ترجمة د. علي نشار وعباس الشربيني، دار المعارف بمصر، الطبعة 3، القاهرة، 1974 م.
التوراة السّامرية: ترجمة أبو الحسن اسحاق الصّوري، نشرها احمد حجازي السقّا، دار الأنصار، القاهرة، 1978 م.
صحيح مسلم: الإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، بيروت، دار إحياء التراث، 204 م.
المفصّل في تاريخ العرب قبل الاسلام: د. جواد علي، مكتبة النّهضة، بغداد، 1993 م.
في ظلال القرآن: الشهيد سيّد قطب، دار الشروق، بيروت والقاهرة، الطبعة الشرعية الثانية عشر، 1986م
صحيح البخاري: محمد بن إسماعيل البخاري الجعفي، بيروت، عالم الكتب، الطبعة الخامسة، 1986 م.
التّفسير الكبير ومفاتيح الغيب: لفخر الدّين الرازي، الطّبعة الثالثة، دار الفكر، بيروت، 1975 م.
تفسير ابن كثير: أبو حفص عمر بن كثير، دار الفكر، بيروت، 1975 م.
المستدرك على الصّحيحين: محمد بن عبدالله الحاكم، المكتبة العصرية، صيدا بيروت، 2006 م.
الرّوح في الكلام على أرواح الموتى والأحياء بالدّلائل من الكتاب والسّنة، محمد بن أبي بكر بن أيّوب بن سعد شكس الدّين ابن قيّم الجوزية (المتوفّى 751 هجرية)، دار الكتب العلمية، بيروت، سنة 1975.
أنوار التّنزيل وأسرار التّأويل، عبد الله بن عمر بن محمد الشّيرازي البيضاوي، دار صادر، بيروت، 1330 هجرية.
صحيح ابن حبّان، علاء الدّين بن بلبان، مؤسّسة الرّسالة، بيروت، 1997 م.
القرآن كائن حيّ، الدكتور مصطفى محمود، دار المعارف، القاهرة، 1993 م.
عالم الأسرار، الدّكتور مصطفى محمود، دار أخبار اليوم، كتاب اليوم، العدد 331، مصر، 1992م.
السرّ الأعظم ، الدّكتور مصطفى محمود، الطّبعة العاشرة، دار المعارف، القاهرة، 1999م.
الموطّأ، الإمام مالك بن أنس، تخريج وتعليق محمد فؤاد عبد الباقي، كتاب الشّعب، 1969 م.
هياكل النّور، السّهروردي الإشراقي، المكتبة التّجارية الكبرى، القاهرة، 1957 م.
التّمهيد لما في الموطّأ من المعاني والأسانيد، أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري الأندلسي (ت. 463 هجرية)، وزارة الأوقاف المغربية، مطبعة فضالة، المحمدية، 1967 م.
تاج العروس من جواهر القاموس، محمد مرتضى الحسيني الزبيدي، دار الفكر، بيروت، 1994 م.
مغامرة العقل الأولى، فراس السّواح، دار الكلمة للنّشر، بيروت، الطّبعة الثّالثة، 1982 م.
مسند الإمام زيد، الإمام زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (ض)، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان، 1339 هجرية
الدّقائق الثّلاث الأولى من عمر الكون، ستيفن ونبرغ Steven Weinberg، ترجمة: وائل الأتاسي، الدّار المتّحدة للطّباعة والنّشر، دمشق، 1990 م.
نهج البلاغة، الإمام الشّريف الرّضى، ضبط الإمام محمد عبده، مؤسّسة المعارف، بيروت، 1996 م.
التّوراة السّامرية، الدكتور أحمد حجازي السّقا، ترجمة الكاهن السّمريّ أبو اسحاق الصّوري، دار الأنصار، القاهرة، 1978
كتاب الأربعين السيلقية، العلامة المحدث زيد بن عبد الله بن مسعود بن رفاعة الهاشمي،( أحد أعلام القرن الرابع الهجري)، المحقق : عبد الله حمود العزي، مؤسسة الإمام زيد بن علي(ع) الثقافية، صعدة، اليمن، الطّبعة الأولى، سنة 2002م.
بروتوكولات حكماء صهيون، محمد خليفة التّونسي، دار الكتاب العربي، الطّبعة الرابعة، بيروت- لبنان، 1961م.
أضواء على أصول التّوحيد (الدّرزية)، د. سامي نسيب مكارم، دار صادر، بيروت،1966.
طبقات الصّوفية ، أبو عبد الرحمن السّلميّ (412 هجرية)، تحقيق نور الدّين شريبة، مكتبة الخانجي بالقاهرة ومكتبة الهلال ببيروت، طبع في القاهرة، 1953 م.
تفسير المراغي، أحمد مصطفى المراغي، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1365 هجرية، الجزء الحادي والعشرون، صفحة 37.
صحف ابراهيم، جذور البراهيمية من خلال نصوص الفيدا، د. فالح شبيب العجمي، الدار العربية للموسوعات، بيروت، 2006 م.
كتاب الطّواسين، أبو المغيث الحسين بن منصور الحلاّج البيضاوي البغدادي (309 هجرية)، تحقيق وتعليق لويس ماسنيون Louis Massignon، المكتبة الشّرقية بول جوتنر Librairie Paul Geuthner، باريس، 1913، طاسين السّراج، صفحة 9.
السّفينة القادرية، الشّيخ عبد القادر الجيلاني، مؤسّسة الكتب الثقافية، بيروت، الطّبعة الأولى، 1993م، صفحة 150.
مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين، أبو الحسن علي بن إسماعيل بن إسحاق بن سالم بن إسماعيل بن عبد الله بن موسى بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري (المتوفى: 324هـ)، المحقق محمد محيي الدّين عبد الحميد، مكتبة النّهضة المصرية، القاهرة، الطّبعة الأولى، 1950م، الجزء الأول، الصّفحة 216.
العقيدة الإسلامية كما جاء بها القرآن الكريم، الشّيخ محمد أبو زهرة (1898- 1974م)، مجمع البحوث الإسلامية، مطبعة الأزهر.
الملل والنّحل، أبو الفتح محمد بن عبد الكريم بن أبي بكر أحمد الشّهرستاني ( ت 548 هجرية)، مؤسسة الحلبي، الجزء الأول، صفحة 19.
فصوص الحكم، الشّيخ الأكبر محيي الدّين بن عربي (638 هجرية)، تعليق أبو العلا عفيفي، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، الطّبعة الثّانية، 1980 م.
قاعدة في المحبّة، احمد بن عبد الحليم بن تيمية، تحقيق د. محمد رشاد سالم، مكتبة التّراث الإسلامي، القاهرة، 1987 م.
متون هرمس حكمة الفراعنة المفقودة، تيموثي افريك وبيتر غاندي، ترجمة عمر الفاروق عمر، المشروع القومي للتّرجمة، الطّبعة الأولى، 2002م، القاهرة.
تاريخ الحكماء نزهة الأرواح وروضة الأفراح، شمس الدّين الشّهرزوري ( كان حيّاً سنة 687 هجرية)، تحقيق عبد الكريم أبوشويرٍب، جمعية الدّعوة الإسلامية العالمية، الطّبعة الأولى، 1988م.
الإشارات الإلهية، أبو حيّان التّوحيدي، تحقيق الدكتورة وداد القاضي، دار الثّقافة، بيروت، 1973م.
إحياء علوم الدّين، أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطّوسي (المتوفّى 505 هجرية)، دار الفكر، الطّبعة الثّانية، 1980م.
متن العقيدة الطّحاوية، أبو جعفر الطّحاوي الحنفي المتوفّى 321 هجرية، دار ابن حزم، الطّبعة الأولى، 1995م، بيروت، لبنان.
شجرة الكون، محيي الدين ابن عربي، تحقيق رياض العبد الله، الطبعة الثانية، دار القلم، بيروت، 1985م.
اللُّمع في التّصوّف، أبو نصر عبد الله بن علي السّراج الطّوسي، تحقيق رونلد الّن نيكلسون، مطبعة بريل الشّرقية، مدينة ليدن، لندن، 1914 م .
أبناء آدم من الجن والشياطين،محمد منير أدلبي، دار الأهالي للطباعة والنشر، دمشق، الطبعة الأولى، سنة 1993.
المراجع الإلكترونية
الموسوعة المسيحية العربية، قاموس الكتاب المقدّس، albishara.org
تاريخ العرب القديم، توفيق برو، دار الفكر، لبنان، 2001 م، المكتبة الشّاملة.
الأسماء والصّفاة، أبو بكر البيهقي، مكتبة السّوادي، جدّة، 1993 م، المكتبة الشّاملة.
البعث والنّشور ،أحمد بن الحسين بن علي بن موسى الخُسْرَوْجِردي الخراساني، أبو بكر البيهقي (المتوفى: 458هـ)، تحقيق الشّيخ عامر أحمد حيدر، مركز الخدمات والأبحاث الثّقافية، بيروت، الطّبعة الأولى، 1986م، صفحة 336.
الكتاب المصنّف في الأحاديث و الآثار، أبو بكر بن أبي شيبة، عبد الله بن محمد بن ابراهيم بن عثمان بن خواستي العبسي، مكتبة الرّشد، الرّياض، 1409 هجرية، المكتبة الشاملة.
مسند ابن أبي شيبة، أبو بكر بن أبي شيبة ( المتوفى 235 هجرية)، الطّبعة الأولى، دار الوطن، الرياض، 1997 م، المكتبة الشاملة.
شعب الإيمان، أبو بكر البيهقي، مكتبة الرّشد، الرياض، 2003 م، المكتبة الشّاملة.
تفسير القرآن العظيم مسندا، الرازي ابن أبي حاتم، مكتبة نزار الباز، المملكة السّعودية، 1419 هجرية، المكتبة الشّاملة.
نور اليقين في سيرة سيّد المرسلين، الشّيخ الخضري، دار الفيحاء، دمشق، 1425 هجرية، المكتبة الشّاملة.
مسند الإمام أحمد، احمد بن محمد بن حنبل، مؤسّسة الرّسالة، بيروت، 2001 م، المكتبة الشّاملة.
الرّوض الأنف، عبد الرحمن السّهيلي، دار إحياء التّراث، بيروت، 2000 م. المكتبة الشّاملة.
فيض القدير، زين الدّين محمد المناوي القاهري، المكتبة التجارية الكبرى، مصر، 1356 هجرية، المكتبة الشّاملة.
تفسير روح المعاني، محمود بن عبد الله الألّوسي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطّبعة الأولى، 1415 هجرية، المكتبة الشّاملة.
نظم المتناثر في الحديث المتواتر، محمد بن جعفر الكتّاني، دار الكتب السّلفية، مصر، المكتبة الشّاملة.
كشف الخفاء ومزيل الإلباس، اسماعيل العجلوني الجرّاحي، دار إحياء التّراث، بيروت، الطّبعة الثانية، 1351 هجرية، مكتبة المحدّث.
المطالب العالية، أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، دار الغيث، السّعودية، 1419 هجرية، المكتبة الشّاملة.
الإصابة في تمييز الصّحابة، أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني، دار الكتب العلمية، بيروت، الطّبعة الأولى، 1415 هجرية، المكتبة الشّاملة.
مساوئ الأخلاق ومذمومها محمد بن الخرائطي السامري، تحقيق مصطفى بن أبو النّصر الشّلبي، مكتبة السّوادي للتّوزيع، جدّة، الطّبعة الأولى، 1993 م، المكتبة الشّاملة.
درّة التّنزيل وغرّة التّأويل، محمد بن عبد الله الأصبهاني المعروف بالخطيب الإسكافي، جامعة أمّ القرى، السّعودية، 2001م، المكتبة الشّاملة.
السّنن الكبرى للبيهقي، أحمد بن الحسين بن علي بن عبد الله بن موسى ، دار الكتب العلمية، بيروت، 2003 م، المكتبة الشّاملة.
سنن ابن ماجة، أبو ماجة أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني ، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، 1952م، المكتبة الشّاملة.
الأحاديث المختارة أو المستخرج من الأحاديث المختارة مما لم يخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما، ضياء الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي (المتوفى: 643هـ)، دار خضر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، الطّبعة الثّالثة، 2000 م، المكتبة الشّملة.
نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، إبراهيم بن عمر بن حسن الرٌباط بن علي بن أبو بكر البقاعي (المتوفى سنة 885 هـ)، دار الكتاب الإسلامي، القاهرة، الجزء الأوّل، صفحة 277، المكتبة الشّاملة.
موسوعة الصحيح المسبور من التفسير بالمأثور، أ. د. حكمت بن بشير بن ياسين، دار المآثر للنشر والتوزيع والطباعة- المدينة النبوية، الطبعة: الأولى، 1420 هـ - 1999 م، المكتبة الشّاملة.
البحر المحيط في التفسير، أبو حيّان محمد بن يوسف الأندلسي (745 هجرية)، تحقيق صدقي جميل، دار الفكر، بيروت، الطبعة 1420 هجرية، المكتبة الشاملة.
مروج الذّهب ومعادن الجوهر، أبو الحسن علي بن الحسين بن علي المسعودي(346 هجرية)، الجزء الأوّل، صفحة 21، طبعة إلكترونية.
التفسير الوسيط للقرآن الكريم ،محمد سيد الطنطاوي، دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع القاهرة، الطبعة الأولى، 1997-1998
تفسير التستري، أبو محمد سهل بن عبد الله بن يونس بن رفيع التستري (المتوفى : 283هـ)، حقّقه محمد باسل عيون السّود، نشرته دار الكتب العلمية ، بيروت، 1423 هجرية.
تنوير المقباس من تفسير ابن عباس ، ينسب لعبد الله بن عباس (المتوفى : 68هـ)، جمعه محمد بن يعقوب الفيروزآبادى (المتوفى : سنة 817 هـ)، دار الكتب العلمية، لبنان، موقع التفاسير، www.altafsir.com.
البحر المديد في تفسير القرآن المجيد، أبو العباس أحمد بن محمد بن المهدي بن عجيبة الحسني الأنجري الفاسي الصوفي (المتوفى: 1224هـ)، المحقق: أحمد عبد الله القرشي رسلان، الناشر: الدكتور حسن عباس زكي – القاهرة، 1719 هجرية، الجزء الأول، صفحة 227، المكتبة الشاملة .
مسند أبي يعلى الموصلي، أبو يعلى أحمد بن علي بن المثُنى بن يحيى بن عيسى بن هلال التميمي، الموصلي (المتوفى : 307هـ)، دار المأمون للتراث ، دمشق ، الطبعة الأولى 1984م، الجزء 11، صفحة 454، موقع جامع الحديث.
معجم ابن الأعرابي، أبو سعيد بن الأعرابي أحمد بن محمد بن زياد بن بشر بن درهم البصري الصوفي (المتوفى: 340هـ)، تحقيق وتخريج: عبد المحسن بن إبراهيم بن أحمد الحسيني، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السّعودية، الطّبعة الأولى، 1997م، المكتبة الشاملة .
مسند إسحاق بن راهويه، أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم بن مخلد بن إبراهيم الحنظلي المروزي المعروف بـابن راهويه (المتوفى: 238هـ)، المحقق: د. عبد الغفور بن عبد الحق البلوشي، مكتبة الإيمان، المدينة المنوّرة، الطّبعة الأولى، 1991م، المكتبة الشاملة .
صحيح ابن خزيمة، أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة بن المغيرة بن صالح بن بكر السلمي النيسابوري (المتوفى: 311هـ)، تحقيق مصطفى الأعظمي، المكتب الإسلامي، بيروت، المكتبة الشّاملة.
مختصر قيام الليل وقيام رمضان وكتاب الوتر، أبو عبد الله محمد بن نصر بن الحجاج المَرْوَزِي (المتوفى: 294هـ)، حديث أكادمي، فيصل اباد – باكستان، الطّبعة الأولى، 1988م، المكتبة الشّاملة.
معجم ابن المقرئ، أبو بكر محمد بن إبراهيم بن علي بن عاصم بن زاذان الأصبهاني الخازن، المشهور بابن المقرئ (المتوفى : 381هـ)، الجزء الأول، صفحة 232، المكتبة الشاملة.
مسند الإمام أحمد ابن حنبل، أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني (المتوفى : 241هـ)، مؤسسة الرسالة، بيروت، 2001م، جزء 2 ، صفحة 282، المكتبة الشاملة.
فضائل الصّحابة، أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشّيباني (ت 241 هجرية)، مؤسّسة الرسالة، بيروت، الطّبعة الأولى، 1983 م، الجزء الثّاني، صفحة 648، المكتبة الشّاملة.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن تمام بن عطية الأندلسي المحاربي (المتوفى: 542هـ)، المحقق: عبد السلام عبد الشافي محمد الناشر: دار الكتب العلمية – بيروت الطبعة: الأولى - 1422 هـ الجزء 2 صفحة 344، المكتبة الشاملة.
الإحكام في أصول الأحكام، علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب بن صالح بن خلف بن معدان بن سفيان بن يزيد الأندلسي القرطبي، المتوفّى 456 هجرية، تحقيق أحمد محمد شاكر، دار الآفاق الجديدة، بيروت، الجزء 5، صفحة 111، المكتبة الشّملة.
الشريعة، أبو بكر محمد بن الحسين بن عبد الله الآجُرِّيُّ البغدادي (المتوفى 360 هجرية)، دار الوطن، الرياض ، الطبعة الثانية، 1999 م، الجزء الثالث، صفحة 1419 و 1420، المكتبة الشّاملة.
تفسير الميزان، العلامة السّيد محمد حسين الطّباطبائي (1321-1402 هجرية)، نسخة إلكترونية، موقع الكوثر، الجزء 8، صفحة 146.
المعجم الأوسط، سليمان بن أحمد بن أيّوب بن مطير اللّخمي الشّامي، أبو القاسم الطّبراني (ت. 360 هجرية)، دار الحرمين، القاهرة، 1415 هجرية، الجزء 8، صفحة 57، م. الشّاملة.
معجم الشّيوخ، أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله المعروف بابن عساكر (المتوفّى 571 هجرية)، دار البشائر، دمشق، 2000 م، الشاملة
الجامع الكبير - سنن الترمذي، محمد بن عيسى بن سَوْرة بن موسى بن الضحاك، الترمذي، أبو عيسى (المتوفى: 279هـ)، تحقيق بشّارعواد معروف، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1998 م، الجزء 4، صفحة 291، المكتبة الشاملة .
فتح الباري، أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)، دار الفكر، موقع مكتبة المدينة الرقمية، الجزء 11، صفحة 370.
مسند أبي داوود الطّيالسي، أبو داود سليمان بن داود بن الجارود الطيالسي البصرى (المتوفى: 204هـ)، تحقيق: الدكتور محمد بن عبد المحسن التركي، دار هجر، مصر، الطبعة الأولى، 1999م، جزء 4، صفحة 293، المكتبة الشاملة.
جلاء الأفهام في فضل الصّلاة على محمد خير الأنام، محمد بن أبي بكر بن أيّوب بن سعد شمس الدّين ابن قيّم الجوزية ( ت 751 هجرية)، دار العروبة، الكويت، الطّبعة الثّنية، 1987 م، صفحة 210، المكتبة الشّاملة.
الكشّاف عن حقائق غوامض التّنزيل، أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد الزّمخشري جار الله (المتوفى 538 هجرية)، دار الكتاب العربي، بيروت، الطّبعة الثّالثة، 1407 هجرية.
كتاب الفتن، أبو عبد الله نعيم بن حماد بن معاوية بن الحارث الخزاعي المروزي (المتوفى: 228هـ)، تحقيق سمير أمين الزهيري، مكتبة التوحيد، الطبعة الأولى، 1412 هجرية، المكتبة الشاملة.
الأشباه والنّظائر، عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (م. 911 هجرية)، دار الكتب العلمية، 1990م، المكتبة الشاملة
المراجع الأجنبية
El Kibalion, tres iniciados, Editorial Sirio, Málaga, España, 1995.
Le popol vuh, Georges Raynaud, Editions Adrien-Maisonneuve, Paris, 1980.
Histoire critique de la pensé, Louis Jacot, Cité cardinal-Lemoine, Paris (5°), 1970.
La doctrina secreta, Helena p. Blavatsky, tercera edición, Buenos aires, 1956.
The Book of Enoch Translated from the Ethiopian by R.H. Charles,1906. English E-text edition scanned by Joshua Williams, Northwest Nazarene College,1995. Edited by Wolf Carnahan,1997.
Conocer a Dios, El viaje del alma hacia el misterio de los misterios, Deepak Chopra, traducción de : Josep Monreal, Tercera edición: noviembre, 2000, Plaza Janés.
El Evangelio Acuario de Jesús el cristo, Levi H. Dowling, Hojas de luz/sirio, Málaga, España, 2006.
Corpus hermeticum , Hermes trigesmistro, formato electrónico por Frater Alastor, Según la versión de imprenta índigo, primera edición, colección archivo hermético 7, año 1998, pagina 19
المحتوى
تمهـيـــد...............................................................................................5
كتـــــاب النٌفــــــس................................................................................9
معنى النفس.....................................................................................9
النٌفس عند الهرامسة............................................................................11
النٌفس عند قدماء المصريين...................................................................13
النٌفس عند أفلاطون............................................................................17
النفس عند أهل الكتاب.........................................................................18
النٌفس عند عرب الجاهلية......................................................................22
مكونات الشخصية البشرية....................................................................24
التٌعرٌف على النٌفس والروح...................................................................24
عالم الأمر......................................................................................25
صورة النٌفس...................................................................................28
صورة الروح...................................................................................29
النفس في المحيا والممات......................................................................32
الفروق بين النٌفس والروح.....................................................................33
النٌفس والروح في التراث......................................................................36
الأنا في الإنسان................................................................................42
مفهوم النّفس الحديث...........................................................................44
كتاب التكوين.......................................................................................46
مفهوم بدء الخلق...............................................................................46
قبل البدء........................................................................................47
أول ما خلق الله.................................................................................49
بدء الخلق في القرآن الحكيم...................................................................58
بدء الخلق في السّنّة الشّريفة...................................................................63
بدء الخلق في تراجم التوراة...................................................................68
بدء الخلق في أساطير الأوّلين.................................................................70
بدء الخلق في التّراث الشّرقي.................................................................75
بدء الخلق في العلم الحديث....................................................................77
مصطلح الإنسان...............................................................................84
خلق يتلوه خلق.................................................................................85
النشأة الأولى....................................................................................90
خلق النّفس......................................................................................92
كتاب خلق آدم ﷺ..........................................................................................94
قبل الخلق.......................................................................................94
خلق بدن آدم....................................................................................96
خلق بدن حواء.................................................................................97
إنظار إبليس....................................................................................98
الإسكان في الجنة..............................................................................99
التأخير إلى يوم القيامة.........................................................................100
آدم من الجنة إلى الأرض....................................................................101
إبليس والشيطان..............................................................................102
آدم وأهله في الأرض........................................................................104
كتاب الموتة الأولى..............................................................................116
بيان الموتة الأولى............................................................................116
النشأة الأولى..................................................................................119
وعي النفوس في الأصلاب..................................................................120
طَبَقًا عَن طَبَقٍ................................................................................121
العيش في عالم الذّر..........................................................................122
رؤية الله عزّ وجلّ............................................................................123
الخروج إلى الدّنيا............................................................................126
القضاء والقدر................................................................................128
التّذكّر أم التّقمّص.............................................................................130
الفتنة والبلاء..................................................................................133
كتاب العيش بعد الموت..........................................................................135
حدّ كلمة عَيش................................................................................136
معرفة الكون..................................................................................137
الجنّة والنّار...................................................................................139
لحظة الموت..................................................................................144
عذاب القبر....................................................................................146
العيش في القبر...............................................................................150
الرابط بين النّفس والبدن.....................................................................151
العيش بعد الموت.............................................................................152
مقارنة بين أنواع العيش......................................................................154
قيام الساعة....................................................................................156
زوال السماوات والأرض....................................................................158
كتاب النّشور.....................................................................................160
حديث الصّور.................................................................................160
النّفخ في الصّور..............................................................................167
الصَّعقُ الشّامل................................................................................168
أرض المحشر................................................................................169
خروج النّاس..................................................................................171
يوم الجمع.....................................................................................174
وضع الكتاب..................................................................................175
يوم الحساب...................................................................................177
مدى الخلود...................................................................................178
كتــــــاب المصيــــــر...........................................................................180
صفات الله تعالى..............................................................................180
معرفة الله.....................................................................................184
العلم والمعرفة................................................................................189
الغاية والمهمّة................................................................................191
الإيمان والإسلام..............................................................................194
الكفر والتّكفـــير..............................................................................195
القرآن المهجور...............................................................................204
الرّوح والروحانيات..........................................................................208
الوهم والواقع.................................................................................213
الروحانيات والتّصوّف.......................................................................216
الوحي والإلهام................................................................................227
وجود الله جلّ جلاله..........................................................................229
نبوءات آخر الزّمن...........................................................................232
الخاتمة............................................................................................245
أقوال مأثورة..................................................................................245
هذا الكتاب....................................................................................252
دعاء الختم....................................................................................253
المراجع...........................................................................................254
المراجع العربية..............................................................................254
المراجع الإلكترونية..........................................................................257
المراجع الأجنبية..............................................................................261
[1] أبو الفضل جمال الدّين ابن منظور الأفريقي المصري، لسان العرب، بيروت، دار الفكر،1300 هجرية، الجزء السادس، صفحة 233، مادة نفس.
[2] أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، تحقيق احمد عبد العليم البردوني، 1952م، دار الكتاب العربي، الطبعة الثانية، الجزء العشرون، الصفحة 75.
[3] أبو جعفر محمد بن جرير الطّبريّ، المتوفى سنة 310 ﮪ، ولد بطبرستان سنة 224 ﮪ، وبدأ في طلب العلم في السادسة عشرة من عمره، ثم رحل إلى بغداد واستقر فيها، بعد أن زار عدة بلدان. يعتبر تفسيره أول تفسير وصل كاملاً وأخذ عنه العديد من العلماء.
[4] محمد بن جرير الطّبريّ، جامع البيان عن تأويل آيٍ القرآن ، بيروت، دار الفكر، 1988 م، المجلد الخامس، الجزء الثامن، صفحة 127.
[5] محمد بن نصر بن حجاج المروزي كنيته: أبو عبد الله المَرْوَزِي: فتح الميم والواو، بينهما الراء الساكنة، وفي آخرها الزاي، المتوفّى 294 هجرية، قال عنه الخطيب البغدادي: كان من أعلم الناس باختلاف الصحابة ومن بعدهم في الأحكام.
[6] أبو محمد؛ علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب بن صالح بن خلف بن معدان بن سفيان بن يزيد الفارسي الأصل، ثم الأندلسي القرطبي، المتوفّى 456 هجرية، مجتهد مطلق، وإمام حافظ، كان شافعي الفقه، فانتقل منه إلى الظاهرية.
[7] تفسير الطّبريّ، (مصدر سابق 4)، المجلد الخامس عشر، الجزء الثلاثون، صفحة 191.
[8] تفسير القرطبي، (مصدر سابق 2)، الجزء السادس، صفحة 376.
Tres Iniciados, El Kibalion, 1995, Editorial Sirio, Málaga, España. [9]
[10] هرمس، معاذلة النفس ، تحقيق عبد الرحمن بدوي، الأفلاطونية المحدثة عند العرب، الكويت، وكالة المطبوعات، الطبعة الثانية، 1977، صفحة 114و115.
[11] كلمة مستمدة من كلمة هيلين وهي الاسم العرقي الذي يطلقه اليونانيون على أنفسهم، يمتد منذ أوائل القرن الرابع قبل الميلاد وحتى القرن الخامس الميلادي.
[12] محمد مرتضى الحسيني الواسطي الزبيدي الجنفي، تاج العروس من جواهر القاموس، دار الفكر، بيروت، 1994 م، دراسة وتحقيق علي شيري، الجزء الخامس عشر، صفحة 822، مادة هال، قال الشَّيْخ المَناوِي فِي مُهمّات التَّعْرِيف أَنَّ الهَيُولَى لفظٌ يُونانِيٌّ بِمَعْنى الأَصْلِ والمادّة، وَاصْطِلَاحا: جَوْهَرٌ فِي الجِسْم قابِلٌ لما يَعْرِضُ لذَلِك الجِسْم من الاتِّصالِ والانْفِصالِ.
[13] الدّكتور مصطفى محمود، عالم الأسرار، دار أخبار اليوم، كتاب اليوم، العدد 331، مصر، 1992م.
[14] مانيتون مؤرخ مصري من مدينة سمنود، محافظة الغربية؛ كان كاهناً في عهد الملك بطليموس الثاني (حوالي 280.ق.م) الذي كلفه بكتابة تاريخ مصر القديمة.
[15] فراس السّواح، دين الإنسان، منشورات دار علاء الدّين، الطّبعة الرّابعة، 2002، سورية، دمشق، صفحة 94، 95.
[16] د. سامي نسيب مكارم، أضواء على أصول التّوحيد (الدّرزية)، دار صادر، بيروت، 1966،صفحة 49 و50.
[17] مصطلح أستعمل من طرف المستشرق الألماني فريدريك مولر، Friedrich Max Muller (1823 -1900 م)
[18] العصر الحجري الجديد المتميٌز ببدايات الزراعة والكسب واستعمال أواني من الفخار والتحول من الترحال إلى الاستقرار كما يقولون.
[19] ياروسلاف تشرني Garoslav Cerny، ترجمة د. أحمد قدري، الديانة المصرية القديمة، Ancient Egyptiean Relegion ، القاهرة، 1996م ، دار الشروق، صفحة 106 .
[20] د فيليب عطية، الترجمة من الهيروغليفية السير: والس بدج، كتاب الموتى الفرعوني، مكتبة مدبولي، القاهرة،1977، صفحة 199.
[21] أفلاطون، فيدون، ترجمة و تعليق د. علي النشار وعباس الشربيني، 1974، الطبعة الثالثة، دار المعارف بمصر، القاهرة، صفحة 35.
[22] إشارة إلى أقوال مأثورة عن القدماء، مصدرها الواضح هو التعاليم"الأورفية"، تؤكد أن النفوس توجد في "هاديس" أي العالم الآخر أو السفلي، وأنها ذهبت إلى هناك من هنا، وأنها ستعود من هناك وتولد من الموتى.
[23] إبراهيم بن عمر بن حسن الرٌباط بن علي بن أبو بكر البقاعي (المتوفى سنة 885 هـ)، نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، دار الكتاب الإسلامي، القاهرة، الجزء الأوّل، صفحة 277، المكتبة الشّاملة.
[24] من الكلمة اليونانية غنوص- Gnosis التي تعني المعرفة الحدسية الباطنية، أو العرفان بمصطلح التصوف الإسلامي.
[25] ترجمة أبو الحسن إسحاق الصٌوري، التٌوراة السٌامرية، نشرها الدكتور أحمد حجازي السٌقا، القاهرة، دار الأنصار، 1978.
[26] الموسوعة المسيحية العربية الإلكترونية، قاموس الكتاب المقدٌس، حرف ر، مادة: روح، الموقع على الشٌبكة، albishara.org.
[27] ظُبَةُ السيف وظُبَةُ السهم: طرَفه.
[28] لسان العرب، (مصدر سابق 1)، الجزء الثاني عشر، صفحة 625، مادة هوم .
[29] الإمام أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، (ت261 ھ)، صحيح مسلم، القاهرة، مكتبة الصّفَا، الطّبعة الأولى، 2004م، الجزء 2، كتاب الإسلام، باب لا عدوى ولا طيرة، صفحة 471 .
[30] لسان العرب، (مصدر سابق 1)، الجزء الثامن، صفحة 114، مادة رجع.
[31] الدكتور جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، الطبعة الثانية، مكتبة النهضة، بغداد، 1993، المجلد 11، الفصل 65، المدخل.
[32] توفيق برو، تاريخ العرب القديم، اعادة الطّبعة الثانية، دار الفكر، لبنان، 2001 م، صفحة 312، المكتبة الشاملة.
[33] أبو الحسن علي بن الحسين بن علي المسعودي (346 هجرية)، مروج الذّهب ومعادن الجوهر، الجزء الأوّل، صفحة 21، طبعة إلكترونية.
[34] محمد بن إسماعيل البخاري الجعفي (256 هجرية)، صحيح البخاري، عالم الكتب، الطبعة الخامسة، بيروت، 1986 م، الجزء التّاسع، كتاب التّوحيد، باب قوله تعالى والله خلقكم وما تعملون، صفحة 286.
[35] أحمد بن الحسين بن علي بن موسى الخُسْرَوْجِردي الخراساني، أبو بكر البيهقي (المتوفى : 458هـ)، شعب الإيمان ، الجزء الأول، صفحة 326، المكتبة الشاملة.
[36] أبو بكر محمد بن إبراهيم بن علي بن عاصم بن زاذان الأصبهاني الخازن، المشهور بابن المقرئ (المتوفى : 381هـ)، معجم ابن المقرئ، الجزء الأول، صفحة 232، المكتبة الشاملة.
[37] صحيح مسلم، (مصدر سابق 29)، الجزء الثّاني، كتاب الزّهد والرّقائق، باب في أحاديث متفرّقة، صفحة 826.
[38] أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي الملقب بفخر الدين الرازي (المتوفى : 606هـ)، التفسير الكبير ومفاتيح الغيب ، بيروت ، دار الفكر، 1975م ، الطبعة الثالثة، الجزء 14، المجلد السابع، صفحة 124.
[39] أحمد بن الحسين بن علي بن موسى الخُسْرَوْجِردي الخراساني، أبو بكر البيهقي (المتوفى: 458هـ)، الأسماء والصّفاة ، مكتبة السّوادي، جدّة 1993 م، الجزء الأول، صفحة 592، المكتبة الشّاملة.
[40] عبد الرحمن بن محمد بن إدريس بن المنذر التميمي، الحنظلي، الرازي ابن أبي حاتم (المتوفى: 327هـ) ، تفسير القرآن العظيم مسندا عن الرسول صلى الله عليه وسلم و الصحابة و التابعين ، مكتبة نزار مصطفى الباز، المملكة العربية السعودية، الطبعة الثالثة، 1419 هجرية، الجزء العاشر، صفحة 3252، المكتبة الشاملة .
[41] من المعتقدات الهندية التي انتقلت إلى جماعة التيوصوفية الأبدان السبعة المكونة للإنسان وهي: 1- sthûla-sharîra وهو الخشن والكثيف والثقيل. 2- linga-sharîra الجسم النجمي وهو أكثر أثيرية من الجسد المادي. 3- prâna-sharîraنفس الحياة أو الطاقة العصبية. 4- kâma-sharîra مبدأ الرغبة وهو من الدوافع الأساسية للقوة البشرية. 5 -manas مقر الفكر والوعي ويعتبر خالد ويعود بالتقمص. 6- buddhi النفس الروحانية التي من خلالها يتدفق الإلهام الرباني إلى الأنا. 7- âtman الوعي الصافي الذي يكون واحدا في كل أجزاء الكون كما يشكل الشعور ومعرفة <أنا هو>.
[42] تفسير الطّبري، (مصدر سابق 4)، المجلّد الثامن، الجزء الرابع عشر، صفحة 77.
[43] تفسير القرطبي، (مصدر سابق 2)، الجزء التّاسع عشر، صفحة 187.
[44] أبو عبد الله محمد بن نصر بن الحجّاج المَرْوَزِي (294 هجرية)، مختصر قيام الليل وقيام رمضان وكتاب الوتر، حديث أكادمي، فيصل أباد، باكستان، الطّبعة الأولى، 1988م، المكتبة الشّاملة.
[45] صحيح مسلم، (مصدر سابق 29)، الجزء الأول، كتاب صلاة المسافرين، باب فضل قراءة القرآن، صفحة 388.
[46] غياية: ما أظلك من فوقك، والفَرَق: القطعة من الشيء، والبطلة: السحرة.
[47] صحيح مسلم، (مصدر سابق 29)، الجزء الثّاني، كتاب الجنّة وصفة، باب النّار يدخلها الجبّارون، صفحة 762.
[48] أبو ماجة أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني (ت. 273 هجرية)، سنن ابن ماجة، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، 1952م، الجزء الثاني، صفحة 936، المكتبة الشّاملة.
[49] تفسير الطّبري، (مصدر سابق 4)، المجلّد الثاني عشر، الجزء الرابع والعشرون، صفحة 71 .
[50] محمد بن عفيفي الباجوري، المعروف بالشيخ الخضري (المتوفى : 1345هـ)، نور اليقين في سيرة سيد المرسلين، دار الفيحاء، دمشق، الطبعة الثانية، 1425 هجرية، صفحة 36، المكتبة الشاملة.
[51] صحيح البخاري، (مصدر سابق 34)، الجزء التاسع، كتاب التوحيد، باب ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين، صفحة 241.
[52] إسماعيل ابن كثير القرشي الدمشقي، المتوفى سنة 774 ﮪ، ولد بالبصرة سنة 700 ﮪ، ومنها انتقل إلى دمشق سنة 706 ﮪ، بعد وفاة والده، من أبرز علماء عصره وتميّز في التّفسير والتّاريخ.
[53]أبو الفداء: إسماعيل بن الخطيب أبي حفص عمر بن كثير، تفسير ابن كثير ، دار الفكر، بيروت، 1981م، الجزء الثالث، صفحة 41.
[54] محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري (321 هـ / 403 هـ ) هو محـمد بن عبد الله بن محمد بن حَمْدَوَيْه بن نُعَيْم بن الحكم , الإمام الحافظ , الناقد العلامة , شيخ المحدِّثين، أبو عبد الله بن البيع الضبي الطهماني النيسابوري , الشافعي , صاحب التصانيف. ولد بنيسابور وطلب هذا الشأن في صغره بعناية والده وخاله. وسمع من نحو ألفي شيخ، ينقصون أو يزيدون، وارتحل إلى العراق وهو ابن عشرين سنة وحدث عن أبيه وكان أبوه قد رأى مسلما صاحب "الصحيح" حدث عنه : الدارقطني وهو من شيوخه , وأبو الفتح بن أبي الفوارس , وأبو العلاء الواسطي , ومحمد بن أحمد بن يعقوب , وأبو ذَرِّ الهَرَوِيّ , وأبو يعلى الخليلي , وأبو بكر البيهقي وغيرهم . له من التصانيف ما لعله يبلغ قريبا من ألف جزء من تخريج "الصحيحين" , والعلل والتراجم والأبواب والشيوخ , ثم المجـموعات مثل "معرفة علوم الحديث" و "مستدرك الصحيحين" و"تاريخ النيسابوريين"، وكتاب "مزكي الأخبار"، و"المدخل إلى علم الصحيح"، وكتاب "الإكليل"، و"فضائل الشافعي"، وغير ذلك.
[55] أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري ، المستدرك على الصحيحين، تحقيق حمدي الدمرداش محمد، المكتبة العصرية، صيدا- بيروت، 2006م ، المجلد الرابع، كتاب التّفسير، صفحة 1221.
[56] صحيح البخاري، (مصدر سابق 34)، الجزء الأول، كتاب الصلاة، باب كيف فرضت الصّلاة في الإسراء، صفحة 157.
[57] صحيح مسلم، (مصدر سابق 29)، الجزء الثّاني، كتاب الجنّة وصفة نعيمها، باب عرض مقعد الميّت، صفحة 770.
[58] أبو بكر بن أبي شيبة، عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن عثمان بن خواستي العبسي (المتوفى : 235هـ)، الكتاب المصنف في الأحاديث والأثار، مكتبة الرّشد، الرّياض، 1409 هجرية، الجزء الثالث، صفحة 56، المكتبة لشاملة.
[59] إمام الأئمّة مالك بن أنس بن مالك بن عامر الأصبحي المدني (ت 179 هجرية)، الموطّأ، صحّحه ورقّمه وعلّق عليه، محمد فؤاد عبد الباقي، كتاب الشّعب 1969 م، كتاب وقوت الصلاة، باب النّوم عن الصّلاة، صفحة 34 ثم 35.
[60] التّعريس: نزول المسافر آخر الليل للنّوم والاستراحة، ولا يسمى نزول أول الليل تعريساً.
[61] الموطّأ ، (مصدر سابق 59)، صفحة 35 ثم 36.
[62] صحيح مسلم، (مصدر سابق 29)، الجزء الأول، كتاب الجنائز، باب في شخص بصر الميّت، صفحة 445.
[63] المستدرك للحاكم، (مصدر سابق 55)، المجلد الأول، كتاب الإيمان، صفحة 50.
[64] أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني (المتوفى : 241هـ)، مسند الإمام أحمد ابن حنبل ، مؤسسة الرسالة، بيروت، 2001م، جزء 2 ، صفحة 282، المكتبة الشاملة.
[65] أبو زيد عبد الله بن عبد الرحمن بن أحمد السُّهَيْلي نسبة إلى سهيل، قرية قرب مالقة، الخثعمي الأندلسي المالقي، الأعمى، صاحب التصانيف، المتوفى: بمراكش، سنة إحدى وثمانين وخمسمائة، كتاب (الروض الأنف)، بالفاء في شرح غريب السّير،ألفاظها وإعراب غمضها وكشف فستغلقها، في أربع مجلدات ذكر فيه أنه استخرجه من مائة وعشرين مصنفا، فأجاد فيه وأفاد.
[66] أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد السهيلي، تحقيق عمر عبد السلام السلامي الروض الأنف، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 2000م، الجزء الثالث، صفحتي: 96، 97.
[67] أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري القرطبي (المتوفى : 463هـ)، التمهيد لما في الموطأ من المعاني و الأسانيد ، وزارة عموم الأوقاف الإسلامية، المغرب، مطبعة فضالة، المحمدية، 1387 هجرية، الجزء 5، صفحة 243.
[68] تفسير القرآن العظيم مسندًا، (مصدر سابق 40)، الجزء 12، صفحة 154، نسخة إلكترونية، موقع ملتقى أهل الحديث، ahlalhdeeth.com
[69] أبو البركات؛ عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله بن الأنباري: (513-577 هجرية)
[70] الزجاج (241 – 311 هجرية )، إبراهيم بن السري بن سهل، أبو إسحاق الزجاج، عالم بالنحو واللغة.
[71] زين الدين محمد المدعو بعبد الرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري ، المتوفى 1031 هجرية، فيض القدير ، المكتبة التجارية الكبرى ، مصر ، 1356 هجرية ، الطبعة الأولى ، الجزء الثاني ، صفحة 422.المكتبة الشاملة.
[72] محمد بن أبي بكر بن أيّوب بن سعد شكس الدّين ابن قيّم الجوزية (المتوفّى 751 هجرية)، الرّوح في الكلام على أرواح الموتى والأحياء بالدّلائل من الكتاب والسّنة ، دار الكتب العلمية، بيروت، سنة 1975، صفحة 218.
[73] أورده مسلم في صحيحه والإمام أحمد في مسنده والدارمي في سننه وغيرهم.
[74] هو الإمام الحافظ العلامة محمد بن حبّان بن أحمد بن حبّان أبو حاتم التّميمي البُستي السّْجستاني، فهو عربي الأرومة، إلاّ أتّه أفغاني المولد.
[75] علاء الدّين علي بن بلبان الفارسي، صحيح ابن حبّان بترتيب ابن بلبان، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1997م، الجزء الثالث، كتاب الرّقائق، باب الأدعية، صفحة 278 .
[76] اللَّمَّة : هَمَّة وخَطْرَة في القلب.
[77] هي فيزياء الجسيمات أو الدقائق التي هي دون الذّرة، وكانت الانطلاقة الكبرى لهذه الفيزياء في الستّينات من القرن الماضي.
[78] لسان العرب، ،(مصدر سابق 1)، الجزء الرابع، صفحة 304، مادة ذرر .
[79] الدكتور مصطفى محمود، القرآن كائن حي، دار المعارف، القاهرة، 1993، صفحة 19 ثم 28.
[80] الخلية أصغر جزء في الكائنات النباتية والحيوانية لها حياة مستقلّة ووظيفة في الوسط الذي تنتمي إليه، ويحوي جسم الإنسان البالغ علي الترليونات (البليون) من الخلايا (000. 000 . 000. 000 73) منها حوالي مائتين نوع مختلف، حظيت الخلايا الجذعيةcellules mères في السّنين الأخيرة بأهمّية في البحوث لاستعمالها في توليد أعضاء بتقنية الإستنساخ أو كما يروّج اعلاميا امكانية خلق إنسان كامل في اعتقاد البعض.
[81] الحكيم ألإشراقي أبو الفتوح يحيى ابن حبش ابن أميرَك الملقّب بشهاب الدين السّهروردي المقتول، ولد بين سنوات 545 و 550 ھ في بلدة سهرورد في إقليم" الجبال" بالقرب من زنجان فيما يعرف بعراق العجم، درس الفقه والفلسفة المشائية في أسفاره العديدة في طلب العلم، وانتهى به المطاف بمدينة حلب في فترة الحروب الصّليبية أثناء حكم الملك الظاهر بن صلاح الدين الأيوبي حيث حوكم علي أفكاره ولقي مصرعه.
[82] السّهروردي الإشراقي، هياكل النّور، (تحقيق الدكتور محمد علي أبو ريان)، القاهرة، المكتبة التجارية الكبرى، الطّبعة الأولى 1957 م، صفحة 49.
[83] المستدرك للحاكم، (مصدر سابق 55)، الجزء الرابع، كتاب تواريخ المتقدّمين، صفحة 1575.
[84] أبو سعيد عبد الله بن عمر بن محمد الشيرازي البيضاوي، أنوار التّنزيل وأسرار التّأويل، المعروف بتفسير البيضاوي، بيروت، دار صادر، الجزء الرابع، صفحة 49.
[85] ضياء الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي (المتوفى: 643هـ)، الأحاديث المختارة أو المستخرج من الأحاديث المختارة مما لم يخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما، دار خضر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت – لبنان، الطّبعة الثّالثة، 2000 م، الجزء الخامس، صفحة 198.
[86] محمد منير أدلبي، أبناء آدم من الجن والشياطين، دار الأهالي للطباعة والنشر ، دمشق، 1993
[87] لسان العرب، ،(مصدر سابق 1)، الجزء العاشر، صفحة 85، مادة خلق.
[88] أبو محمد سهل بن عبد الله بن يونس بن رفيع التستري (المتوفى : 283هـ)، كان أحد أئمة الصوفية في عصره. له أقوال في تفسير بعض الآيات جمعها أبوبكر محمد البلدي في كتاب ونسبها إليه وعرف هذا الكتاب بتفسير التستري، حقّقه محمد باسل عيون السّود، نشرته دار الكتب العلمية ، بيروت، 1423 هجرية، الجزء الأول، صفحة 141، المكتبة الشاملة.
[89] تفسير القرطبي ،(مصدر سابق 2)، الجزء الخامس عشر، صفحة 60 .
[90] تاج العروس، (مصدر سابق 12)، المجلّد الخامس، صفحة 46، مادة شهد.
[91] صحيح البخاري، (مصدر سابق 34)، الجزء الرابع، كتاب بدء الخلق، باب وهو الذي يبدأ الخلق ثمّ يعيده، صفحة 221.
[92] صحيح البخاري، (مصدر سابق 34)، الجزء الرابع، كتاب بدء الخلق، باب وهو الذي يبدأ الخلق ثمّ يعيده، صفحة 222.
[93] صحيح ابن حبان، (مصدر سابق 75)، المجلد الرابع عشر، كتاب التّاريخ، باب بدء الخلق، صفحة 9.
[94] الملا علي القاري، (المتوفى 1014 هجرية)، حسب ما أورد اسماعيل العجلوني في "كشف الخفاء ومزيل الإلباس".
[95] شهاب الدّين محمود بن عبد الله الحسيني الألوسي (ت 1270 هجرية)، روح المعاني في تفسيرالقرآن العظيم والسّبع المثاني، دار الكتب العلمية، بيروت، الطّبعة الأولى، 1415 هجرية، الجزء الأول، صفحة 49، لمكتبة الشاملة.
[96] صحيح ابن حبّان، (مصدر سابق 75)، الجزء الرّابع عشر، كتاب التّاريخ، باب بدأ الخلق، صفحة 10.
[97] لسان العرب،، (مصدر سابق 1)، الجزء الخامس عشر، صفحة 370، مادة هوا.
[98] صحيح البخاري، (مصدر سابق 34)، الجزء الرابع، كتاب بدء الخلق، باب وهو الذي يبدأ الخلق ثمّ يعيده، صفحة 222.
[99] مسند الإمام أحمد، (مصدر سابق 64)، جزء 33، صفحة 108.
[100] المحدث محمد بن جعفر الكتاني:( 1274هـ / 1345 هـ ) محمد بن جعفر بن إدريس بن الطائع بن إدريس الكتاني الحسني الفاسي ثم الدمشقي، ولد بفاس من المغرب "ونشأ برعاية والده السيد جعفر الكتاني شيخ الجماعة ، وأخذ العلم وبخاصة الحديث وعلومه عن أكثر من واحد، أشهرهم الشيخ محمد المدني بن علي بن جلون، قد رحل المترجم رحلات واسعة في الشرق والغرب، والتقى كبار علماء عصره من محدثين وفقهاء، واستقر به المقام في دمشق سنوات طويلة، ودرَّس مسند الإمام أحمد بن حنبل في الجامع الأموي، واشتهر أمره في مشارق الأرض ومغاربها، في سنة (1345هـ) رجع إلى بلدته فاس، وافتتح تدريس المُسند فيها، وتوفي بعد ستة أشهرٍ في رمضان من نفس السنة تاركاً عشرات المؤلفات والكتب النافعة والمفيدة.
[101] أبو عبد الله محمد بن أبي الفيض جعفر بن ادريس الحسني الإدريسي الشهير بالكتّاني (ت 1345 هجرية)، نظم المتناثر في الحديث المتواتر، دار الكتب السّلفية، مصر، تحقيق شرف حجازي، صفحة 172، المكتبة الشّاملة.
[102] تفسير الطبري، (مصدر سابق 4)، المجلّد العاشر، الجزء السّابع عشر، صفحة 180.
[103] تفسير القرطبي، (مصدر سابق 2)، الجزء الرابع، صفحة 204
[104] صحيح ابن حبّان، (مصدر سابق 75)، الجزء الثّاني، كتاب البرّ والإحسان، باب ما جاء في الطّاعات، صفحة 77.
[105] تفسير الطّبريّ، (مصدر سابق 4)، المجلد الثامن، الجزء الثالث عشر، صفحة 94.
[106] لسان العرب، (مصدر سابق 1)، المجلّد السادس، صفحة 194، مادة كرس.
[107] صحيح البخاري، (مصدر سابق 34)، الجزء الرابع، كتاب الجهاد والسّير، باب درجات المجاهدين، صفحة 68.
[108] تفسير الطّبري، (مصدر سابق 4)، المجلد الخامس عشر، الجزء الثلاثون، صفحة 140.
[109] تفسير القرطبي، (مصدر سابق 2)، الجزء التاسع عشر، صفحة 296 .
[110] المستدرك، (مصدر سابق 55)، الجزء الرابع، كتاب التّفسير، صفحة، 1411.
[111] المستدرك على الصحيحين، (مصدر سابق 55)، الجزء الرابع، كتاب التفسير، صفحة 1385.
[112] الإمام زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (ض)، مسند الإمام زيد ، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان، 1339 هجرية، صفحة 365.
[113] هو عبد الرحيم بن الحسين بن عبد الرحمن بن أبي بكر بن إبراهيم الكردي الرازياني العراقي الأصل المصري المولد الشافعي المذهب، كنيته: أبو الفضل، ويلقّب بزين الدين. ( 725 ه‍ / 806 ﮪ )، من كتبه: المغني عن حمل الأسفار في الأسفار، في تخريج ما في الإحياء من الأخبار,
[114] المستدرك للحاكم، (مصدر سابق 55)، كتاب البرّ والصّلة، الجزء 7، صفحة 2599 .
[115] الإمام إسماعيل العجلوني الجرّاحي ( ت 1162 هجرية)، كشف الخفاء ومزيل الإلباس عمّا اشتهر من الأحاديث علي ألسنة النّاس ، دار إحياء التّراث العربي، بيروت، الطّبعة الثانية، 1351ھ، الجزء الأول، صفحة 302، (نسخة إلكترونية، المحدّث)
[116] أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)، المطالب العالية، دار العاصمة، دار الغيث، المملكة السّعودية، الطّبعة الأولى، 1419 هجرية، تحقيق رسالة علمية بإشراف سعيد بن ناصر الشثري، الجزء السابع عشر، صفحة 195، المكتبة الشاملة.
[117] صحيح البخاري، (مصدر سابق 32)، الجزء الرابع، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في سبع أراضين، صفحة 224.
[118] المستدرك، (مصدر سابق 55)، جزء الثامن، كتاب الأهوال، صفحة 3117.
[119] سيّد قطب، في ظلال القرآن، دار الشروق، بيروت - القاهرة، الطبعة الشرعية الثانية عشر، 1986م، المجلد الخامس، الجزء العشرون، صفحة 2729.
[120] الطّبري، جامع البيان، (مصدر سابق 4)، المجلد الحادي عشر، الجزء العشرون، صفحة 139.
[121] قَتَادَةُ بنُ النُّعْمَانِ بنِ زَيْدِ بنِ عَامِرٍ الأَنْصَارِيُّ (ض)، الأَمِيْرُ، المُجَاهِدُ، أَبُو عُمَرَ الأَنْصَارِيُّ، الظَّفَرِيُّ، البَدْرِيُّ. مِنْ نُجَبَاءِ الصَّحَابَةِ، وَهُوَ أَخُو أَبِي سَعِيْدٍ الخُدْرِيِّ لأُمِّهِ.
[122] تفسير الطّبري، (مصدر سابق 4)، المجلّد الخامس، الجزء السّابع، صفحة 239.
[123] لسان العرب، (مصدر سابق 1)، الجزء 12، صفحة 649، مادة يوم.
[124] تفسير الرّازي، (مصدر سابق 38)، المجلّد الثّالث، قوله تعالى" هي مواقيت للنّاس"، صفحة 130.
[125] تفسير البيضاوي، (مصدر سابق 84)، الجزء 2، صفحة 78.
[126] الإمام أبو عبد الله محمد بن عبد الله الأصبهاني، المعروف بالخطيب الإسكافي (420 هجرية)، درّة التّنزيل وغرّة التّأويل، تحقيق محمد مصطفى آيدين، جامعة أمّ القرى، المملكة السّعودية، 2001 م، صفحة 1135، المكتبة الشّاملة.
[127] تفسير الفخر الرازي، (مصدر سابق 38)،المجلّد الحادي عشر، قوله تعالى" واذ قلنا للملائكة اسجدوا"، صفحة 139.
[128] تفسير ابن كثير، (مصدر سابق 53)، المجلّد الأول، صفحة 70.
[129] تفسير الطبري، (مصدر سابق 4)، المجلّد العاشر، الجزء السابع عشر، صفحة 51 ثمّ 52.
[130] المستدرك، (مصدر سابق 55)، الجزء الرابع، كتاب التّفسير، صفحة 1380.
[131] أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي بن عبد الله بن موسى الخسروجردي البيهقي (384-458هـ) السنن الكبرى للبيهقي، المحقق محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، الطّبعة الثالثة، 2003 م، باب مبتدأ الخلق، الجزء التّاسع صفحة 4، م. الشّاملة.
[132] تفسير الطبري، (مصدر سابق 4)، المجلّد الأول، الجزء الأول، صفحة 194.
[133] الإمام الشّريف الرّضيّ، ضبط الإمام محمد عبده، نهج البلاغة، بيروت، مؤسّسة المعارف، 1996م، صفحات 87، 88، 89.
[134] الرّوية: الفكر، أجالها: أثارها وردَدَها وفي نسخة أحالها.
[135] هَمَامَة النفس ـ بفتح الهاء ـ: اهتمامها بالأمر وقصدها إليه.
[136] لأم: قرن.
[137] الإحناء: جمع حنو بالكسر وهو الجانب.
[138] السّكائك: جمع سكاكة بالضّم وهي الهواء الملاقي عنان السّماء.
[139] الزّخّار: الشّديد الزّخر أي الامتداد والارتفاع.
[140] الزّعزع: الريح التي تزعزع كل ثابت.
[141] اعتقم مهابّها: جعل هبوبها عقيماً، والريح العقيم التي لا تلقّح سحاباً ولا شجراً.
[142] مربّها بضم الميم: مصدر من أرَبَّ بالمكان، لازمه، فالمَرَبّ الملازمة.
[143] تصفيق الماء: تحريكه وتقليبه.
[144] السّاحي: السّاكن
[145] المائر: الذي يذهب ويجيء.
[146] المنفهق: المفتوح الواسع.
[147] المكفوف: الممنوع من السّيلان.
[148] الدّسار: واحد الدّسر وهو المسمار.
[149] الرقيم: اسم من أسماء الفلك.
[150] لسان العرب، (مصدر سابق 1)، المجلّد الأول، صفحة 347، مادة خرب.
[151] الشواش: ظهرت كلمة "الشواش" Chaos في عام 700 ق.م، وكان الشاعر اليوناني هسيود Hesíodo أول من أطلقها في قوله: "في البدء كان الشواش لا شيء سوى الخلاء والهيولى والفراغ غير المحدود". ويعرّف الشواش في المعاجم اللغوية على انه الاضطراب أو الاهتياج. أما المراجع العلمية فتعرّف الشواش على انه مرادف للعشوائيةRandomness غير المرغوبة.
[152] التّوراة السّامرية، (مصدر سابق 25)، الإصحاح الأوّل، 2.
[153] Anthropologie علم الإنسان، الذي يدرس كل الجوانب الاجتماعية والثقافية والتّكوينية والسلالة وغيرها للأفراد والجماعات، وينقسم لعدة مدارس.
[154] فراس السواح، مغامرة العقل الأولى، دراسة في الأسطورة سوريا وبلاد الرافدين، بيروت، دار الكلمة للنشر، 1982م، الطبعة الثالثة، صفحة 26و27.
[155] نفس المرجع، ويراد به الأكاديون السّاميون الذين سيطروا علي بلاد الرافدين بعد أن أقاموا مع السومريون ردحاً من الزّمن، والشّعوب السامية التي تلتهم كالكلدانيون والأشوريون .
[156] Georges Raynaud، LE POPOL VUH، Paris ، Editions ADRIEN-MAISONNEUVE، 1980 عنوان الكتاب حسب لغة المايا هو "كتاب الجماعة" في الأصل كان مرسوماً ومتداولاً شفوياً، حتى القرن السادس عشر ميلادي حيث قام أحد النسّاك بكتابته بلغة" كيشيه " quiché وبالحروف اللاتينية. وهو الأصل الذي تستعمله كل المحاولات التّفسيرية المتواجدة.
[157] Louis Jacot , Histoire critique de la pensé ,volume 1, Paris, La bataille des idées en religion, 2, cité Cardinal-Lemoine, Paris (5°) La pensée universelle 1970.
[158] دين الإنسان، (مصدر سابق 15 )، صفحة 20 ثمّ صفحة 390.
[159] Helena p. Blavatsky, La doctrina secreta, tercera edición, Buenos aires,1956, volumen 1,pagina 55.
[160] (1883 - 1818) Karl Marxفيلسوف ومنظر اجتماعي، يهودي الأصل وألماني الجنسية من المساهمين في نظرية الاشتراكية العلمية.
[161] Charles Darwin (1809-1882م) ، درس اللاهوت وتخصص في علم الأحياء، بريطاني الجنسية، من مؤسسي نظرية التطور أو النشوء والارتقاء.
[162] Friedrich Nietzsche (1844-1900م) ، عالم لغويات وعالم نقس ميّال للفلسفة، من أصل ألماني ، يعتبر ملهماً للمدارس الوجودية.
[163] Sigmund Freud (1856-1939م) ، طبيب يهودي نمساوي اهتمّ بالتحليل النفسي.
[164] Albert Einstein ، (1879/ 1955)، فيزيائي ألماني صاحب النظرية النسبية، من أصل يهودي ،فلسفته العقدية تتسم بالخصوصية ، الحائز علي جائزة نوبل سنة 1921م
[165] Herman Bondi (1919/ 2005) ، رياضي وفلكي بريطاني أسترالي عمل من سنة 1967 إلى 1971 مدير الوكالة الفضائية الأوروبية
[166] Edwin Hubble، (1889-1953م) ، فلكي أمريكي أثبت أنّ الكون في توسّع.
[167] يختلف التواتر للأمواج الصادرة عن منبع موجي ما، باختلاف شدة و سرعة هذا المصدر، فمثلا السيارة التي تقترب باتجاهك تكون ذات صوت عالي حاد (تواتر مرتفع) لكن نفس السيارة تصبح ذات صوت أجش (تواتر منخفض) بعد أن تجتازك و تبدأ الابتعاد عنك. فتواتر الأمواج الصوتية تختلف حسب فرق السرعة و الاتجاه بينك و بين المصدر، لأنه في حالة اقتراب المصدر منك (الراصد) يصله شيئا فشيئا مقدار أكبر من الأمواج فيرصد تواتر أعلى للأمواج لكن حينما يبتعد المصدر يبدأ الراصد يتلقى أمواجا أقل فأقل (التواتر ينخفض) .
[168] Arno Penzias، ألماني من مواليد 1933م بميونيخ، حائز علي جائزة نوبل في الفيزياء سنة 1978م.
[169] Robert Woodrow Wilson، أمريكي من مواليد 1936م بولاية كاليفورنيا، شارك زميله في جائزة نوبل سنة 1978م.
[170] Weinberg Steven، من مواليد سنة 1933م، بمدينة نيويورك، بدأ اهتمامه بالفيزياء النّظرية في حداثة سنّه، حاز شهادة الدكتورة في سنة 1957م، باحث ومتخصص في فيزياء الدّقائق أو الجسيمات، حائز علي جائزة نوبل في الفيزياء سنة 1979م.
[171] ستيفن وينبرُغ، الدّقائق الثّلاث الأولى من عمر الكون، ترجمة محمد وائل الأتاسي، دمشق، الدار المتحدة للطباعة والنّشر،1990م.
[172] الدقائق الثلاث الأولى من عمر الكون، المرجع السابق ، صفحة 133.
[173] لسان العرب، (مصدر سابق 1)، المجلّد الحادي عشر، مادة مثل، صفحة 611.
[174] أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن تمام بن عطية الأندلسي المحاربي (المتوفى: 542هـ)، المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، المحقق: عبد السلام عبد الشافي محمد الناشر: دار الكتب العلمية – بيروت الطبعة: الأولى - 1422 هـ الجزء 2 صفحة 344، المكتبة الشاملة
[175] القِدحَة: اسمٌ مشتقّ من الإقتداح بالزّند.
[176] محمد سيد الطنطاوي ، التفسير الوسيط للقرآن الكريم ، دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع ، القاهرة ، الطبعة الأولى ، 1997-1998م، الجزء 8، صفحة 65 .
176 تفسير البيضاوي، (مصدر سابق 84)، الجزء الرابع، صفحة 12.
[178] تفسير البيضاوي، (مصدر سابق 84)، الجزء الثالث، صفحة 29.
[179] أحمد مصطفى المراغي، تفسير المراغي ، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1365 هجرية، الجزء الحادي والعشرون، صفحة 37.
[180] تفسير الرازي، (مصدر سابق 38)، المجلد 7، قوله تعالى" ولقد خلقناكم ثمّ صوّرناكم"، صفحة 32 و33.
108 علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب بن صالح بن خلف بن معدان بن سفيان بن يزيد الأندلسي القرطبي، المتوفّى 456 هجرية، الإحكام في أصول الأحكام، تحقيق أحمد محمد شاكر، دار الآفاق الجديدة، بيروت، الجزء 5، صفحة 111، المكتبة الشّملة.
[182] المستدرك، (مصدر سابق 55)، الجزء الرابع، كتاب التّفسير، صفحة 1339.
[183] صحيح ابن حبّان، (مصدر سابق 75)، المجلّد 14، كتاب التّاريخ، باب بدء الخلق، صفحة 43.
[184]أبو بكر محمد بن الحسين بن عبد الله الآجُرِّيُّ البغدادي (المتوفى 360 هجرية)، الشريعة، دار الوطن، الرياض ، الطبعة الثانية، 1999 م، الجزء الثالث، صفحة 1419 و 1420، المكتبة الشّاملة.
[185] تفسير القرطبي، (مصدر سابق 2)، الجزء السادس، صفحة 387 .
[186] تفسير الطّبري، (مصدر سابق 4)، المجلد السادس، الجزء التّاسع، صفحة 114.
[187] عَلْقَمَةُ بنُ قَيْسِ بنِ عَبْدِ اللهِ، أَبُو شِبْلٍ النَّخَعِيُّ، فقِيْهُ الكُوْفَةِ، وَعَالِمُهَا، وَمُقْرِئُهَا، الإِمَامُ، الحَافِظُ، المُجَوِّدُ، المُجْتَهِدُ الكَبِيْرُ، ولِد فِي أَيَّامِ الرِّسَالَة المُحَمَّدِيَّةِ، وَعِدَادُهُ فِي المُخَضْرَمِيْنَ، (سِيَرُ أَعْلاَمِ النُّبَلاَءِ، للإمام الذَّهبي)
[188] تشعّبت قبائل مُضَر إلى شعبتين عظيمتين: بطون قَيْس عَيْلان الناس بن مُضَر، وبطون إلياس بن مُضَر ومنهم رسول الله صلّى الله عليه وسلَّم ويسمّيهما البعض بطون خِنْدِف نسبة إلى أمّه، هي لَيْلَى بِنْتُ حُلْوانَ بنِ عِمْرانَ.
[189] صحيح البخاري، (مصدر سابق 34)، الجزء الثامن، كتاب الرّقاق، باب صفة الجنّة والنّار، صفحة 206.
[190] الرّوح لأبن قيّم الجوزية، (مصدر سابق 72)، صفحة 144.
[191] صحيح مسلم، (مصدر سابق 29 )، الجزء الثّاني، باب أحاديث متفرّقة، كتاب الزّهد، صفحة 826. «خُلِقَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ، وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ»
[192] تفسير الطّبريّ، (مصدر سابق 4)، المجلّد الثّالث عشر، الجزء الخامس والعشرون، صفحة 90.
[193] ينسب لعبد الله بن عباس - (المتوفى : 68هـ)، جمعه محمد بن يعقوب الفيروزآبادى (المتوفى : سنة 817 هـ)، تنوير المقباس من تفسير ابن عباس ، دار الكتب العلمية، لبنان، صفحة 415، موقع التفاسير، www.altafsir.com
[194] صحيح مسلم، (مصدر سابق 29 )، الجزء الثاني، كتاب السّلام، باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان، صفحة 475.
[195] أبو يعلى أحمد بن علي بن المثُنى بن يحيى بن عيسى بن هلال التميمي، الموصلي (المتوفى : 307هـ)، مسند أبي يعلى الموصلي، دار المأمون للتراث ، دمشق ، الطبعة الأولى 1984م ،الجزء 11، صفحة 454، موقع جامع الحديث.
[196] تفسير الرازي، مفاتيح الغيب، (مصدر سابق 38)، المجلّد الأوّل، قوله تعالى" وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم"، صفحة 230.
[197] المستدرك، (مصدر سابق 55)، الجزء الأول، كتاب الإيمان، صفحة 49.
[198] المستدرك، (مصدر سابق 55)، الجزء الأول، كتاب الإيمان، صفحة 93.
[199] تفسير الطبري، (مصدر سابق 4)، المجلّد العاشر، الجزء الثامن عشر، صفحة 8.
[200] المستدرك على الصحيحين، (مصدر سابق 55)، الجزء السابع، كتاب البرّ والصّلة، الصفحة 2619.
[201] تفسير الطبري، (مصدر سابق 4)، المجلّد السادس، الجزء التاسع، صفحة 139.
[202] تفسير الطبري، (مصدر سابق 4)، المجلّد الأول، الجزء الأول، الصفحة 240.
[203] مسند الإمام أحمد، (مصدر سابق 64)، الجزء الخامس والثلاثون، صفحة 437.
[204] أبو سعيد بن الأعرابي أحمد بن محمد بن زياد بن بشر بن درهم البصري الصوفي (المتوفى: 340هـ)، معجم ابن الأعرابي ، تحقيق وتخريج: عبد المحسن بن إبراهيم بن أحمد الحسيني، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السّعودية، الطّبعة الأولى، 1997م، الجزء الثالث، صفحة 909، المكتبة الشاملة .
[205] صحيح مسلم، (مصدر سابق 29 )، الجزء الأول، كتاب المساجد ومواضع الصّلاة، باب جواز لعن الشّيطان، صفحة 264.
[206] صحيح مسلم، (مصدر سابق 29 )، الجزء الأول، كتاب المساجد ومواضع الصّلاة، باب جواز لعن الشّيطان، صفحة 263.
[207] أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم بن مخلد بن إبراهيم الحنظلي المروزي المعروف بـ ابن راهويه (المتوفى: 238هـ)، مسند إسحاق بن راهويه ، المحقق: د. عبد الغفور بن عبد الحق البلوشي، مكتبة الإيمان، المدينة المنوّرة، الطّبعة الأولى، 1991م، الجزء الثالث، صفحة 814، المكتبة الشاملة .
[208] صحيح البخاري، (مصدر سابق 34)، الجزء الثامن، كتاب الاستئذان، باب بدء السّلام، صفحة 91.
[209] مصنّف ابن أبي شيبة، (مصدر سابق 58)، الجزء السابع، كتاب التاريخ، الصفحة 17.
[210] التّوراة السّامرية، (مصدر سابق 25 )، صفحة 42.
[211] ترجمة عربية من موقع الكتب المقدّسة قارنتها مع نسخة إسبانية كلاهما من الأصل الإنجليزي:
The Book of Enoch Translated from the Ethiopian by R.H. Charles,1906. English E-text edition scanned by Joshua Williams, Northwest Nazarene College,1995. Edited by Wolf Carnahan,1997
[212] صحيح ابن حبّان، (مصدر سابق 75)، الجزء الثّاني، كتاب البرّ والإحسان، باب ما جاء في الطّاعات، صفحة 77.
[213] عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (م. 911 هجرية)، الأشباه والنّظائر، دار الكتب العلمية، 1990م، صفحة 257، المكتبة الشاملة
[214] د. فالح شبيب العجمي، صحف ابراهيم، جذور البراهيمية من خلال نصوص الفيدا، الدار العربية للموسوعات، بيروت، 2006 م.
[215] تفسير البيضاوي، (مصدر سابق 84)، الجزء 5، الصفحة 67.
[216] تفسير القرطبي، (مصدر سابق 2)، الجزء السّادس عشر، الصفحة 154.
[217] تفسير الفخر الرّازي، (مصدر سابق 38)، المجلّد الثّاني عشر، قوله تعالى" وإذا ألقوا فيها مكانا"، صفحة 56 .
[218] الروح لأبن القيّم، (مصدر سابق 72)، صفحة 34.
[219] تفسير الطبري ، (مصدر سابق 4) ، المجلّد الخامس، الجزء السابع، الصفحة 287 ثمّ 288 .
[220] أن يخرج وجهي تعبير يراد به قبل أن تنبت لحيته.
[221] صحيح البخاري، (مصدر سابق 34)، الجزء الخامس، كتاب أصحاب النّبي صلّ الله عليه وسلّم، صفحة 70.
[222] أبو المغيث الحسين بن منصور الحلاّج البيضاوي البغدادي (309 هجرية)، كتاب الطّواسين، تحقيق وتعليق لويس ماسنيون Louis Massignon، المكتبة الشّرقية بول جوتنر Librairie Paul Geuthner، باريس، 1913، طاسين السّراج، صفحة 9.
[223] تفسير الطّبري، (مصدر سابق 4)، المجلّد الثالث عشر، الجزء السادس والعشرون، صفحة 44.
[224] تفسير الطّبري، (مصدر سابق 4)، المجلّد الثّالث عشر، الجزء السابع والعشرون، صفحة 48.
[225] نهج البلاغة، (مصدر سابق 132)، صفحة 294.
[226] الرويّة: التفكّر.
[227] الهمّة: الاهتمام بالأمر بحيث لو لم يفعل لجرّ نقصاً وأوجب هماً.
[228] تعنو: تذل .
[229] وَجَبَ القلب يجب وَجِيباً وَوَجَباناً: خفق واضطرب.
[230] العلامة السّيد محمد حسين الطّباطبائي (1321-1402 هجرية)، تفسير الميزان، نسخة إلكترونية، موقع الكوثر، الجزء 8، صفحة 146.
[231] لسان العرب ، (مصدر سابق 1)، الجزء 15 ، صفحة 278 ، مادة مرا ، فَمَنْ قرأَ أَفَتُمارُونَهُ فَمَعْنَاهُ أَفتجادلونه فِي أَنه رأَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بِقَلْبِهِ وأَنه رأَى الكُبْرى مِنْ آيَاتِهِ، قَالَ الْفَرَّاءُ: وَهِيَ قِرَاءَةُ الْعَوَّامِ، وَمَنْ قرأَ أَفتَمرونه فَمَعْنَاهُ أَفتجحدونه، وَقَالَ الْمُبَرِّدُ فِي قَوْلِهِ أَفَتَمْرُونه عَلَى مَا يَرَى، أَي تَدْفَعُونَهُ عَمَّا يَرَى .
[232] صحيح البخاري، (مصدر سابق 34)، الجزء الثاني، كتاب الآذان، باب فضل السجود، صفحة 2.
[233] تفسير الطّبري، (مصدر سابق 4)، المجلّد الأول، الجزء الأول، صفحة 456.
[234] صحيح مسلم، (مصدر سابق 29)، الجزء الثّاني، كتاب البرّ، باب تحريم الظّلم، صفحة 634.
[235] سبق في فقرة خلق يتلوه خلق.
[236] صحيح البخاري، (مصدر سابق 34)، الجزء الرّابع، كتاب الجهاد والسّير، باب تمنّي المجاهد أن يرجع إلى الدّنيا، صفحة 78.
[237] الشّيخ عبد القادر الجيلاني، السّفينة القادرية، مؤسّسة الكتب الثقافية، بيروت، الطّبعة الأولى، 1993م، صفحة 150.
[238] لسان العرب، (مصدر سابق 1)، المجلّد الثالث عشر، صفحة 317، مادة فتن، و المجلّد الرابع عشر، صفحة 83، مادة بلا.
[239] صحيح ابن حبّان، (مصدر سابق 75)، الجزء السّابع، كتاب الجنائز، باب ما جاء في الصّبر، صفحة 161.
[240] صحيح مسلم، (مصدر سابق 29)، الجزء الثّاني، كتاب القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة، صفحة 672.
[241] سليمان بن أحمد بن أيّوب بن مطير اللّخمي الشّامي، أبو القاسم الطّبراني (ت. 360 هجرية)، المعجم الأوسط، دار الحرمين، القاهرة، 1415 هجرية، الجزء 8، صفحة 57، م. الشّاملة.
[242] شعب الإيمان للبيهقي، (مصدر سابق 35)، الجزء السّادس، صفحة 375.
[243] السنة الضوئية هي المسافة التي يقطعها الضوء في سنة حسب العد على الأرض، فسرعة الضوء 299.792,458 كلومتر في الثانية، السنة تتكون من 365,25 يوم، بالحساب تكون النتيجة ما يقرب من تسعة بلايين ونصف كيلومتر .
[244] محيي الدين ابن عربي، شجرة الكون، تحقيق رياض العبد الله، الطبعة الثانية، دار القلم، بيروت، 1985م، صفحة 42.
[245] صحيح ابن حبّان، (مصدر سابق 75)، الجزء السّادس عشر ، كتاب التّاريخ، باب وصف الجنّة، صفحة 403 .
[246] محمد بن عيسى بن سَوْرة بن موسى بن الضحاك، الترمذي، أبو عيسى (المتوفى: 279هـ)، الجامع الكبير - سنن الترمذي ، تحقيق بشّارعواد معروف، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1998 م، الجزء 4، صفحة 291، المكتبة الشاملة .
[247] تفسير القرطبي، (مصدر سابق 2)، الجزء الثّامن عشر، صفحة 304 .
[248] صحيح مسلم، (مصدر سابق 29)، جزء 2، كتاب الجنّة وصفة، باب ما في الدّنيا من أنهار الجنّة، صفحة 759.
[249] صحيح البخاري، (مصدر سابق 34)، الجزء الثاني، كتاب فضل الصّلاة في مكّة والمدينة، باب فضل ما بين القبر والمنبر، صفحة 137.
[250] تفسير الطّبري، (مصدر سابق 4)، المجلّد الثالث عشر، الجزء الخامس والعشرون، صفحة 148.
[251] تفسير الطبري، (مصدر سابق 4)، المجلّد الخامس، الجزء السابع، صفحة 147.
[252] صحيح البخاري، (مصدر سابق 32)، الجزء السّابع، كتاب الأشربة، باب ما جاء في شرب اللبن، صفحة 198.
[253] أبو بكر بن أبي شيبة ( المتوفى 235 هجرية)، مسند ابن أبي شيبة، الطّبعة الأولى، دار الوطن، الرياض، 1997 م، الجزء الثّاني، صفحة 218، المكتبة الشاملة.
[254] أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله المعروف بابن عساكر (المتوفّى 571 هجرية)، معجم الشّيوخ، دار البشائر، دمشق، 2000 م، الجزء الأول، صفحة 136، المكتبة الشاملة.
[255] صحيح البخاري، (مصدر سابق 34)، الجزء الثاني، كتاب الجنائز، باب زيارة القبور، صفحة 174.
[256] صحيح البخاري، (مصدر سابق 34)، الجزء الثاني، كتاب الجنائز، باب ما قيل في أولاد المشركين، صفحة 208.
[257] صحيح ابن حبّان، (مصدر سابق 75)، الجزء السّابع، كتاب الجنائز، باب ما جاء في الصّبر، صفحة 385 .
[258] صحيح البخاري، (مصدر سابق 34)، الجزء الثاني، كتاب الجنائز، باب عذاب القبر من الغيبة والبَولِ، صفحة 206.
[259] صحيح البخاري، (مصدر سابق 34)، الجزء الثاني، باب التعوّذ من عذاب القبر، صفحة 206.
[260] صحيح البخاري، (مصدر سابق 34)، الجزء الثاني، كتاب الجنائز، باب ما جاء في عذاب القبر، صفحة 205.
[261] أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطّوسي (المتوفّى 505 هجرية)، إحياء علوم الدّين، دار الفكر، الطّبعة الثّانية، 1980م، المجلّد السادس، الجزء السّادس عشر، صفحة 6+7.
[262] تفسير الطّبري، (مصدر سابق 4)، المجلّد التّاسع، الجزء الخامس عشر، صفحة 16.
[263] مسند أبي يعلى الموصلي، (مصدر سابق 195)، جزء 11، صفحة 521.
[264] صحيح مسلم، (مصدر سابق 29 )، الجزء الأوّل، كتاب الجنائز، باب النّهي عن الجلوس على القبر، صفحة 469.
[265] صحيح البخاري، (مصدر سابق 34)، الجزء الرابع، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في الجنّة وهي مخلوقة، صفحة 240.
[266] صحيح البخاري، (مصدر سابق 34)، الجزء الثاني، باب التّعوذ من عذاب القبر، صفحة 206.
[267] صحيح مسلم، (مصدر سابق 29)، الجزء الثّاني، كتاب الزّهد والرقائق، صفحة 812.
[268] صحيح مسلم، (مصدر سابق 29)، الجزء الثّاني ، كتاب الفتن، باب قرب السّاعة، صفحة 811.
[269] سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطير اللخمي الشامي، أبو القاسم الطبراني (المتوفى: 360هـ)، المعجم الكبير، تحقيق حمدي بن عبد المجيد السلفي، مكتبة ابن تيمية، القاهرة، الطبعة الثانية، الجزء 11، صفحة 379 ، المكتبة الشاملة.
[270] تفسير البيضاوي، (مصدر سابق 84)، الجزء الرّابع، صفحة 89.
[271] تفسير الطّبريّ، (مصدر سابق 4)، المجلّد العاشر، الجزء السابع عشر، صفحة 110.
[272] أحمد بن الحسين بن علي بن موسى الخُسْرَوْجِردي الخراساني، أبو بكر البيهقي (المتوفى: 458هـ)، البعث والنّشور ، تحقيق الشّيخ عامر أحمد حيدر، مركز الخدمات والأبحاث الثّقافية، بيروت، الطّبعة الأولى، 1986م، الجزء الأول، صفحة 336.
[273] تفسير ابن كثير، (مصدر سابق 53)، جزء 20، صفحة 529.
[274] صحيح ابن حبّان، (مصدر سابق 75)، الجزء السادس عشر، كتاب إخباره (ص) عن مناقب الصّحابة، باب ذكر إخباره عن البعث، صفحة 303 .
[275] أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)، فتح الباري، دار الفكر، موقع مكتبة المدينة الرقمية، الجزء 11، صفحة 370.
[276] صحيح البخاري، (مصدر سابق 34)، الجزء الرابع، كتاب بدء الخلق، باب صفة الشّمس والقمر بحسبان، صفحة 226.
[277] صحيح البخاري، (مصدر سابق 34)، الجزء السادس، كتاب تفسير القرآن، باب ونفخ في الصّور، صفحة 226.
[278] فتح الباري لأبن حجر، (مصدر سابق 267)، الجزء 6، صفحة 446.
[279] المعجم الكبير للطّبراني، (مصدر سابق 261)، جزء 3، صفحة 172.
[280] صحيح البخاري، (مصدر سابق 34)، الجزء الثامن، كتاب الرّقاق، باب يقبض الله الأرض يوم القيامة، صفحة 195.
[281] مسند الإمام أحمد، (مصدر سابق 64)، جزء 35، صفحة 403، المكتبة الشاملة.
[282] أ. د. حكمت بن بشير بن ياسين، موسوعة الصحيح المسبور من التفسير بالمأثور، دار المآثر للنشر والتوزيع والطباعة- المدينة النبوية، الطبعة: الأولى، 1420 هـ - 1999 م، الجزء 2، صفحة 237.
[283] صحيح مسلم، (مصدر سابق 29)، الجزء الثّاني ، كتاب الجنّة وصفة، باب في صفة يوم القيامة، صفحة 767.
[284] سنن الترمذي، مرجع 237، جزء 5، صفحة 387 .
[285] أبو داود سليمان بن داود بن الجارود الطيالسي البصرى (المتوفى: 204هـ)، مسند أبي داوود الطّيالسي ، تحقيق: الدكتور محمد بن عبد المحسن التركي، دار هجر، مصر، الطبعة الأولى، 1999م، جزء 4، صفحة 293، المكتبة الشاملة.
[286] صحيح البخاري، (مصدر سابق 34)، الجزء السادس، كتاب تفسير القرآن، باب ذرّية من حملنا مع نوح، صفحة 157 .
[287] المستدرك، (مصدر سابق 55)، الجزء الثّامن، كتاب الأهوال، صفحة 3117..
[288] صحيح البخاري، (مصدر سابق 34)، الجزء الثّامن، كتاب الرّقاق، باب من نوقش الحساب عذّب، صفحة 200 .
[289] صحيح مسلم، (مصدر سابق 29)، الجزء الثّاني، كتاب صفة القيامة، باب في البعث والنّشور، صفحة 738.
[290] كتاب الإيمان للبيهقي، مرجع 26، الجزء الأول، صفحة 441.
[291] لسان العرب، (مصدر سابق 1)، الجزء الثالث، صفحة 164، مادة خلد.
[292] نفس المرجع، صفحة 68.
[293] صحيح البخاري، (مصدر سابق 34)، الجزء الأوّل، كتاب الإيمان، باب كفران العشير، صفحة 24.
[294] أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة بن المغيرة بن صالح بن بكر السلمي النيسابوري (المتوفى: 311هـ)، صحيح ابن خزيمة، تحقيق مصطفى الأعظمي، المكتب الإسلامي، بيروت، المكتبة الشّاملة.
[295] تفسير الرّازي، (مصدر سابق 38)، المجلّد الثّاني، قوله تعالى" فأزلّهما الشّيطان عنها"، صفحة 7.
[296] أبو جعفر الطّحاوي الحنفي المتوفّى 321 هجرية، متن العقيدة الطّحاوية، دار ابن حزم، الطّبعة الأولى، 1995م، بيروت، لبنان، صفحة 22.
[297] تفسير الطّبري، (مصدر سابق 4)، المجلّد الأوّل، الجزء الأوّل، صفحة 385.
[298] صحيح ابن حبان، (مصدر سابق )، الجزء الثالث عشر، كتاب الحظر والإباحة، باب ما يكره من الكلام، صفحة 29.
[299] تفسير القرطبي، (مصدر سابق 2)، الجزء العاشر، صفحة 58.
[300] مسند الإمام أحمد، (مصدر سابق 64)، الجزء الحادي عشر، صفحة 354، المكتبة الشّاملة.
[301] كاتبة فرنسية من أصل يهودي بدأت ماركسية شيوعية كمناضلة يسارية، ثمّ اعتنقت المسيحية الكاثوليكية بعد ذلك دون كبير قناعة، يمكن اعتبار تجربتها الروحية شخصية وخاصة رغم تأثّرها بهوميروس وأفلاطون والفلسفات الشّرقية.
[302] ديباك شيبرا، معرفة الله ، العنوان الأصلي How to Know God ، الطّبعة الثالثة، سنة 200 م، الترجمة الإسبانية، صفحة 7.
[303] مصنف ابن أبي شيبة، (مصدر سابق 58)، الجزء السادس، صفحة 170.
[304] تفسير الطّبري، (مصدر سابق 4)، المجلّد الرّابع، الجزء السّادس، صفحة 108.
[305] أبو الحسن علي بن إسماعيل بن إسحاق بن سالم بن إسماعيل بن عبد الله بن موسى بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري (المتوفى: 324هـ)، مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين ، المحقق محمد محيي الدّين عبد الحميد، مكتبة النّهضة المصرية، القاهرة، الطّبعة الأولى، 1950م، الجزء الأول، الصّفحة 216.
[306] الشّيخ محمد أبو زهرة (1898- 1974م)، العقيدة الإسلامية كما جاء بها القرآن الكريم ، مجمع البحوث الإسلامية، مطبعة الأزهر، صفحة 26.
[307] صحيح البخاري، (مصدر سابق 34)، الجزء الثّامن، كتاب الّقاق، باب الصّراط جسر جهنّم، صفحة 210.
[308] أبو نصر عبد الله بن علي السّراج الطّوسي، اللُّمع في التّصوّف ، تحقيق رونلد الّن نيكلسون، مطبعة بريل الشّرقية، مدينة ليدن، لندن، 1914، صفحة 35.
[309] كتاب الطّواسين، (مصدر سابق 221 )، صفحة 70 إلى 74.
[310] المستدرك، (مصدر سابق 55)، الجزء الأول، كتاب العلم، صفحة 164.
[311] تفسير الطّبري، (مصدر سابق 4)، المجلّد التّاسع، الجزء السّادس عشر، صفحة 220.
[312] الصّيدلي وجدي حسن سري، السّبع اللآلئ القرآنية، مطبعة منشورات كوثر، المملكة المغربية، 1992 م.
[313] مسند الإمام أحمد، (مصدر سابق 64)، الجزء 28، صفحة 168، المكتبة الشاملة.
[314] صحيح البخاري، (مصدر سابق 34)، الجزء الأول، كتاب الإيمان، باب قوله صلّى الله عليه وسلّم ـ أنا أعلمكم بالله، صفحة 20 .
[315] أبو العباس أحمد بن محمد بن المهدي بن عجيبة الحسني الأنجري الفاسي الصوفي (المتوفى: 1224هـ)، البحر المديد في تفسير القرآن المجيد، المحقق: أحمد عبد الله القرشي رسلان، الناشر: الدكتور حسن عباس زكي – القاهرة، 1719 هجرية، الجزء الأول، صفحة 227، المكتبة الشاملة .
[316] تعبير عن حالة يشتدّ فيها الوجد والعشق والسّكر عند الصّوفي، فلا يرى غير الله، ولا يبقى له إلا الله.
[317] يراد به سقوط الأوصاف المذمومة عن السّالك أو المريد الصّادق.
[318] صحيح البخاري، (مصدر سابق 34)، الجزء الثامن، كتاب الرقاق، باب التّواضع، صفحة 188.
[319] صحيح البخاري، (مصدر سابق 34)، الجزء التّاسع، كتاب التّوحيد، باب ما جاء في قول الله تعالى ولقد يسّرنا القرآن للذّكر، صفحة 284.
[320] صحيح البخاري، (مصدر سابق 34)، الجزء الثامن، كتاب الحدود، باب إثم الزناة، صفحة 293.
[321] لسان العرب: (مصدر سابق 1)، المجلّد الخامس، صفحة 144، مادة كفر.
[322] تفسير الطّبري، (مصدر سابق 4)، المجلّد الأوّل، الجزء الأوّل، صفحة 129.
[323] صحيح ابن حبّان، (مصدر سابق 75)، الجزء الرّابع، كتاب الصّلاة، الوعيد على ترك الصّلاة، صفحة 305.
[324] تفسير الطّبري، (مصدر سابق 4)، المجلّد الخامس عشر، الجزء الثّلاثون، صفحة 98.
[325] صحيح ابن حبّان، (مصدر سابق 75)، الجزء الثّالث، كتاب الرّقائق، باب الأدعية، صفحة 210.
[326] صحيح البخاري، (مصدر سابق 34)، الجزء الثّامن، كتاب الأدب، باب من كفّر أخاه، صفحة 48.
[327] أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (ت 852 هجرية)، الإصابة في تمييز الصّحابة، دار الكتب العلمية، بيروت، الطّبعة الأولى، 1415 هجرية، الجزء الأول، صفحة 158. المكتبة الشّاملة.
[328] تفسير القرطبي، (مصدر سابق 2)، الجزء الثّامن، صفحة، 241.
[329] صحيح البخاري، (مصدر سابق 34)، الجزء الرّابع، كتاب الجهاد والسّير، باب فضل الجهاد والسّير، صفحة 66.
[330] مسند الطّيالسي البصري (مصدر سابق 279)، الجزء الأول، صفحة 494، م. الشّاملة.
[331] أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشّيباني (ت 241 هجرية)، فضائل الصّحابة، مؤسّسة الرسالة، بيروت، الطّبعة الأولى، 1983 م، الجزء الثّاني، صفحة 648، المكتبة الشّاملة.
[332] صحيح البخاري، (مصدر سابق 34)، الجزء الثّامن، كتاب الرّقاق، باب في الحوض، صفحة 216.
[333] موطأ مالك، (مصدر سابق 59)، كتاب الجهاد، باب الشهداء في سبيل الله، صفحة 286.
[334] محمد بن أبي بكر بن أيّوب بن سعد شمس الدّين ابن قيّم الجوزية ( ت 751 هجرية)، جلاء الأفهام في فضل الصّلاة على محمد خير الأنام، دار العروبة، الكويت، الطّبعة الثّنية، 1987 م، صفحة 210، المكتبة الشّاملة.
[335] أورد مالك في الموطّأ عن عمرو بن سليم الزُّرقِيِّ: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ. وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ. إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ».
[336] المستدرك على الصّحيحين، (مصدر سابق 55)، الجزء الرّابع، كتاب التّفسير، صفحة 1335.
[337] تفسير البيضاوي، (مصدر سابق 84)، الجزء الخامس، صفحة 53.
[338] تفسير البيضاوي، (مصدر سابق 84)، المجلّد الأوّل، الجزء الأوّل، صفحة 206.
[339] أبو الفتح محمد بن عبد الكريم بن أبي بكر أحمد الشّهرستاني ( ت 548 هجرية)، الملل والنّحل، مؤسسة الحلبي، الجزء الأول، صفحة 19.
[340] نهج البلاغة، (مصدر سابق 132)، صفحة 268 و صفحة 269.
[341] المراوحة: أن يعمل هذا مرّة وهذا مرّة.
[342] مادوا: اضطربوا وارتعدوا.
[343] المستدرك على الصّحيحين، (مصدر سابق 55)، الجزء الرّابع، كتاب تواريخ المتقدّمين، صفحة 1569 و1570.
[344] تفسير البيضاوي، (مصدر سابق 84)، المجلّد الثّاني، الجزء الرّابع، صفحة 182.
[345] مصنّف ابن أبي شيبة، (مصدر سابق 58)، الجزء السّادس، باب في التمسك بالقرآن، صفحة 125، المكتبة الشاملة.
[346] صحيح ابن حبّان، (مصدر سابق 75)، كتاب الرقي والتّمائم، ذكر الزّجر عن تعليق التّمائم، صفحة 450.
[347] الودع: صدف من صدف البحر.
[348] المستدرك على الصحيحين، (مصدر سابق 55)، الجزء الرّابع، كتاب التّفسير، صفحة 1387.
[349] يقال ظعن يظعن إذا سار.
[350] فيزيائي بريطاني من مواليد 29 ماي سنة 1929 م، صاغ سنة 1964 نشأة الكتلة في الجسيمات الأوّلية عموما والبوسونات w و z خصوصا، والتجارب جارية على إثباتها مع ظهور مؤشّرات من حين لآخر على صدقيتها.
[351] فيض القدير، (مصدر سابق 71)، الجزء الخامس، صفحة 56.
[352] لسان العرب، (مصدر سابق 1)، المجلّد الرّابع عشر، صفحة 214، مادة حيا.
[353] تفسير الطّبري، (مصدر سابق 4)، المجلّد الثّالث عشر، الجزء الخامس والعشرون، صفحة 73.
[354] تفسير الرّازي، (مصدر سابق 38)، المجلّد الثّالث عشر، قوله تعالى "فاهدوهم إلى صراط الجحيم"، صفحة 132.
[355] لسان العرب، (مصدر سابق 1)، المجلّد السّابع، صفحة 224، مادة قيض.
[356] صحيح البخاري، (مصدر سابق 34)، الجزء الثّالث، كتاب الاعتكاف، باب زيارة المرأة زوجها، صفحة 107.
[357] تفسير الطّبري، (مصدر سابق 4)، المجلّد الثاني عشر، الجزء الثاني والعشرون، صفحة 135.
[358] صحيح البخاري، (مصدر سابق 34)، الجزء الرّابع، كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، صفحة 250.
[359] أبو عبد الرحمن السّلميّ (412 هجرية)، طبقات الصّوفية ، تحقيق نور الدّين شريبة، مكتبة الخابخي بالقاهرة، القاهرة، 1953 م.
[360] الشّيخ الأكبر محيي الدّين بن عربي (638 هجرية)، فصوص الحكم، تعليق أبو العلا عفيفي، دار الكتاب العربي، بيروت، الطّبعة الثّانية، 1980 م. صفحة 47.
[361] فصوص الحكم، نفس المرجع، صفحة 49.
[362] فصوص الحكم، نفس المرجع، صفحة 101 ثمّ 103.
[363] Levi H. Dowling, El Evangelio Acuario de Jesús el cristo, Hojas de luz/sirio, Málaga, España, 2006.
[364] أبو حيّان محمد بن يوسف الأندلسي (745 هجرية)، البحر المحيط في التفسير، تحقيق صدقي جميل، دار الفكر، بيروت، الطبعة 1420 هجرية، الجزء الخامس، صفحة 261، المكتبة الشاملة.
[365] احمد بن عبد الحليم بن تيمية، قاعدة في المحبّة، تحقيق د. محمد رشاد سالم، مكتبة التّراث الإسلامي، القاهرة، 1987 م، صفحة 49.
[366] صحيح مسلم، (مصدر سابق 29)، الجزء الثاني، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظّن، صفحة 628.
[367] دسّاها، أَي: أَخْفاها، وهو في الأَصلِ دسَّسَها، فأَبدل من إِحدى السّيناتِ ياءٌ.
Hermes trigesmistro, Corpus hermeticum , formato electrónico por Frater Alastor, Según la versión de imprenta índigo, primera edición, colección archivo hermético 7, año 1998, pagina 19. [368]
[369] صحيح ابن حبّان، (مصدر سابق 75)، كتاب بدء الخلق، مدخل، صفحة 69.
[370] تفسير الميزان، (مصدر سابق 229)، الجزء الثالث، صفحة 122.
[371] موطأ مالك، (مصدر سابق 59)، كتاب الكلام، باب ما جاء في الصدق والكذب، صفحة 612.
[372] أبو بكر محمد بن جعفر بن محمد بن سهل بن شاكر الخرائطي السامري، (المتوفّى 327 هجرية)، مساوئ الأخلاق ومذمومها، تحقيق مصطفى بن أبو النّصر الشّلبي، مكتبة السّوادي للتّوزيع، جدّة، الطّبعة الأولى، 1993 م، صفحة 63، المكتبة الشاملة.
[373]أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد الزّمخشري جار الله (المتوفى 538 هجرية)، الكشّاف عن حقائق غوامض التّنزيل، دار الكتاب العربي، بيروت، الطّبعة الثّالثة، 1407 هجرية، الجزء الثاني، صفحة 529.
[374] تفسير الطّبريّ، (مصدر سابق 4)، المجلّد الأول، الجزء الأول، صفحة 130.
[375] محمد خليفة التّونسي، بروتوكولات حكماء صهيون، دار الكتاب العربي، الطّبعة الرابعة، بيروت- لبنان، 1961م.
[376] تفسير البيضاوي، (مصدر سابق 84)،الجزء الأول، صفحة 165.
[377] لسان العرب، (مصدر سابق 1)، المجلّد السّادس، صفحة 139، مادة عسس،العَسَسُ: قَدْ يَكُونُ جَمْعًا لعاسٍّ كحارِسٍ وحَرَسٍ.
[378] البروتوكولات، (مصدر سابق 375)، صفحة 123 و124.
[379] البروتوكولات، (مصدر سابق 375)، صفحة 122.
[380] البروتوكولات، (مصدر سابق 375)، صفحة 124.
[381] البروتوكولات، (مصدر سابق 375)، صفحة 125.
[382] البروتوكولات، (مصدر سابق 375)، صفحة 144.
[383] الأوتوقراطية autocratie هي شكل من أشكال الحكم، تكون فيه السلطة السياسية بيد شخص واحد بالتعيين لا بالانتخاب. كلمة "أوتوقراط" أصلها يوناني و تعني الحاكم الفرد، أو من يحكم بنفسه.
[384] صحيح البخاري، (مصدر سابق 34)، الجزء الأول، كتاب العلم، باب من سئل علما وهو مشتغل في حديثه ، صفحة 39.
[385] صحيح مسلم، (مصدر سابق 29)، الجزء الثّاني، كتاب الفتن، باب في الآيات التي تكون قبل السّاعة، صفحة 785.
[386] المستدرك على الصّحيحين، (مصدر سابق 55)، الجزء الثّامن، كتاب الفتن والملاحم، صفحة 2955.
[387] أبو عبد الله نعيم بن حماد بن معاوية بن الحارث الخزاعي المروزي (المتوفى: 228هـ)، كتاب الفتن، تحقيق سمير أمين الزهيري، مكتبة التوحيد، الطبعة الأولى، 1412 هجرية، الجزء الأول، صفحة 310، المكتبة الشاملة.
[388] المستدرك على الصّحيحين، (مصدر سابق 55)، الجزء الثّامن، كتاب الفتن والملاحم، صفحة 3000.
[389] صحيح البخاري، (مصدر سابق 34)، الجزء الخّامس، كتاب المناقب، باب علامات النّبوّة في الإسلام، صفحة 46.
[390] العلامة المحدث زيد بن عبد الله بن مسعود بن رفاعة الهاشمي،( أحد أعلام القرن الرابع الهجري)، كتاب الأربعين السيلقية، المحقق : عبد الله حمود العزي ، مؤسسة الإمام زيد بن علي(ع) الثقافية، صعدة، اليمن، الطّبعة الأولى، سنة 2002م.
[391] الدّكتور مصطفى محمود، السرّ الأعظم ، الطّبعة العاشرة، دار المعارف، القاهرة، 1999م، صفحة 9.
[392] سنن ابن ماجة، (مصدر سابق 48)، باب الحكمة، الجزء الثّاني، صفحة 1395.
[393] مسند الإمام أحمد، (مصدر سابق 64)، الجزء الثّامن، صفحة 374، المكتبة الشّاملة.
[394] تيموثي افريك وبيتر غاندي، متون هرمس حكمة الفراعنة المفقودة، ترجمة عمر الفاروق عمر، المشروع القومي للتّرجمة، الطّبعة الأولى، 2002م، القاهرة، صفحات 34،35،36.
[395] التّهويم: أوّل النّوم
[396] في التّرجمة الإسبانية، الآلهة ويقصد بها الملائكة كما سبق في نصوص أخنوخ ونصوص العهد القديم.
[397] شمس الدّين الشّهرزوري ( كان حيّاً سنة 687 هجرية)، تاريخ الحكماء نزهة الأرواح وروضة الأفراح، تحقيق عبد الكريم أبوشويرٍب، جمعية الدّعوة الإسلامية العالمية، الطّبعة الأولى، 1988م، صفحات 60،61.
[398] هو أبو معشر جعفر بن محمد بن عمر البلخي، ولد في بلخ في أفغانستان، كان من أشهر علماء الفلك المسلمين، وترجمت أعماله إلى اللاتينية وكانت معروفة في أوربا حيث كان يعرف باسم ألبونسار Albunasar، قدم إلى بغداد طلباً للعلم، فكان منزله في الجانب الغربي منها بباب خرسان، على ما جاء في "الفهرست"، وكان أوّلا من أصحاب الحديث، ثمّ دخل في الحساب و الهندسة، وعدل إلى علم أحكام النّجوم، سكن واسط وفيها مات سنة 272 هجرية.
[399] متون هرمس، (مصدر سابق 393)، صفحة 32.
[400] أبو حيّان التّوحيدي، الإشارات الإلهية، تحقيق الدكتورة وداد القاضي، دار الثّقافة، بيروت، 1973م، صفحات 47 و48.
[401] وَهَذَا أَمر غَسِرٌ أَي مُلْتَبِسٌ مُلْتاثٌ، (لسان العرب)
[402] معج: المَعْجُ: سُرعةُ المَرّ. (لسان العرب)
[403] سنن ابن ماجة، (مصدر سابق 48)، الجزء الثّاني، باب الحزن والبكاء، صفحة 1402، المكتبة الشاملة.
[404] اللُّمَع في التصوّف، (مصدر سابق 307)، صفحة 378.
[405] المستدرك على الصّحيحين، (مصدر سابق 55)، الجزء الخامس، كتاب معرفة الصحابة، صفحة 1743.
[406] صحيح ابن حبّان، (مصدر سابق 75)، الجزء الأوّل، المقدّمة، باب الاعتصام بالسّنة، صفحة 180.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق