وااقي777007

الأربعاء، 14 ديسمبر 2022

احفظ الله يحفظك 

احفظ الله يحفظك 

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.  

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71]. 

أما بعد:

 

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى: ﴿ إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ﴾ [الأنعام: 134].

 

روى الإمام أحمد والترمذي عن أبي العباس عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((يا غلام، إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام وجفت الصحف))[1].

 

وفي رواية غير الترمذي: ((احفظ الله تجده أمامك، تعرَّف على الله في الرخاء يعرفْك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا))[2].

قال الإمام ابن الجوزي في "صيد الخاطر": "تدبرتُ هذا الحديث فأدهشني حتى كدت أن أطيش، فواأسفًا من الجهل بهذا الحديث، وقلة التفهم لمعناه".

 

 

فهذا الحديث عباد الله  الذي يرويه حبر الأمة وترجمان القرآن وابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل))[3] وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لابن عمه عبدالله بن عباس، ومن خلاله يوصي الأمة كلها، يقول: ((يا غلام، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك)).

 

 

وحفظ الله عز وجل: أن تحفظ حدود الله عز وجل وأن تحفظ حقوقه، وأن تحفظ أوامره ونواهيه، فالواجب على العبد عباد الله أن يحفظ الله عز وجل كما قال جل في علاه: ﴿ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى ﴾ [البقرة: 238].

 

 

فمِن حفظِ الله عز وجل: أن تحافظ على الصلاة، كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((مَن حافظ عليها؛ كانت له نورًا وبرهانًا ونجاة يوم القيامة، ومَن لم يحافظ عليها؛ لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة يوم القيامة))[4].

 

ومن ذلك: حفظ الطهارة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن))[5].

 

 

ومن ذلك: أن يحفظ الرأس وما وعى، وأن يحفظ البطن وما حوى، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الاستحياء من الله حق الحياء، أن تحفظ الرأس وما وعى، وأن تحفظ البطن وما حوى))[6].

 

 

فمن حفظ الرأس: أن يحفظ سمعه، وأن يحفظ بصره؛ فلا يقع بصره على محرم، وأن يحفظ لسانه فلا يتكلم بما لا يعنيه، ولا يقع في الغيبة والنميمة وغير ذلك، وأن يحفظ فمه فلا يدخل فيه طعام حرام، يحافظ على سمعه وبصره ولسانه، وأن يحفظ البطن وما حوى.

 

 

من ذلك قول الله عز وجل: ﴿ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ ﴾ [المائدة: 89]؛ أي: لا يحلف العبد كثيرًا، وإذا حلف وحنث في حلفه فعليه أن يكفر عن يمينه.

 

 

من ذلك: حفظ الفرج، كما قال عز وجل: ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ﴾ [المؤمنون: 5]

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من يحفظ ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة))[7].

 

 

وفي رواية الصحيح: ((من ضمن لي ما بين لحييه - أي: لسانه - وما بين رجليه - أي: فرجه - أضمن له الجنة))[8].

 

 

فمَن حفظَ الله عز وجل في سمعه وبصره ولسانه وفرجه، وحافظ على حدود الله عز وجل وحافظ على حقوق الله عز وجل وحافظ على أوامر الله عز وجل بأن يؤديها، وحافظ على حدود الله عز وجل فلا يقع فيها - كان جزاؤه من الله عز وجل الحفظ، كما قال الله عز وجل: ﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ﴾ [البقرة: 152]، وكما قال عز وجل: ﴿ إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ ﴾ [محمد: 7]؛ فالجزاء من جنس العمل.

 

 

والحفظ من الله عز وجل للعبد يكون على نوعين:

 

 

النوع الأول عباد الله: أن يحفظ سمعه وبصره ولسانه، وأن يحفظ عليه جوارحه، وأن يُمتِّعه بقوته، وأن يحفظ ماله، وأن يحفظ أولاده، حفظًا في الدنيا عباد الله.

 

 

والنوع الثاني: هو حفظ الإيمان، أن يحفظ على العبد إيمانه؛ فلا يقع في الشهوات ولا في الشبهات، وأن يحول بينه وبين المعصية التي توجب غضب رب الأرض والسماوات.

 

 

أما النوع الأول من الحفظ عباد الله: فهو أن يحفظ الله عز وجل على العبد قوَّته، كما حدث من أبي الطيب الطبري، وكان قد جاوز المائة سنة - مات عن مائة وسنتين - وثب وثبة شديدة من مركب إلى الأرض، فعوتب على هذه الوثبة، فقال: "جوارح حفظناها في الصبا، فحفظها الله عز وجل علينا في الكِبَر".

 

 

فمن حافظ على جوارحه من معصية الله عز وجل؛ فالله عز وجل يمتعه بسمعه وبصره وقوته.

 

 

وعكس ذلك عباد الله: رأى الجنيد شيخًا كبيرًا يسأل الناس، فقال: "هذا ضيع الله عز وجل في الصبا؛ فضيعه الله عز وجل في الكِبَر".

 

 

من فارق سدة سيده لم يبقَ لقدمه قرار.

وَاللَّهِ مَا جِئْتُكُمْ زَائِرًا

إِلاَّ وَجَدْتُ الأَرْضَ تُطْوَى لِي

وَلاَ ثَنَيْتُ العَزْمَ عَنْ بَابِكُمْ

إِلاَّ تَعَثَّرْتُ بِأَذْيَالِي

 

 

فالعبد إذا حفظ الله عز وجل؛ حفظه الله عز وجل: حفظ صحته، وحفظ ماله، وحفظ أولاده، كما كان سعيد بن المسيب - وقيل: سعيد بن جبير - يقول لابنه: "لأزيدن في صلاتي من أجلكَ؛ رجاء أن أُحفَظَ فيك" ويتأول قول الله عز وجل: ﴿ وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا ﴾ [الكهف: 82].

 

 

فصلاح الآباء يكون سببًا في صلاح الأبناء: ﴿ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ﴾ [النساء: 9].

 

 

فمن حفظ تقوى الله عز وجل فقد حفظ نفسه، ومن ضيع تقوى الله عز وجل فقد ضيع نفسه، والله عز وجل غني عنه.

 

 

((احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك))، وفي الرواية الأخرى: ((تجده معك)).

 

 

والمعية من الله عز وجل على نوعين:

معية عامة لجميع الخلائق: ﴿ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ﴾ [المجادلة: 7]، فالله عز وجل مع جميع الخلق بسمعه وبصره وقدرته وإحاطته؛ فهذه معية عامة لجميع الخلق، تستوجب من العبد الحذر والخوف من الله عز وجل، وتقوى الله عز وجل، ومراقبة الله عز وجل.

 

 

والمعية الثانية عباد الله: هي معية النصرة والتأييد والتوفيق والتسديد، كما قال عز وجل حاكيًا عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبي بكر في رحلة الهجرة: ﴿ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ﴾ [التوبة: 40]؛ أي: معنا بسمعه، ومعنا بتوفيقه، ومعنا بتسديده، وكما قال عز وجل لهارون وموسى: ﴿ إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ﴾ [طه: 46]؛ أي: أسمع ما يُراد بكما، وأرى ما يحاك لكما، وأعلم ما تحتاجان إليه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ﴾ [النحل: 128].

 

فمن كان مع الله عز وجل بطاعة الله وبتقوى الله عز وجل، ومع دين الله عز وجل، يعز دين الله، ويرفع راية الله عز وجل، مع الله عز وجل بالحب والنصر، والتأييد لدينه ورسوله وكتابه عز وجل  فالله عز وجل معه.

 

 

 

قال قتادة: "من كان مع الله عز وجل كان الله معه، ومن كان الله عز وجل معه كان معه الفئة التي لا تغلب، والحارس الذي لا ينام، والهادي الذي لا يضل".

 

 

 

فإذا كنت مع الله عز وجل كان الله معك، معيته لأنبيائه وأوليائه معية التأييد، ومعية النصرة، ومعية التسديد.

 

إِذَا كُنْتَ بِاللَّهِ مُسْتَعْصِمًا ♦♦♦ فَمَاذَا يَضِيرُكَ كَيْدُ العَبِيد

 

 

((إذا سألت فسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله)).

 

 

والسؤال بذل للوجه؛ كان بعضهم يقول: "اللهم كما صنت وجهي عن السجود لغيرك، فصُنه عن مسألة غيرك"، وكان أحدهم إذا عرضت له مسألة للخلق، يهتف به هاتف من داخلة: "الوجه الذي يسجد لله عز وجل؛ لا تبذله لغير الله".

 

 

ومن سأل الناس تكثرًا - أي: وعنده ما يكفية - فإنه يأتي يوم القيامة وقد سقط لحم وجهه؛ لأنه أراق ماء وجهه في الدنيا!! فالسؤال عباد الله لا يكون إلا لله؛ لأن العبد لا يذل نفسه إلا لله عز وجل.

 

 

عاهد النبي صلى الله عليه وسلم بعض الصحابة ألاَّ يسألوا أحدًا إلا الله عز وجل، منهم أبو بكر رضي الله عنه فكان يقع منه السوط وهو على البعير، فلا يسأل أحدًا أن يناوله إياه؛ بل ينزل بنفسه فيأخذه، لا يسأل إلا الله عز وجل!

 

 

إذا سألت فاسأل الله.. فالسؤال ذل، والسؤال يكون لمن يقدر على جلب جميع المصالح ودفع جميع المضار، وليس هناك أحد يقدر على ذلك إلا الله عز وجل، فإذا سألت فاسأل الله.

 

 

﴿ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ ﴾ [النمل: 62]، وقال عز وجل: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ﴾ [البقرة: 186].

 

 

كان بعض الناس يتردد على بعض الملوك؛ فقال له أحد العلماء: "يا هذا، تذهب إلى من يسد دونك بابه، ويظهر لك فقره، ويخفي عنك غناه، وتَدَعُ من يفتح لك بابه، ويظهر لك غناه، ويقول: ادعوني أستجب لكم؟!".

لاَ تَسْأَلَنَّ بُنَيَّ آدَمَ حَاجَةً

وَسَلِ الَّذِي أَبْوَابُهُ لاَ تُحْجَبُ

اَللَّهُ يَغْضَبُ إِنْ تَرَكْتَ سُؤَالَهُ

وَبُنَيُّ آدَمَ حِينَ يُسْأَلُ يَغْضَبُ

 

 

فالعبد لا يسأل إلا الله عز وجل، فإذا سألت فاسأل الله، من لم يسأل الله يغضب عليه؛ لأنه غني كريم؛ ولأنه عز وجل يحب أن يتفضل على عباده: ((يد الله ملأى، لا تغيضها نفقة - أي: لا تنقصها نفقة - سَحَّاء الليل والنهار - أي: ينفق على عباده بالليل والنهار - أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض، فإنه لم يغض ما في يمينه - أي: لم ينقص ما في يمينه))[9].

 

 

في بعض الروايات: ((ذلك بأني جواد واجد ماجد، عطائي كلام، وعذابي كلام، إنما أمري لشيء إذا أردته أن أقول له: كن، فيكون))[10].

 

 

فالله عز وجل غني كريم، ويخلق بكلمة (كن)، إذا أراد شيئًا يقول له: كن، فيكون؛ فهو وحده الغني: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ﴾ [فاطر: 15 - 17].

 

 

فالعبد يسأل من يقدر على كشف الضر، ومن يقدر على جلب المنافع كلها، ولا أحد يقدر على ذلك إلا الله عز وجل.

 

 

((وإذا استعنت فاستعن بالله)).

 

 

والاستعانة: هي طلب العون والمساعدة، ولا تجوز الاستعانة في الأمور كلها إلا بالله عز وجل، ويجوز أن تستعين بمخلوق في قضاء حاجة من حوائج الدنيا التي يقدر عليها المخلوق، ولكن لا يجوز أن تستعين بمخلوق في أن يخبرك بمغيب، وفي أن يشفي لك مريضًا، ويرد لك غائبًا، فالاستعانة لا تكون إلا بالله عز وجل.

وإن هناك استعانة شركية واستعانة غير شركية: الاستعانة الشركية أن تستعين بمخلوق في أن يشفي لك مريضًا، أو يرد لك غائبًا، كمن يستعين بالمقبورين وبالهلكى في أن يردوا لهم غائبًا، أو يشفوا لهم مريضًا، فهذه استعانة شركية، أما الاستعانة بالمخلوق في قضاء أمر من أمور الدنيا، أو شراء شيء، أو بيع شيء له أو إجارته - فهذه استعانة غير شركية.

 

 

أرسل أحد السلف إلى أخيه يقول له: "أما بعد، لا تستعن بغير الله فيكلك إليه"؛ أي: لا يجلب لك نفعًا، ولا يدفع عنك ضرًّا.

 

 

((إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك)).

 

وهذا مدار الوصية عباد الله فمدار الوصية عباد الله أن تعلم أن الأمر بيد الله، وأن الملك بيد الله، وأن خزائن السماوات والأرض بيد الله عز وجل، فإذا علمت ذلك، وإذا عرفت ذلك - انقطعت إلى الله عز وجل، وعرفت الله عز وجل، وكما قال أبو عاصم الأنطاكي: "إني أريد ألا أموت حتى أعرف مولاي".

 

 

فلا يريد المعرفة العامة التي يعرفها كل الناس: أن الله عز وجل هو رب الناس، ملك الناس، إله الناس، ولكن يريد أن يعرف الله عز وجل معرفة ينقطع عن الخلق إلى الله عز وجل، فلا يستعين إلا بالله، ولا يسأل إلا الله عز وجل، وهذه المعرفة تدعوه إلى أن يحفظ حدود الله وحقوقه وأوامره ونواهيه، وتدعوه إلى أنه لا يرجو إلا الله، ولا يخاف إلا من الله، ولا يتوكل إلا على الله، ولا يحب إلا الله عز وجل أو في الله عز وجل.

 

 

فهذا مدار الوصية: أن تعلم أن الله عز وجل هو رب الناس، وهو المتصرف في شؤون الناس كيف يشاء، وأنه مالك الملك عز وجل، وأن مقادير الخلائق بيد الله عز وجل: ﴿ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ ﴾ [يونس: 107].

 

 

لو اجتمع الخلق كلهم على أن يجلبوا لك نفعًا لم يقدره لك الله عز وجل - لا يقدرون على ذلك، وإن اجتمع الخلق كلهم على أن يمنعوا عنك نفعًا أراده الله عز وجل بك - لا يقدرون على ذلك: ﴿ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ ﴾ [يونس: 107]؛ فالأمر كله بيد الله عز وجل.

 

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن روح القدس نفث في روعي: أن نفسًا لن تموت حتى تستوفي أجلها ورزقها))[11].

 

 

ويقول صلى الله عليه وسلم: ((اطلبوا الحوائج بعزة الأنفس، فإن الأمور تجري بالمقادير))[12].

 

 

أي: إذا كان لك مصلحة عند أحد من الخلق فاطلب ذلك بعزة النفس؛ لأن الأمر ليس بيد هذا المخلوق؛ أي: الأمر بيد خالق الخلق ومالك الملك، بيد الله عز وجل، اطلبوا الحوائج بعزة الأنفس فإن الأمور تجري بالمقادير، فإذا وثق العبد بذلك كان أعز الناس، وكان أغنى الناس بالله عز وجل، وكان أقوى الناس بالله عز وجل، ومع ذلك يحافظ على حدود الله وحقوقه وأوامره ونواهيه، من كان كذلك عباد الله أتاه النفع من حيث يخاف أن يحصل الضر.

 

كما روي أن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم انكسرت به المركب، فوقع في جزيرة، ولم يعرف الطريق، فرأى أسدًا، فقال: يا أبا الحارث، أنا سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم دلني على الطريق، قالوا: فأخذ الأسد يهمهم ويسير أمامه حتى دله على الطريق، ثم همهم له وانصرف كأنه يودعه!! أي: يأتيه النفع والخير ممن يخاف منه الضر.

 

 

كذلك عباد الله من ضيع تقوى الله عز وجل؛ فإنه يأتيه الضر ويأتيه المشقة والعنت ممن يرجو منه النفع.

 

 

كما قال بعضهم: "إني لأعصي الله؛ فأجد ذلك في خُلُق دابتي وامرأتي"؛ أي إن الدابة التي تسهل له الطريق، والزوجة التي تخدمه وتقضي له شؤونه - يكونان سببًا لشقائه ونكده!

 

 

فمَنْ عرف أن الأمر بيد الله، فانقطع عن الخلق إلى الحق، وتعلق قلبه بالله عز وجل؛ لا يرجو إلا الله، ولا يخاف إلا من الله، يحافظ على حدود الله، ويسأل الله عز وجل، ويستعين بالله عز وجل.

 

 

قوله صلى الله عليه وسلم: ((واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)).

 

وهذه كناية من أعظم الكنايات، علامة على تقدم المقادير.

 

قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله كتب مقادير الخلائق، قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة))[13].

 

 

 

قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة كتب الله عز وجل متى تولد، وكم تعيش في الدنيا، وكم ترزق في الدنيا، وعملك في الدنيا، وسعيك في الدنيا، وكم توفق إلى طاعة الله، وكم تعمل بمعصية الله عز وجل، كان ذلك في اللوح المحفوظ عباد الله قبل أن يخلق الله عز وجل السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما سيكون إلى يوم القيامة))[14].

 

 

لأن علم الله عز وجل أحاط بالماضي، وأحاط بالحاضر، وأحاط بالمستقبل؛ فعلِم ما كان، وما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، فالله عز وجل علِم كل شيء، وقدَّر كل شيء، وكتب كل شيء من أزمنة متطاولة، فرفعت الأقلام؛ أي التي كتبت بها مقادير الخلائق، ومن طول المدة جفت الصحف.

 

فكيف يرجو العبد غير الله؟! وكيف يأمل في غير الله؟! وكيف يخاف من غير الله عز وجل؟!

 

 

 

مَنْ علِم ذلك عباد الله انقطع إلى الله عز وجل، وعمل بطاعة الله عز وجل، وكان مع الله عز وجل؛ يقول - صلى الله عليه وآله وسلم -: ((احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فسأل الله، وإذا استعنت فاستعنت بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)).

 

 

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم!!

 

الخطبة الثانية

 

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا، ثم أما بعد: فقوله - صلى الله عليه وسلم - في الرواية الأخرى: ((احفظ الله تجده أمامك، تعرَّف إلى الله في الرخاء يعرفْك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا)). فقوله صلى الله عليه وسلم: ((احفظ الله تجده أمامك))؛ أي تجده تجاهك، أي: تجده معك، وقد فسرنا ذلك في الرواية الأخرى: ((تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة))[15]. أي إن العبد إذا كان يصعد منه إلى الله عز وجل في وقت النعمة والرخاء - يصعد منه كلم طيب، وعمل صالح إلى الله عز وجل، فإذا وقع العبد في الشدة عرفه الله عز وجل، فقبل دعوته، وفرج كربته. ((تعرف إلى الله عز وجل في الرخاء يعرفْك في الشدة)).

 

 

كما قال بعض السلف: تعرَّفوا إلى الله عز وجل في الرخاء يعرفْكم في الشدة. فإن يونس عليه السلام لما كان ذاكرًا لله عز وجل، عارفًا بالله عز وجل في الرخاء، لَمَّا وقع في بطن الحوت قال الله عز وجل: ﴿ فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ [الصافات: 143-144].

 

ولما كان فرعون كافرًا جاحدًا ناسيًا لذكر الله عز وجل، لما وقع في البحر قال: ﴿ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ ﴾ [يونس: 90] - قال عز وجل: ﴿ آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً ﴾ [يونس: 91-92]. فكلاهما ذكر الله عز وجل في الشدة، وأعلنا إيمانهما في الشدة، ولكن يونس - عليه السلام - كان من أنبياء الله عز وجل، فساهم فكان من المدحضين، ولما وصل إلى ظلمة بطن الحوت دعا الله عز وجل: ﴿ فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ [الصافات: 143، 144]؛ أي: لصار بطن الحوت قبرًا له.

 

 

أما فرعون؛ فكان جاحدًا ناسيًا لذكر الله عز وجل، مستكبرًا على طاعة الله عز وجل، أعلن إيمانه وهو يعاني الغرق، فلم يقبل الله عز وجل منه؛ بل جعله الله عز وجل عِبرة للمعتبرين، فقال: ﴿ آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً ﴾ [يونس: 91-92].

 

فينبغي على العبد عباد الله أن يجتهد في طاعة الله عز وجل في الرخاء، حتى إذا وقع في الشدة عرفه الله عز وجل بقبول دعائه، كما حدث للثلاثة الذين دخلوا غارًا فوقعت صخرة عظيمة على فوهة الغار، فتوسلوا إلى الله عز وجل بالأعمال الصالحة التي عملوها في وقت الرخاء، فأما أحدهم: فتوسل إلى الله عز وجل ببره بوالديه، وأما الثاني: فتوسل إلى الله عز وجل بأمانته، وبأنه رد للأجير أجره بعد تثميره له وتكبيره له، وأما الثالث: فتوسل إلى الله عز وجل بعفته عن ابنة عمه، وأنه ترك لها ما طلبته منه، فعند ذلك تحركت الصخرة وخرجوا من الغار؛ لأنهم توسلوا بأعمال صالحة عملوها في وقت الرخاء!

 

((تعرف إلى الله عز وجل في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك)). الله عز وجل يحرس الناس بالليل والنهار: ﴿ قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ ﴾ [الأنبياء: 42]. من يحفظكم من دون الله عز وجل؟ وكل الله عز وجل ملائكة يحفظون العبد من بين يديه ومن خلفه، كما قال عز وجل: ﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ﴾ [الرعد: 11]. قيل: المعقبات ملائكة تحفظ العبد، فإذا جاء القدر تخلوا عنه، وكل أحد منا مرَّ في عمره عباد الله بأشياء كان يمكن أن يهلك فيها؛ كحوادث السيارات وغير ذلك، والله عز وجل ينجيه، فالله عز وجل وَكَّل ملائكةً يحفظون العبد من بين يديه ومن خلفه، ويدفعون عنه الشرور والمهالك، ولكن إذا قدر الله عز وجل شيئًا فإن الملائكة الحفظة يتركون العبد؛ من أجل أن ينفذ فيه قدر الله عز وجل وقضاء الله عز وجل: ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [التغابن: 11]؛ أي: لا يحدث شيء في الأرض إلا بإذن الله عز وجل. ﴿ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ﴾ [التغابن: 11]؛ قال بعض السلف: "هي المصيبة تصيب العبد، فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم". ((واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا)).

 

فالنصر مع الصبر؛ لذلك يقول الله عز وجل: ﴿ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ﴾ [الأنفال: 65]، فاشترط الصبر، ثم نسخ ذلك بقوله: ﴿ فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ﴾ [الأنفال: 66]. وقال: ﴿ وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ﴾ [آل عمران: 120]. وقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الأنفال: 45، 46].

 

الصر من أعظم أسباب النصر: ((واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب)). كما قال بعضهم: "إذا اشتَدَّ الكَرْبُ هانَ"، وفي ذلك لطيفةٌ عباد الله وهي: أن العبد إذا أصيب ببلاء فإنه قد يعلق قلبه بغير الله، ويرجو من فلان أن يدفع عنه هذا الضُّر، وأن يكشف عنه هذا الكرب، فيزداد عليه الكرب، فيعلق قلبه بمخلوق آخر، يرجو من جهته أن يرفع الضر، وأن يكشف الكرب، فيزداد الكرب، حتى إذا ازداد الكرب جدًّا، عند ذلك ييأس العبد من الخلق، ويعلق قلبه بالخالق عز وجل، عند ذلك يكشف الله عز وجل الكرب. فإذا كان المشركون، إذا ركبوا البحر وأتت ريح عاصفة، وكادوا يهلكون يُخلِصون الدعاء لله عز وجل، والعبادة لله عز وجل؛ فينجيهم الله عز وجل - فكيف لا يحدث ذلك للمؤمن إذا اشتد به الكرب وأيقن بالهلاك؟! لا شك في أنه ييأس من المخلوقين، ويعلق قلبه بالله عز وجل، فإذا علق قلبه بالله عز وجل أتى الفرج، وكشف الله عز وجل الكرب: ((واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا)). قال عز وجل: ﴿ سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا ﴾ [الطلاق: 7]. قالوا: ((مع العسر يسرٌ))؛ أي: إن اليسر يأتي سريعًا بعد العسر، فكأنه من سرعته مع العُسْر. وقال بعضهم: إذا دخل العُسْر جحرًا، دخل اليسر وراءه؛ قال عز وجل: ﴿ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴾ [الشرح: 5، 6].

 

ويقولون: إن النكرة إذا كررت أفادت إضافة، وإن المعرفة إذا كُرِّرَت لم تفد إضافة؛ ولذلك قال بعضهم: لا يغلب عسر يُسْرَيْنِ؛ أي: إن مع كل عسر يسرين، إن مع العسر يسرًا، إن مع العسر يسرًا، فكان هذا الحديث النبوي وصية جامعة تشتمل على قواعد كلية وأصول عظيمة من أصول هذا الدين، وهو ما رواه الإمام أحمد والترمذي عن أبي العباس عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: (( يا غلام، إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعنت بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف))[16]، وفي رواية غير الترمذي: ((احفظ الله تجده أمامك، تعرَّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا))[17]. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الكفر والكافرين، وأعلِ راية الحق والدين!! اللهم من أرادنا والإسلامَ والمسلمين بعزٍِّ فاجعل عز الإسلام على يديه، ومن أرادنا والإسلام والمسلمين بكيد فكِده يا رب العالمين، ورد كيده في نحره، واجعل تدبيره في تدميره، واجعل الدائرة تدور عليه.

 

اللهم عليك باليهود الغاصبين، والأمريكان الحاقدين، ومن والاهم من المنافقين والعلمانيين. اللهم أحصِهم عددًا، واقتلهم بددًا، ولا تغادر منهم أحدًا، اللهم لا ترفع لهم في الأرض راية، واجعلهم لسائر خلقك عبرة وآية، اللهم أنزل عليهم رجزك وغضبك وعذابك الذي لا يرد عن القوم المجرمين. اللهم إنا نسألك أن تقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا أبدًا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا. اللهم اهدِ شباب المسلمين، اللهم اهدِ أطفالنا وأطفال المسلمين يا رب العالمين، اللهم اهدِ شيوخ المسلمين، اللهم اهدِ نساء المسلمين للعفة والحجاب والحياء، يا رب العالمين، ورد عنهم كيد الكائدين، وجمِّلهم بالحياء والحجاب يا رب العالمين. اللهم ارفع عن بلاد المسلمين الغلا والوبا، والربا والزنا، وردهم إليك ردًّا جميلاً. وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.

 

 

  1. [1] "صحيح الترمذي" (2440)، وصححه الألباني في "المشكاة" (5302).
  2. [2] قال الهيثمي في "المجمع" (11094): رواه الطبراني، وفيه علي بن أبي علي القرشي وهو ضعيف.
  3. [3] أحمد (2274)، وأصله في البخاري (140).
  4. [4] أحمد (6288) بإسناد حسن، وقال الهيثمي في "المجمع": رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط، ورجال أحمد ثقات. [5] ابن ماجه (273) من حديث ثوبان رضي الله عنه وصححه الألباني في "الإرواء" (412).
  5. [6] الترمذي (2382) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه وحسنه الألباني في "المشكاة" (1608).
  6. [7] البخاري (5993) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه بلفظ: ((من يضمن لي))، ورقم (6309) بلفظ: ((من توكل لي))، والترمذي (2332) بلفظ: ((من يتكفل لي))، ورقم (2333) بلفظ: ((من وقاه الله)).
  7. [8] البخاري (5993).
  8. [9] البخاري (4316)، ومسلم (1658).
  9. [10] أحمد (20405)، وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع" (6437).
  10. [11] الحاكم (2/ 4) وصححه الألباني في "الصحيحة" (6/ 865).
  11. [12] تمام في "فوائده" (2/ 62)، وضعفه الألباني في "الضعيفة" (3/ 573).
  12. [13] مسلم (4797) من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنه.
  13. [14] أبو داود (4078) بنحوه، وصححه الألباني في "المشكاة" (94).
  14. [15] أحمد (2666)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (2961).
  15. [16] سبق قريبًا.
  16. [17] سبق تخريجه.

 ======زاد ========

 

كتاب : عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين
المؤلف : محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية

مقدمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين
الحمد لله الصبور الشكور العلى الكبير السميع البصير العليم القدير الذي شملت قدرته كل مخلوق وجرت مشيئته في خلقه بتصاريف الأمور وأسمعت دعوته لليوم الموعود أصحاب القبور قدر مقادير الخلائق وآجالهم وكتب آثارهم وأعمالهم وقسم بينهم معايشهم وأموالهم وخلق الموت والحياة ليبلوهم أيهم أحسن عملا وهو العزيز الغفور القاهر القادر فكل عسير عليه يسير وهو المولى النصير فنعم المولى ونعم النصير يسبح له ما في السموات وما في الأرض له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير خلق السموات والأرض بالحق وصوركم فأحسن صوركم واليه المصير يعلم ما تسرون وما تعلنون والله عليم بذات الصدور وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له أنه جل عن الشبيه والنظير وتعالى عن الشريك والظهير وتقدس عن تعطيل الملحدين كما تنزه عن شبه المخلوقين فليس كمثله شىء وهو السميع البصير وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وخيرته من بريته وصفوته من خليقته وآمينه على وحيه وسفيره بينه وبين عباده أعرف الخلق به وأقومهم بخشيته وأنصحهم لأمته وأصبرهم لحكمه وأشكرهم لنعمه وأقربهم إليه وسيلة وأعلاهم عند منزلة وأعظمهم عنده جاها وأوسعهم عنده شفاعه بعثه إلى الجنة داعيا وللإيمان مناديا وفي مرضاته ساعيا وبالمعروف آمرا وعن المنكر ناهيا فبلغ رسالات ربه

ص -8- الأصلين العظيمين ولا يعدل عن هذين الطريقين القاصدين وأن يجعل سيره إلى الله بين هذين الطريقين ليجعله الله يوم لقائه مع خير الفريقين.
فكذلك وضع هذا الكتاب للتعريف بشدة الحاجة والضرورة إليهما وبيان توقف سعادة الدينا والآخرة عليهما فجاء كتابا جامعا حاويا نافعا فيه من الفوائد ما هو حقيق على أن يعض عليه بالنواجذ وتثنى عليه الخناصر ممتعا لقاريه صريحا للناظر فيه مسليا للحزين منهضا للمقصرين محرضا للمشمرين مشتملا على نكات حسان من تفسير القرآن وعلى أحاديث نبوية معزوة إلى مظانها وآثار سلفية منسوبة إلى قائلها ومسائل فقهية حسان مقرة بالدليل ودقائق سلوكية على سواء السبيل لا تخفى معرفة ذلك عى من فكر وأحضر ذهنه فان فيه ذكر أقسام الصبر ووجوه الشكر وأنواعه وفصل النزاع في التفضيل بين الغنى الشاكر والفقير الصابر وذكر حقيقة الدنيا وما مثلها الله ورسوله والسلف الصالح به والكلام على سبر هذه الأمثال ومطابقتها لحقيقة الحال وذكر ما يذم من الدنيا ويحمد وما يقرب منها إلى الله ويبعد وكيف يشقى بها من يشقى ويسعد بها من يسعد وغير ذلك من الفوائد التى لا تكاد تظفر بها في كتاب سواه وذلك محض منة من الله على عبده وعطية من بعض عطاياه فهو كتاب يصلح للملوك والأمراء والأغنياء والفقراء والصوفية والفقهاء ينهض بالقاعد إلى المسير ويؤنس السائر في الطريق وينبه السالك على المقصود ومع هذا فهو جهد المقل وقدرة المفلس حذر فيه من الداء وان كان من أهله ووصف فيه الدواء وان لم يصبر على تناوله لظلمه وجهله وهو يرجوا أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين أن يغفر له غيه لنفسه

لعبادة المؤمنين فما كان في الكتاب من صواب فمن الله وحده فهو المحمود والمستعان وما كان فيه من خطأ فم مصنفه ومن الشيطان والله بريء منه ورسوله وهذه بضاعة مؤلفة المرجاة تساق إليك وسلعته تعرض عليك فلقاريه غنمة وعلى مؤلفة غرمه وبنات أفكاره تزف إليك فإن وجدت حرا كريما

ص -9- كان بها أسعد وإلا فهي خود تزف إلى عنين متعد.
وقد جعلته ستة وعشرين بابا وخاتمة:
الباب الأول في معنى الصبر لغة واشتقاق هذه اللفظة وتصريفها.
الباب الثاني في حقيقة الصبر وكلام الناس في.
الباب الثالث في بيان أسماء الصبر بالاضافة إلى متعلقة.
الباب الرابع في الفرق بي الصبر والتصبر والاصطبار والمصابرة.
الباب الخامس في أقسام الصبر باعتبار محله.
الباب السادس في أقسامه بحسب اختلاف قوته وضعفه ومقاومته لجيش الهوى وعجزه عنه.
الباب السابع في بيان أقسامه باعتبار متعلقه.
الباب الثامن في انقسامه باعتبار تعلق الأحكام الخمسة به.
الباب التاسع في بيان تفاوت درجات الصبر.
الباب العاشر في انقسام الصبر إلى محمود ومذموم.
الباب الحادي عشر في الفرق بين صبر الكرام وصبر اللئام.
الباب الثاني عشر في الأسباب التي تعين عل الصبر.
الباب الثالث عشر: في بيان أن الإنسان لا يستغنى عن الصبر في حال من الأحوال.
الباب الرابع عشر: في بيان اشق الصبر على النفوس.
الباب الخامس عشر: في ذكر ما ورد في الصبر من نصوص الكتاب العزيز.
الباب السادس عشر: في ذكر ما ورد فيه من نصوص السنة.
الباب السابع عشر: في ذكر الآثار الواردة عن الصحابة في فضيلة الصبر.

ص -10- الباب الثامن عشر: في ذكر أمور تتعلق بالمصيبة من البكاء والندب وشق الثياب ودعوى الجاهلية ونحوها.
الباب التاسع عشر في الصبر نصف الإيمان وأن الإيمان نصفان صبر ونصف شكر.
الباب العشرون: في بيان تنازع الناس في الأفضل من الصبر والشكر.
الباب الحادي والعشرون في الحكم بين الفريقين والفصل بين الطائفتين.
الباب الثاني والعشرون: في اختلاف الناس في الغنى الشاكر والفقير الصابر أيهما أفضل وما هو الصواب في ذلك.
الباب الثالث والعشرون: في ذكر ما احتجت به الفقراء من الكتاب والسنة والآثار والاعتبار.
الباب الرابع والعشرون: في ذكر ما احتجت به الأغنياء من الكتاب والسنة والآثار والاعتبار.
الباب الخامس والعشرون: في بيان الأمور المضادة للصبر والمنافية له والقادحة فيه.
الباب السادس والعشرون: في بيان دخول الصبر في صفات الرب جل جلاله وتسميته بالصبور والشكور سميته ( عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين) والله المسؤول أن يجعله خالصا لوجهه مدنيا من رضاه وأن ينفع به مؤلفه وكاتبه وقارئه انه سميع الدعاء وأهل الرجاء وهو حسبنا ونعم الوكيل

ص -11- وصدع بأمره وتحمل في مرضاته ما لم يتحمله بشر سواه وقام لله بالصبر والشكر حتى القيام حتى بلغ رضاه فثبت في مقام الصبر حتى لم يلحقه أحد من الصابرين وترقى في درجة الشكر حتى علا فوق جميع الشاكرين فحمد الله وملائكته ورسله وجيمع المؤمنين ولذلك خص بلواء الحمد دون جميع العالمين فآدم تحت لوائه ومن دون الأنبياء والمرسلين وجعل الحمد فاتحة كتابه الذى أنزله عليه كذلك فيما بلغنا وفي التوارة والإنجيل وجعله آخر دعوى أهل ثوابه الذين دعوى أهل ثوابه الذين هداهم على يديه أمته الحامدين قبل ان يخرجهم إلى الوجود لحمدهم له على السراء والضراء والشدة والرخاء وجعلهم أسق الأمم إلى دار الثواب والجزاء فأقرب الخلق إلى لوائه أكثرهم حمدا لله وذكرا كما أن أعلاهم منزلة أكثرهم صبرا وشكرا فصلى الله وملائكته وأنبياؤه ورسله وجميع المؤمنين عليه كما وحد الله وعرف به ودعا إليه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد فإن الله سبحانه جعل الصبر جوادا لا يكبو وصارما لا ينبو وجندا لا يهزم وحصنا حصينا لا يهدم ولا يثلم فهو والنصر أخوان شقيقان فالنصر مع الصبر والفرج مع الكرب والعسر مع اليسر وهو أنصر لصاحبه من الرجال بلا عدة ولا عدد ومحله من الظفر كمحل الرأس من الجسد ولقد ضمن الوفي الصادق لأهله في محكم الكتاب أنه يوفيهم أجرهم بغير حساب واخبره أنه معهم بهدايته ونصره العزيز وفتحه المبين فقال تعالى {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} فظفر الصابرون بهذه المعية بخير الدنيا والآخرة وفازوا بها بنعمة الباطنة والظاهرة وجعل سبحانه الإمامة في الدين منوطة بالصبر واليقين فقال تعالى وبقوله اهتدى المهتدون {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ}.
وأخبر أن الصبر خير لأهله مؤكدا باليمن فقال تعالى {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} وأخبر أن مع الصبر

والتقوى

ص -12- لا يضر كيد العدو ولو كان ذا تسليط فقال تعالى {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ}
وأخبر عن نبيه يوسف الصديق أن صبره وتقواه وصلاه إلى محل العز والتمكين فقال: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} وعلق الفلاح بالصبر والتقوى فعقل ذلك عنه المؤمنون فقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
وأخبر عن محبته لأهله وفي ذلك أعظم ترغيب للراغبين فقال تعالى {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} ولقد بشر الصابرين بثلاث كل منها خير مما عليه أهل الدنيا يتحاسدون فقال تعالى {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}.
وأوصى عبادة بالاستعانة بالصبر والصلاة على نوائب الدنيا والدين فقال تعالى { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ}
و جعل الفوز بالجنة والنجاة من النار لا يحظى به الا الصابرون فقال تعالى {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} وأخبر أن الرغبة في ثوابه والإعراض عن الدنيا وزينتها لا ينالها ألا أو لو الصبر المؤمنون فقال تعالى { وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ } وأخبر تعالى أن دفع السيئة بالتي هي أحسن تجعل المسىء كأنه ولي حميم فقال {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا

الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} وأن هذه الخصلة لا يلقاها الا الذين صبروا وما يلقاها الا ذو حظ عظيم
وأخبر سبحانه مؤكدا بالقسم {إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ

ص -13- الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} وقسم خلقه قسمين أصحاب ميمنة وأصحاب مشأمة وخص أهل الميمنة أهل التواصى بالصبر والمرحمة وخص بالانتفاع بآياته أهل الصبر وأهل الشكر تمييز لهم بهذا الحظ الموفور فقال في أربع آيات من كتابه {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} وعلق المغفرة والأجر بالعمل الصالح والصبر وذلك على من يسره عليه يسير فقال {إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ}.
وأخبر أن الصبر والمغفرة من العزائم التي تجارة أربابها لا تبور فقال {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} وأمر رسوله بالصبر لحكمه وأخبر أن صبره انما هو به وبذلك جميع المصائب تهون فقال {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} وقال {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}.
والصبر آخيّة المؤمن التى يجول ثم يرجع إليها وساق إيمانه الذى اعتماد له الإ عليها فلا ايمان لمن لا صبر له وان كان فإيمان قليل في غاية الضعف وصاحبه ممن يعبد الله على حرف فان أصابه خير اطمأن به وان أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ولم يحظ منهما الإ بالصفقة الخاسرة فخير عيش أدركه السعداء بصبرهم وترقوا إلى أعلى المازل بشكرهم فساروا بين جناحى الصبر والشكر إلى جنات النعيم وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء واله ذو الفضل العظيم
فصل: ولما

كان الإيمان نصفين نصف صبر ونصف شكر كان حقيقا على من نصح نفسه وأحب نجاتها وآثر سعادتها أن لا يهمل هذين

عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين

الباب الأول في معنى الصبر لغة واشتقاق هذه اللفظة وتصريفها
ص -15- الباب الأول: في معنى الصبر لغة واشتقاق هذه اللفظة وتصريفها
أصل هذه الكلمة هو المنع والحبس فالصبر حبس النفس عن الجزع واللسان عن التشكي والجوارح عن لطم الخدود وشق الثياب ونحوهما ويقال صبر يصبر صبرا وصبر نفسه قال تعالى {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} وقال عنترة
فصبرت عارفة لذلك حرة ترسو اذا نفس الجبان تطلع
يقول حبست نفسا عارفة وهى نفس حر يأنف لا نفس عبد لا أنفه له وقوله ترسو أي تثبت وتسكن إذا خفت نفس الجبان واضطربت ويقال صبرت فلانا إذا حبسته وصبرته بالتشديد إذا حملته على الصبر وفي حديث الذي أمسك رجلا وقتله آخر يقتل القاتل ويصبر الصابر أي يحبس للموت كما حبس من أمسكه للموت وصبرت الرجل إذا قتلته صبرا أي أمسكته للقتل وصبرته أيضا وأصبرته إذا حبسه للحلف ومنه الحديث الصحيح من حلف على يمين صبر ليقتطع بها مال امرىء مسلم لقي الله وهو عنه معرض ومنه الحديث الذي في القسامة ولا تصبر يمينه حيث تصبر الإيمان والمصبورة اليمين المحلوف عليها وفي الحديث نهى عن المصبورة وهى الشاة والدجاجة ونحوهما تصبر للموت فتربط فترمى حيث تموت.
وفعل هذا الباب صبرت أصبر بالفتح في الماضي والكسر في

ص -16- المستقبل وأما صبرت أصبر بالضم في المستقبل فهو بمعنى الكفالة والصبير الكفيل كأنه حبس نفسه للغرم ومنه قولهم أصبرنى أي جعلني كفيلا وقيل أصل الكلمة من الشدة والقوة ومنه الصبر للدواء المعروف لشدة مرارته وكراهته قال الأصمعى "إذا لقي الرجل الشدة بكمالها قيل لقيها بأصبارها" ومنه الصبر بضم الصاد للأرض ذات الحصب لشدتها وصلابتها ومنه سميت الحرة أم صبار ومنه قولهم وقع القوم في أمر صبور بتشديد الباء أي أمر شديد ومنه صبارة الشتاء بتخفيف الباء وتشديد الراء لشدة برده وقيل مأخوذ من الجمع والضم فالصابر يجمع نفسه ويضمها عن الهلع والجزع ومنه صبرة الطعام وصبارة الحجارة.
والتحقيق أن في الصبر المعاني الثلاثة المنع والشدة والضم ويقال صبر إذا أتى بالصبر وتصبر إذا تكلفه واستدعاه واصطبر إذا اكتسبه وتعمله وصابر إذا وقف خصمه في مقام الصبر وصبر نفسه وغيره بالتشديد إذا حملها على الصبر واسم الفاعل صابر وصبار وصبور ومصابر ومصطبر فمصابر من صابر ومصطبر من اصطبر وصابر من صبر وأما صبار وصبور فمن أوزان المبالغة من الثلاثى كضراب وضروب والله أعلم

عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين

الباب الثاني في حقيقة الصبر
الباب الثاني: في حقيقة الصبر وكلام الناس فيه
قد تقدم بيان معناه لغة وأما حقيقته فهو خلق فاضل من أخلاق النفس يمتنع به من فعل ما لا يحسن ولا يجمل وهو قوة من قوى النفس التى بها صلاح شأنها وقوام أمرها وسئل عنه الجند بن محمد فقال تجرع المرارة من غير تعبس وقال ذو النون هو التباعد عن المخالفات والسكون عند تجرع غصصى البلية وإظهار الغني مع حلول الفقر بساحات المعيشة وقبل الصبر هو الوقوف مع البلاء بحسن الأدب وقيل:

ص -17- "هو الغنى في البلوى بلا ظهور شكوى وقال أبو عثمان الصبار "هو الذي عود نفسه الهجوم على المكاره" وقيل الصبر المقام على البلاء بحسن الصحبة كالمقام مع العافية ومعنى هذا أن لله على العبد عبودية في عافيته وفي بلائه فعليه أن يحسن صحبة العافية بالشكر وصحبة البلاء بالصبر وقال عمرو بن عثمان المكي: "الصبر هو الثبات مع الله وتلقى بلائه بالرحب والدعة" ومعنى هذا انه يتلقى البلاء وبصدر واسع لا يتعلق بالضيق والسخط والشكوى وقال الخواص "الصبر الثبات على أحكام الكتاب والسنة" وقال رويم "الصبر ترك الشكوى" فسره يلازمه وقال غيره "الصبر هو الاستعانة بالله" وقال أبو على "الصبر كاسمه" وقال على بن أبى طالب رضى الله عنه "الصبر مطية لا تكبو" وقال أبو محمد الجريري "الصبر أن لا يفرق بين النعمة والمحنة مع سكون الخاطر فيهما".
قلت وهذا غير مقدور ولا مأمور به فقد ركب الله الطباع على التفريق بين الحالتين وانما المقدور حبس النفس عن الجزع لا استواء الحالتين عند العبد وساحة العافية أوسع للعبد من ساحة الصبر كما قال النبي في الدعاء المشهور "إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالى غير أن عافيتك أوسع لي" ولا يناقض هذا قوله "وما أعطى أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر" فإن هذا بعد نزول البلاء ليس للعبد أوسع من الصبر وأما قبله فالعافية أوسع له وقال أبو على الدقاق "حد الصبر أن لا يعترض على التقدير" فأما إظهار للبلاء على غير وجه الشكوى فلا ينافي الصبر قال الله تعالى في قصة أيوب {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً} مع قوله {مسنى الضر} قلت فسر اللفظ بلازمها.
وأما قوله "على غير وجه الشكوى" فالشكوى نوعان أحدهما الشكوى إلى الله فهذا لا ينافي الصبر كما قال يعقوب {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} مع قوله {فصبر جميل} وقال أيوب {مسني الضر} مع

ص -18- وصف الله له بالصبر وقال سيد الصابرين صلوات الله وسلامه عليه "اللهم أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتى... الخ".
وقال موسى صلوات الله وسلامه عليه "اللهم لك الحمد واليك المشتكى وأنت المستعان وبك المستغاث وعليك التكلان ولا حول ولا قوة الا بك".
والنوع الثانى شكوى المبتلى بلسان الحال والمقال فهذه لا تجامع الصبر بل تضاده وتبطله فالفرق بين شكواه والشكوى اليه وسنعود لهذه المسألة في باب اجتماع الشكوى والصبر وافتراقهما ان شاء الله تعالى.
وقيل الصبر شجاعة النفس ومن ها هنا أخذ القائل قوله الشجاعة صبر ساعة وقيل الصبر ثبات القلب عند موارد الاضطراب والصبر والجزع ضدان ولهذا يقابل أحدهما بالآخر قال تعالى عن أهل النار: {سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص} والجزع قرين العجز وشقيقه والصبر قرين الكيس ومادته فلو سئل الجزع من أبوك لقال العجز ولو سئل الكيس من أبوك لقال الصبر والنفس مطية العبد التى يسير عليها إلى الجنة أو النار والصبر لها بمنزلة الخطام والزمام للمطيه فإن لم يكن للمطيه خطام ولا زمام شردت في كل مذهب.
وحفظ من خطب الحجاج "اقدعوا هذه النفوس فإنها طلعة إلى كل سوء فرحم الله امرءا جعل لنفسه خطاما وزماما فقادها بخطامها إلى طاعة الله وصرفها بزمامها عن معاصى الله فإن الصبر عن محارم الله أيسر من الصبر على عذابه".
قلت والنفس فيها قوتان قوة الإقدام وقوة الإحجام فحقيقة الصبر ان يجعل قوة الإقدام مصروفة إلى ما ينفعه وقوة الإحجام إمساكا عما يضره ومن الناس من تكون قوة صبره على فعل ما ينتفع به وثباته عليه أقوى من صبره عما يضره فيصبر على مشقة الطاعة ولا صبر له عن داعي

ص -19- هواه إلى ارتكاب ما نهى عنه ومنهم من تكون قوة صبره عن المخالفات أقوى من صبره على مشقة الطاعات ومنهم من لا صبر له على هذا ولا ذاك وأفضل الناس أصبرهم على النوعين فكثير من الناس يصبر على مكابدة قيام الليل في الحر والبرد وعلى مشقة الصيام ولا يصبر عن نظرة محرمة وكثير من الناس يصبر عن النظر وعن الالتفات إلى الصور ولا صبر له على الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وجهاد الكفار والمنافقين بل هو أضعف شئ عن هذا وأعجزه وأكثرهم لا صبر له على واحد من الأمرين وأقلهم أصبرهم في الموضعين وقيل "الصبر ثبات باعث العقل والدين في مقابلة باعث الهوى والشهوة" ومعنى هذا أن الطبع يتقاضى ما يحب وباعث العقل والدين يمنع منه والحرب قائمة بينهما وهو سجال ومحرك هذا الحرب قلب العبد والصبر والشجاعة والثبات

عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين

الباب الثالث في بيان أسماء الصبر
الباب الثالث: في بيان أسماء الصبر بالإضافة إلى متعلقه
لما كان الصبر المحمود هو الصبر النفساني الاختياري عن إجابة داعي الهوى المذموم كانت مراتبه وأسماؤه بحسب متعلقه فإنه ان كان صبرا عن شهوة الفرج المحرمة سمي عفة وضدها الفجور والزنا والعهر وان كان عن شهوة البطن وعدم التسرع إلى الطعام أو تناول مالا يجمل منه سمي شرف نفس وشبع نفس وسمي ضده شرها ودناءة ووضاعة نفس وان كان عن إظهار ما لا يحسن إظهاره من الكلام سمي كتمان سر وضده إذاعة وإفشاء أو تهمة أو فحشاء أو سبا أو كذبا أو قذفا وان كان عن فضول العيش سمي زهدا وضده حرصا وان كان على قدر يكفي من الدنيا سمي قناعة وضدها الحرص أيضا وان كان عن إجابة داعي الغضب سمي حلما وضده تسرعا وان كان عن إجابة داعي العجلة سمي وقارا وثباتا وضده طيشا وخفة وان كان عن إجابة داعي الفرار والهرب سمي شجاعة وضده جبنا وخورا وان كان عن إجابة داعي الانتقام سمي

ص -20- عفوا وصفحا وضده انتقاما وعقوبة وان كان عن إجابة داعي الإمساك والبخل سمي جودا وضده بخلا وان كان عن إجابة داعي الطعام والشراب في وقت مخصوص سمي صوما وان كان عن إجابة داعي العجز والكسل سمي كيسا وان كان عن إجابة داعي إلقاء الكيل على الناس وعدم حمل كلهم سمي مروءة فله عند كل فعل وترك اسم يخصه بحسب متعلقه والاسم الجامع لذلك كله الصبر وهذا يدلك على ارتباط مقامات الدين كلها بالصبر من أولها إلى آخرها وهكذا يسمى عدلا إذا تعلق بالتسوية بين المتماثلين وضده الظلم ويسمى سماحة إذا تعلق ببذل الواجب والمستحب بالرضا والاختيار وعلى هذا جميع منازل الدين

عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين

الباب الرابع في الفرق بين الصبر والتصبر والاصطبار والمصابرة
الباب الرابع: في الفرق بين الصبر والتصبر والاصطبار والمصابرة
الفرق بين هذه الأسماء بحسب حال العبد في نفسه وحاله مع غيره فإن حبس نفسه ومنعها عن إجابة داعي ما لا يحسن ان كان خلقا له وملكه سمي صبرا وان كان بتكلف وتمرن وتجرع لمرارته سمي تصبرا كما يدل عليه هذا البناء لغة فإنه موضوع للتكلف كالتحلم والتشجع والتكرم والتحمل ونحوها وإذا تكلفه العبد واستدعاه صار سجية له كما في الحديث عن النبي أنه قال "ومن يتصبر يصبره الله" وكذلك العبد يتكلف التعفف حتى يصير التعفف له سجية كذلك سائر الأخلاق وهي مسألة اختلف فيها الناس هل يمكن اكتساب واحد منها أو التخلق لا يصير خلقا أبدا كما قال الشاعر:
يراد من القلب نسيانكم وتأبى الطباع على الناقل
وقال آخر
يا أيها المتحلى غير شيمته ان التخلق يأتى دونه الخلق
فقبح التطبع شيمة المطبوع

ص -21- قالوا وقد فرغ الله سبحانه من الخلق والخلق والرزق والأجل وقالت طائفة أخرى بل يمكن اكتساب الخلق كما يكتسب العقل والحلم والجود والسخاء والشجاعة والوجود شاهد بذلك قالوا والمزاولات تعطى الملكات ومعنى هذا أن من زاول شيئا واعتاده وتمرن عليه صار ملكه له وسجيه وطبيعه قالوا والعوائد تنقل الطبائع فلا يزال العبد يتكلف التصبر حتى يصير الصبر له سجية كما أنه لا يزال يتكلف الحلم والوقار والسكينة والثبات حتى تصير له أخلاقا بمنزلة الطبائع قالوا وقد جعل الله سبحانه في الإنسان قوة القبول والتعلم فنقل الطبائع عن مقتضياتها غير مستحيل غير أن هذا الانتقال قد يكون ضعيفا فيعود العبد إلى طبعه بأدنى باعث وقد يكون قويا ولكن لم ينقل الطبع فقد يعود إلى طبعه إذا قوى الباعث واشتد وقد يستحكم الانتقال بحيث يستحدث صاحبه طبعا ثانيا فهذا لا يكاد يعود إلى طبعه الذى انتقل عنه.
وأما الاصطبار فهو أبلغ من التصبر فإنه افتعال للصبر بمنزلة الاكتساب فالتصبر مبدأ الاصطبار كما أن التكسب مقدمة الاكتساب فلا يزال التصبر يتكرر حتى يصير اصطبارا
وأما المصابرة فهي مقاومة الخصم في ميدان الصبر فإنها مفاعلة تستدعى وقوعها بين اثنين كالمشاتمة والمضاربة قال الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} فأمرهم بالصبر وهو حال الصابر في نفسه والمصابرة وهى حاله في الصبر مع خصمه والمرابطة وهى الثبات واللزوم والاقامة على الصبر والمصابرة فقد يصبر العبد ولا يصابر وقد يصابر ولا يرابط وقد يصبر ويصابر ويرابط من غير تعبد بالتقوى فأخبر سبحانه أن ملاك ذلك كله التقوى وأن الفلاح موقوف عليها فقال {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} فالمرابطة كما أنها لزوم الثغر الذي يخاف هجوم العدو منه في الظاهر فهي لزوم ثغر القلب لئلا يدخل منه الهوى والشيطان فيزيله عن

مملكته

عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين

الباب الخامس في أقسام الصبر باعتبار محله
ص -22- الباب الخامس: في انقسامه باعتبار محلّه
الصبر ضربان: ضرب بدني وضرب نفساني وكل منهما نوعان اختياري واضطراري فهذه أربعة أقسام:
الأول: البدني الاختياري، كتعاطي الأعمال الشاقة على البدن اختيارا وإرادة.
الثاني: البدني الاضطراري كالصبر على ألم الضرب والمرض والجراحات والبرد والحر وغير ذلك.
الثالث: النفساني الاختياري كصبر النفس عن فعل ما لا يحسن فعله شرعا ولا عقلا.
الرابع: النفساني الاضطراري كصبر النفس عن محبوبها قهرا إذا حيل بينها وبينه.
فإذا عرفت هذه الأقسام فهي مختصة بنوع الإنسان دون البهائم ومشاركة للبهائم في نوعين منها وهما صبر البدن والنفس الاضطراريين وقد يكون بعضها أقوى صبرا من الإنسان وإنما يتميز الإنسان عنها بالنوعين الاختياريين وكثير من الناس تكون قوة صبره في النوع الذى يشارك فيه البهائم لا في النوع الذى يخص الإنسان فيعد صابرا وليس من الصابرين.
فإن قيل هل يشارك الجن والإنس في هذا الصبر قيل نعم هذا من لوازم التكليف وهو مظنة الأمر والنهى والجن مكلفون بالصبر على الأوامر والصبر عن النواهى كما كلفنا نحن بذلك فإن قيل فهل هم مكلفون على الوجه الذى كلفنا نحن به أم على وجه آخر قيل ما كان من لوازم النفوس كالحب والبغض والإيمان والتصديق والموالاة والمعاداة فنحن وهم مستوون فيه وما كان من لوازم الأبدان كغسل الجنابة وغسل

ص -23- الأعضاء في الوضوء والاستنجاء والختان وغسل الحيض ونحو ذلك فلا تجب مساواتهم لنا في تكلفه وان تعلق ذلك بهم على وجه يناسب خلقتهم وحيائهم.
فإن قيل فهل تشاركنا الملائكة في شئ من أقسام الصبر قيل الملائكة لم يبتلوا بهوى يحارب عقولهم ومعارفهم بل العبادة والطاعة لهم كالنفس لنا فلا يتصور في حقهم الصبر الذي حقيقته ثبات باعث الدين والعقل في مقابلة باعث الشهوة والهوى وان كان لهم صبر يليق بهم وهو ثباتهم وإقامتهم على ما خلقوا له من غير منازعة هوى أو شهوة أو طبع.
فالإنسان منا إذا غلب صبره باعث الهوى والشهوة التحق بالملائكة وان غلب باعث الهوى والشهوة صبره التحق بالشياطين وان غلب باعث طبعه من الأكل والشرب والجماع صبره التحق بالبهائم قال قتادة خلق الله سبحانه الملائكة عقولا بلا شهوات وخلق البهائم شهوات بلا عقول وخلق الإنسان وجعل له عقلا وشهوة فمن غلب عقله شهوته فهو مع الملائكة ومن غلبت شهوته عقله فهو كالبهائم ولما خلق الإنسان في ابتداء أمره ناقصا لم يخلق فيه الإ شهوة الغذاء الذي هو محتاج إليه فصبره في هذه الحال بمنزلة صبر البهائم وليس له قبل تمييزه قوة صبر الاختيار فإذا ظهرت فيه شهوة اللعب استعد لقوة الصبر الاختياري على ضعفها فيه فإذا تعلقت به شهوة النكاح ظهرت فيه قوة الصبر وإذا تحرك سلطان العقل وقوى استعان بجيش الصبر ولكن هذا السلطان وجنده لا يستقلان بمقاومة سلطان الهوى وجنده فإن إشراق نور الهداية يلوح عليه عند أول سن التمييز وينمو على التدريج إلى سن البلوغ كما يبدو خيط الفجر ثم يتزايد ظهوره وكلها هداية قاصرة غير مستقلة بإدراك مصالح الآخرة ومضارها بل غايتها تعلقها ببعض مصالح الدنيا ومفاسدها فإذا طلعت عليه شمس النبوة والرسالة وأشرق عليه نورها رأى في ضوئها تفاصيل مصالح الدارين ومفاسدهما فتلمح العواقب وليس لأمة الحرب وأخذ أنواع

ص -24- الأسلحه ووقع في حومة الحرب بين داعي الطبع والهوى وداعي العقل والهدى والمنصور من نصره الله والمخذول من خذله ولا تضع الحرب أوزارها حتى ينزل في إحدى المنزلتين ويصير إلى ما خلق له من الدارين.

عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين

الباب السادس في أقسامه بحسب اختلاف قوته وضعفه ومقاومته لجيش الهوى وعجزه عنه
الباب السادس: بيان أقسامه بحسب اختلاف قوته وضعفه ومقاومته لجيش الهوى وعجزه عنه.
وباعث الدين بالإضافة إلى باعث الهوى له ثلاثة أحوال:
إحداها: أن يكون القهر والغلبة لداعي الدين فيرد جيش الهوى مغلولا وهذا إنما يصل إليه بدوام الصبر والواصلون إلى هذه الرتبة هم المنصورون في الدنيا والآخرة وهم الذين قالوا {رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} وهم الذين تقول لهم الملائكة عند الموت {أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} وهم الذين نالوا معية الله مع الصابرين وهم الذين جاهدوا في الله حق جهاده وخصهم بهدايته دون من عداهم.
الحالة الثانية ان تكون القوة والغلبة لداعي الهوى فيسقط منازعه باعث الدين بالكلية فيستسلم البائس للشيطان وجنده فيقودونه حيث شاءوا وله معهم حالتان إحداهما ان يكون من جندهم وأتباعهم وهذه حال العاجز الضعيف الثانية ان يصير الشيطان من جنده وهذه حال الفاجر القوي المتسلط والمبتدع الداعية المتبوع كما قال القائل:
وكنت امرءا من جند إبليس فارتقى بي الحال حتى صار إبليس من جندي
فيصير إبليس وجنده من أعوانه وأتباعه وهؤلاء هم الذين غلبت عليهم شقوتهم واشتروا الحياة الدنيا بالآخرة وإنما صاروا إلى هذه الحال لما أفلسوا من الصبر وهذه الحالة هي حالة جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء

ص -25- القضاء وشماتة الأعداء وجند أصحابها المكر والخداع والأماني الباطلة والغرور والتسويف بالعمل وطول الأمل وإيثار العاجل على الآجل وهي التي قال في صاحبها النبي:"العاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني" وأصحاب هذه الحال أنواع شتى فمنهم المحارب لله ورسوله الساعي في أبطال ما جاء به الرسول يصد عن سبيل الله ويبغيها جهده عوجا وتحريفا ليصد الناس عنها ومنهم المعرض عما جاء به الرسول المقبل على دنياه وشهواتها فقط ومنهم المنافق ذو الوجهين الذي يأكل بالكفر والإسلام ومنهم الماجن المتلاعب الذي قطع أنفاسه بالمجون واللهو واللعب ومنهم من إذا وعظ قال واشواقاه إلى التوبة ولكنها قد تعذرت على فلا مطمع لي فيها ومنهم من يقول ليس الله محتاجا إلى صلاتي وصيامي وأنا لا أنجو بعملي والله غفور رحيم ومنهم من يقول ترك المعاصي استهانة بعفو الله ومغفرته.
فكثر ما استطعت من الخطايا إذا كان القدوم على كريم
ومهم من يقول ماذا تقع طاعتي في جنب ما عملت وما قد ينفع الغريق خلاص أصبعه وباقي بدنه غريق ومنهم من يقول سوف أتوب وإذا جاء الموت ونزل بساحتي تبت وقبلت توبتي إلى غير ذلك من أصناف المغترين الذين صارت عقولهم في أيدي شهواتهم فلا يستعمل أحدهم عقله إلا في دقائق الحيل التي بها يتوصل إلى قضاء شهوته فعقله مع الشيطان كالأسير في يد الكافر يستعمله في رعاية الخنازير وعصر الخمر وحمل الصليب وهو بقهره عقله وتسليمه إلى أعدائه عند الله بمنزلة رجل قهر مسلما وباعه للكفار وسلمه إليهم وجعله أسيرا عندهم.
فصل: وهاهنا نكتة بديعة يجب التفطن لها وينبغي إخلاء القلب لتأملها وهو أن هذا المغرور لما أذل سلطان الله الذي أعزه به وشرفه ورفع به قدره وسلمه في يد أبغض أعدائه إليه وجعله أسيرا له تحت قهره وتصرفه وسلطانه سلط الله عليه من كان حقه هو أن يتسلط عليه فجعله

ص -26- تحت قهره وتصرفه وسلطانه يسخره حيث شاء ويسخر منه ويسخر منه جنده وحزبه فكما أذل سلطان الله وسلمه إلى عدوه أذله الله وسلط عليه عدوه الذي أمره أن يتسلط هو عليه ويذله ويقهره فصار بمنزلة من سلم نفسه إلى أعدى عدو له يسومه سوء العذاب وقد كان بصدد أن يستأسره ويقهره ويشفي غيظه منه فلما ترك مقاومته ومحاربته واستسلم له سلط عليه عقوبة له قال الله تعالى {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ}.
فإن قيل فقد أثبت له على أوليائه هاهنا سلطانا فكيف نفاه بقوله تعالى حاكيا عنه مقررا له {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} وقال تعالى {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ}
قيل: السلطان الذي أثبته له عليهم غير الذي نفاه من وجهين أحدهما أن السلطان الثابت هو سلطان التمكن منهم وتلاعبه بهم وسوقه اياهم كيف أراد بتمكينهم اياه من ذلك بطاعته وموالاته والسلطان الذى نفاه سلطان الحجة فلم يكن لابليس عليهم من حجة يتسلط بها غير أنه دعاهم فأجابوه بلا حجة ولا برهان الثانى أن الله لم يجعل له عليهم سلطانا ابتداء البتة ولكن هم سلطوه على انفسهم بطاعته ودخولهم في جملة جنده وحزبه فلم يتسلطن عليهم بقوته فإن كيده ضعيف وانما تسلطن عليهم بإرادتهم واختيارهم

والمقصود أن من قصد أعظم أوليائه وأحبابه ونصحائه فأخذه وأخذ أولاده وحاشيته وسلمهم إلى عدوه كان من عقوبته أن يسلط عليه ذلك العدو نفسه.
فصل: الحالة الثالثة أن يكون الحرب سجالا ودولا بين الجندين

ص -27- فتارة له وتارة عليه وتكثر نوبات الانتصار وتقل وهذه حال أكثر المؤمنين الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا.
وتكون الحال يوم القيامة موازنة لهذه الأحوال الثلاث سواء بسواء فمن الناس من يدخل الجنة ولا يدخل النار ومنهم من يدخل النار ولا يدخل الجنة ومنهم من يدخل النار ثم يدخل الجنة وهذه الأحوال الثلاث هى أحوال الناس في الصحة والمرض فمن الناس من تقاوم قوته داءه فتقهره ويكون السلطان للقوة ومنهم من يقهر داؤه قوته ويكون السلطان للداء ومنهم من الحرب بين دائه وقوته نوبا فهو متردد بين الصحة والمرض.
فصل: ومن الناس من يصبر بجهد ومشقة ومنهم من يصبر بأدنى حمل على النفس ومثال الاول كرجل صارع رجلا شديدا فلا يقهره إلا بتعب ومشقة والثانى كمن صارع رجلا ضعيفا فإنه يصرعه بغير مشقة فهكذا تكون المصارعة بين جنود الرحمن وجنود الشيطان ومن صرع جند الشيطان صرع الشيطان.
قال عبد الله بن مسعود رضى الله عنه "لقى رجلا من الانس رجلا من الجن فصارعه فصرعه الانسى فقال مالى أراك ضئيلا فقال انى من بينهم لضليع فقالوا أهو عمر بن الخطاب" فقال "من ترونه غير عمر!".
وقال بعض الصحابة ان المؤمن ينضى شيطانه كما ينضى أحدكم بعيره في السفر وذكر ابن أبى الدنيا عن بعض السلف أن شيطانا لقى شيطانا فقال ما لى أراك شخيبا فقال انى مع رجل ان أكل ذكر اسم الله فلا آكل معه وان شرب ذكر اسم الله فلا أشرب معه وان دخل بيته ذكر اسم الله فأبيت خارج الدار فقال الآخر لكنى مع رجل أن أكل لم يسم الله فأكل أنا وهو جميعا وان شرب لم يسم الله فأشرب معه وان

ص -28- دخل داره لم يسم الله فأدخل معه وان جامع امرأته لم يسم الله فأجامعها فمن اعتاد الصبر هابه عدوه ومن عز عليه الصبر طمع فيه عدوه وأوشك أن ينال منه غرضه

عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين

الباب السابع في بيان أقسامه باعتبار متعلقه
الباب السابع: في ذكر أقسامه باعتبار متعلقه
الصبر باعتبار متعلقه ثلاثة أقسام صبر على الأوامر والطاعات حتى يؤديها وصبر عن المناهي والمخالفات حتى لا يقع فيها وصبر على الأقدار والاقضية حتى لا يتسخطها وهذه الأنواع الثلاثة هي التى قال فيها الشيخ عبد القادر في فتوح الغيب: "لا بد للعبد من أمر يفعله ونهي يجتنبه وقدر يصبر عليه"21.
وهذا الكلام بطرفين طرف من جهة الرب تعالى وطرف من جهة العبد.
فأما الذي من جهة الرب فهو أن الله تعالى له على عبده حكمان حكم شرعي ديني وحكم كوني قدري فالشرعي متعلق بأمره والكوني متعلق بخلقه وهو سبحانه له الخلق والأمر وحكمه الديني الطلبي نوعان بحسب المطلوب فإن المطلوب ان كان محبوبا له فالمطلوب فعله إما واجبا وإما مستحبا ولا يتم ذلك إلا بالصبر وان كان مبغوضا له فالمطلوب تركه إما تحريما وإما كراهة وذلك أيضا موقوف على الصبر فهذا حكمه الدينى الشرعى واما حكمه الكونى فهو ما يقضيه ويقدره على العبد من المصائب التى لا صنع له فيها ففرضه الصبر عليها وفي وجوب الرضا بها قولان للعلماء وهما وجهان في مذهب أحمد أصحهما أنه مستحب فمرجع الدين كله إلى هذه القواعد الثلاث فعل المأمور وترك المحظور والصبر على المقدور وأما الذي من جهة العبد فإنه لا ينفك عن هذه الثلاث ما دام مكلفا ولا تسقط عنه هذه الثلاث حتى يسقط عنه التكليف فقيام عبودية

ص -29- الأمر والنهى والقدر على ساق الصبر لا تستوي إلا عليه كما لا تستوي السنبلة إلا على ساقها.
فالصبر متعلق بالمأمور والمحظور والمقدور بالخلق والأمر والشيخ دائما يحوم حول هذه الأصول الثلاثة كقوله يا بنى افعل المأمور وأجتنب المحظور واصبر على المقدور وهذه الثلاثة هى التى أوصى بها لقمان لابنه في قوله :{يا بنى أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك} فأمره بالمعروف يتناول فعله بنفسه وأمر غيره به وكذلك نهيه عن المنكر أما من حيث اطلاق اللفظ فتدخل نفسه فيه وغيره وأما من حيث اللزوم الشرعى فإن الآمر الناهى لا يستقيم له أمره ونهيه حتى يكون أول مأمور ومنهى وذكر سبحانه هذه الأصول الثلاثة في قوله {انما يتذكر أولو الالباب الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرأون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار}.
فجمع لهم مقامات الإسلام والإيمان في هذه الأوصاف فوصفهم بالوفاء بعهده الذي عاهدهم عليه وذلك يعم أمره ونهيه الذي عهده إليهم بينهم وبينه وبينهم وبين خلقه ثم أخبر عن استمرارهم بالوفاء به بأنهم لا يقع منهم نقضه ثم وصفهم بأنهم يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويدخل في هذا ظاهر الدين وباطنه وحق الله وحق خلقه فيصلون ما بينهم وبين ربهم بعبوديته وحده لا شريك له والقيام بطاعته والإنابة إليه والتوكل عليه وحبه وخوفه ورجائه والتوبة إليه والاستكانة له والخضوع والذلة له والاعتراف له بنعمته وشكره عليها والإقرار بالخطيئة والاستغفار منها فهذه هي الوصلة بين الرب والعبد وقد أمر الله بهذه الأسباب التي بينه وبين عبده أن توصل وأمر أن نوصل ما بيننا وبين رسوله بالإيمان به

ص -30- وتصديقه وتحكيمه في كل شيء والرضا لحكمه والتسليم له وتقديم محبته على محبة النفس والولد والوالد والناس أجمعين صلوات الله وسلامه عليه فدخل في ذلك القيام بحقه وحق رسوله وأمر أن نصل ما بيننا وبين الوالدين والأقربين بالبر والصلة فأنه أمر بيد الوالدين وصلة الأرحام وذلك مما أمر به أن يوصل وأمر ان نصل ما بيننا وبين الزوجات بالقيام بحقوقهن ومعاشرتهن بالمعروف وأمر أن نصل ما بيننا وبين الأرقاء بأن نطعمهم مما نأكل ونكسوهم مما نكتسي ولا نكلفهم فوق طاقتهم وأن نصل ما بيننا وبين الجار القريب والبعيد بمراعاة حقه وحفظه في نفسه وماله وأهله بما نحفظ به نفوسنا وأهلينا وأموالنا وأن نصل ما بيننا وبين الرفيق في السفر والحضر وأن نصل ما بيننا وبين عموم الناس بأن نأتى اليهم بما نحب أن يأتوه الينا وأن نصل ما بيننا وبين الحفظة الكرام الكاتبين بأن نكرمهم ونستحى منهم كما يستحى الرجل من جليسه ومن هو معه ممن يجله ويكرمه.
فهذا كله مما أمر الله به أن يوصل ثم وصفهم بالحامل لهم على هذه الصلة وهو خشيته وخوف سوء الحساب يوم المآب ولا يمكن لأحد قط أن يصل ما أمر الله بوصله الا بخشيته ومتى ترحلت الخشية من القلب انقطعت هذه الوصل ثم جمع لهم سبحانه ذلك كله في أصل واحد هو أخية ذلك وقاعدته ومداره الذى يدور عليه وهو الصبر فقال والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم فلم يكتف منهم بمجرد الصبر حتى يكون خالصا لوجهه.
ثم ذكر لهم ما يعيينهم على الصبر وهى الصلاة فقال وأقاموا الصلاة وهذان هما العونان على مصالح الدنيا والآخرة وهما الصبر والصلاة فقال تعالى {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} وقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}.

ص -31- ثم ذكر سبحانه احسانهم إلى غيرهم بالإنفاق عليهم سرا وعلانية فأحسنوا إلى أنفسهم بالصبر والصلاة وإلى غيرهم بالإنفاق عليهم ثم ذكر حالهم اذا جهل عليهم وأوذوا انهم لا يقابلون ذلك بمثله بل يدرأون بالحسنة السيئة فيحسنون إلى من يسيء اليهم فقال ويدرأون بالحسنة السيئة وقد فسر هذا الدرء بأنهم يدفعون بالذنب الحسنة بعده كما قال تعالى ان الحسنات يذهبن السيئات وقال النبي اتبع السيئة الحسنة تمحها والتحقيق أن الآية تعم النوعين.
والمقصود أن هذه الايات تناولت مقامات الاسلام والايمان كلها اشتملت على فعل المأمور وترك المحظور والصبر على المقدور وقد ذكر تعالى هذه الاصول الثلاثة في قوله: {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا} وقوله {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِر} وقوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} فكل موضع قرن فيه التقوى بالصبر اشتمل على الأمور الثلاثة فإن حقيقة التقوى فعل المأمور وترك المحظور

عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين

الباب الثامن في انقسامه باعتبار تعلق الأحكام الخمسة به
الباب الثامن: في انقسامه باعتبار تعلق الأحكام الخمسة به.
وهو ينقسم بهذا الاعتبار إلى واجب ومندوب ومحظور ومكروه ومباح فالصبر الواجب ثلاثة أنواع: أحدها الصبر عن المحرمات والثانى الصبر على أداء الواجبات والثالث الصبر على المصائب التى لا صنع للعبد فيها كالأمراض والفقر وغيرها.
وأما الصبر المندوب فهو الصبر عن المكروهات والصبر على المستحبات والصبر على مقابلة الجانى بمثل فعله.
وأما المحظور فأنواع أحدها الصبر عن الطعام والشراب حتى يموت

ص -32- وكذلك الصبر عن الميتة والدم ولحم الخنزير عند المخمصة حرام إذا خاف بتركه الموت قال طاوس وبعده الامام أحمد من اضطر إلى أكل الميتة والدم فلم يأكل فمات دخل النار.
فإن قيل فما تقولون في الصبر عن المسألة في هذه الحال.
قيل اختلف في حكمه هل هو حرام أو مباح على قولين هما لأصحاب أحمد وظاهر نصه ان الصبر عن المسألة جائز فإنه قيل له إذا خاف أن لم يسأل أن يموت فقال لا يموت يأتيه الله برزقه أو كما قال فأحمد منع وقوع المسألة ومتى علم الله ضرورته وصدقه في ترك المسألة قيض الله له رزقا
وقال كثير من أصحاب أحمد والشافعي يجب عليه المسألة وان لم يسأل كان عاصيا لأن المسألة تتضمن نجاته من التلف.
فصل ومن الصبر المحظور صبر الإنسان على ما يقصد هلاكه من سبع أو حيات أو حريق أو ماء أو كافر يريد قتله بخلاف استسلامه وصبره في الفتنة وقتال المسلمين فإنه مباح له بل يستحب كما دلت عليه النصوص الكثيرة وقد سئل النبي عن هذه المسألة بعينها فقال: "كن كخير ابني آدم" وفي لفظ "كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل" وفي لفظ "دعه يبوء بإثمه وإثمك" وفي لفظ آخر "فإن بهرك شعاع السيف فضع يدك على وجهك" وقد حكى الله استسلام خير ابنى آدم وأثنى عليه بذلك وهذا بخلاف قتل الكافر فإنه يجب عليه الدفع عن نفسه لأن من مقصود الجهاد أن يدفع عن نفسه وعن المسلمين وأما قتال اللصوص فهل يجب فيه الدفع أو يجوز فيه الاستسلام فان كان عن معصوم غيره وجب وإن كان عن نفسه فظاهر نصوصه أنه لا يجب الدفع وأوجبه بعضهم ولا يجوز الصبر على من قصده أو حرمته بالفاحشة.

ص -33- فصل: وأما الصبر المكروه فله أمثلة أحدها أن يصبر عن الطعام والشراب واللبس وجماع أهله حتى يتضرر بذلك بدنه الثاني صبره عن جماع زوجته إذا احتاجت إلى ذلك ولم يتضرر به الثالث صبره على المكروه الرابع صبره عن فعل المستحب.
فصل: وأما الصبر المباح فهو الصبر عن كل فعل مستوى الطرفين خير بين فعله وتركه والصبر عليه.
وبالجملة فالصبر على الواجب واجب وعن الواجب حرام والصبر عن الحرام واجب وعليه حرام والصبر على المستحب مستحب وعنه مكروه والصبر عن المكروه مستحب وعليه مكروه والصبر عن المباح مباح والله أعلم

عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين

الباب التاسع في بيان تفاوت درجات الصبر
الباب التاسع: في بيان تفاوت درجات الصبر
الصبر كما تقدم نوعان: اختياري واضطراري والاختياري أكمل من الاضطراري فإن الاضطرارى يشترك فيه الناس ويتأتى ممن لا يتأتى منه الصبر الاختيارى ولذلك كان صبر يوسف الصديق عليه السلام عن مطاوعة امرأة العزيز وصبره على ما ناله في ذلك من الحبس والمكروه أعظم من صبره على ما ناله من اخوته لما ألقوه في الجب وفرقوا بينه وبين أبيه وباعوه بيع العبد ومن الصبر الثانى انشاء الله سبحانه له ما أنشأه من العز والرفعة والملك والتمكين في الأرض وكذلك صبر الخليل عليه السلام والكليم وصبر نوح وصبر المسيح وصبر خاتم الأنبياء وسيد ولد آدم عليهم الصلاة والسلام كان صبرا على الدعوة إلى الله ومجاهدة أعداء الله ولهذا سماهم الله أولى العزم وأمر رسوله أن يصبر صبرهم فقال {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} وأولو العزم هم المذكورون في قوله تعالى {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا

ص -34- وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} وفي قوله {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} كذلك قال ابن عباس وغيره من السلف ونهاه سبحانه أن يتشبه بصاحب الحوت حيث لم يصبر صبر أولى العزم فقال {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ}.
وها هنا سؤال نافع وهو أن يقال ما العامل في الظرف وهو قوله {إِذْ نَادَى} ولا يمكن أن يكون الفعل المنهى عنه اذ يصير المعنى لا تكن مثله في ندائه وقد أثنى الله سبحانه عليه في هذا النداء فأخبر أنه نجاه به فقال {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} وفي الترمذى وغيره عن النبي أنه قال: "دعوة أخى ذى النون اذ دعا بها في بطن الحوت ما دعا بها مكروب الا فرج الله عنه لا اله الا أنت سبحانك انى كنت من الظالمين" فلا يمكن أن ينهى عن التشبه به في هذه الدعوة وهى النداء الذى نادى به ربه وانما نهى عن التشبه به في هذه الدعوة وهى النداء الذى نادى به ربه وانما ينهى عن التشبه به في السبب الذى أفضى به إلى هذه المناداة وهى مغاضبته التى أفضت به إلى حبسه في بطن الحوت وشدة ذلك عليه حتى نادى ربه وهو مكظوم والكظيم والكاظم الذى قد امتلأ غيظا وغضبا وهما وحزنا وكظم عليه فلم يخرجه.
فإن قيل وعلى ذلك فما العامل في الظرف قيل ما في صاحب الحوت من معنى الفعل
فإن قيل فالسؤال بعد قائم فإنه إذا قيد المنهى بقيد أو زمن كان داخلا في حيز النهى فإن كان المعنى لا تكن مثل صاحب الحوت في هذه الحال أو هذا الوقت كان نهيا عن تلك الحالة.
قيل لما كان

نداؤه مسببا عن كونه صاحب الحوت فنهى أن يتشبه

ص -35- به في الحال التى أفضت به إلى صحبته الحوت والنداء وهى ضعف العزيمة والصبر لحكمه تعالى ولم يقل تعالى ولا تكن كصاحب الحوت إذ ذهب مغاضبا فالتقمه الحوت فنادى بل طوى القصة واختصرها وأحال بها على ذكرها في الموضع الآخر واكتفي بغايتها وما انتهت اليه.
فان قيل فما منعك بتعويض الظرف بنفس الفعل المنهى عنه أى لا تكن مثله في ندائه وهو ممتلئ غيظا وهما وغما بل يكون نداؤك نداء راض بما قضى عليه قد تلقاه بالرضا والتسليم وسعة الصدر لا نداء كظيم قيل هذا المعنى وان كان صحيحا الا أن النهى لم يقع عن التشبه به في مجرده وانما نهى عن التشبه به في الحال التى حملته على ذهابه مغاضبا حتى سجن في بطن الحوت ويدل عليه قوله تعالى: {فاصبر لحكم ربك} ثم قال: {ولا تكن كصاحب الحوت} أى في ضعف صبره لحكم ربه فان الحالة التى نهى عنها هى ضد الحالة التى أمر بها.
فإن قيل فما منعك أن تصبر حيث أمر بالصبر لحكمه الكونى القدرى الذى يقدره عليه ولا تكن كصاحب الحوت حيث لم يصبر عليه بل نادى وهو كظيم لكشفه فلم يصبر على احتماله والسكون تحته.
قيل منع من ذلك أن الله سبحانه أثنى على يونس وغيره من أنبيائه بسؤالهم اياه كشف ما بهم من الضر وقد أثنى عليه سبحانه بذلك في قوله وذا النون اذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا اله الا أنت سبحانك انى كنت من الظالمين فاستجبنا له فنجيناه من الغم وكذلك ننجى المؤمنين فكيف ينهى عن التشبه به فيما يثنى عليه ويمدحه به وكذلك أثنى على أيوب بقوله {مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} وعلى يعقوب بقوله {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} وعلى موسى بقوله {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} وقد شكا إليه خاتم أنبيائه ورسله بقوله: "اللهم أشكو اليك ضعف قوتى وقلة حيلتى" الحديث فالشكوى

إليه

ص -36- سبحانه لا تنافي الصبر الجزيل بل اعراض عبده عن الشكوى إلى غيره جملة وجعل الشكوى إليه وحده هو الصبر والله تعالى يبتلى عبده ليسمع شكواه وتضرعه ودعاءه وقد ذم سبحانه من لم يتضرع اليه ولم يستكن له وقت البلاء كما قال تعالى: {ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون} والعبد أضعف من أن يتجلد على ربه والرب تعالى لم يرد من عبده أن يتجلد عليه بل أراد منه أن يستكين له ويتضرع اليه وهو تعالى يمقت من يشكوه إلى خلقه ويحب من يشكو ما به اليه وقيل لبعضهم كيف تشتكى اليه ما ليس يخفي عليه فقال ربى يرضى ذل العبد اليه.
والمقصود أنه سبحانه أمر رسوله أن يصبر صبر أولى العزم الذين صبروا لحكمه اختيارا وهذا أكمل الصبر ولهذا دارت قصة الشفاعة يوم القيامة على هؤلاء حتى ردوها إلى أفضلهم وخيرهم وأصبرهم لحكم الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
فإن قيل: أى انواع الصبر الثلاثة أكمل الصبر على المأمور أم الصبر عن المحظور أم الصبر على المقدور؟
قيل: الصبر المتعلق بالتكليف وهو الأمر والنهى أفضل من الصبر على مجرد القدر فان هذا الصبر يأتى به البر الفاجر والمؤمن والكافر فلا بد لكل أحد من الصبر على القدر اختيارا أو اضطرارا.
وأما الصبر على الاوامر والنواهى فصبر أتباع الرسل وأعظمهم اتباعا أصبرهم في ذلك وكل صبر في محله وموضعه أفضل فالصبر عن الحرام في محله أفضل وعلى الطاعة في محلها أفضل.
فإن قيل أى الصبرين أحب إلى الله؟ صبر من يصبر على أوامره أم صبر من يصبر عن محارمه؟
قيل هذا موضع تنازع فيه الناس فقالت طائفة الصبر عن

ص -37- المخالفات أفضل، لأنه أشق وأصعب فإن أعمال البر يفعلها البر والفاجر ولا يصبر عن المخالفات إلا الصديقون قالوا ولأن الصبر عن المحرمات صبر على مخالفة هوى النفس وهو أشق شىء وأفضله قالوا ولأن ترك المحبوب الذى تحبه النفوس دليل على أن من ترك لأجله أحب اليه من نفسه وهواه بخلاف فعل ما يحبه المحبوب فإنه لا يستلزم ذلك قالوا وأيضا فالمروءة والفتوة كلها في هذا الصبر.
قال الإمام أحمد: "الفتوة ترك ما تهوى لما تخشى" فمروءة العبد وفتوته بحسب هذا الصبر قالوا وليس العجب ممن يصبر على الأوامر فإن أكثرها محبوبات للنفوس السليمة لما فيها من العدل والإحسان والإخلاص والبر وهذه محاب للنفوس الفاضلة الزكية بل العجب ممن يصبر عن المناهي التي أكثرها محاب للنفوس فيترك المحبوب العاجل في هذه الدار للمحبوب الآجل في دار أخرى والنفس موكلة بحب العاجل فصبرها عنه مخالف لطبعها.
قالوا: ولأن المناهى لها أربعة دواع تدعو اليها نفس الإنسان وشيطانه وهواه ودنياه فلا يتركها حتى يجاهد هذه الأربعة وذلك أشق شيء على النفوس وأمره قالوا فالمناهى من باب حمية النفوس عن مشتهياتها ولذاتها والحمية مع قيام داعى التناول وقوته من أصعب شيء وأشقه قالو أو لذلك كان باب قربان النهى مسدودا كله وباب الامر انما يفعل منه المستطاع كما قال النبي: "اذا أمرتكم بأمر فاءتوا منه ما استطعتم وما نهيتكم عنه فاجتنبوه" فدل على ان باب المنهيات أضيق من باب المأمورات وانه لم يرخص في ارتكاب شيء منه كما رخص في ترك بعض المأمورات للعجز والعذر قالوا ولهذا كانت عامة العقوبات من الحدود وغيرها على ارتكاب المنهيات بخلاف ترك المأمور فإن الله سبحانه لم يرتب عليه حدا معينا فأعظم المأمورات الصلاة وقد اختلف العلماء هل على تاركها حد أم لا؟

ص -38- فصل: فهذا بعض ما احتجت به الطائفة وقالت طائفة أخرى بل الصبر على فعل المأمور أفضل وأجل من الصبر على ترك المحظور لأن فعل المأمور أحب إلى الله من ترك المحظور والصبر على أحب الأمرين أفضل وأعلى وبيان ذلك من وجوه
أحدها: أن فعل المأمور مقصود لذاته فهو مشروع شرع المقاصد فإن معرفة الله وتوحيده وعبوديته وحده والإنابة إليه والتوكل عليه وإخلاص العمل له ومحبته والرضا به والقيام في خدمته هو الغاية التى خلق لها الخلق وثبت بها الأمر وذلك أمر مقصود لنفسه والمنهيات انما نهى عنها لأنها صادة عن ذلك أو شاغلة عنه أو مفوتة لكماله ولذلك كانت درجاتها في النهى بحسب صدها عن المأمور وتعويقها عنه وتفويتها لكماله فهي مقصودة لغيرها والمأمور مقصود لنفسه فلو لم يصد الخمر والميسر عن ذكر الله وعن الصلاة وعن التواد والتحاب الذى وضعه الله بين عباده لما حرمه وكذلك لو لم يحل بين العبد وبين عقله الذى به يعرف الله ويعبده ويحمده ويمجده ويصلى له ويسجد لما حرمه وكذلك سائر ما حرمه انما حرمه لأنه يصد عما يحبه ويرضاه ويحول بين العبد وبين إكماله.
الثاني ان المأمورات متعلقة بمعرفة الله وتوحيده وعبادته وذكره وشكره ومحبته والتوكل عليه والإنابة اليه فمتعلقها ذات الرب تعالى وأسماؤه وصفاته ومتعلق المنهيات ذوات الاشياء المنهى عنها والفرق من اعظم ما يكون.
الثالث: ان ضرورة العبد وحاجته إلى فعل المأمور أعظم من ضرورته إلى ترك المحظور فإنه ليس إلى شىء أحوج واشد فاقة منه إلى معرفة ربه وتوحيده واخلاص العمل له وافراده بالعبودية والمحبة والطاعة وضرورته إلى ذلك أعظم من ضرورته إلى نفسه ونفسه وحياته أعظم من ضرورته إلى غذائه الذى به قوام بدنه بل هذا لقلبه وروحه كالحياه والغذاء لبدنه وهو انما هو انسان بروحه وقلبه لا ببدنه وقالبه كما قيل:

ص -39- يا خادم الجسم كم تشقى بخدمته فأنت بالقلب لابالجسم انسان

وترك المنهى انما شرع له تحصيلا لهذا الأمر الذى هو ضرورى له وما أحوجه وافقره اليه.
الرابع: ان ترك المنهى من باب الحمية وفعل المأمور من باب حفظ القوة والغذاء الذى لاتقوم البنية بدونه ولا تحصل الحياة الا به فقد يعيش الإنسان مع تركه الحميه وان كان بدنه عليلا أشد ما يكون علة ولا يعيش بدون القوة والغذاء الذى يحفظها فهذا مثل المأمورات والمنهيات.
الخامس: ان الذنوب كلها ترجع إلى هذين الأصلين ترك المأمور وفعل المحظور ولو فعل العبد المحظور كله من أوله إلى آخره حتى أتى من مأمور الايمان بأدنى أدنى مثقال ذرة منه نجا بذلك من الخلود في النار ولو ترك كل محظور ولم يأت بمأمور الإيمان لكان مخلدا في السعير فأين شيء مثاقيل الذر منه تخرج من النار إلى شيء وزن الجبال منه أضعافا مضاعفة لا تقتضي الخلود في النار مع وجود ذلك المأمور أو أدنى شىء منه.
السادس: ان جميع المحظورات من أولها إلى آخرها تسقط بمأمور التوبة ولا تسقط المأمورات كلها معصية المخالفة الا بالشرك أو الوفاة عليه ولا خلاف بين الأمة ان كل محظور يسقط بالتوبة منه واختلفوا هل تسقط الطاعة بالمعصية وفي المسألة نزاع وتفاصيل ليس هذا موضعه.
السابع: ان ذنب الاب كان يفعل المحظور فكان عاقبته أن اجتباه ربه فتاب عليه وهدى وذنب ابليس كان بترك المأمور فكان عاقبته ما ذكر الله سبحانه وجعل هذا عبرة للذرية إلى يوم القيامة.
الثامن ان المأمور محبوب إلى الرب والمنهى مكروه له وهو سبحانه انما قدره وقضاه لأنه ذريعة إلى حصول محبوبه من عبده ومن نفسه تعالى

ص -40- أما من عبده فالتوبة والاستغفار والخضوع والذل والانكسار وغير ذلك وأما من نفسه فبالمغفرة والتوبة على العبد والعفو عنه والصفح والحلم والتجاوز عن حقه وغير ذلك مما هو أحب اليه تعالى من فواته بعدم تقدير ما يكرهه واذا كان انما قدر ما يكرهه لأنه يكون وسيلة إلى ما يحبه علم أن محبوبه هو الغاية ففوات محبوبه أبغض اليه وأكره له من حصول مبغوضه بل اذا ترتب على حصول مبغوضه ما يحبه من وجه آخر كان المبغوض مرادا له ارادة الوسائل كما كان النهى عنه وكراهته لذلك وأما المحبوب فمراده ارادة المقاصد كما تقدم فهو سبحانه انما خلق الخلق لاجل محبوبه ومأموره وهو عبادته وحده كما قال تعالى: {وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون} وقدر مكروهه ومبغوضه تكميلا لهذه الغاية التى خلق خلقه لأجلها فانه ترتب عليه من المأمورات ما لم يكن يحصل بدون تقديره كالجهاد الذى هو أحب العمل اليه والموالاة فيه والمعاداة فيه ولولا محبته لهذه المأمورات لما قدر من المكروه له ما ما يكون سببا لحصولها.
التاسع: ان ترك المحظور لا يكون قربة ما لم يقارنه فعل المأمور فلو ترك العبد كل محظور لم يثبه الله عليه حتى يقارنه مأمور الايمان وكذلك المؤمن لا يكون تركه المحظور قربة حتى يقارنه مأمور النية بحيث يكون تركه لله فافتقر ترك المنهيات بكونه قربة يثاب عليها إلى فعل المأمور ولا يفتقر فعل المأمور في كونه قربة وطاعة إلى ترك المحظور ولو افتقر اليه لم يقبل الله طاعة من عصاه أبدا وهذا من أبطل الباطل.
العاشر: ان المنهى عنه مطلوب اعدامه والمأمور مطلوب ايجاده والمراد ايجاد هذا واعدام ذاك فإذا قدر عدم الأمرين أو وجودهما كان وجودهما خير من عدمهما فإنه اذا عدم المأمور لم ينفع عدم المحظور واذا وجد المأمور فقد يستعان به على دفع المحظور أو دفع أثره فوجود القوة والمرض خير من عدم الحياة والمرض.
الحادى عشر: ان باب المأمور الحسنة فيه بعشر أمثالها إلى

سبعمائة

ص -41- ضعف إلى أضعاف كثيرة وباب المحظور السيئة فيه بمثلها وهى بصدد الزوال بالتوبة والاستغفار والحسنة الماحية والمصيبة المكفرة واستغفار الملائكة للمؤمنين واستغفار بعضهم لبعض وغير ذلك وهذا يدل على أنه أحب إلى الله من عدم المنهى.
الثانى عشر: ان باب المنهيات يمحوه الله سبحانه ويبطل أثره بأمور عديدة من فعل العبد وغيره فإنه يبطله بالتوبة النصوح وبالاستغفار وبالحسنات الماحية وبالمصائب المكفرة وباستغفار الملائكة وبدعاء المؤمنين فهذه ستة في حال حياته وبتشديد الموت وكربه وسياقه عليه فهذا عند مفارقته الدنيا وبهول المطلع وروعة الملكين في القبر وضغطته وعصرته له وشدة الموقف وعنائه وصعوبته وبشفاعة الشافعين فيه وبرحمة أرحم الراحمين له فإن عجزت عنه هذه الأمور فلا بد له من دخول النار ويكون لبثه فيها على قدر بقاء خبثه ودرنه فإن الله حرم الجنة الا على كل طيب فما دام درنه ووسخه وخبثه فيه فهو في كير التطهير حتى يتصفى من ذلك الوسخ والخبث وأما باب المأمورات فلا يبطله إلا الشرك.
الثالث عشر: أن جزاء المأمورات الثواب وهو من باب الاحسان والفضل والرحمة وجزاء المنهيات العقوبة وهى من باب الغضب والعدل ورحمته سبحانه تغلب غضبه فما تعلق بالرحمة والفضل أحب اليه مما تعلق بالغضب والعدل وتعطيل ما تعلق بالرحمة أكره اليه من فعل ما تعلق بالغضب.
الرابع عشر: ان باب المنهيات تسقط الآلاف المؤلفة منه الواحدة من المأمورات وباب المأمورات لا يسقط الواحدة منه الآلاف المؤلفة من المنهيات.
الخامس عشر: ان متعلق المأمورات الفعل وهو صفة كمال بل كمال المخلوق من فعاله فإنه فعل فكمل ومتعلق النهى الترك والترك عدم ومن حيث هو كذلك لا يكون كمالا فإن العدم المحض ليس بكمال وانما يكون كمالا لما يتضمنه أو يستلزمه من الفعل الوجودى الذى

ص -42- هو سبب الكمال وأما أن يكون مجرد الترك الذى هو عدم محض كمالا أو سببا للكمال فلا مثال ذلك لو ترك السجود للضم لم يكن كماله في مجرد هذا الترك ما لم يكن يسجد لله والا فلو ترك السجود لله وللصنم لم يكن ذلك كمالا وكذلك لو ترك تكذيب الرسول ومعاداته لم يكن بذلك مؤمنا ما لم يفعل ضد ذلك من التصديق والحب وموالاته وطاعته فعلم أن الكمال كله في المأمور وان المنهى ما لم يتصل به فعل المأمور لم يفد شيئا ولم يكن كمالا فإن الرجل لو قال للرسول لا أكذبك ولا أصدقك ولا أواليك ولا أعاديك ولا أحاربك ولا أحارب من يحاربك لكان كافرا ولم يكن مؤمنا بترك معاداته وتكذيبه ومحاربته ما لم يأت بالفعل الوجودى الذى أمر به.
السادس عشر: ان العبد اذا أتى بالمأمور به على وجهه ترك المنهى عنه ولا بد فالمقصود انما هو فعل المأمور ومع فعله على وجهه يتعذر فعل المنهى فالمنهى عنه في الحقيقة هو تعريض المأمور للإضاعة فإن العبد اذا فعل ما أمر به من العدل والعفة وامتنع من صدور الظلم والفواحش منه فنفس العدل يتضمن ترك الظلم ونفس العفة تتضمن ترك الفواحش فدخل ترك المنهى عنه في المأمور به ضمنا وتبعا وليس كذلك في عكسه فان ترك المحظور لا يتضمن فعل المأمور فإنه قد يتركهما معا كما تقدم فعلم أن المقصود هو إقامة الأمر على وجهه ومع ذلك لا يمكن ارتكاب النهى البتة وأما ترك المنهى عنه فإنه يستلزم اقامة الأمر
السابع عشر: ان الرب تعالى اذا أمر عبده بأمر ونهاه عن أمر ففعلهما جميعا كان قد حصل محبوب الرب وبغيضه فقد تقدم له من محبوبه ما يدفع عنه شر بغيضه ومقاومته ولا سيما اذا كان فعل ذلك المحبوب أحب اليه من ترك ذلك البغيض فيهب له من جنايته ما فعل من هذا بطاعته ويتجاوز له عما فعل من الآخر
ونظير هذا في الشاهد أن يقتل الرجل عدوا للملك هو حريص على

ص -43- قتله وشرب مسكرا نهاه عن شربه فإنه يتجاوز له عن هذه الزلة بل عن أمثالها في جنب ما أتى به من محبوبه وأما اذا ترك محبوبه وبغيضه فإنه لا يقوم ترك بغيضه بمصلحة فعل محبوبه أبدا كما اذا أمر الملك عبده بقتل عدوه ونهاه عن شرب مسكر فعصاه في قتل عدوه مع قدرته عليه وترك شرب المسكر فإن الملك لا يهب له جرمه بترك أمره في جنب ترك ما نهاه عنه وقد فطر الله عباده على هذا فهكذا السادات مع عبيدهم والآباء مع أولادهم والملوك مع جندهم والزوجات مع أزواجهم ليس التارك منهم محبوب الامر ومكروهه بمنزلة الفاعل منهم محبوب أمره ومكروهه.
يوضحه الوجه الثامن عشر: ان فاعل محبوب الرب يستحيل أن يفعل جميع مكروهه بل يترك من مكروهه بقدر ما أتى به من محبوبه فيستحيل الاتيان بجميع مكروهه وهو يفعل ما أحبه وأبغضه فغايته أنه اجتمع الأمران فيحبه الرب تعالى من وجه ويبغضه من وجه أما اذا ترك المأمور به جملة فإنه لم يقم به ما يحبه الرب عليه فإن مجرد ترك المنهى لا يكون طاعة الا باقترانه بالمأمور كما تقدم فلا يحبه على مجرد الترك وهو سبحانه يكرهه ويبغضه على مخالفة الأمر فصار مبغوضا للرب تعالى من كل وجه إذ ليس فيه ما يحبه الرب عليه فتأمله.
يوضحه الوجه التاسع عشر: وهو أن الله سبحانه لم يعلق محبته إلا بأمر وجودى أمر به ايجابا أو استحبابا ولم يعلقها بالترك من حيث هو ترك ولا في موضع واحد فإنه يحب التوابين ويحب المحسنين ويحب الشاكرين ويحب الصابرين ويحب المتطهرين ويحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص ويحب المتقين ويحب الذاكرين ويحب المتصدقين فهو سبحانه انما علق محبته بأوامره اذ هى المقصود من الخلق والأمر كما قال تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} فما خلق الخلق الا لقيام أوامره وما نهاهم الا عما يصدهم عن قيام أوامره ويعوقهم عنها.

ص -44- يوضحه الوجه العشرون: أن المنهيات لو لم تصد عن المأمورات وتمنع وقوعها على الوجه الذى أمر الله بها لم يكن للنهى عنها معنى وانما نهى عنها لمضادتها لأ2وامره وتعويقها لها وصدها عنها فالنهى عنها من باب التكميل والتتمة للمأمور فهو بمنزلة تنظيف طرق الماء ليجرى في مجاريه غير معوق فالأمر بمنزلة الماء الذى أرسل في نهر لحياة البلاد والعباد والنهى بمنزلة تنظيف طرقه ومجراه وتنقيتها مما يعوق الماء والأمر بمنزلة القوة والحياة والنهى بمنزلة الحمية الحافظة للقوة والداء والخادم لها
قالوا واذا تبين أن فعل المأمور أفضل فالصبر عليه أفضل أنواع الصبر وبه يسهل عليه الصبر عن المحظور والصبر على المقدور فإن الصبر الا على يتضمن الصبر الأدنى دون العكس وقد ظهر لك من هذا أن الأنواع الثلاثة متلازمة وكل نوع منها يعين على النوعين الآخرين وان كان من الناس من قوة صبره على المقدور فإذا جاء الأمر والنهى فقوة صبره هناك ضعيفة ومنهم من هو بالعكس من ذلك ومنهم من قوة صبره في جانب الامر أقوى ومنهم من هو بالعكس والله أعلم

عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين

الباب العاشر في انقسام الصبر إلى محمود ومذموم
الباب العاشر: في انقسام الصبر إلى محمود ومذموم
الصبر ينقسم إلى قسمين: قسم مذموم وقسم ممدوح:
فالمذموم: الصبر عن الله وارادته ومحبته وسير القلب اليه فإن هذا الصبر يتضمن تعطيل كمال العبد بالكلية وتفويت ما خلق له وهذا كما أنه أقبح الصبر فهو أعظمه وأبلغه فإنه لا صبر أبلغ من صبر من يصبر عن محبوبه الذى لا حياة له بدونه البتة كما أنه لا زهد أبلغ من زهد الزاهد فيما أعد الله لأوليائه من كرامته مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فالزهد في هذا أعظم أنواع الزهد كما قال رجل لبعض الزاهدين وقد تعجب لزهده "ما رأيت أزهد منك!" فقال: "أنت أزهد

ص -45- منى أنا زهدت في الدنيا وهى لا بقاء لها ولا وفاء وأنت زهدت في الآخرة فمن أزهد منا" قال يحيى بن معاذ الرازى "صبر المحبين أعجب من صبر الزاهدين واعجبا كيف يصبرون!" وفي هذا قيل
الصبر يحمد في المواطن كلها إلا عليك فإنه لا يحمد
ووقف رجل على الشبلى فقال: أى صبر أشد على الصابرين فقال الصبر في الله قال لا فقال الصبر لله فقال لا قال فالصبر مع الله قال لا قال فإيش هو قال الصبر عن الله فصرخ الشبلى صرخة كادت روحه تزهق.
وقيل: الصبر مع الله وفاء والصبر عن الله جفاء وقد أجمع الناس على أن الصبر عن المحبوب غير محمود فكيف إذا كان كمال العبد وفلاحه في محبته ولم تزل الأحباب تعيب المحبين بالصبر عنهم كما قيل:
والصبر عنك فمذموم عواقبه والصبر في سائر الأشياء محمود
وقال آخر في الصبر عن محبوبه
إذا لعب الرجال بكل شيء رأيت الحب يلعب بالرجال
وكيف الصبر عمن حل منى بمنزلة اليمين مع الشمال
وشكا آخر إلى محبوبه ما يقاسي من حبه فقال: لو كنت صادقا لما صبرت عنى.
ولما شكوت الحب قالت كذبتنى ترى الصب عن محبوبه كيف يصبر

فصل: وأما الصبر المحمود فنوعان: صبر لله وصبر بالله قال الله تعالى {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّه} وقال {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} وقد تنازع الناس أي الصبرين أكمل فقالت طائفة الصبر له أكمل فإن ما كان لله أكمل مما كان بالله فإن ما كان له فهو غاية وما كان به فهو وسيلة والغايات أشرف من الوسائل ولذلك وجب الوفاء بالنذر إذا كان تبرر أو تقربا إلى الله لأنه نذر

ص -46- له ولم يجب الوفاء به إذا خرج مخرج اليمين لأنه حلف به فما كان له سبحانه فهو متعلق بألوهيته وما كان به فهو متعلق بربوبيته وما تعلق بألوهيته أشرف مما تعلق بربوبيته ولذلك كان توحيد الألوهية هو المنجى من الشرك دون توحيد الربوبية بمجرده فإن عباد الأصنام كانوا مقرين بأن الله وحده خالق كل شيء وربه ومليكه ولكن لما لم يأتوا بتوحيد الألوهية وهو عبادته وحده لا شريك له لم ينفعهم توحيد ربوبيته.
وقالت طائفة: الصبر بالله أكمل بل لا يمكن الصبر له إلا بالصبر به كما قال تعالى { وَاصْبِرْ } فأمره بالصبر والمأمور به هو الذى يفعل لأجله ثم قال { وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ } فهذه جملة خبرية غير الجملة الطلبية التى تقدمتها أخبر فيها انه لا يمكنه الصبر الا به وذلك يتضمن أمرين الاستعانة به والمعية الخاصة التى تدل عليها باء المصاحبة كقوله فبي يسمع وبى يبصر وبى يبطش وبى يمشى وليس المراد بهذه الباء الاستعانة فإن هذا أمر مشترك بين المطيع والعاصى فإن مالا يكون بالله لا يكون بل هى باء المصاحبة والمعية التى صرح بمضمونها في قوله {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} وهى المعية الحاصلة لعبده الذى تقرب اليه بالنوافل حتى صار محبوبا له فبه يسمع وبه يبصر وكذلك به يصبر فلا يتحرك ولا يسكن ولا يدرك إلا والله معه ومن كان كذلك أمكنه الصبر له وتحمل الأثقال لأجله كما في الأثر الإلهى يعنى "وما يتحمل المتحملون من

أجلى" فدل قوله { وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ } على انه من لم يكن الله معه لم يمكنه الصبر وكيف يصبر على الحكم الأمرى امتثالا وتنفيذا وتبليغا وعلى الحكم القدرى احتمالا له واضطلاعا به من لم يكن الله معه فلا يطمع في درجة الصبر المحمود عواقبه من لم يكن صبره بالله كما لا يطمع في درجة التقرب المحبوب من لم يكن سمعه وبصره وبطشه ومشيه بالله
وهذا هو المراد من قوله: "كنت سمعه الذى يسمع به وبصره الذى يبصر به ويده التى يبطش بها ورجله التى يمشى بها" ليس المراد انى كنت

ص -47- نفس هذه الاعضاء والقوى كما يظنه أعداء الله أهل الوحدة وان ذات العبد هى ذات الرب تعالى الله عن قول اخوان النصارى علوا كبيرا ولو كان كما يظنون لم يكن فرق بين هذا العبد وغيره ولا بين حالتى تقربه إلى ربه بالنوافل وتمقته اليه بالمعاصى بل لم يكن هناك متقرب ومتقرب اليه ولا عبد ولا معبود ولا محب ولا محبوب فالحديث كله مكذب لدعواهم الباطلة من نحو ثلاثين وجها تعرف بالتأمل الظاهر وقد فسر المراد من قوله: "كنت سمعه وبصره ويده ورجله" بقوله: "فبي يسمع وبى يبصر وبى يبطش وبى يمشى" فعبر عن هذه المصاحبة التى حصلت بالتقرب اليه بمحابه بألطف عبارة وأحسنها تدل على تأكد المصاحبة ولزومها حتى صار له بمنزلة سمعه وبصره ويده ورجله
ونظير هذا قوله:"الحجر الأسود يمين الله في الأرض فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه".
ومثل هذا سائغ في الاستعمال أن ينزل إلى منزلة ما يصاحبه ويقارنه حتى يقول المحب للمحبوب أنت روحى وسمعى وبصرى وفي ذلك معنيان أحدهما أنه صار منه بمنزلة روحه وقلبه وسمعه وبصره والثانى أن محبته وذكره لما استولي على قلبه وروحه صار معه وجليسه كما في الحديث "يقول الله تعالى: أنا جليس من ذكرنى" وفي الحديث الآخر "أنا مع عبدى ما ذكرنى وتحركت بى شفتاه" وفي الحديث "فإذا أحببت عبدى كنت له سمعا وبصرا ويدا ومؤيدا" ولا يعبر عن هذا المعنى بأتم من هذه العبارة ولا أحسن ولا ألطف منها وإيضاح هذه العبارة مما يزيدها جفاء وخفاء.
والمقصود انما هو ذكر الصبر بالله وأن العبد بحسب نصيبه من معية الله له يكون صبره واذا كان الله معه أمكن أن يأتى من الصبر بما لا يأتى به غيره قال أبو على فاز الصابرون بعز الدارين لأنهم نالوا من الله معيته قال تعالى {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}.

ص -48- وها هنا سر بديع وهو أن من تعلق بصفة من صفات الرب تعالى أدخلته تلك الصفة عليه وأوصلته اليه والرب تعالى هو الصبور بل لا أحد أصبر على أذى سمعه منه وقد قيل ان الله سبحانه أوحى إلى داود "تخلق بأخلاق فإن من أخلاقى انى أنا الصبور" والرب تعالى يحب أسماءه وصفاته ويحب مقتضى صفاته وظهور آثارها في العبد فإنه جميل يحب الجمال عفو يحب أهل العفو كريم يحب أهل الكرم عليم يحب أهل العلم وتر يحب أهل الوتر قوى والمؤمن القوى أحب إليه من المؤمن الضعيف صبور يحب الصابرين شكور يحب الشاكرين واذا كان سبحانه يحب المتصفين بآثار صفاته فهو معهم بحسب نصيبهم من هذا الاتصاف فهذه المعية الخاصة عبر عنها بقوله "كنت له سمعا وبصرا ويدا ومؤيدا".
فصل: وزاد بعضهم قسما ثالثا من أقسام الصبر وهو الصبر مع الله وجعلوه أعلى أنواع الصبر وقالوا هو الوفاء ولو سئل هذا عن حقيقة الصبر مع الله لما أمكنه أن يفسره بغير الأنواع الثلاثة التى ذكرت وهى الصبر على أقضيته والصبر على أوامره والصبر عن نواهيه فإن زعم أن الصبر مع الله هو الثبات معه على أحكامه يدور معها حيث دارت فيكون دائما مع الله لا مع نفسه فهو مع الله بالمحبة والموافقة فهذا المعنى حق ولكن مداره على الصبر على الأنواع المتقدمة وإن زعم أن الصبر مع الله هو الجامع لأنواع الصبر فهذا حق ولكن جعله قسما رابعا من أقسام الصبر غير مستقيم.
واعلم أن حقيقة الصبر مع الله هو ثبات القلب بالاستقامة معه وهو أن لا يروغ عنه روغان الثعالب ها هنا وها هنا فحقيقة هذا هو الاستقامة اليه وعكوف القلب عليه وزاد بعضهم قسما آخر من اقسامه وسماه الصبر فيه وهذا أيضا غير خارج عن أقسام الصبر المذكورة ولا يعقل من الصبر فيه معنى غير الصبر له وهذا كما يقال فعلت هذا في الله وله كما قال خبيب:

ص -49- وقد قال تعالى {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} وقال {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ} وفي حديث جابر: "ان الله تعالى لما أحيا أباه وقال له تمن قال يا رب أن ترجعنى إلى الدنيا حتى أقتل فيك مرة ثانية" وقال "ولقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد" وهذا يفهم منه معنيان أحدهما أن ذلك في مرضاته وطاعته وسبيله وهذا فيما يفعله الإنسان باختياره كما في الحديث "تعلمت فيك العلم" والثاني انه بسببه وبجهته حصل ذلك وهذا فيما يصيبه بغير اختياره وغالب ما يأتى قولهم "ذلك في الله" في هذا المعنى فتأمل قوله "ولقد أوذيت في الله" وقول خبيب وذلك "في ذات الإله" وقول عبد الله بن حزام "حتى أقتل فيك" وكذلك قوله {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا} فإنه يترتب عليه الأذى فيه سبحانه.
وليست في ها هنا للظرفية ولا لمجرد السببية وان كانت السببية هي أصلها فانظر إلى قوله "في نفس المؤمن مائة من الإبل" وقوله "دخلت امرأة النار في هرة" كيف تجد فيه معنى زائدا على السببية وليست في للوعاء في جميع معانيها فقولك "فعلت هذا في مرضاتك" فيه معنى زيد على قولك "فعلته لمرضاتك" وأنت اذا قلت "أوذيت في الله" لا يقوم مقام هذا اللفظ كقولك "أوذيت لله" ولا "بسبب الله" وإذا فهم المعنى طوى حكم العبارة والمقصود ان الصبر في الله ان أريد به هذا المعنى فهو حق وان أريد به معنى خارج عن الصبر على أقضيته وعلى أوامره وعن نواهيه وله وبه لم يحصل فالصابر في الله كالمجاهد في الله والجهاد فيه لا يخرج عن معنى الجهاد به وله والله الموفق.
وأما قول بعضهم"الصبر لله غناء والصبر بالله بقاء والصبر في

ص -50- الله بلاء والصبر مع الله وفاء والصبر عن الله جفاء" فكلام لا يجب التسليم لقائله لأنه ذكر ما سنح له وتصوره وانما يجب التسليم للنقل المصدق عن القائل المعصوم ونحن نشرح هذه الكلمات.
أما قوله"الصبر لله غناء" فإن الصبر لله بترك حظوظ النفس ومرادها لمراد الله وهذا أشق شيء على النفس وأصعبه فإن قطع المفازة التي بين النفس وبين الله بحيث يسير منها إلى الله شديد جدا على النفس بخلاف السفر إلى الآخرة فإنه سهل كما قال الجنيد"السير من الدنيا إلى الآخرة سهل يعنى على المؤمن وهجران الخلق في جنب الحق شديد والسير من النفس إلى الله صعب شديد والصبر مع الله أشد"
وأما قوله:"والصبر بالله بقاء" فلأن العبد اذا كان بالله هان عليه كل شيء ويتحمل الأثقال ولم يجد لها ثقلا فإنه اذا كان بالله لا بالخلق ولا بنفسه كان لقلبه وروحه وجود آخر وشأن آخر غير شأنه اذا كان بنفسه وبالخلق وبهذا الحال لا يجد عناء الصبر ولا مرارته وتنقلب مشاق التكليف له نعيما وقرة عين كما قال بعض الزهاد عالجت قيام الليل سنة وتنعمت به عشرين سنة ومن كانت قرة عينه في الصلاة لم يجد لها مشقة وكلفة.
وأما قوله:"والصبر في الله بلاء" فالبلاء فوق العناء والصبر فيه فوق الصبر له وأخص منه كما تقدم فإن الصبر فيه بمنزلة الجهاد فيه وهو أشق من الجهاد له فكل مجاهد في الله وصابر في الله مجاهد له وصابر له من غير عكس فإن الرجل قد يجاهد ويصبر لله مرة ليقع عليه اسم من فعل ذلك لله ولا يقع عليه اسم من فعل ذلك في الله وإنما يقع على من انغمس في الجهاد والصبر ودخل الجنة.
وأما قوله:"والصبر مع الله وفاء" فلأن الصبر معه هو الثبات معه على أحكامه ولا يزيغ القلب عن الإنابة ولا الجوارح عن الطاعة فتعطى

ص -51- المعية حقها من التوفية كما قال تعالى {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} أى وفي ما أمر به بصبره مع الله على أوامره.
وأما قوله:"والصبر عن الله جفاء" فلا جفاء أعظم ممن صبر عن معبوده وإلهه ومولاه الذى لا مولى له سواه ولا حياة له ولا صلاح ولا نعيم إلا بمحبته والقرب منه وايثار مرضاته على كل شيء فأي جفاء أعظم من الصبر عنه وهذا معنى قول من قال الصبر على ضد بين صبر العابدين وصبر المحبين فصبر العابدين أحسنه أن يكون محفوظا وصبر المحبين أحسنه أن يكون مرفوضا كما قيل:
يبين يوم البين ان اعتزامه على الصبر من احدى الظنون الكواذب
وقال الآخر:
ولما دعوت الصبر بعدك والبكا أجاب البكا طوعا ولم يجب الصبر
قالوا: ويدل عليه أن يعقوب صلوات الله وسلامه عليه قال فصبر جميل ورسول الله اذا وعد وفى ثم حمله الوجد على يوسف والشوق اليه أن قال {يا أسفا على يوسف} فلم يكن عدم صبره عنه منافيا لقوله {فصبر جميل} فإن الصبر الجميل هو الذي لا شكوى معه ولا تنافيه الشكوى إلى الله سبحانه وتعالى فإنه قد قال {إنما أشكو بثي وحزني إلى الله} والله تعالى أمر رسوله بالصبر الجميل وقد امتثل ما أمر به وقال "اللهم اليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي" الحديث وأما قول بعضهم إن الصبر الجميل ان يكون صاحب المصيبة في القوم لا يدرى من هو فهذا من الصبر الجميل لأن من فقده فقد الصبر الجميل فإن ظهور اثر المصيبة على العبد مما لا يمكن دفعه البتة وبالله التوفيق
وزاد بعضهم في الصبر قسما آخر وسماه الصبر على الصبر وقال هو ان يستغرق في الصبر حتى يعجزالصبر عن الصبر كما قيل:
صابر الصبر فاستغاث به الصبر فصاح المحب بالصبر صبرا

ص -52- وليس هذا خارجا عن أقسام الصبر وإنما هو المرابطة على الصبر والثبات عليه والله أعلم

عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين

الباب الحادي عشر في الفرق بين صبر الكرام وصبر اللئام
الباب الحادي عشر: في الفرق بين صبر الكرام وصبر اللئام
كل أحد لا بد أن يصبر على بعض ما يكره إما اختيارا وإما اضطرارا فالكريم يصبر اختيارا لعلمه بحسن عاقبة الصبر وأنه يحمد عليه ويذم على الجزع وأنه ان لم يصبر لم يرد الجزع عليه فائتا ولم ينتزع عنه مكروها وان المقدور لا حيلة في دفعه وما لم يقدر لا حيلة في تحصيله فالجزع ضره أقرب من نفعه قال بعض العقلاء: "العاقل عند نزول المصيبة يفعل ما يفعله الأحمق بعد شهر" كما قيل
وأن الأمر يفضى إلى آخر فيصير آخره أولا
فإذا كان آخر الأمر الصبر والعبد غير محمود فما أحسن به أن يستقبل الأمر في أوله بما يستدبره الأحمق في آخره وقال بعض العقلاء من لم يصبر صبر الكرام سلا سلو البهائم فالكريم ينظر إلى المصيبة فإن رأى الجزع يردها ويدفعها فهذا قد ينفعه الجزع وان كان الجزع لا ينفعه فإنه يجعل المصيبة مصيبتين.
فصل: وأما اللئيم فإنه يصبر اضطرارا فإنه يحوم حول ساحة الجزع فلا يراها تجدى عليه شيئا فيصبر صبر الموثق للضرب وأيضا فالكريم يصبر في طاعة الرحمن واللئيم يصبر في طاعة الشيطان فاللئام أصبر الناس في طاعة أهوائهم وشهواتهم وأقل الناس صبرا في طاعة ربهم فيصبر على البذل في طاعة الشيطان أتم صبر ولا يصبر على البذل في طاعة الله في أيسر شيء ويصبر في تحمل المشاق لهوى نفسه في مرضاة عدوه ولا يصبر على أدنى المشاق في مرضاة ربه ويصبر على ما يقال في عرضه

ص -53- في المعصية ولا يصبر على ما يقال في عرضه اذا أوذى في الله بل يفر من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر خشية أن يتكلم في عرضه في ذات الله ويبذل عرضه في هوى نفسه ومرضاته صابرا على ما يقال فيه وكذلك يصبر على التبذل بنفسه وجاهه في هوى نفسه ومراده ولا يصبر على التبذل لله في مرضاته وطاعته فهو أصبر شيء على التبذل في طاعة الشيطان ومراد النفس وأعجز شيء عن الصبر على ذلك في الله وهذا أعظم اللؤم ولا يكون صاحبه كريما عند الله ولا يقوم مع أهل الكرم اذا نودى بهم يوم القيامة على رءوس الاشهاد ليعلم أهل الجمع من أولى بالكرم اليوم أين المتقون

عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين

الباب الثاني عشر في الأسباب التي تعين على الصبر
الباب الثاني عشر: في الأسباب التى تعين على الصبر
لما كان الصبر مأمورا به جعل الله سبحانه له أسبابا تعين عليه وتوصل اليه وكذلك ماأمر الله سبحانه بالأمر إلا أعان عليه ونصب له أسبابا تمده وتعين عليه كما أنه ما قدر داءا الا وقدر له دواء او ضمن الشفاء باستعماله فالصبر وان كان شاقا كريها على النفوس فتحصيله ممكن وهو يتركب من مفردين العلم والعمل فمنهما تركب جميع الادوية التى تداوى بها القلوب والأبدان فلا بد من جزء علمي وجزء عملى فمنها يركب هذا الدواء الذى هو أنفع الادوية فأما الجزء العلمي فهو إدراك ما في المأمور من الخير والنفع واللذة والكمال وإدراك ما في المحظور من الشر والضر والنقص فإذا أدرك هذين العلمين كما ينبغى أضاف اليهما العزيمة الصادقة والهمة العالية والنخوة والمروءة الإنسانية وضم هذا الجزء إلى هذا الجزء فمتى فعل ذلك حصل له الصبر وهانت عليه مشاقه وحلت له مرارته وانقلب ألمه لذة وقد تقدم أن الصبر مصارعة باعث العقل والدين لباعث الهوى والنفس وكل متضارعين أراد أن يتغلب أحدهما على الآخر فالطريق فيه تقوية من أراد أن تكون الغلبة له ويضعف الآخر كالحال مع

ص -54- القوة والمرض سواء فإذا قوى باعث شهوة الوقاع المحرم وغلب بحيث لا يملك معها فرجه أو يملكه ولكن لا يملك طرفه أو يملكه ولكن لا يملك قلبه بل لا يزال يحدثه بما هناك ويعده ويمنيه ويصرفه عن حقائق الذكر والتفكر فيما ينفعه في دنياه وآخرته فإذا عزم على التداوى ومقاومة هذا الداء فليضعفه أولا بأمور:
أحدهما أن ينظر إلى مادة قوة الشهوة فيحدها من الاغذية المحركة للشهوة إما بنوعها أو بكميتها وكثرتها ليحسم هذه المادة بتقليلها فإن لم تنحسم فليبادر إلى الصوم فإنه يضعف مجارى الشهوة ويكسر حدتها ولا سيما إذا كان أكله وقت الفطر معتدلا
الثانى: أن يجتذب محرك الطلب وهو النظر فليقصر لجام طرفه ما أمكنه فإن داعى الإرادة والشهوة انما يهيج بالنظر والنظر يحرك القلب بالشهوة وفي المسند عنه: "النظر سهم مسموم من سهام إبليس" وهذا السهم يشرده إبليس نحو القلب ولا يصادف جنة دونه وليست الجنة الا غض الطرف أو التحيز والانحراف عن جهة الرمى فإنه انما يرمى هذا السهم عن قوس الصور فاذا لم تقف على طريقها أخطأ السهم وان نصبت قلبك غرضا فيوشك أن يقتله سهم من تلك السهام المسمومة.
الثالث: تسلية النفس بالمباح المعوض عن الحرام فإن كل ما يشتهيه الطبع ففيهما أباحه الله سبحانه غنية عنه وهذا هو الدواء النافع في حق أكثر الناس كما أرشد اليه النبي فالدواء الأول يشبه قطع العلف عن الدابة الجموح وعن الكلب الضارى لإضعاف قوتهما والدواء الثانى يشبه تغييب اللحم عن الكلب والشعير عن البهيمة لئلا تتحرك قوتهما له عند المشاهدة والدواء الثالث يشبه إعطائهما من الغذاء ما يميل اليه طبعهما

ص -55- بحسب الحاجة لتبقى معه القوة فتطيع صاحبهما ولا تغلب باعطائها الزيادة على ذلك
الرابع: التفكر في المفاسد الدنيوية المتوقعة من قضاء هذا الوطر فانه لو لم يكن جنة ولا نار لكان في المفاسد الدنيوية ما ينهى عن إجابة هذا الداعى ولو تكلفنا عدها لفاقت الحصر ولكن عين الهوى عمياء.
الخامس الفكرة في مقابح الصورة التى تدعوه نفسه اليها إن كانت معروفة بالإجابة له ولغيره فيعز نفسه أن يشرب من حوض ترده الكلاب والذئاب كما قيل:
سأترك وصلكم شرفا وعزا لخسة سائر الشركاء فيه
وقال آخر
إذ كثر الذباب على طعام رفعت يدى ونفسى تشتهيه
وتجتنب الأسود ورود ماء إذا كان الكلاب يلغن فيه
وليذكر مخالطة ريقه لريق كل خبيث ريقه الداء الدوى فان ريق الفاسق داء كما قيل:
تسل يا قلب عن سمح بمهجته مبذل كل من يلقاه يقرفه
كالماء أى صيد يأتيه ينهله والغصن أى نسيم من يعطفه
وان حلا ريق فاذكر مرارته في فم أبخر يحفيه ويرشفه
ومن له أدنى مروءة ونخوة يأنف لنفسه من مواصلة من هذا شأنه فإن لم تجبه نفسه إلى الإعراض ورضى بالمشاركة فلينظر إلى ما وراء هذا اللون والجمال الظاهر من القبائح الباطنة فإن من مكن نفسه من فعل القبائح فنفسه أقبح من نفوس البهائم فإنه لا يرضى لنفسه بذلك حيوان من الحيوانات أصلا الا ما يحكى عن الخنزير وأنه ليس في البهائم لوطى سواه فقد رضى هذا الممكن من نفسه انه يكون بمنزلة الخنزير وهذا

ص -56- القبح يغطى كل جمال وملاحة في الوجه والبدن غير أن حبك الشيء عمى ويصم وان كانت الصورة أنثى فقد خانت الله ورسوله وأهلها وبعلها ونفسها وأورثت ذلك لمن بعدها من ذريتها فلها نصيب من وزرهم وعارهم ولا نسبة لجمال صورتها إلى هذا القبح البتة وإذا أردت معرفة ذلك فانظر إلى القبح الذى يعلو وجه أحدهما في كبره وكيف يقلب الله سبحانه تلك المحاسن مقابح حتى تعلو الوحشة والقبح وجهه كما قيل شعرا:
لو فكر العاشق في منتهى حسن الذى يسبيه لم يسبه
وتفصيل هذه الوجوه يطول جدا فيكفي ذكر أصولها.
فصل: أما تقوية باعث الدين فإنه يكون بأمور:
أحدهما: إجلال الله تبارك وتعالى أن يعصى وهو يرى ويسمع ومن قام بقلبه مشهد إجلاله لم يطاوعه قلبه لذلك البتة.
الثاني: مشهد محبته سبحانه فيترك معصيته محبة له فإن المحب لمن يحب مطيع وأفضل الترك ترك المحبين كما أن أفضل الطاعة طاعة المحبين فبين ترك المحب وطاعته وترك من يخاف العذاب وطاعته بون بعيد.
الثالث: مشهد النعمة والإحسان فإن الكريم لا يقابل بالإساءة من أحسن إليه وإنما يفعل هذا لئام الناس فليمنعه مشهد إحسان الله تعالى ونعمته عن معصيته حياء منه أن يكون خير الله وإنعامه نازلا اليه ومخالفاته ومعاصيه وقبائحه صاعدة إلى ربه فملك ينزل بهذا وملك يعرج بذاك فأقبح بها من مقابلة.
الرابع: مشهد الغضب والانتقام فإن الرب تعالى إذا تمادى العبد في معصيته غضب وإذا غضب لم يقم لغضبه شيء فضلا عن هذا العبد الضعيف.

ص -57- الخامس: مشهد الفوات وهو ما يفوته بالمعصية من خير الدنيا والآخرة وما يحدث له بها من كل اسم مذموم عقلا وشرعا وعرفا ويزول عنه من الأسماء الممدوحة شرعا وعقلا وعرفا ويكفي في هذا المشهد مشهد فوات الإيمان الذي أدنى مثقال ذرة منه خير من الدنيا وما فيها أضعافا مضاعفة فكيف أن يبيعه بشهوة تذهب لذاتها وتبقى تبعتها تذهب الشهوة وتبقى الشقوة وقد صح عن النبي أنه قال: "لا يزنى الزانى حين يزنى وهو مؤمن" قال بعض الصحابة ينزع منه الإيمان حتى يبقى على رأسه مثل الظلة فإن تاب رجع اليه وقال بعض التابعين ينزع عنه الإيمان كما ينزع القميص فإن تاب لبسه ولهذا روى عن النبي في الحديث الذى رواه البخارى: "الزناة في التنور عراة" لأنهم تعروا من لباس الإيمان وعاد تنور الشهوة الذى كان في قلوبهم تنورا ظاهرا يحمى عليه في النار.
السادس: مشهد القهر والظفر فان قهر الشهوة والظفر بالشيطان له حلاوة ومسرة وفرحة عند من ذاق ذلك أعظم من الظفر بعدوه من الآدميين وأحلى موقعا وأتم فرحة وأما عاقبته فأحمد عاقبة وهو كعاقبة شرب الدواء النافع الذى أزال داء الجسد وأعاده إلى صحته واعتداله.
السابع: مشهد العوض وهو ما وعد الله سبحانه من تعويض من ترك المحارم لأجله ونهى نفسه عن هواها وليوازنه بين العوض المعوض فأيهما كان أولى بالإيثار اختاره وارتضاه لنفسه.
الثامن: مشهد المعية وهو نوعان معية عامة ومعية خاصة فالعامة اطلاع الرب عليه وكونه بعينه لا تخفي عليه حاله وقد تقدم هذا والمقصود هنا المعية الخاصة كقوله {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} وقوله {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} وقوله {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} فهذه المعية الخاصة خير وأنفع في دنياه وآخرته ممن فضى وطره ونيل شهوته على التمام من أول عمره إلى آخره فكيف يؤثر عليها لذة

ص -58- منغصة منكدة في مدة يسيرة من العمر انما هى كأحلام نائم أو كظل زائل.
التاسع: مشهد المغافصة والمعاجلة وهو أن يخاف أن يغافصه الأجل فيأخذه الله على غرة فيحال بينه وبين ما يشتهى من لذات الآخرة فيا لها من حسرة ما أمرها وما أصعبها لكن ما يعرفها الا من جربها وفي بعض الكتب القديمة يامن لا يأمن على نفسه طرفة عين ولا يتم له سرور يوم الحذر الحذر.
العاشر: مشهد البلاء والعافية فان البلاء في الحقيقة ليس الا الذنوب وعواقبها والعافية المطلقة هي الطاعات وعواقبها فأهل البلاء هم أهل المعصية وان عوفيت أبدانهم وأهل العافية هم أهل الطاعة وان مرضت أبدانهم وقال بعض أهل العلم في الأثر المروى إذا رأيتم أهل البلاء فاسألوا الله العافية فإن أهل البلاء المبتلون بمعاصى الله والأعراض والغفلة عنه وهذا وإن كان أعظم البلاء فاللفظ يتناول انواع المبتلين في أبدانهم وأديانهم والله أعلم.
الحادي عشر: أن يعود باعث الدين ودواعيه مصارعة داعى الهوى ومقاومته على التدريج قليلا قليلا حتى يدرك لذة الظفر فتقوى حينئذ همته فإن من ذاق لذة شئ قويت همته في تحصيله والاعتياد لممارسة الأعمال الشاقة تزيد القوى التى تصدر عنها تلك الأعمال ولذلك تجد قوى الحمالين وأرباب الصنائع الشاقة تتزايد بخلاف البزاز والخياط ونحوهما ومن ترك المجاهدة بالكلية ضعف فيه باعث الدين وقوى فيه باعث الشهوة ومتى عود نفسه مخالفة الهوى غلبه متى أراد.
الثانى عشر: كف الباطل عن حديث النفس واذا مرت به الخواطر نفاها ولا يؤويها ويساكنها فإنها تصير أمانى وهى رءوس أموال المفاليس،

ص -59- ومتى ساكن الخواطر صارت أمانى ثم تقوى فتصير هموما ثم تقوى فتصير ارادات ثم تقوى فتصير عزما يقترن به المراد فدفع الخاطر الأول أسهل وأيسر من دفع أثر المقدور بعد وقوعه وترك معاودته.
الثالث عشر: قطع العلائق والأسباب التى تدعوه إلى موافقة الهوى وليس المراد أن لا يكون له هوى بل المراد أن يصرف هواه إلى ما ينفعه ويستعمله في تنفيذ مراد الرب تعالى فإن ذلك يدفع عنه شر استعماله في معاصيه فإن كل شيء من الانسان يستعمله لله فإن الله يقيه شر استعماله لنفسه وللشيطان وما لا يستعمله لله استعمله لنفسه وهواه ولا بد فالعلم ان لم يكن لله كان للنفس والهوى والعمل ان لم يكن لله كان للرياء والنفاق والمال ان لم ينفق في طاعة الله أنفق في طاعة الشيطان والهوى والجاه ان لم يستعمله لله استعمله صاحبه في هواه وحظوظه والقوة ان لم يستعملها في أمر الله استعملته في معصيته فمن عود نفسه العمل لله لم يكن عليه أشق من العمل لغيره ومن عود نفسه العمل لهواه وحظه لم يكن عليه أشق من الاخلاص والعمل لله وهذا في جميع أبواب الأعمال فليس شيء أشق على المنفق لله من الإنفاق لغيره وكذا بالعكس.
الرابع عشر: صرف الفكر إلى عجائب آيات الله التى ندب عباده إلى التفكر فيها وهى آياته المتلوة وآياته المجلوة فإذا استولى ذلك على قلبه دفع عنه محاظرة الشيطان ومحادثته ووسواسه وما أعظم غبن من أمكنه أن لا يزال محاظرا للرحمن وكتابه ورسوله والصحابة فرغب عن ذلك إلى محاظرة الشيطان من الانس والجن فلا غبن بعد هذا الغبن والله المستعان.
الخامس عشر: التفكر في الدنيا وسرعة زوالها وقرب انقضائها فلا يرضى لنفسه ان يتزود منها إلى دار بقائه وخلوده أخس ما فيها وأقله نفعا إلا ساقط الهمة دنيء المروءة ميت القلب فإن حسرته تشتد إذا عاين حقيقة ما تزوده وتبين له عدم نفعه له فكيف اذا كان ترك تزود ما ينفعه إلى زاد

ص -60- يعذب به ويناله بسببه غاية الألم بل اذا تزود ما ينفعه وترك ما هو أنفع منه له كان ذلك حسرة عليه وغبنا.
السادس عشر: تعرضه إلى من القلوب بين أصبعيه وأزمة الأمور بيديه وانتهاء كل شيء اليه على الدوام فلعله أن يصادف أوقات النفحات كما في الأثر المعروف: "ان لله في أيام دهره نفحات فتعرضوا لنفحاته واسألوا الله أن يستر عوراتكم ويؤمن روعاتكم" ولعله في كثرة تعرضه أن يصادف ساعة من الساعات التى لا يسأل الله فيها شيئا الا أعطاه فمن أعطى منشور الدعاء أعطى الاجابة فإنه لو لم يرد اجابته لما ألهمه الدعاء كما قيل:
لو لم ترد نيل ما أرجو وأطلبه من جود كفك ما عودتنى الطلبا
ولا يستوحش من ظاهر الحال فإن الله سبحانه يعامل عبده معاملة من ليس كمثله شيء في أفعاله كما ليس كمثله شيء في صفاته فإنه ما حرمه الا ليعطيه ولا أمرضه الا ليشفيه ولا أفقره الا ليغنيه ولا أماته الا ليحييه وما أخرج أبويه من الجنة الا ليعيدهما اليها على أكمل حال كما قيل:"يا آدم لا تجزع من قولى لك واخرج منها فلك خلقتها وسأعيدك اليها".
فالرب تعالى ينعم على عبده بابتلائه ويعطيه بحرمانه ويصحبه بسقمه فلا يستوحش عبده من حالة تسوؤه أصلا الا اذا كانت تغضبه عليه وتبعده منه.
السابع عشر: أن يعلم العبد بأن فيه جاذبين متضادين ومحنته بين الجاذبين جاذب يجذبه إلى الرفيق الأعلى من أهل عليين وجاذب يجذبه إلى أسفل سافلين فكلما انقاد مع الجاذب الأعلى صعد درجة حتى ينتهى إلى حيث يليق به من المحل الأعلى وكلما انقاد إلى الجاذب الاسفل نزل درجة حتى ينتهى إلى موضعه من سجين ومتى أراد أن يعلم هل هو مع الرفيق

ص -61- الأعلى أو الأسفل فلينظر أين روحه في هذا العالم فإنها اذا فارقت البدن تكون في الرفيق الأعلى الذى كانت تجذبه اليه في الدنيا فهو أولى بها فالمرء مع من أحب طبعا وعقلا وجزءا وكل مهتم بشئ فهو منجذب اليه وإلى أهله بالطبع وكل امرئ يصبو إلى ما يناسبه وقد قال تعالى {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِه} فالنفوس العلوية تنجذب بذاتها وهمها وأعمالها إلى أعلى والنفوس السافلة إلى أسفل.
الثامن عشر: أن يعلم العبد أن تفريغ المحل شرط لنزول غيث الرحمة وتنقيته من الدغل شرط لكمال الزرع فمتى لم يفرغ المحل لم يصادف غيث الرحمة محلا قابلا ينزل فيه وان فرغه حتى أصابه غيث الرحمة ولكنه لم ينقه من الدغل لم يكن الزرع زرعا كاملا بل ربما غلب الدغل على الزرع فكان الحكم له وهذا كالذى يصلح أرضه ويهيئها لقبول الزرع ويودع فيها البذور وينتظر نزول الغيث فإذا طهر العبد قلبه وفرغه من ارادة السوء وخواطره وبذر فيه بذر الذكر والفكر والمحبة والإخلاص وعرضه لمهاب رياح الرحمة وانتظر نزول غيث الرحمة في أوانه كان جديرا بحصول المغل وكما يقوى الرجاء لنزول الغيث في وقته كذلك يقوى الرجاء لإصابة نفحات الرحمن جل جلاله في الأوقات الفاضلة والأحوال الشريفة ولا سيما اذا اجتمعت الهمم وتساعدت القلوب وعظم الجمع كجمع عرفة وجمع الاستسقاء وجمع أهل الجمعة فإن اجتماع الهمم والأنفاس أسباب نصبها الله تعالى مقتضية لحصول الخير ونزول الرحمة كما نصب سائر الأسباب مقتضية إلى مسبباتها بل هذه الأسباب في حصول الرحمة أقوى من الأسباب الحسية في حصول مسبباتها ولكن العبد بجهله يغلب عليه الشاهد على الغائب الحسن وبظلمه يؤثر ما يحكم به هذا ويقتضيه على ما يحكم به الآخر ويقتضيه ولو فرغ العبد المحل وهيأه وأصلحه لرأى العجائب فإن فضل الله لا يرده الا المانع الذى في العبد فلو زال ذلك المانع لسارع اليه الفضل من كل صوب فتأمل حال نهر

ص -62- عظيم يسقى كل أرض يمر عليها فحصل بينه وبين بعض الأرض المعطشة المجدية سكر وسد كثيف فصاحبها يشكو الجدب والنهر إلى جانب أرضه.
التاسع عشر: أن يعلم العبد أن الله سبحانه خلقه لبقاء لافناء له ولعز لا ذل معه وأمن لا خوف فيه وغناء لا فقر معه ولذة لا ألم معها وكمال لا نقص فيه وأمتحنه في هذه الدار بالبقاء الذى يسرع اليه الفناء والعز الذى يقارنه الذل ويعقبه الذل والأمن الذى معه الخوف وبعده الخوف وكذلك الغناء واللذة والفرح والسرور والنعيم الذى هنا مشوب بضده لأنه يتعقبه ضده وهو سريع الزوال فغلط أكثر الخلق في هذا المقام إذ طلبوا النعيم والبقاء والعز والملك والجاه في غير محله ففاتهم في محله وأكثرهم لم يظفر بماطليه ! من ذلك والذى ظفر به انما هو متاع قليل والزوال قريب فإنه سريع الزوال عنه والرسل صلوات الله وسلامه عليهم انما جاءوا بالدعوة إلى النعيم المقيم والملك الكبير فمن أجابهم حصل له ألذ ما في الدنيا وأطيبه فكان عيشه فيها أطيب من عيش الملوك فمن دونهم فإن الزهد في الدنيا ملك حاضر والشيطان يحسد المؤمن عليه أعظم حسد فيحرص كل الحرص على أن لا يصل اليه فإن العبد اذا ملك شهوته وغضبه فانقادا معه لداعى الدين فهو الملك حقا لأن صاحب هذا الملك حر والملك المنقاد لشهوته وغضبه عبد شهوته وغضبه فهو مسخر مملوك في زى مالك يقوده زمام الشهوة والغضب كما يقاد البعير فالمغرور المخدوع يقطع نظره على الملك الظاهر الذى صورته ملك وباطنه رق وعلى الشهوة التى أولها لذة وآخرها حسرة والبصير الموفق يعير نظره من الاوائل إلى الأواخر ومن المبادئ إلى العواقب وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
العشرون: أن لا يغتر العبد باعتقاده أن مجرد العلم بما ذكرنا كاف في حصول المقصود بل لا بد أن يضيف اليه بذل الجهد في استعماله واستفراغ الوسع والطاقة فيه وملاك ذلك الخروج عن العوائد فإنها أعداء

ص -63- الكمال والفلاح فلا أفلح من استمر مع عوائده أبدا ويستعين على الخروج عن العوايد بالهرب عن مظان الفتنة والبعد عنها ما أمكنه وقد قال النبي: "من سمع بالدجال فلينا عنه" فما استعين على التخلص من الشر بمثل البعد عن أسبابه ومظانه.
وههنا لطيفة للشيطان لا يتخلص منها إلا حاذق وهى أن يظهر له في مظان الشر بعض شيء من الخير ويدعوه إلى تحصيله فإذا قرب منه ألقاه في الشبكة والله أعلم.

عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين

الباب الثالث عشر في بيان أن الإنسان لا يستغنى عن الصبر في حال من الأحوال
الباب الثالث عشر: في بيان أن الإنسان لا يستغنى عن الصبر في حال من الأحوال
فإنه بين أمر يجب عليه امتثاله وتنفيذه ونهى يجب عليه اجتنابه وتركه وقدر يجرى عليه اتفاقا ونعمة يجب عليه شكر المنعم عليها واذا كانت هذه الأحوال لا تفارقه فالصبر لازم له إلى الممات وكل ما يلقى العبد في هذه الدار لا يخلو من نوعين أحدهما يوافق هواه ومراده والآخر يخالفه وهو محتاج إلى الصبر في كل منهما أما النوع الموافق لغرضه فكالصحة والسلامة والجاه والمال وأنواع الملاذ المباحة وهو أحوج شئ إلى الصبر فيها من وجوه:
أحدها: أن لا يركن اليها ولا يغتر بها ولا تحمله على البطر والأشر والفرح المذموم الذى لا يحب الله أهله.
الثاني: أن لا ينهمك في نيلها ويبالغ في استقصائها فانها تنقلب إلى اضدادها فمن بالغ في الأكل والشرب والجماع انقلب ذلك إلى ضده وحرم الأكل والشرب والجماع.
الثالث: أن يصبر على أداء حق الله فيها ولا يضيعه فيسلبها.
الرابع: أن يصبر عن صرفها في الحرام فلا يمكن نفسه من كل ما

ص -64- تريده منها فإنها توقعه في الحرام فإن احترز كل الاحتراز أوقعته في المكروه ولا يصبر على السراء الا الصديقون.
قال بعض السلف: البلاء يصبر عليه المؤمن والكافر ولا يصبر على العافية إلا الصديقون وقال عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه: "ابتلينا بالضراء فصبرنا وابتلينا بالسراء فلم نصبر" ولذلك حذر الله عباده من فتنة المال والأزواج والأولاد فقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} وقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} وليس المراد من هذه العداوة ما يفهمه كثير من الناس أنها عداوة البغضاء والمحادة بل إنما هى عداوة المحبة الصادة للآباء عن الهجرة والجهاد وتعلم العلم والصدقة وغير ذلك من أمور الدين وأعمال البر كما في جامع الترمذى من حديث اسرائيل حدثنا سماك عن عكرمة عن ابن عباس وسأله رجل عن هذه الآية يا أيها الذين آمنوا ان من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم قال هؤلاء رجال أسلموا من أهل مكة فأرادوا أن يأتو النبي فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم أن يأتوا رسول الله فلما أتوا رسول الله ورأوا الناس قد فقهوا في الدين هموا أن يعاقبوهم فأنزل الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ}الآية قال الترمذى هذا حديث حسن صحيح وما أكثر ما فات العبد من الكمال والفلاح بسبب زوجته وولده وفي الحديث: "الولد مبخلة مجبنة" وقال الإمام أحمد حدثنا زيد بن الحباب قال حدثني زيد بن واقد قال حدثنى عبد الله بن بريدة قال سمعت أبى يقول: "كان رسول الله يخطبنا فجاء الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران فنزل رسول الله عن المنبر فحملهما فوضعهما بين يديه ثم قال صدق الله {انما أموالكم وأولادكم فتنة} نظرت إلى هذين

الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثى ورفعتهما" وهذا من كمال رحمته ولطفه بالصغار وشفقتة

ص -65- عليهم وهو تعليم منه للأمة الرحمة والشفقة واللطف بالصغار
فصل وانما كان الصبر على السراء شديدا لأنه مقرون بالقدرة والجائع عند غيبة الطعام أقدر منه على الصبر عند حضوره وكذلك الشبق عند غيبة المرأة أصبر منه عند حضورها. فصل وأما النوع الثانى المخالف للهوى فلا يخلو اما أن يرتبط باختيار العبد كالطاعات والمعاصى أو لا ترتبط أوله باختياره كالمصائب أو يرتبط أوله باختياره ولكن لا اختيار له في ازالته بعد الدخول فيه فهاهنا ثلاثة أقسام: أحدها ما يرتبط باختياره وهو جميع أفعاله التى توصف بكونها طاعة أو معصية فأما الطاعة فالعبد محتاج إلى الصبر عليها لأن النفس بطبعها تنفر عن كثير من العبودية أما في الصلاة فلما في طبعها من الكسل وايثار الراحة ولا سيما إذا اتفق مع ذلك قسوة القلب ورين الذنب والميل إلى الشهوات ومخالطة أهل الغفلة فلا يكاد العبد مع هذه الأمور وغيرها أن يفعلها وان فعلها مع ذلك كان متكلفا غائب القلب ذاهلا عنها طالبا لفراقها كالجالس إلى الجيفة
وأما الزكاة فلما في طبعها اى النفس من الشح والبخل وكذلك الحج والجهاد للأمرين جميعا ويحتاج العبد ها هنا إلى الصبر في ثلاثة أحوال أحدها قبل الشروع فيها بتصحيح النية والاخلاص وتجنب دواعى الرياء والسمعة وعقد العزم على توفية المأمورية حقها
الحالة الثانية الصبر حال العمل فيلازم العبد الصبر عن دواعى التقصير فيه والتفريط ويلازم الصبر على استصحاب ذكر النية وعلى حضور القلب بين يدى المعبود وأن لا ينساه في أمره فليس الشأن في فعل المأمور بل الشأن كل الشأن أن لا ينسى الا مرحال الإتيان بأمره بل يكون مستصحبا لذكره في أمره فهذه عبادة العبيد المخلصين لله فهو يحتاج إلى الصبر على توفية العبادة حقها بالقيام بأدائها وأركانها وواجباتها وسننها وإلى

ص -66- الصبر على استصحاب ذكر المعبود فيها ولا يشتغل عنه بعبادته فلا يعطله حضوره مع الله بقلبه عن قيام جوارحه بعبوديته ولا يعطله قيام الجوارح بالعبودية عن حضور قلبه بين يديه سبحانه
الحالة الثالثة الصبر بعد الفراغ من العمل وذلك من وجوه
أحدها أن يصبر نفسه عن الإتيان بما يبطل عمله قال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى فليس الشأن الإتيان بالطاعة انما الشأن في حفظها مما يبطلها
الثانى أن يصبر عن رؤيتها والعجب بها والتكبر والتعظم بها فإن هذا أضر عليه من كثير من المعاصى الظاهرة
الثالث أن يصبر عن نقلها من ديوان السر إلى ديوان العلانية فإن العبد يعمل العمل سرا بينه وبين الله سبحانه فيكتب في ديوان السر فإن تحدث به نقل إلى ديوان العلانيه فلا يظن أن بساط الصبر انطوى بالفراغ من العمل
فصل وأما الصبر عن المعاصى فأمره ظاهر وأعظم ما يعين عليه قطع المألوفات ومفارقة الأعوان عليها في المجالسة والمحادثة وقطع العوائد فإن العادة طبيعة خاصة فاذا انضافت الشهوة إلى العادة تظاهر جندان من جند الشيطان فلا يقوى باعث الدين على قهرهما.
فصل القسم الثانى ما لا يدخل تحت الإختيار وليس للعبد حيلة في دفعه كالمصائب التى لا صنع للعبد فيها كموت من يعز عليه وسرقة ماله ومرضه ونحو ذلك وهذا نوعان أحدهما ما لا صنع للعبد الآدمى فيه والثانى ما أصابه من جهة آدمى مثله كالسب والضرب وغيرهما فالنوع الأول للعبد فيه أربع مقامات أحدها مقام العجز وهو مقام الجزع والشكوى والسخط وهذا ما لا يفعله إلا أقل الناس عقلا ودينا ومروءة وهو أعظم المصيبتين

ص -67- المقام الثانى: مقام الصبر إما لله وإما للمروءة الإنسانية
المقام الثالث: مقام الرضا وهو أعلى من مقام الصبر وفي وجوبه نزاع والسير متفق على وجوبه
المقام الرابع مقام الشكر وهو أعلى من مقام الرضا فإنه يشهد البلية نعمة فيشكر المبتلى عليها
وأما النوع الثانى وهو ما أصابه من قبل الناس فله فيه هذه المقامات ويضاف اليها أربعة أخر أحدها مقام العفو والصفح والثانى مقام سلامة القلب من ارادة التشفي والانتقام وفراغه من ألم مطالعة الجناية كل وقت وضيقه بها الثالث مقام شهود القدر وانه وان كان ظالما بإيصال هذا الأذى اليك فالذى قدره عليك وأجراه على يد هذا الظالم ليس بظالم وأذى الناس مثل الحر والبرد لا حيلة في دفعه فالمنسخط من أذى الحر والبرد غير حازم والكل جار بالقدر وان اختلفت طرقه وأسبابه
المقام الرابع مقام الإسحان إلى المسيء ومقابلة اساءته بإحسانك وفي هذا المقام من الفوائد والمصالح ما لا يعلمه الا الله فإن فات العبد هذا المقام العالى فلا يرضى لنفسه بأخس المقامات وأسفلها
فصل القسم الثالث ما يكون وروده باختياره فإذا تمكن لم يكن له اختيار ولا حيلة في دفعه وهذا كالعشق أوله اختيار وآخره اضطرار وكالتعرض لأسباب الأمراض والآلام التى لا حيلة في دفعها بعد مباشرة أسبابها كما لا حيلة في دفع السكر بعد تناول المسكر فهذا كان فرضه الصبر عنه في أوله فلما فاته بقى فرضه الصبر عليه في آخره وأن لا يطيع داعى هواه ونفسه وللشيطان ها هنا دسيسة عجيبة وهى أن يخيل اليه أن ينل بعض ما منع قد يتعين عليه أو يباح له على سبيل التداوى وغايته أن يكون كالتداوى بالخمر والنجاسة وقد أجازه كثير من الفقهاء وهذا من أعظم الجهل فإن هذا التداوى لا يزيل الداء بل يزيده ويقويه وكم ممن

ص -68- تداوى بذلك فكان هلاك دينه ودنياه في هذا الدواء بل الدواء النافع لهذا الداء الصبر والتقوى كما قال تعالى {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} وقال {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} فالصبر والتقوى دواء كل داء من أدواء الدين ولا يستغنى أحدهما عن صاحبه
فإن قيل فهل يثاب على الصبر في هذا القسم اذا كان عاصيا مفرطا يتعاطى أسبابه وهل يكون معاقبا على ما تولد منه وهو غير اختيارى له
قيل نعم اذا صبر لله تعالى وندم على ما تعاطاه من السبب المحظور أثيب على صبره لأنه جهاد منه لنفسه وهو عمل صالح والله لا يضيع أجر من أحسن عملا
وأما عقوبته على ما تولد منه فإنه يستحق العقوبة على السبب وما تولد منه كما يعاقب السكران على ما جناه في حال سكره فإذا كان السبب محظورا لم يكن السكران معذورا فإن الله سبحانه يعاقب على الأسباب المحرمة وعلى ما تولد منها كما يثيب على الأسباب المأمور بها وعلى ما يتولد منها ولذا كان من دعا إلى بدعة وضلالة فعليه من الوزر مثل أوزار من اتبعه لأن اتباعهم له تولد عن فعله ولذلك كان على ابن آدم القاتل لأخيه كفل من ذنب كل قاتل إلى يوم القيامة وقد قال تعالى: {ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم }وقال تعالى {وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم}
فإن قيل فكيف التوبة من هذا المتولد وليس من فعله والإنسان انما يتوب
عما يتعلق با ختياره قبل التوبة منه بالندم عليه وعدم اجابة دواعيه وموجباته وحبس النفس عن ذلك فإن كان المتولد متعلقا بالغير فتوبته مع ذلك برفعه عن الغير بحسب الإمكان ولهذا كان من توبة الداعى إلى

ص -69- البدعة ان يبين أن ما كان يدعو اليه بدعة وضلالة وان الهدى في ضده كما شرط تعالى في توبة أهل الكتاب الذين كان ذنبهم كتمان ماأنزل الله من البينات والهدى ليضلوا الناس بذلك أن يصلحوا العمل في نفوسهم ويبينوا للناس ما كانوا يكتمونهم اياه فقال {ان الذين يكتمون ما انزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون الا الذين تابوا واصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم}
وهذا كما شرط في توبة المنافقين الذين كان ذنبهم افساد قلوب ضعفاء المؤمنين وتحيزهم واعتصامهم باليهود والمشركين أعداء الرسول وإظهارهم الإسلام رياء وسمعة أن يصلحوا بدل افسادهم وأن يعتصموا بالله بدل اعتصامهم بالكفار من أهل الكتاب والمشركين وأن يخلصوا دينهم لله بدل إضهارهم رياء وسمعة فهكذا تفهم شرائط التوبة وحقيقتها والله المستعان

عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين

الباب الرابع عشر في بيان اشق الصبر على النفوس
الباب الرابع عشر: في بيان أشق الصبر على النفوس
مشقة الصبر بحسب قوة الداعى إلى الفعل وسهولته على العبد فإذا اجتمع في الفعل هذان الأمرن كان الصبر عنه أشق شىء على الصابر وان فقدا معا سهل الصبر عنه وان وجد احدهما وفقد الآخر سهل الصبر من وجه صعب من وجه فمن لاداعى له إلى القتل والسرقة وشرب المسكر وأنواع الفواحش ولا هو سهل عليه فصبره عنه من أيسر شيء عليه وأسهله ومن اشتد داعيه إلى ذلك وسهل عليه فعله فصبره عنه أشق شيء عليه ولهذا كان صبر السلطان عن الظلم وصبر الشباب عن الفاحشة وحبد الغنى عن تناول اللذات والشهوات عند الله بمكان
وفي المسند وغيره عن النبي: "عجب ربك من شاب ليست له

ص -70- صبوة" ولذلك استحق السبعة المذكورين في الحديث الذين يظلهم الله في ظل عرشه لكمال صبرهم ومشقته فإن صبر الإمام المتسلط على العدل في قسمه وحكمه ورضاه وغضبه وصبر الشاب على عبادة الله ومخالفة هواه وصبر الرجل على ملازمة المسجد وصبر المتصدق على إخفاء الصدقة حتى عن بعضه وصبر المدعو إلى الفاحشة مع كمال جمال الداعى ومنصبه وصبر المتحابين في الله على ذلك في حال اجتماعهما وافتراقهما وصبر الباكى من خشية الله على كتمان ذلك وعدم اظهاره للناس من أشق الصبر ولهذا كانت عقوبة الشيخ الزانى والملك الكذاب والفقير المختال أشد العقوبة لسهولة الصبر عن هذه الأشياء المحرمات عليهم لضعف دواعيها في حقهم فكان تركهم الصبر عنها مع سهولته عليهم دليلا على تمردهم على الله وعتوهم عليه
ولهذا كان الصبر عن معاصى اللسان والفرج من اصعب أنواع الصبر لشدة الداعى اليهما وسهولتهما فإن معاصى اللسان فاكهة الإنسان كالنميمة والغيبة والكذب والمراء والثناء على النفس تعريضا وتصريحا وحكاية كلام الناس والطعن على من يبغضه ومدح من يحبه ونحو ذلك فتتفق قوة الداعى وتيسر حركة اللسان فيضعف الصبر ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ: "امسك عليك لسانك" فقال "وانا لمؤاخذون بما نتكلم به" فقال صلى الله عليه وسلم "وهل يكب الناس في النار على مناخرهم الا حصائد ألسنتهم" ولا سيما اذا صارت المعاصى اللسانية معتادة للعبد فإنه يعز عليه الصبر عنها ولهذا تجد الرجل يقوم الليل ويصوم النهار ويتورع من استناده إلى وسادة حرير لحظة واحدة ويطلق لسانه في الغيبة والنميمة والمفكه ! في أعراض الخلق وربما رخص أهل الصلاح والعلم بالله والدين والقول على الله ما لا يعلم وكثير ممن تجده يتورع عن الدقائق من الحرام والقطرة من الخمر ومثل رأس الإبرة من النجاسة ولا يبالى بارتكاب الفرج الحرام كما يحكى أن رجلا خلا بامرأة أجنبية فلما اراد مواقعتها قال يا هذه غطى وجهك

فإن

ص -71- النظر إلى وجه الأجنبية حرام وقد سأل رجل عبدالله بن عمر عن دم البعوض فقال انظروا إلى هؤلاء يسألونى عن دم البعوض وقد قتلوا ابن بنت رسول الله
واتفق لى قريب من هذه الحكاية كنت في حال الإحرام فأتانى قوم من الأعراب المعروفين بقتل النفوس والإغارة على الأموال يسألوني عن قتل المحرم القمل فقلت يا عجبا لقوم لا يتورعون عن قتل النفس التى حرم الله قتلها ويسألون عن قتل القملة في الاحرام
والمقصود أن اختلاف شدة الصبر في أنواع المعاصى وآحادها يكون باختلاف داعيه إلى تلك المعصية في قوتها وضعفها ويذكر عن على رضى الله عنه أنه قال الصبر ثلاثة فصبر على المصيبة وصبر على الطاعة وصبر عن المعصية فمن صبر على المصيبة حتى يردها بحسن عزائها كتب الله له ثلاثمائة درجة ومن صبر على الطاعة حتى يؤديها كما أمر الله كتب الله له ستمائة درجة ومن صبر عن المعصية خوفا من الله ورجاء ما عنده كتب الله له تسعمائة درجة
وقال ميمون بن مهران: "الصبر صبران فالصبر على المصيبة حسن وأفضل منه الصبر عن المعصية".
وقال الفضيل في قوله تعالى: {سلام عليكم بما صبرتم} ثم قال صبروا على ما أمروا به وصبروا عما نهوا عنه وكأنه جعل الصبر على المصيبة داخلا في قسم المأمور به والله أعلم

عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين

الباب الخامس عشر في ذكر ما ورد في الصبر من نصوص الكتاب العزيز
الباب الخامس عشر في ذكر ما ورد في الصبر من نصوص الكتاب العزيز
قال الإمام أحمد رحمه الله: "ذكر الله سبحانه الصبر في القرآن في تسعين موضعا" ونحن نذكر الأنواع التى سيق فيها الصبر وهى عدة أنواع:

ص -72- أحدها الأمر به كقوله {واصبر وما صبرك الا بالله} {واصبر لحكم ربك} الثانى النهى عما يضاده كقوله {ولا تستعجل لهم} وقوله {ولا تهنوا ولا تحزنوا} وقوله {ولا تكن كصاحب الحوت} وبالجملة فكل ما نهى عنه فانه يضاد الصبر المأمور به الثالث تعليق الفلاح به كقوله {يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون }فعلق الفلاح بمجموع هذه الأمور
الرابع الإخبار عن مضاعفة أجر الصابرين على غيره كقوله { أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا} وقوله {انما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} قال سليمان بن القاسم كل عمل يعرف ثوابه إلا الصبر قال الله تعالى {انما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} قال كالماء المنهمر
الخامس تعليق الإمامة في الدين به وباليقين قال الله تعالى {وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون} فبالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين
السادس ظفرهم بمعية الله سبحانه لهم قال تعالى ل{إن الله مع الصابرين{ قال أبو على الدقاق فاز الصابرون بعز الدارين لأنهم نالوا من الله معيته
السابع انه جمع للصابرين ثلاثة أمور لم يجمعها لغيرهم وهى الصلاة منه عليهم ورحمته لهم وهدايته إياهم قال تعالى {وبشر الصابرين الذين اذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا اليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون} وقال

ص -73- بعض السلف وقد عزى على مصيبة نالته فقال مالى لا أصبر وقد وعدنى الله على الصبر ثلاث خصال كل خصلة منها خير من الدنيا وما عليها
الثامن أنه سبحانه جعل الصبر عونا وعدة وأمر بالاستعانة به فقال {واستعينوا بالصبر والصلاة} فمن لا صبر له لا عون له
التاسع أنه سبحانه علق النصر بالصبر والتقوى فقال تعالى{ بلى ان تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين} ولهذا قال النبي: "واعلم أن النصر مع الصبر".
العاشر أنه سبحانه جعل الصبر والتقوى جنة عظيمة من كيد العدو ومكره فمن استجن العبد من ذلك جنة أعظم منهما قال تعالى {وان تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا}
الحادي عشر انه سبحانه أخبر أن ملائكته تسلم عليهم في الجنة بصبرهم كما قال {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار}
الثانى عشر انه سبحانه أباح لهم أن يعاقبوا على ما عوقبتم به ثم أقسم قسما مؤكدا غاية التأكيد أن صبرهم خير لهم فقال {وان عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتهم بهولئن صبرتم لهو خير للصابرين} فتأمل هذا التأكيد بالقسم المدلول عليه بالواو ثم باللام بعده ثم باللام التى في الجواب
الثالث عشر انه سبحانه رتب المغفرة والأجر الكبير على الصبر والعمل الصالح فقال {الا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير} وهؤلاء ثنية الله من نوع الإنسان

ص -74- المذموم الموصوف باليأس والكفر عند المصيبة والفرح والفخر عند النعمة ولا خلاص من هذا الذم الا بالصبر والعمل الصالح كما لا تنال المغفرة والأجر الكبير الا بهما
الرابع عشر انه سبحانه جعل الصبر على المصائب من عزم الأمور أى مما يعزم من الأمور التى انما يعزم على أجلها وأشرفها فقال {ولمن صبر وغفر ان ذلك لمن عزم الأمور} وقال لقمان لابنه {واءمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك ان ذلك من عزم الأمو}
الخامس عشر انه سبحانه وعد المؤمنين بالنصر والظفر وهى كلمته التى سبقت لهم وهى الكلمة الحسنى وأخبر أنه انما انالهم ذلك بالصبر فقال تعالى {وتمت كلمة ربك الحسنى على بنى اسرائيل بما صبروا}
السادس عشر أنه سبحانه علق محبته بالصبر وجعلها لأهله فقال {وكأين من نبى قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين}
السابع عشر انه سبحانه أخبر عن خصال الخير انه لا يلقاها الا الصابرون في موضعين من كتابه في سورة القصص في قصة قارون وان الذين أوتوا العلم قالو للذين تمنوا مثل ما أوتى {ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها الا الصابرون} وفي سورة حميم السجدة حيث أمر العبد أن يدفع بالتى هى أحسن فإذا فعل ذلك صار الذى بينه وبينه عداوة كأنه حبيب قريب ثم قال {وما يلقاها الا الذين صبروا وما يلقاها الا ذو حظ عظيم}
الثامن عشر أنه سبحانه أخبر أنه إنما ينتفع بآياته ويتعظ بها الصبار الشكور فقال تعالى {ولقد ارسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من

ص -75- الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله ان في ذلك لآيات لكل صبار شكور} وقال تعالى في لقمان {ألم تر أن الفلك تجرى في البحر بنعمة الله ليريكم من آياته ان في ذلك لآيات لكل صبار شكور} وقال في قصة سبأ {وجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق ان في ذلك لآيات لكل صبار شكور} وقال تعالى {ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام ان يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره ان في ذلك لآيات لكل صبار شكور} فهذه أربع مواضع في القرآن تدل على أن آيات الرب انما ينتفع بها أهل الصبر والشكر
التاسع عشر أنه أثنى على عبده أيوب بأحسن الثناء على صبره فقال {أنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب} فأطلق عليه نعم العبد بكونه وجده صابرا وهذا يدل على أن من لم يصبر اذا ابتلى فإنه بئس العبد
العشرون انه سبحانه حكم بالخسران حكما عاما على كل من لم يؤمن ولم يكن من أهل الحق والصبر وهذا يدل على أنه لا رابح سواهم فقال تعالى {والعصر ان الإنسان لفي خسر الا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر } ولهذا قال الشافعى لو فكر الناس كلهم في هذه الاية لوسعتهم وذلك أن العبد كماله في تكميل قوتيه قوة العلم وقوة العمل وهما الإيمان والعمل الصالح وكما هو محتاج إلى تكميل نفسه فهو محتاج إلى تكميل غيره وهو التواصى بالحق والتواصى بالصبر وأخية ذلك وقاعدته وساقه الذى يقوم عليه انما هو الصبر
الحادى والعشرون أنه سبحانه خص أهل الميمنة بأنهم أهل الصبر والمرحمة الذين قامت بهم هاتان الخصلتان ووصوا بهما غيرهم فقال تعالى {ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة أولئك

ص -76- أصحاب الميمنة} وهذا حصر لأصحاب الميمنة فيمن قام به هذان الوصفان والناس بالنسبة اليهما أربعة أقسام هؤلاء خير الاقسام وشرهم من لا صبر له ولا رحمة فيه ويليه من له صبر ولا رحمة عنده ويليه القسم الرابع وهو من له رحمة ورقة ولكن لا صبر له
الثانى والعشرون أنه سبحانه قرن الصبر بأركان الإسلام ومقامات الإيمان كلها
فقرنه بالصلاة كقوله {واستعينوا بالصبر والصلاة} وقرنه بالأعمال الصالحة عموما كقوله {الا الذين صبروا وعملوا الصالحات} وجعله قرين التقوى كقوله {إنه من يتق ويصبر} وجعله قرين الشكر كقوله {ان في ذلك لآيات لكل صبار شكور} وجعله قرين الحق كقوله {وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} وجعله قرين الرحمة كقوله {وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة} وجعله قرين اليقين كقوله {لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون} وجعله قرين الصدق كقوله {والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات} وجعله سبب محبته ومعيته ونصره وعونه وحسن جزائه ويكفي بعض ذلك شرفا وفضلا والله أعلم

عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين

الباب السادس عشر في ذكر ما ورد فيه من نصوص السنة
الباب السادس عشر: في ذكر ما ورد فيه من نصوص السنة
في الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضى الله عنه" أن رسول الله أتى على امرأة تبكى على صبى لها فقال لها اتقى الله واصبرى فقالت وما تبالى بمصيبتى فلما ذهب قيل لها انه رسول الله فأخذها مثل الموت فأتت بابه فلم تجد على بابه بوابين فقالت يا رسول لم أعرفك فقال انما الصبر عند أول صدمة" وفي لفظ "عند الصدمة

ص -77- الاولى" وقوله الصبر عند الصدمة الاولى مثل قوله "ليس الشديد بالصرعة انما الشديد الذى يملك نفسه وقت الغضب" فإن مفاجئات المصيبة بغتة لها روعة تزعزع القلب وتزعجه بصدمها فإن صبر الصدمة الأولى انكسر حدها وضعفت قوتها فهان عليه استدامة الصبر وأيضا فإن المصيبة ترد على القلب وهو غير موطن لها فتزعجه وهى الصدمة الأولى وأما اذا وردت عليه بعد ذلك توطن لها وعلم انه لا بد له منها فيصير صبره شبيه الاضطرار وهذه المرأة لما علمت ان جزعها لا يجدى عليها شيئا جاءت تعتذر إلى النبي كأنها تقول له قد صبرت فأخبرها أن الصبر انما هو عند الصدمة الأولى
ويدل على هذا المعنى ما رواه سعيد بن زربى عن محمد بن سيرين عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: "مر النبي على امرأة جاثمة على قبر تبكى فقال لها يا أمة الله اتق الله واصبرى قالت يا عبد الله ثكلى قال يا أمة الله اتق الله واصبرى قالت يا عبد الله لو كنت مصابا عذرتنى قال يا أمة الله اتق الله واصبرى قالت يا عبد الله قد أسمعت فانصرف عنى فمضى رسول الله واتبعه رجل من أصحابه فوقف على المرأة فقال لها ما قال لك الرجل الذاهب قالت قال لى كذا وكذا وأجبته بكذا وكذا قال هل تعرفينه قالت لا قال ذلك رسول الله قال فوثبت سرعة نحوه حتى انتهت اليه وهى تقول أنا أصبر أنا أصبر يا رسول الله فقال الصبر عند الصدمة الأولى الصبر عند الصدمة الأولى".
قال ابن أبى الدنيا حدثنا بشر بن الوليد وصالح الكندى بن مالك قالا حدثنا سعيد بن زربى فذكره فهذا السياق يبين معنى الحديث قال أبو عبيد معناه ان كل ذى رزبة فإن قصاراه الصبر ولكنه انما يحمد على صبره عند حدة المصيبة وحرارتها
قلت وفي الحديث أنواع من العلم أحدها وجوب الصبر على

ص -78- المصائب وأنه من التقوى التى أمر العبد بها الثانى الامر بالمعروف والنهى عن المنكر وان سكر المصيبة وشدتها لا يسقطه عن الآمر الناهى الثالث تكرار الامر والنهى مرة بعد مرة حتى يعذر المرء إلى ربه الرابع احتج به على جواز زيارة النساء للقبور فانه لم ينكر عليها الزيارة وانما أمرها بالصبر ولو كانت الزيارة حراما لبين لها حكمها وهذا كان في آخر الامر فإن أبا هريرة انما اسلم بعد السنة السابعة وأجيب عن هذا بأنه قد أمرها بتقوى الله والصبر وهذا انكار منه لحالها من الزيارة والبكاء ويدل عليه أنها لما علمت أن الآمر لها من تجب طاعته انصرفت مسرعة وأيضا فأبو هريرة لم يخبر أنه شهد هذه القصة فلا يدل الحديث على أنها بعد السلامه ولو شهدها فلعنته لزائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج كان بعد هذا في مرض موته وفي عدم تعريفه لها بنفسه في تلك الحال التى لا تملك فيها نفسها شفقة منه ورحمة بها اذا عرفها بنفسه في تلك الحال فربما لم تسمع منه فتهلك وكان معصيتها له وهى لا تعلم أنه رسول الله أخف من معصيتها له لو علمت فهذا من كمال رأفته صلوات الله وسلامه عليه
وفي صحيح مسلم عن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله يقول: "ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله إنا لله وإنا اليه راجعون اللهم اجرنى في مصيبتى واخلف لى خيرا منها إلا أخلف الله له خيرا منها" قالت فلما مات أبو سلمة قلت أى المسلمين خير من أبى سلمة أول بيت هاجر إلى رسول الله ثم إنى قلتها فأخلف الله لى رسوله فأرسل إلى رسول الله حاطب بن ابى بلتعة يخطبنى له فقلت ان لى بنتا وأنا غيور فقال أما بنتها فادعو الله أن يغنيها عنها وادعو الله أن يذهب بالغيرة فتزوجت رسول الله
وعند أبى داود في هذا الحديث عنها قالت قال رسول الله: "اذا

ص -79- أصابت أحدكم مصيبة قليقل إنا لله وإنا اليه راجعون اللهم عندك أحتسب مصيبتى فاءجرنى فيها وابدلنى خيرا منها" فلما احتضر أبو سلمة قال: "اللهم اخلفنى في أهلى خيرا منى" فلما قبض قالت أم سلمة: "إنا لله وانا اليه راجعون عند الله أحتسب مصيبتى" فانظر عاقبة الصبر والاستراجاع ومتابعة الرسول والرضاء عن الله إلى ما آلت إليه وأنالت أم سلمة نكاح أكرم الخلق على الله
وفي جامع الترمذي ومسند الامام أحمد وصحيح ابن حبان عن ابي موسى الأشعري قال قال رسول الله: "اذا مات ولد العبد قال الله لملائكته قبضتم ولد عبدي فيقولون نعم فيقول قبضتم ثمرة فؤاده فيقولون نعم فيقول ماذا قال عبدي فيقولون حمدك واسترجعك فيقول ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد".
وفي صحيح البخاري من حديث أنس أن رسول الله قال: "اذا ابتليت عبدي بحبيتيه ثم صبر عوضته عنهما الجنه" يريد عينيه وعند الترمذي في الحديث: "اذا أخذت كريمتي عبدي في الدنيا لم يكن له جزاء عندي الا الجنة" وفي الترمذي أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله: "يقول الله عز وجل من أذهبت حبيتيه فصبر واحتسب لم أرض له ثوابا دون الجنة".
وفي سنن أبي داود من حديث عبد الله بن عمر قال قال رسول الله: "لا يرضى الله لعبده المؤمن إذا ذهب بصفيه من أهل الارض واحتسبه بثواب دون الجنة" وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله: "يقول الله عز وجل ما لعبدي المؤمن جزاء اذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه الا الجنة" وفي صحيحه أيضا عن عطاء بن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجنة قلت بلى قال هذه المرأة السوداء أتت النبي فقالت يا رسول الله اني أصرع واني أتكشف فادع الله لي قال: "ان شئت صبرت ولك

ص -80- الجنة وان شئت دعوت الله تعالى ان يعافيك فقالت أصبر فقالت أني أتكشف فادع الله ان لا أتكشف فدعا لها"
وفي الموطأ من حديث عطاء بن يسار أن رسول الله قال: "اذا مرض العبد بعث اليه ملكين فقال انظرا ماذا يقول لعواده فإن هو اذ جاؤوه حمد الله وأثنى عليه رفعا ذلك إلى الله وهو أعلم فيقول ان لعبدي علي ان توفيته ان أدخله الجنة وان أنا شفيته أن أبدله لحما خيرا من لحمه ودما خيرا من دمه وأن أكفر عنه سيئاته" وفي صحيفة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله: "اذا جمع الله الخلائق نادى مناد أين أهل الصبر فيقوم ناس وهم قليلون فينطلقون سراعا إلى الجنة فتلقاهم الملائكة فيقولون انا نراكم سراعا إلى الجنة فمن أنتم فيقولون نحن أهل الفضل فيقولون ما كان فضلكم فيقولون كنا اذا ظلمنا صبرنا واذا أسيء الينا غفرنا واذا جهل علينا حلمنا فيقال لهم ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين".
وفي الصحيحين أن رسول الله قسم مالا فقال بعض الناس هذه قسمة ما أريد بها وجه الله فأخبر بذلك رسول الله فقال "رحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر"
وفي الصحيحين من حديث الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله: "ما من مصيبة تصيب المسلم الا كفر الله بها عنه حتى الشوكة يشاكها" وفيهما أيضا من حديث أبي سعيد وأبي هريرة عن النبي: "قال ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها الا كفر الله بها من خطاياه".
وفي صحيح مسلم من حديث عائشة عن النبي أنه قال: "لا يصيب المؤمن من شوكة فما فوقها الا رفعه الله بها درجة وحط عنه بها خطيئة" وفي المسند من حديث أبي هريرة عن النبي قال: "لا يزال

ص -81- البلاء بالمؤمن أو المؤمنة في جسده وفي ماله وفي ولده حتى يلقى الله وما عليه خطيئة" وفي الصحيح من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: "قلت يا رسول الله أي الناس أشد بلاء قال الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه فان كان في دينه صلابة زيد في بلائه وان كان في دينه رقة خفف عنه وما يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي على الارض وليس عليه خطيئة".
وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال: "دخلت على النبي وهو يوعك وعكا شديدا قال فقلت يا رسول الله انك لتوعك وعكا شديدا قال أجل انى لأوعك كما يوعك رجلان منكم قلت ان لك لأجرين قال نعم والذى نفسى بيده ما على الارض مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه الا حط الله عنه به خطاياه كما تحط الشجرة ورقها" وفي الصحيحين أيضا من حديث عائشة رضى الله عنها قالت: "ما رأيت الوجع اشد منه على رسول الله".
وفي بعض المسانيد مرفوعا "ان الرجل لتكون له الدرجة عند الله لا يبلغها بعمل حتى يبتلى ببلاء في جسمه فيبلغها بذلك" ويروى عن عائشة رضى الله عنها عنه "اذا اشتكى المؤمن أخلصه ذلك من الذنوب كما يخلص الكير الخبث من الحديد" وفي صحيح البخارى من حديث خباب بن الارت قال: "شكونا إلى رسول الله وهو متوسد ببردة له في ظل الكعبة فقلنا ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا فقال قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الارض فيجعل فيها ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه والله ليتمن الله هذا الامر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف الا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون".
وفي لفظ للبخارى "أتيت رسول الله وهو متوسد بردة في ظل الكعبة وقد لقينا من المشركين شدة فقلنا ألا تدعو الله فقعد وهو محمر

ص -82- وجهه فقال لقد كان الرجل ليمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه".
وقد حمل أهل العلم قول خباب "شكونا إلى رسول الله حر الرمضاء فلم يشكنا" على هذا المحمل وقال شكوا اليه حر الرمضاء الذى كان يصيب جباههم وأكفهم من تعذيب الكفار فلم يشكهم وانما دلهم على الصبر
وهذا الوجه أنسب من تفسير من فسر ذلك بالسجود على الرمضاء واحتج به على وجوب مباشرة المصلى بالجبهة لثلاثة أوجه
أحدها انه لا دليل في اللفظ على ذلك الثانى انهم قد أخبروا أنهم كانوا مع النبي فكان أحدهم اذا لم يستطع أن يسجد على الأرض يبسط ثوبه فسجد عليه والظاهر أن هذا يبلغه ويعلم به وقد أقرهم عليه
الثالث ان شدة الحر في الحجاز تمنع من مباشرة الجبهة والكف للأرض بل يكاد يشوى الوجه والكف فلا يتمكن من الطمأنينة في السجود ويذهب خشوع الصلاة ويتضرر البدن ويتعرض للمرض والشريعة لا تأتى بهذا فتأمل رواية خباب لهذا والذى قبله واجمع بين اللفظين والمعنيين والله أعلم ولا تستوحش من قوله "فلم يشكنا" فانه هو معنى إعراضه عن شكايتهم واخباره لهم بصبر من قبلهم والله أعلم
وفي الصحيح من حديث أسامة بن زيد قال: "أرسلت ابنة النبي اليه ان ابنا لى احتضر فاءتنا فأرسل يقريها السلام ويقول ان لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شئ عنده بأجل مسمى فلتصبر ولتحتسب فأرسلت اليه تقسم عليه ليأتينها فقام ومعه سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل وأبى بن كعب وزيد بن ثابت ورجال فرفع الصبى إلى رسول الله فأقعده في حجره

ص -83- ونفسه تقعقع كأنها شن ففاضت عيناه فقال سعد يا رسول الله ما هذا قال هذه رحمة جعلها الله في قلوب من يشاء من عباده وانما يرحم الله من عباده الرحماء".
وفي سنن النسائى عن ابن عباس قال: "احتضرت ابنة لرسول الله صغيرة فأخذها رسول الله وضمها إلى صدره ثم وضع يده عليها وهى بين يدى رسول الله فبكت أم أيمن فقلت لها أتبكين ورسول الله عندك فقالت مالى لا أبكى ورسول الله يبكى فقال رسول الله انى لست أبكى ولكنها رحمة ثم قال رسول الله المؤمن بخير على كل حال تنزع نفسه من بين جنبيه وهو يحمد الله عزوجل".
وفي صحيح البخارى من حديث أنس رضى الله عنه قال: "اشتكى ابن لأبى طلحة فمات وأبو طلحة خارج فلما رأت امرأته انه قد مات هيأت شيئا وسجته في جانب البيت فلما جاء أبو طلحة قال كيف الغلام قالت قد هدأت نفسه وأرجو أن يكون قد استراح فظن أبو طلحة انها صادقة قال فبات معها فلما أصبح اغتسل فلما أراد أن يخرج أعلمته انه قد مات فصلى مع رسول الله ثم أخبره بما كان منهما فقال رسول الله لعل الله أن يبارك لكما في ليلتكما قال ابن عيينة فقال رجل من الانصار فرأيت له تسعة أولاد كلهم قد قرأو القرآن" وفي موطأ مالك عن القاسم بن محمد قال هلكت امرأة لى فأتانى محمد بن كعب القرظى يعزينى فيها فقال انه قد كان في بنى اسرائيل رجل فقيه عابد عالم مجتهد وكانت له امرأة وكان بها معجبا فماتت فوجد عليها وجدا شديدا حتى خلى في بيت وأغلق على نفسه واحتجب عن الناس فلم يكن

ص -84- يدخل عليه أحد ثم ان امرأة من بنى اسرائيل سمعت به فجاءته فقالت ان لى اليه حاجة أستفتيه فيها ليس يجزينى إلا أن أشافهه بها فذهب الناس ولزمت الباب فأخبر فأذن لها فقالت أستفتيك في أمر قال وما هو قالت انى استعرت من جارة حليا فكنت ألبسه وأعيره زمانا ثم انها أرسلت إلى فيه أفأرده اليها قال نعم قالت والله انه مكث عندي زمانا فقال ذلك أحق لردك إياه فقالت له يرحمك الله أفتأسف على ما أعارك الله ثم أخذه منك وهو أحق به منك فأبصر ما كان فيه ونفعه الله بقولها
وفي جامع الترمذى عن شيخ من بنى مرة قال قدمت الكوفة فأخبرت عن بلال ابن أبى بردة فقلت ان فيه لمعتبرا فأتيته وهو محبوس في داره التى كان بنى واذا كل شئ منه قد تغير من العذاب والضرب واذا هو في قشاش فقلت له الحمد لله يا بلال لقد رأيتك تمر بنا وأنت تمسك أنفك من غير غبار وأنت في حالتك هذه فكيف صبرك اليوم فقال ممن أنت قلت من بنى مرة بن عباد قال ألا أحدثك حديثا عسى أن ينفعك الله به قال هات قال حدثنى أبو بردة عن أبى موسى أن رسول الله قال: "لا يصيب عبدا نكبة فما فوقها أو دونها الا بذنب وما يعفو الله عنه أكثر قال وقرأ {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير}.
وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود رضى الله عنه: "كأنى أنظر إلى رسول الله يحكى أن نبيا من الانبياء ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول اللهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون" فتضمنت هذه الدعوة العفو عنهم والدعاء لهم والاعتذار عنهم والاستعطاف بقوله لقومى وفي الموطأ من حديث عبد الرحمن بن القاسم قال: قال رسول الله: "ليعز المسلمين في مصائبهم المصيبة بى" وفي الترمذي من حديث يحيى بن وثاب عن شيخ من أصحاب رسول الله قال قال

ص -85- رسول الله: "الذى يخالط الناس ويصبر على أذاهم خيرمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم" قال الترمذى كان شعبة يرى أن الشيخ ابن عمر.
وفي الصحيحين من حديث أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه عن النبي أنه قال: "ما أعطى أحد عطاء خير وأوسع من الصبر" وفي بعض المسانيد عنه أنه قال: "قال الله عزوجل: اذا وجهت إلى عبد من عبيدى مصيبة في بدنه أو ماله أو ولده ثم استقبل ذلك بصبر جميل استحييت منه يوم القيامة أن أنصب له ميزانا أو أنشر له ديوانا".
وفي جامع الترمذى عنه: "اذا أحب الله قوما ابتلاهم فمن رضى فله الرضا ومن سخط فله السخط" وفي بعض المسانيد عنه مرفوعا "اذا أراد الله بعبد خيرا صب عليه البلاء صبا" وفي صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله رضى الله عنه أن رسول الله دخل على امرأة فقال: "مالك ترفرفين قالت الحمى لا بارك الله فيها قال لا تسبى الحمى فإنها تذهب خطايا بنى آدم كما يذهب الكير خبث الحديد".
ويذكر عن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبي أنه قال: "من وعك ليلة فصبر ورضى عن الله تعالى خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه" وقال الحسن: "إنه ليكفر عن العبد خطاياه كلها بحمى ليلة" وفي المسند وغيره عن أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه قال دخلت على النبي وهو محموم فوضعت يدى من فوق القطيفة فوجدت حرارة الحمى فقلت ما أشد حماك يا رسول الله قال "انا كذلك معاشر الانبياء يضاعف علينا الوجع ليضاعف لنا الاجر" قال قلت يا رسول الله فأى الناس أشد بلاء قال الانبياء قلت ثم من قال الصالحون ان كان الرجل ليبتلى بالفقر حتى ما يجد الا العباء فيجوبها فيلبسها وان كان الرجل ليبتلى

ص -86- بالقمل حتى يقتله القمل وكان ذلك أحب اليهم من العطاء اليكم"
وقال عقبة بن عامر الجهنى قال رسول الله: "ليس من عمل الا وهو يختم عليه فإذا مرض المؤمن قالت الملائكة يا ربنا عبدك فلان قد حبسته عن العمل فيقول الرب تعالى اختموا له على مثل عمله حتى يبرأ أو يموت" وقال أبو هريرة: "إذا مرض العبد المسلم نودى صاحب اليمين أن أجر على عبدى صالح ما كان يعمل وهو صحيح ويقال لصاحب الشمال أقصر عن عبدى ما دام في وثاقى" فقال رجل عند أبى هريرة يا ليتنى لا أزال ضاجعا فقال أبو هريرة كره العبد الخطايا ذكره ابن أبى الدنيا
وذكر ايضا عن هلال بن بساق قال كنا قعودا عند عمار بن ياسر فذكروا الاوجاع فقال أعرابى ما اشتكيت قط فقال عمار ما أنت منا أو لست منا ان المسلم يبتلى بلاء فتحط عنه ذنوبه كما يحط الورق من الشجر وان الكافر أو قال الفاجر يبتلى ببلية فمثله مثل البعير ان أطلق لم يدر لم أطلق وان عقل لم يدر لم عقل وذكر عن أبى معمر الازدى قال كنا اذا سمعنا من ابن مسعود شيئا نكرهه سكتنا حتى يفسره لنا فقال لنا ذات يوم ألا ان السقم لا يكتب له أجر فساءنا ذلك وكبر علينا فقال ولكن يكفر به الخطيئة فسرنا ذلك وأعجبنا
وهذا من كمال علمه وفقهه رضى الله عنه فإن الاجر انما يكون على الاعمال الاختيارية ومما تولد منها كما ذكر الله سبحانه النوعين في آخر سورة التوبة في قوله في المباشر من الانفاق وقطع الوادى {الا كتب لهم} وفي المتولد من اصابة الظمأ والنصب والمخمصة في سبيله وغيظ الكفار {الا كتب لهم به عمل صالح} فالثواب مرتبط بهذين النوعين وأما الاسقام والمصائب فإن ثوابها تكفير الخطايا ولهذا قال تعالى وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم والنبي انما قال في المصائب "كفر الله بها من خطاياه" كما تقدم ذكر الفاظه

ص -87- وكذا قوله: "المرض حطة" فالطاعات ترفع الدرجات والمصائب تحط السيئات ولهذا قال: "من يرد الله به خيرا يصب منه" وقال: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين" فهذا يرفعه وهذا يحط خطاياه
وقال يزيد بن ميسرة: ان العبد ليمرض المرض وما له عند الله من عمل خير فيذكره الله سبحانه بعض ما سلف من خطاياه فيخرج من عينه مثل رأس الذباب من الدمع من خشية الله فيبعثه الله ان يبعثه مطهرا أو يقبضه ان قبضه مطهرا ولا يرد على هذا حديث أبى موسى الاشعرى رضى الله عنه في ثواب من قبض الله ولده وثمرة فؤاده بأن يبنى له بيتا في الجنة ويسميه بيت الحمد
وقال زياد بن زياد مولى ابن عباس رضى الله عنه وعن أصحاب النبي قال: "دخلنا على النبي وهو ممعوك اى محموم فقلنا اح اح بآبائنا وأمهاتنا يا رسول الله ما أشد وعكك قال انا معاشر الانبياء يضاعف علينا البلاء تضعيفا قال قلنا سبحان الله قال أفعجبتم ان كان النبي من الانبياء ليقتله القمل قلنا سبحان الله قال أفعجبتم ان أشد الناس بلاء الانبياء ثم الصالحون ثم الامثل فالامثل قلنا سبحان الله قال أفعجبتم ان كانوا ليفرحون بالبلاء كما تفرحون بالرخاء".
أح: بالحاء المهملة هو المعروف من كلامهم ومن قال بالخاء المعجمة فقد غلط وذكر النسائى عن عبيدة بن حذيفة عن عمته فاطمة قالت: "أتيت النبي في نسوة نعوده فاذا سقاء معلقة يقطر ماؤها من شدة ما كان يجد من الحمى فقلنا لو دعوت الله يا رسول الله أن يذهبها عنك فقال: "ان أشد الناس بلاء الانبياء ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم".
وقال مسروق عن عائشة رضى الله عنها: "ما رأيت أحدا أشد وجعا من رسول الله كان يشدد عليه اذا مرض حتى انه لربما مكث خمس

ص -88- عشرة لا ينام وكان يأخذه عرق الكلية وهو الخاصرة فقلنا يا رسول الله لو دعوت الله فيكشف عنك قال إنا معاشر الانبياء يشدد علينا الوجع ليكفر عنا".
وفي المسند والنسائى من حديث أبى سعيد قال: "قال رجل يا رسول الله ارأيت هذه الامراض التى تصيبنا مالنا بها قال كفارات فقال أبى بن كعب يا رسول الله وان قلت قال شوكة فما فوقها" قال فدعا ابى على نفسه عند ذلك أن لا يفارقه الوعك حتى يموت ولا يشغله عن حج ولا عمرة ولا جهاد في سبيل الله وصلاة مكتوبة في جماعة قال فما مس رجل جلده بعدها الا وجد حرها حتى مات" وقال عبد الله بن عمر قال رسول الله: "ان العبد اذا كان على طريقة حسنة من العبادة ثم مرض قيل للملك الموكل به أكتب له مثل عمله اذا كان طلقا أو أكفته إلى ناقة طلق" بضم الطاء واللام اذا حل عقالها ويقال كفته اليه اذا ضمه اليه ذكره ابن أبى الدنيا
وذكر أيضا عن ابى أمامة الباهلى قال قال رسول الله: "ان الله ليجرب أحدكم بالبلاء وهو أعلم به كما يجرب أحدكم ذهبه بالنار فمنهم من يخرج كالذهب الابريز فذلك الذى نجاه الله من السيئات ومنهم من يخرج كالذهب دون ذلك فذلك الذى يشك بعض الشك ومنهم من يخرج كالذهب الأسود فذلك الذى قد أفتتن" وذكر أيضا من مراسيل الحسن البصرى عن النبي: "ان الله ليكفر عن المؤمن خطاياه كلها بحمى ليلة".
قال ابن أبى الدنيا قال ابن المبارك هذا من الحديث الجيد قال وكانوا يرجون في حمى ليله كفارة ما مضى من الذنوب
وذكر عن أنس أن رسول الله دخل على رجل وهو يشتكى فقال: "قل: اللهم انى أسألك تعجيل عافيتك وصبرا على بليتك وخروجا من الدنيا إلى رحمتك" وقالت عائشة رضى الله عنها قال رسول

ص -89- الله: "ان الحمى تحط الخطايا كما تحط الشجرة ورقها" وقال أبو هريرة وقد عاد مريضا فقال له ان رسول الله قال: "ان الله عز وجل يقول هى نارى أسلطها على عبدى المؤمن في الدنيا لتكون حظه من النار في الآخرة".
وقال مجاهد الحمى حظ كل مؤمن من النار ثم قرأ وان منكم الا واردها كان على ربك حتما مقضيا وهذا لم يرد به مجاهد تفسير الورود الذى في القرآن فإن السياق يأبى حمله على الحمى قطعا وانما مراده أن الله سبحانه وعد عباده كلهم بورود النار فالحمى للمؤمن تكفر خطاياه فيسهل عليه الورود يوم القيامة فينجو منها سريعا والله أعلم
ويدل عليه حديث أبى ريحانة عن النبي: "الحمى كير من كير جهنم وهى نصيب المؤمن من النار" وقال أنس رضى الله عنه قال رسول الله: "مثل المؤمن اذا برأ وصح من مرضه كمثل البردة تقع من السماء في صفائها ولونها" ذكره ابن أبى الدنيا.
وذكر أيضا عن أبى أمامة يرفعه: "ما من مسلم يصرع صرعة من مرض الا بعث منها طاهرا" وذكر عنه: "مثل المؤمن حيث يصيبه الوعك مثل الحديدة تدخل النار فيذهب خبثها ويبقى طيبها" وذكر أيضا عنه مرفوعا: "ان العبد اذا مرض أوحى الله إلى ملائكته يا ملائكتى أنا قيدت عبدى بقيد من قيودي فإن أقبضه أغفر له وان أعافه فجسد مغفور لا ذنب له".
وذكر عن سهل بن أنس الجهنى عن أبيه عن جده قال: "دخلت على أبى الدرداء في مرضه فقلت يا أبا الدرداء انا نحب أن نصح ولا نمرض" فقال أبو الدرداء سمعت رسول الله يقول: "ان الصداع والمليلة لا يزالان بالمؤمن وان كان ذنبه مثل أحد حتى لا يدعان عليه من ذنبه مثقال حبة من خردل" المليلة فعيلة من التململ وأصلها من الملة التى يخبز فيها

ص -90- وقالت أم سلمة عن النبي: "ما ابتلى الله عبدا بلاء وهو على طريق يكرهها الا جعل الله ذلك البلاء له كفارة وطهورا ما لم ينزل ما أصابه من البلاء بغير الله أو يدعو غير الله يكشفه" وقال عطيه بن قيس: "مرض كعب فعاده رهط من أهل دمشق فقالوا كيف تجدك يا أبا اسحاق قال بخير جسد أخذ بذنبه ان شاء ربه عذبه وان شاء رحمه وان بعثه بعثه خلقا جديدا لا ذنب له" وقال سعيد ابن وهب: "دخلنا مع سلمان الفارسى على رجل من كنده نعوده فقال سلمان: إن المسلم يبتلى فيكون كفارة لما مضى ومستعتبا فيما بقى وان الكافر يبتلى فمثله كمثل البعير أطلق فلم يدر لم أطلق وعقل فلم يدر لم عقل".
وذكر أيضا عن أبى أيوب الانصارى قال عاد رسول الله رجلا من الأنصار وأكب عليه فسأله فقال يا نبى الله ما غمضت منذ سبع فقال رسول الله: "أى أخى أصبر أى أخى أصبر تخرج من ذنوبك كما دخلت فيها" ثم قال رسول الله: "ساعات الأمراض يذهبن ساعات الخطايا".
وفي النسائى من حديث أبى هريرة أن رسول الله قال لأعرابى: "هل أخذتك أم ملدم قال يا رسول الله وما أم ملدم قال حر يكون بين الجلد والدم قال ما وجدت هذا قال يا أعرابى هل أخذك الصداع قال يا رسول وما الصداع قال عرق يضرب على الإنسان في رأسه قال ما وجدت هذا فلما ولى قال رسول الله من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى هذا".
وقالت أم سليم: "مرضت فعادنى رسول الله فقال يا أم سليم أتعرفين النار والحديد وخبث الحديد قلت نعم يا رسول الله قال أبشرى يا أم سليم فإنك إن تخلصى من وجعك هذا تخلصى منه كما يخلص الحديد من النار من خبثه" وخرج بعض الصحابة زائر لرجل من إخوانه فبلغه أنه شاك قبل أن يدخل عليه فقال أتيتك زائرا و أتيتك عائدا ومبشرا قال كيف جمعت هذا قال خرجت وأنا أريد زيارتك

ص -91- فبلغى شكاتك فصارت عيادة وأبشرك بشيء سمعته من رسول الله قال: "اذا سبقت للعبد من الله منزلة لم يبلغها أو قال لم ينلها بعمله ابتلاه الله في جسده أو في ولده أو في ماله ثم صبره حتى يبلغه المنزلة التى سبقت له من الله عز وجل".
وقال الحسن وذكر الوجع أما والله ما هو بشر أيام المسلم أيام نورت له فيها مراحله وذكر فيها ما نسى من معاده وكفر بها عنه من خطاياه وقال بعض السلف لولا مصائب الدنيا لو لوردنا الآخرة مفاليس
وقال أنس بن مالك رضى الله عنه: "انتهى رسول الله إلى شجرة فهزها حتى سقط من ورقها ما شاء الله ثم قال المصائب والاوجاع في إحباط ذنوب أمتى أسرع منى في هذه الشجرة" وذكر ابن أبى الدنيا عن أبى هريرة رضى الله عنه يرفعه: "ما من مسلم إلا وكل الله به ملكين من ملائكته لا يفارقانه حتى يقضى الله بأمره بإحدى الحسنيين اما بموت واما بحياة فإذا قال له العواد كيف نجدك قال أحمد الله أجدنى والله المحمود بخير قال له الملكان أبشر بدم هو خير من دمك وصحة هى خير من صحتك وان قال أجدنى مجهودا في بلاء شديد قال له الملكان ابشر بدم هو شر من دمك وبلاء أطول من بلائك".
ولا يناقض هذا قول النبي في وجعه: "واراساه" وقول سعد يا رسول الله قد اشتد بى الوجع وأنا ذو مال وقول عائشة وارأساه فإن هذا انما قيل على وجه الاخبار لا على وجه شكوى الرب تعالى إلى العواد فإذا حمد المريض الله ثم أخبر بعلته لم يكن شكوى منه وان أخبر بها تبرما وتسخطا كان شكوى منه فالكلمة الواحدة قد يثاب عليها وقد يعاقب بالنية والقصد
وقال ثابت البنانى: انطلقنا مع الحسن إلى صفوان بن محرز نعوده فخرج الينا ابنه وقال هو مبطون لا تستطيعون أن تدخلوا عليه فقال

ص -92- الحسن ان أباك ان يؤخذ اليوم من لحمه ودمه فيوجد فيه خير من أن يأكله التراب
وقال ثابت أيضا: دخلنا على ربيعة بن الحارث نعوده وهو ثقيل فقال انه من كان في مثل حالتى هذه ملأت الآخرة قلبه كانت الدنيا أصغر في عينيه من ذباب ويذكر عن أنس عن النبي قال: "اذا مرض العبد ثلاث أيام خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه" ويذكر عنه: "لا ترد دعوة المريض حتى يبرأ".
وذكر ابن أبى الدنيا عن ابن مسعود رضى الله عنه قال: "كنت مع رسول الله جالسا فتبسم فقلنا يا رسول الله مم تبسمت قال تعجبا للمؤمن من جزعه من السقم ولو كان يعلم ماله في السقم أحب أن يكون سقيما حتى يلقى الله ثم تبسم ثانية ورفع رأسه إلى السماء قلنا يا رسول الله مم تبسمت ورفعت رأسك إلى السماء قال عجبت من ملكين نزلا من السماء يلتمسان عبدا مؤمنا كان في مصلاه يصلى فلا يجداه فعرجا إلى الله فقالا يا رب عبدك فلان المؤمن كنا نكتب له من العمل في يوم وليلة كذا وكذا فوجدنا قد حبسته في حبالك فلم نكتب له شيئا من عمله فقال اكتبوا لعبدى عمله الذى كان يعمله في يومه وليلته ولا تنقصوا منه شيئا فعلى أجر ما حبسته وله أجر ما كان يعمل".
ويذكر عنه: "من وعك ليلة فصبر ورضى بها عن الله عز وجل خرج من ذنوبه كهيئة يوم ولدته أمه" ومن مراسيل يحيى بن كثير قال فقد رسول الله سلمان فسأل عنه فأخبر أنه عليل فأتاه يعوده فقال شفى الله سقمك وعظم أجرك وغفر ذنبك ورزقك العافية في دينك وجسمك إلى منتهى أجلك إن لك من وجعك خلالا ثلاثا أما الأولى فتذكرة من ربك يذكرك بها وأما الثانية فتمحيص لما سلف من ذنوبك وأما الثالثة فادع بما شئت فإن المبتلى مجاب الدعوة
وقال زياد بن الربيع قلت لابى بن كعب آية من كتاب الله قد

ص -93- أحزنتنى قال ما هى قلت من يعمل سوءا يجز به قال ما كنت أراك إلا افقه مما أرى إن المؤمن لا يصيبه عثرة قدم ولا اختلاج عرق إلا بذنب وما يعفو الله عنه أكثر وسئلت عائشة عن هذه الآية فقالت ما سألنى عنها أحد منذ سألت رسول الله فقال النبي: "يا عائشة هذه معاقبة الله تعالى لعبده بما يصيبه من الحمى والمليله والشوكة وانقطاع شسعه حتى البضاعة يضعها في كمه فيفقدها فيفزع لها فيجدها في ضبنه حتى إن المؤمن ليخرج من ذنوبه كما يخرج الذهب الأحمر من الكير" ضبن الانسان ما تحت يده يقال اضطبن كذا اذا حمله تحت يده
وقال وهب بن منبه لا يكون الرجل فقيها كامل الفقه حتى يعد البلاء نعمة ويعد الرخاء مصيبة وذلك أن صاحب البلاء ينتظر الرخاء وصاحب الرخاء ينتظر البلاء
وفي بعض كتب الله سبحانه: "ان الله ليصيب العبد بالأمر يكرهه وانه ليحبه لينظر كيف تضرعه إليه".
وقال كعب أجد في التوراة لولا أن يحزن عبدى المؤمن لعصبت الكافر بعصابة من حديد لا يصدع أبدا وقال معروف الكرخى ان الله ليبتلى عبده المؤمن بالأقسام والاوجام فيشكو إلى أصحابه فيقول الله تبارك وتعالى وعزتى وجلالى ما ابتليتك بهذه الاوجاع والاسقام الا لأغسلك من الذنوب فلا تشكنى وذكر ابن أبى الدنيا أن رجلا قال: "يا رسول الله ما الاسقام قال أو ما سقمت قط قال لا فقال قم عنا فلست مؤمنا".
وكان عبد الله بن مسعود قد اشتدت به العلة فدخل عليه بعض اصحابه يعوده وأهله تقول نفسى فداك ما نطمعك ما نسقيك فأجابها بصوت ضعيف: "بليت الحرافيف وطالت الضجعة والله ما يسرنى ان الله نقصنى منه قلامه ظفر".

ص -94- وطلق خالد بن الوليد امرأة له ثم أحسن عليها الثناء فقيل له يا أبا سليمان لأى شيء طلقتها قال ما طلقتها لأمر رابنى منها ولا ساءنى ولكن لم يصبها عندى بلاء ويذكر عنه: "ما ضرب على مؤمن عرق الا كتب الله له به حسنة وحط به عنه سيئة ورفع له به درجة".
ولا ينافي هذا ما قدمناه من أن المصائب مكفرات لا غير لأن حصول الحسنة انما هو بصبره الاختيارى عليها وهو عمل منه وعاد رجل من المهاجرين مريضا فقال ان للمريض اربعا يرفع عنه القلم ويكتب له من الاجر مثل ما كان يعمل في صحته ويتبع المرض كل خطيئة من مفصل من مفاصله فيستخرجها فإن عاش عاش مغفورا له وان مات مات مغفور له فقال المريض اللهم لا أزال مضطجعا
وفي المسند عنه: "والذى نفسى بيده لا يقضى الله للمؤمن قضاء الا كان خيرا له ان أصابته سرا شكر فكان خيرا له وان أصابته ضراء صبر فكان خيرا له وليس ذلك الا للمؤمن" وفي لفظ: "ان أمر المؤمن كله عجيب ان أصابته سراء شكر فكان خيرا له وان أصابته ضراء صبر فكان خيرا له".

عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين

الباب السابع عشر في ذكر الآثار الواردة عن الصحابة في فضيلة الصبر
الباب السابع عشر: في الآثار الواردة عن الصحابة ومن بعدهم في فضيلة الصبر
قال الامام أحمد حدثنا وكيع عن مالك بن مغول عن السفر قال مرض أبو بكر رضى الله عنه فعادوه فقالوا ألا ندعو لك الطبيب فقال قد رآنى الطبيب قالوا فأى شئ قال لك قال انى فعال لما أريد
وقال الامام احمد حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن مجاهد قال قال عمر ابن الخطاب رضى الله عنه: "وجدنا خير عيشنا بالصبر"

ص -95- وقال أيضا أفضل عيش أدركناه بالصبر ولو أن الصبر كان من الرجال كان كريما
وقال على بن أبى طالب رضى الله عنه ألا ان الصبر من الايمان بمنزلة الرأس من الجسد فإذا قطع الرأس بار الجسم ثم رفع صوته فقال ألا انه لا ايمان لمن لا صبر له وقال الصبر مطية لا تكبو
وقال الحسن الصبر كنز من كنوز الخير لا يعطيه الله إلا لعبد كريم عنده وقال عمر بن عبد العزيز ما أنعم الله على عبد نعمة فانتزعها منه فعاضه مكانها الصبر الا كان ما عوضه خيرا مما انتزعه وقال ميمون بن مهران ما بال أحد شيئا من ختم الخير فما دونه الا الصبر وقال سليمان بن القاسم كل عمل يعرف ثوابه الا الصبر قال الله تعالى {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} قال كالماء المنهمر
وكان بعض العارفين في جيبه رقعة يخرجها كل وقت ينظر فيها وفيها {واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا} وقال عمر بن الخطاب رضى الله عنه لو كان الصبر والشكر بعيرين لم أبال أيهما ركبت وكان محمد بن شبرمة إذا نزل به بلاء قال سحابة صيف ثم تنقشع وقال سفيان بن عيينة في قوله تعالى {وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا} لما أخذوا برأس الأمر جعلناهم رءوسا وقيل للأحنف بن قيس ما الحلم قال أن تصبر على ما تكره قليلا وقال وهب: "مكتوب في الحكمة قصر السفه النصب وقصر الحلم الراحة وقصر الصبر الظفر وقصر الشيء وقصاراه غايته وثمرته".
وقدم عروة بن الزبير على الوليد بن عبد الملك ومعه ابنه محمد وكان من أحسن الناس وجها فدخل يوما على الوليد في ثياب وشيء وله غديرتان وهو يضرب بيده فقال الوليد هكذا تكون فتيان قريش

ص -96- فعانه فخرج من عنده متوسنا فوقع في اصطبل الدواب فلم تزل الدواب تطأه بأرجلها حتى مات ثم ان الآكلة وقعت في رجل عروة فبعث اليه الوليد الأطباء فقالوا إن لم تقطعها سرت إلى باقى الجسد فتهلك فعزم على قطعها فنشروها بالمنشار فلما صار المنشار إلى القصبة وضع راسه على الوسادة ساعة فغشى عليه ثم أفاق والعرق يتحدر على وجهه وهو يهلل ويكبر فأخذها وجعل يقبلها في يده ثم قال أما والذى حملنى عليك انه ليعلم انى ما مشيت بك إلى حرام ولا إلى معصية ولا إلى ما لا يرضى الله ثم أمر بها فغسلت وطيبت وكفنت في قطيفة ثم بعث بها إلى مقابر المسلمين فلما قدم من عند الوليد المدينة تلقاه أهل بيته وأصدقاؤه يعزونه فجعل يقول {لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا} ولم يزد عليه ثم قال لا أدخل المدينة انما أنا بها بين شامت بنكية أو حاسد لنعمة فمضى إلى قصر بالعقيق فأقام هنالك فلما دخل قصره قال له عيسى بن طلحة لا أبا لشانئيك أرني هذه المصيبة التي نعزيك فيها فكشف له عن ركبته فقال له عيسى أما والله ما كنا نعدك للصراع قد أبقى الله أكثرك عقلك ولسانك وبصرك ويداك وإحدى رجليك فقال له يا عيسى ما عزاني أحد بمثل ما عزيتني به ولما أرادوا قطع رجله قالوا له لو سقيناك شيئا كيلا تشعر بالوجع فقال إنما ابتلاني ليرى صبري أفأعارض أمره وسئل ابنه هشام كيف كان أبوك يصنع برجله التي قطعت إذا توضأ قال كان يمسح عليها
وقال الإمام أحمد حدثنا عبد الصمد حدثنا سلام قال سمعت قتادة يقول قال لقمان وسأله رجل اى شئ خيرا قال صبر لا يتبعه أذى قال فأى الناس خيرا قال الذى يرضى بما أوتى قال فأى الناس أعلم قال الذى يأخذ من علم الناس إلى علمه قيل فما خير الكنز من المال أو من العلم قال سبحان الله بل المؤمن العالم الذى ان

ص -97- ابتغى عنده خيرا وجد وان لم يكن عنده كف نفسه وبحسب المؤمن أن يكف نفسه وقال حسان بن أبى جبلة من بث فلم يصبر ورواه ابن أبى الدنيا مرفوعا إلى النبي وان صح فمعناه إلى المخلوق لا من بث إلى الله وقال حسان ابن أبى جبلة أيضا في قوله تعالى {فصبر جميل} قال لا شكوى فيه ورفعه ابن أبى الدنيا أيضا
وقال مجاهد فصبر جميل في غير جزع وقال عمرو بن قيس فصبر جميل قال الرضا بالمصيبة والتسليم وقال بعض السلف فصبر جميل لا شكوى فيه وقال همام عن قتادة في قوله تعالى {وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم} قال كظم على حزن فلم يقل إلا خيرا وقال يحيى بن المختار عن الحسن الكظيم الصبور وقال همام عن قتادة في قوله تعالى {وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم} أى كميد أى كمد الحزن وقال الحسن ما جرعتين أحب إلى الله من جرعة مصيبة موجعة محزنة ردها صاحبها بحسن عزاء وصبر وجرعة غيظ ردها بحلم
وقال عبد الله بن المبارك أخبرنا عبد الله بن لهيعة عن عطاء بن دينار أن سعيد ابن جبير قال: "الصبر اعتراف العبد لله بما اصابه منه واحتسابه عند الله ورجاء ثوابه وقد يجزع الرجل وهو يتجلد لا يرى منه الا الصبر" فقوله اعتراف العبد لله بما اصاب منه كأنه تفسير لقوله {انا لله} فيعترف أنه ملك لله يتصرف فيه مالكه بما يريد وقوله راجيا به ما عند الله كأنه تفسير لقوله {وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} أى ترد اليه فيجزينا على صبرنا ولا يضيع أجر المصيبة وقوله وقد يجزع الرجل وهو يتجلد أى ليس الصبر بالتجلد وانما هو حبس القلب عن التسخط على المقدور ورد اللسان عن الشكوى فمن تجلد وقلبه ساخط على القدر فليس بصابر
وقال يونس بن يزيد سألت ربيعة بن أبى عبد الرحمن ما منتهى الصبر قال أن يكون يوم تصيبه المصيبة مثله قبل أن تصيبه وقال قيس

ص -98- بن الحجاج في قول الله {فاصبر صبرا جميلا} قال أن يكون صاحب المصيبة في القوم لا يعرف من هو وكان شمر اذا عزى مصابا قال اصبر لما حكم ربك وقال أبو عقيل رأيت سالم بن عبدالله بن عمر بيده سوط وعليه ازار في موت واقد بن عبدالله بن عمر لا يسمع صارخة الا ضربها بالسوط.
قال ابن أبى الدنيا حدثنى محمد بن جعفر بن مهران قال قالت امرأة من قريش:
أما والذى لا خلد الا لوجهه ومن ليس في العز المنيع له كفو
لئن كان بدء الصبر مرا مذاقه لقد يجنى من غبه الثمر الحلو
قال وأنشدنى عمرو بن بكير:
صبرت فكان الصبر خير مغبة وهل جزع يجدى على فأجزع
ملكت دموع العين حتى رددتها إلى ناظرى فالعين في القلب تدمع
قال وأنشدنى أحمد بن موسى الثقفي
نبئت خولة أمس قد جزعت من أن تنوب نوائب الدهر
لا تجزعى يا خول واصبرى ان الكرام بنوا على الصبر
قال وحدثنى عبد الله بن محمد بن اسماعيل التيمى أن رجلا عزى رجلا في ابنه فقال انما يستوجب على الله وعده من صبر له بحقه فلا تجمع إلى ما أصبت به من المصيبة الفجيعة بالأجر فإنها أعظم المصيبتين عليك وأنكى الرزيتين لك والسلام وعزى ابن أبى السماك رجلا فقال عليك بالصبر فيه يعمل من احتسب واليه يصير من جزع وقال عمر بن عبد العزيز أما الرضاء فمنزلة عزيزة أو منيعة ولكن جعل الله في الصبر معولا حسنا ولما مات عبد الملك ابنه صلى عليه ثم قال رحمك الله لقد كنت لى وزيرا وكنت لى معينا قال والناس يبكون وما يقطر من

ص -99- عينيه قطرة وأصيب مطرف بن عبد الله في ابن له فأتاه قوم يعزونه فخرج اليهم أحسن ما كان بشرا ثم قال انى لأستحى من الله أن أتضعضع لمصيبة وقال عمرو بن دينار قال عبيد بن عمير ليس الجزع أن تدمع العين ويحزن القلب ولكن الجزع القول السيء والظن السيء
وقال ابن أبى الدنيا حدثنى الحسين بن عبد العزيز الحروزى قد مات ابن لى نفيس فقلت لأمه اتق الله واحتسبيه واصبرى فقالت مصيبتى أعظم من أن افسدها بالجزع قال ابن أبى الدنيا وأخبرنى عمر بن بكير عن شيخ من قريش قال مات الحسن بن الحصين أبو عبيد الله بن الحسن وعبيد الله يومئذ قاض على البصرة وأميرا فكثر من يعزيه فتذاكروا ما يتبين به جزع الرجل من صبره فأجمعوا أنه اذا ترك شيئا مما كان يصنعه فقد جزع
وقال خالد بن أبى عثمان القرشى كان سعيد بن جبير يعزينى في ابنى فرآنى أطوف بالبيت متقنعا فكشف القناع عن رأسى وقال الاستكانة من الجزع
فصل وأما قول كثير من الفقهاء من أصحابنا وغيرهم لا بأس أن يجعل المصاب
على رأسه ثوبا يعرف به قالوا لأن التعزية سنة وفي ذلك تيسير لمعرفته حتى يعزيه ففيه نظر وانكره شيخنا ولا ريب أن السلف لم يكونوا
يفعلوا شيئا من ذلك ولا نقل هذا عن أحد من الصحابة والتابعين والآثار المتقدمة كلها صريحة في رد هذا القول وقد أنكر اسحق بن راهوايه أن يترك لبس ما عادته لبسه وقال هو من الجزع
وبالجملة فعادتهم أنهم لم يكونوا يغيرون شيئا من زيهم قبل المصيبة ولا يتركون ما كانوا يعملونه فهذا كله مناف للصبر والله سبحانه أعلم

عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين

الباب الثامن عشر في ذكر أمور تتعلق بالمصيبة من البكاء والندب وشق الثياب ودعوى الجاهلية ونحوها
ص -100- الباب الثامن عشر: في ذكر أمور تتعلق بالمصيبة من البكاء والندب وشق الثياب ودعوى الجاهلية ونحوها
فمنها البكاء على الميت ومذهب أحمد وأبى حنيفة أجازاه قبل الموت وبعده واختاره أبو اسحاق الشيرازى وكرهه الشافعى وكثير من أصحابه بعد الموت ورخصوا فيه قبل خروج الروح واحتجوا بحديث جابر بن عتيك: "أن رسول الله جاء يعود عبد الله بن ثابت فوجده قد غلب فصاح به فلم يجب فاسترجع وقال غلبنا عليك يا أبا الربيع فصاح النسوة وبكين فجعل ابن عتيك يسكتهن فقال رسول الله دعهن فاذا وجب فلا تبكين باكية قالوا وما الوجوب يا رسول الله قال الموت" رواه أبو داود والنسائى
قالوا وفي الصحيحين من حديث ابن عمر أن رسول الله قال: "ان الميت ليعذب ببكاء أهله عليه" وهذا انما هو بعد الموت وأما قبله فلا يسمى ميتا وعن ابن عمر: "أن رسول الله لما قدم من أحد سمع نساء بنى عبد الاشهل يبكين على هلكاهن فقال لكن حمزة لا بواكى له فجئن نساء الانصار فبكين على حمزة عنده فاستيقظ فقال ويحهن أتين هاهنا يبكين حتى الآن مروهن فليرجعن ولا يبكين على هالك بعد اليوم" رواه الامام أحمد وهذا صريح في نسخ الاباحة المتقدمة
والفرق بين ما قبل الموت وبعده أنه قبل الموت يرجى فيكون البكاء عليه حذرا فاذا مات انقطع الرجاء وأبرم القضاء فلا ينفع البكاء.
قال المجوزون قال جابر بن عبدالله: "أصيب أبى يوم أحد فجعلت أبكى فجعلوا ينهوننى ورسول الله لا ينهانى فجعلت عمتى فاطمة تبكى فقال النبي تبكين أو لا تبكين ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعوه" متفق عليه

ص -101- وفي الصحيحين أيضا عن ابن عمر قال: "اشتكى سعد بن عبادة شكوى له فأتاه النبي يعوده مع عبد الرحمن بن عوف وسعد بن ابى وقاص وعبد الله بن مسعود فلما دخل عليه وجده في غشية فقال قد قضى قالوا لا يا رسول الله فبكى رسول الله فلما رأى القوم بكاءه بكوا فقال ألا تسمعون ان الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب ولكن يعذب بهذا وأشار إلى لسانه أو يرحم"
وفي الصحيحين أيضا من حديث أسامه بن زيد: "أن رسول الله انطلق إلى إحدى بناته ولها صبى في الموت فرفع اليه الصبى ونفسه تقعقع كأنها في شنة ففاضت عيناه فقال سعد ما هذا يا رسول الله قال هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده وانما يرحم الله من عباده الرحماء".
وفي مسند الامام أحمد من حديث بن عباس قال ماتت رقية ابنة رسول الله فبكت النساء فجعل عمر يضربهن بسوطه فقال النبي: "دعهن يا عمر يبكين وإياكن ونعيق الشيطان ثم قال انه مهما كان من العين ومن القلب فمن الله ومن الرحمة وما كان من اليد ومن اللسان فمن الشيطان" وفي المسند أيضا عن عائشة أن سعد بن معاذ لما مات حضره رسول الله وأبو بكر وعمر قالت فوالذى نفسى بيده انى لأعرف بكاء أبى بكر من بكاء عمر وأنا في حجرتى وفي المسند أيضا عن أبى هريرة قال مر على النبي بجنازة يبكى عليها وأنا معه ومعه عمر بن الخطاب فانتهر عمر اللاتى يبكين عليها فقال النبي: "دعهن يا ابن الخطاب فان النفس مصابة وان العين دامعة والعهد قريب".
وفي جامع الترمذى عن جابر بن عبدالله قال أخذ النبي بيد عبد الرحمن ابن عوف فانطلق إلى ابنه ابراهيم فوجده يجود بنفسه فأخذه

ص -102- النبي فوضعه في حجره فبكى فقال له أتبكى أو لم تكن نهيت عن البكاء قال لا ولكن نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين صوت عند مصيبة خمش الوجه وشق الجيوب ورثة الشيطان قال الترمذى هذا حديث حسن وقد صح عنه أنه زارقير أمه فبكى وأبكى من حوله وقد صح عنه أنه قبل عثمان بن مظعون حتى سالت دموعه على وجهه وصح عنه أنه نعى جعفر وأصحابه وعيناه تذرفان وصح عن أبى بكر الصديق رضى الله عنه أنه قبل النبي وهو ميت وبكى
فهذه إثنا عشرة حجة تدل على عدم كراهة البكاء فتعين حمل أحاديث النهى على البكاء الذى معه ندب ونياحة ولهذا جاء في بعض ألفاظ حديث عمر: "الميت يعذب ببعض بكاء أهله عليه" وفي بعضها "يعذب بما ينح عليه" وقال البخارى في صحيحه قال عمر دعهن يبكين على أبى سليمان يعنى خالد بن الوليد ما لم يكن نقع أو لقلقة والنقع حث التراب واللقلقة الصوت
وأما دعوى النسخ في حديث حمزة فلا يصح اذ معناه لا يبكين على هالك بعد اليوم من قتلى أحد
ويدل على ذلك أن نصوص الاباحة أكثرها متأخرة عن غزوة أحد منها حديث أبى هريرة إذ اسلامه وصحبته كانا في السنة السابعة ومنها البكاء على جعفر وأصحابه وكان استشهادهم في السنة الثامنة ومنها البكاء على زينب وكان موتها في السنة الثامنة أيضا ومنها البكاء على سعد بن معاذ وكان موته في الخامسة ومنها البكاء عند قبر أمه وكان عام الفتح في الثامنة
وقولهم انما جاز قبل الموت حذرا بخلاف ما بعد الموت جوابه أن الباكى قبل الموت يبكى حزنا وحزنه بعد الموت أشد فهو أولى برخصة البكاء من الحالة التى يرجى فيها وقد أشار النبي إلى ذلك بقوله: "تدمع

ص -103- العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرب وانا بك يا ابراهيم لمحزونون".
فصل: وأما الندب والنياحة فنص أحمد على تحريمها قال في رواية حنبل النياحة معصية وقال أصحاب الشافعى وغيرهم النوح حرام وقال ابن عبد البر أجمع العلماء على أن النياحة لا تجوز للرجال ولا للنساء وقال بعض المتأخرين من أصحاب أحمد يكره تنزيها وهذا لفظ أبى الخطاب في الهداية قال ويكره الندب والنياحة وخمش الوجوه وشق الجيوب والتحفي والصواب القول بالتحريم لما في الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود أن النبي قال: "ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعى بدعوى الجاهلية" وفي الصحيحين أيضا عن أبى بردة قال وجع أبو موسى وجعا فغشى عليه ورأسه في حجر امرأة من أهله فصاحت امرأة من أهله فلم يستطع أن يرد عليها شيئا فلما أفاق قال أنا بريء مما يريء منه رسول الله فان رسول الله برئ من الصالقة والحالقة والشاقة وفي الصحيحين أيضا عن المغيرة بن شعبة قال سمعت رسول الله يقول: "إن من ينح عليه يعذب بما نيح عليه" وفي الصحيحين أيضا أم عطية قالت أخذ علينا رسول الله في البيعة ألا ننوح فما وفت منا امرأة الا خمس نسوة
وفي صحيح البخارى عن ابن عمر أن النبي قال: "الميت يعذب في قبره بما ينح عليه" وفي صحيح مسلم عن أبى مالك الأشعرى أن النبي قال أربع في أمتى من أمر الجاهلية لا يتركونهن "الفخر بالاحساب والطعن في الانساب والاستسقاء بالنجوم والنياحة" وقال "النائحة اذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب"

ص -104- وفي سنن ابى داود عن أسيد بن أبي أسيد عن امرأة من المبايعات قالت كان فيما أخذ علينا رسول الله في المعروف الذى أخذ علينا أن لا نعصيه فيه أن لا نخمش وجها ولا ندعو ويلا ولا نشق جيبا ولا ننفش شعرا وفي المسند عن انس قال: "أخذ النبي على النساء حين بايعهن أن لا ينحن فقلن يا رسول الله ان نساء أسعدتنا في الجاهلية أفنسعدهن في الاسلام فقال لا إسعاد في الاسلام" وقد تقدم قوله: "ما كان من اليد واللسان فمن الشيطان" وقوله "نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين صوت عند مصيبة خمش وجوه وشق جيوب ورنة شيطان"
وفي مسند الامام أحمد من حديث أبى موسى أن رسول الله قال: "الميت يعذب ببكاء الحى اذا قالت النائحة واعضداه واناصراه واكاسياه جبذ الميت وقيل له أنت عضدها أنت ناصرها أنت كاسيها" وفي صحيح البخارى عن النعمان ابن بشير قال أغمى على عبد الله بن رواحة فجعلت أخته عمرة تبكى وتقول واجبلاه واكذا واكذا تعدد عليه فقال حين أفاق ما قلت لى شيئا إلا قيل لى أنت كذا فلما مات لم تبك عليه
وكيف لا تكون هذه الخصال محرمة وهى مشتملة على التسخط على الرب وفعل ما يناقض الصبر والاضرار بالنفس من لطم الوجه وحلق الشعر ونتفه والدعاء عليها بالويل والثبور والتظلم من الله سبحانه وإتلاف المال بشق الثياب وتمزيقها وذكر الميت بما ليس فيه ولا ريب أن التحريم الشديد يثبت ببعض هذا
وقال المبيحون لمجرد الندب والنياحة مع كراهتهم له قد روى حرب عن وائلة بن الأسقع وأبى وائل أنهما كانا يسمعان النوح ويسكتان
قالوا وفي الصحيحين عن أم عطية قالت لما نزلت هذه الآية {يا أيها النبي اذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا} إلى قوله {ولا يعصينك في معروف} كان منه النياحة فقلت

ص -105- يا رسول الله "الا آل فلان" فإنهم كانوا أسعدونى في الجاهلية فلا بد لى من أن أسعدهم فقال الا آل فلان وفي رواية لهما أنها قالت بايعنا رسول الله فقرأ علينا {أن لا يشركن بالله شيئا} ونهانا عن النياحة فقبضت منا امرأة يدها فقالت فلانة أسعدتنى فأنا أريد أن أجزيها قالت فما قال لها شيئا فذهبت فانطلقت ثم رجعت فبايعها قالوا وهذا الاذن لبعضهن في فعله يدل على أن النهى عنه تنزيه لا تحريم ويتعين حمله على المجرد من تلك المفاسد جمعا بين الأدلة
قال المحرمون لا تعارض سنة رسول الله بأحد من الناس كائنا من كان ولا نضرب سننه بعضها ببعض وما ذكرنا من النصوص صحيحة صريحة لا تحتمل تأويلا وقد انعقد عليها الإجماع وأما المرأة التى قال لها الا آل فلان والمرأة التى سكت عنها فذلك خاص بهما لوجهين
أحدهما أنه قال لغيرهما لما سألته ذلك لا إسعاد في الإسلام
والثانى أنه أطلق لهما ذلك وهما حديثا عهد بالاسلام وهما لم يميزا بين الجائز من ذلك وبين المحرم وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز فعلم أن الحكم لا يعدوهما إلى غيرهما وأما الكلمة اليسيرة اذا كانت صدقا لا على وجه النوح والتسخط فلا تحرم ولا تنافي الصبر الواجب نص عليه أحمد في مسنده من حديث أنس أن أبا بكر رضى الله عنه دخل على النبي بعد وفاته فوضع فمه بين عينيه ووضع يده على صدغيه وقال وانبياه واخليلاه واصفياه
وفي صحيح البخارى عن أنس أيضا قال: لما ثقل على النبي جعل يتغشاه الكرب فقالت فاطمة واكرب أبتاه فقال ليس على أبيك كرب بعد اليوم فلما مات قالت يا أبتاه أجاب ربا دعاه يا أبتاه جنة الفردوس مأواه يا أبتاه إلى جبريل أنعاه فلما دفن قالت فاطمة يا أنس أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله التراب وقال النبي: "وانا

ص -106- بك يا ابراهيم لمحزنون" وهذا ونحوه من القول الذى ليس فيه تظلم للمقدور ولا تسخط على الرب ولا اسخاط له فهو كمجرد البكاء
فصل: وأما قول النبي: "ان الميت ليعذب بالنياحة عليه" فقد ثبت عنه من رواية عمر بن الخطاب وابنه عبد الله والمغيرة بن شعبة وروى نحوه عن عمران بن حصين وأبى موسى رضى الله عنهم فاختلفت طرق الناس في ذلك فقالت فرقة يتصرف الله في خلقه بما يشاء وأفعال الله لا تعلل ولا فرق بين التعذيب بالنوح عليه والتعذيب بما هو منسوب اليه لأن الله خالق الجميع والله تعالى يؤلم الاطفال والبهائم والمجانين بغير عمل
وقالت فرقة هذه الاحاديث لا تصح عن رسول الله وقد أنكرتها عائشة أم المؤمنين واحتجت بقوله تعالى {ولا تزر وازرة وزر أخرى}ولما بلغها رواية عمر وابنه قالت انكم لتحدثون عن غير كاذبين ولا متهمين ولكن السمع يخطئ وقالت انما مر النبي على قبر يهودى فقال: "ان صاحب هذا القبر يعذب وأهله يبكون عليه"
وفي رواية متفق عليها عنها انما قال رسول الله: "ان الله ليزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه" وقالت حسبكم القرآن {ولا تزر وازرة وزر أخرى}
وقالت فرقة أخرى منهم المزنى وغيره ان ذلك محمول على من أوصى به اذا كانت عادتهم ذلك وهو كثير في أشعارهم كقول طرفة
اذا مت فانعينى بما أنا أهله وشقى على الجيب يا إبنة معبد
وقول لبيد
فقوما فقولا بالذى قد علمتما ولا تخمشا وجها ولا تحلقا شعر
وقولا هو المرء الذى لا صديقه أضاع ولا خان الامين ولا غدر
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر

ص -107- وقالت طائفة هو محمول على من سنته وسنة قومه ذلك اذا لم ينههم عنه لأن ترك نهيه دليل على رضاه به وهذا قول ابن المبارك وغيره قال أبو البركات ابن تيمية وهو أصح الاقوال كلها لأنه متى غلب على ظنه فعلهم ولم يوصهم بتركه فقد رضى به وصار كمن ترك النهى عن المنكر مع القدرة عليه فأما اذا أوصاهم بتركه فخالفوه فالله أكرم من أن يعذبه بذلك وقد حصل بذلك العمل بالآية مع اجراء الخير على عمومه في كثير من الموارد وانكار عائشة لذلك بعد رواية الثقات لا يعول عليه فإنهم قد يحضرون ما لا نحضره ويشهدون ما نغيب عنه واحتمال السهو والغلط بعيد خصوصا في حق خمسة من أكابر الصحابة
وقوله في اليهود لا يمنع أن يكون قد قال ما رواه عنه هؤلاء الخمسة في أوقات أخر ثم هى محجوجة بروايتها عنه أنه قال: "ان الله يزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه" فإذا لم يمنع زيادة الكافر عذابا بفعل غيره مع كونه مخالفا لظاهر الآية لم يمنع ذلك في حق المسلم ان الله سبحانه كما لا يظلم عبده المسلم لا يظلم الكافر والله أعلم فصل ولا تحتاج هذه الاحاديث إلى شئ من هذه التكلفات وليس فيها بحمد الله اشكال ولا مخالفة لظاهر القرآن ولا لقاعدة من قواعد الشرع ولا تتضمن عقوبة الانسان بذنب غيره فإن النبي لم يقل ان الميت يعاقب ببكاء أهله عليه ونوحهم وانما قال يعذب بذلك ولا ريب أن ذلك يؤلمه ويعذبه والعذاب هو الالم الذى يحصل له وهو أعم من العقاب والاعم لا يستلزم الاخص وقد قال النبي: "السفر قطعة من العذاب" وهذا العذاب يحصل للمؤمن والكافر حتى ان الميت ليتألم بمن يعاقب في قبره في جواره ويتأذى بذلك كما يتأذى الانسان في الدنيا بما يشاهده من عقوبة جاره فإذا بكى أهل الميت عليه البكاء المحرم وهو البكاء الذى كان أهل الجاهلية يفعلونه والبكاء على الميت عندهم اسم لذلك وهو معروف في نظمهم ونثرهم تألم الميت بذلك في قبره

ص -108- فهذا التألم هو عذابه بالبكاء عليه وهذه طريقة شيخنا في هذه الاحاديث وبالله التوفيق

عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين

الباب التاسع عشر في الصبر نصف الإيمان وأن الإيمان نصفان صبر ونصف شكر
الباب التاسع عشر: في أن الصبر نصف الايمان
والايمان نصفان: نصف صبر ونصف شكر قال غير واحد من السلف الصبر نصف الايمان وقال عبدالله بن مسعود رضى الله عنه: "الايمان نصفان نصف صبر ونصف شكر" ولهذا جمع الله سبحانه بين الصبر والشكر في قوله {ان في ذلك لآيات لكل صبار شكور} في سورة ابراهيم وفي سورة حمعسق وفي سورة سبأ وفي سورة لقمان وقد ذكر لهذا التنصيف اعتبارات
أحدها أن الايمان اسم لمجموع القول والعمل والنية وهى ترجع إلى شطرين فعل وترك فالفعل هو العمل بطاعة الله وهو حقيقة الشكر والترك هو الصبر عن المعصية والدين كله في هذين الشيئين فعل المأمور وترك المحظور
الاعتبار الثانى أن الايمان مبنى على ركنين يقين وصبر وهما الركنان المذكوران في قوله تعالى {وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون} فباليقين يعلم حقيقة الامر والنهى والثواب والعقاب وبالصبر ينفذ ما أمر به ويكف نفسه عما نهى عنه ولا يحصل له التصديق بالامر والنهى انه من عند الله وبالثواب والعقاب الا باليقين ولا يمكنه الدوام على فعل المأمور وكف النفس عن المحظور الا بالصبر فصار الصبر نصف الايمان والنصف الثانى الشكر بفعل ما أمر به وبترك ما نهى عنه

ص -109- الاعتبار الثالث أن الايمان قول وعمل والقول قول القلب واللسان والعمل عمل القلب والجوارح وبيان ذلك أن من عرف الله بقلبه ولم يقر بلسانه لم يكن مؤمنا كما قال عن قوم فرعون {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم} وكما قال عن قوم عاد وقوم صالح {وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين} وقال موسى لفرعون {لقد علمت ما أنزل هؤلاء الا رب السموات والارض بصائر} فهؤلاء حصل قول القلب وهو المعرفة والعلم ولم يكونوا بذلك مؤمنين وكذلك من قال بلسانه ما ليس في قلبه لم يكن بذلك مؤمنا بل كان من المنافقين وكذلك من عرف بقلبه وأقر بلسانه لم يكن بمجرد ذلك مؤمنا حتى يأتى بعمل القلب من الحب والبغض والموالاة والمعاداة فيحب الله ورسوله ويوالى أولياء الله ويعادى أعداءه ويستسلم بقلبه لله وحده وينقاد لمتابعة رسوله وطاعته والتزام شريعته ظاهرا وباطنا واذا فعل ذلك لم يكف في كمال ايمانه حتى يفعل ما امر به
فهذه الاركان الاربعة هى أركان الايمان التى قام عليها بناؤه وهى ترجع إلى علم وعمل ويدخل في العمل كف النفس الذى هو متعلق النهى وكلاهما لا يحصل الا بالصبر فصار الايمان نصفين أحدهما الصبر والثانى متولد عنه من العلم والعمل
الاعتبار الرابع أن النفس لها قوتان قوة الاقدام وقوة الاحجام وهى دائما تتردد بين أحكام هاتين القوتين فتقدم على ما تحبه وتحجم عما تكرهه والدين كله اقدام واحجام اقدام على طاعة واحجام عن معاصى الله وكل منهما لا يمكن حصوله الا بالصبر
الاعتبار الخامس أن الدين كله رغبة ورهبة فالمؤمن هو الراغب الراهب قال تعالى انهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وفي الدعاء عند النوم الذى رواه البخارى في

ص -110- صحيحه"اللهم انى أسلمت نفسى اليك ووجهت وجهى اليك وفوضت امرى اليك وألجأت ظهرى اليك رغبة ورهبة اليك" فلا تجد المؤمن أبدا الا راغبا وراهبا والرغبة والرهبة لا تقوم الا على ساق الصبر فرهبته تحمله على الصبر ورغبته تقوده إلى الشكر
الاعتبار السادس ان جميع ما يباشره العبد في هذه الدار لا يخرج عما ينفعه في الدنيا والآخرة أو يضره في الدنيا والاخرة أو ينفعه في أحد الدارين ويضره في الاخرى وأشرف الاقسام أن يفعل ما ينفعه في الاخرة ويترك ما يضره فيها وهو حقيقة الايمان ففعل ما ينفعه هو الشكر وترك ما يضره هو الصبر
الاعتبار السابع ان العبد لا ينفك عن أمر يفعله ونهى يتركه وقدر يجرى عليه وفرضه في الثلاثة الصبر والشكر ففعل المأمور هو الشكر وترك المحظور والصبر على المقدور هو الصبر
الاعتبار الثامن إن العبد فيه داعيان داع يدعوه إلى الدنيا وشهواتها ولذاتها وداع يدعوه إلى الله والدار الآخرة وما أعد فيها لأوليائه من النعيم المقيم فعصيان داعى الشهوة والهوى هو الصبر وإجابة داعى الله والدار الآخرة هو الشكر
الاعتبار التاسع ان الدين مداره على أصلين العزم والثبات وهما الأصلان المذكوران في الحديث الذى رواه أحمد والنسائى عن النبي: "اللهم إنى أسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد" وأصل الشكر صحة العزيمة وأصل الصبر قوة الثبات فمتى أيد العبد بعزيمة وثبات فقد أيد بالمعونة والتوفيق
الاعتبار العاشر ان الدين مبنى على أصلين الحق والصبر وهما المذكوران في قوله تعالى
{وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} ولما كان المطلوب من العبد هو العمل بالحق في نفسه وتنفيذه في الناس وكان هذا
ص -111- هو حقيقة الشكر لم يمكنه ذلك إلا بالصبر عليه فكان الصبر نصف الايمان والله سبحانه وتعالى أعلم

عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين

الباب العشرون في بيان تنازع الناس في الأفضل من الصبر والشكر
الباب العشرون: في بيان تنازع الناس في الأفضل من الصبر والشكر
حكى أبو الفرج ابن الجوزى في ذلك ثلاثة أقوال أحدها ان الصبر أفضل والثانى ان الشكر أفضل والثالث أنهما سواء كما قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه لو كان الصبر والشكر بعيرين ما باليت أيهما ركبت
ونحن نذكر ما احتجت به كل فرقة وما لها وعليها في احتجاجها بعون الله وتوفيقه. فصل: قال الصابرون قد أثنى الله سبحانه على الصبر وأهله ومدحه وأمر به وعلق عليه خير الدنيا والاخرة وقد ذكره الله في كتابه في نحو تسعين موضعا وقد تقدم من النصوص والأحاديث فيه وفي فضله ما يدل على أنه أفضل من الشكر ويكفي في فضله قوله "الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر" فذكر ذلك في معرض تفضيل الصبر ورفع درجته على الشكر فإنه ألحق الشاكر بالصابر وشبهه به ورتبة المشبه به أعلى من رتبة المشبه وهذا كقوله: "مدمن الخمر كعابد وثن" ونظائر ذلك قالوا وإذا وازنا بين النصوص الواردة في الصبر والواردة في الشكر وجدنا نصوص الصبر اضعافها ولهذا لما كانت الصلاة والجهاد أفضل الاعمال كانت الاحاديث فيهما في سائر الابواب فلا تجد الاحاديث النبوية في باب أكثر منها في باب الصلاة والجهاد قالوا وايضا فالصبر يدخل في كل باب بل في كل مسئلة من مسائل الدين ولهذا كان من الايمان بمنزلة الرأس من الجسد

ص -112- قالوا وأيضا فالله سبحانه وتعالى علق على الشكر الزيادة فقال {وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم} وعلق على الصبر الجزاء بغير حساب وايضا فإنه سبحانه أطلق جزاء الشاكرين فقال وسيجزى الله الشاكرين وقيد جزاء الصابرين بالاحسان فقال {ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} قالوا وقد صح عن النبي أنه قال: يقول الله تعالى: "كل عمل ابن آدم له الا الصوم فإنه لى وأنا أجزى به".
وفي لفظ: "كل عمل ابن آدم يضاعف له الحسنة بعشر أمثالها قال الله تعالى الا الصوم فإنه لى وأنا أجزى به" وما ذاك الا لأنه صبر النفس ومنعها من شهواتها كما في الحديث نفسه يدع شهوته وطعامه وشرابه من أجلى ولهذا قال النبي لمن سأله عن أفضل الاعمال: "عليك بالصوم فإنه لا عدل له" ولما كان الصبر حبس النفس عن اجابة داعى الهوى وكان هذا حقيقة الصوم فإنه حبس النفس عن اجابة داعى شهوة الطعام والشراب والجماع فسر الصبر في قوله تعالى {واستعينوا بالصبر والصلاة} أنه الصوم وسمى رمضان شهر الصبر وقال بعض السلف الصوم نصف الصبر وذلك أن الصبر حبس النفس عن اجابة داعى الشهوة والغضب فإن النفس تشتهى الشئ لحصول اللذة بإدراكه وتغضب لنفرتها من المؤلم لها والصوم صبر عن مقتضى الشهوة فقط وهى شهوة البطن والفرج دون مقتضى الغضب ولكن من تمام الصوم وكماله صبر النفس عن اجابة داعى الامرين وقد أشار إلى ذلك النبي في الحديث الصحيح وهو قوله: "إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يجهل ولا يصخب فإن أحد سابه أو شاتمه فليقل انى صائم" فأرشد إلى تعديل قوى الشهوة والغضب وأن الصائم ينبغى له أن يحتمى من افسادهما لصومه فهذه تفسد صومه وهذه تحبط أجره كما قال في الحديث الاخر: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه".

ص -113- قالوا ويكفي في فضل الصبر على الشكر قوله تعالى أنى جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون فجعل فوزهم جزاء صبرهم وقال تعالى والله مع الصابرين لا شئ يعدل معيته لعبده كما قال بعض العارفين ذهب الصابرون بخير الدنيا والاخرة لأنهم نالوا معية الله وقال تعالى واصبر لحكم ربك فانك بأعيننا وهذا يتضمن الحراسة والكلاءة والحفظ للصبر لحكمه
وقد وعد الصابرين بثلاثة أشياء كل واحد خير من الدنيا وماعليها وهى صلواته تعالى عليهم ورحمته لهم وتخصيصهم بالهداية في قوله تعالى أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون وهذا مفهم لحصر الهدى فيهم وأخبر أن الصبر من عزم الأمور في آيتين من كتابه وأمر رسوله أن يتشبه بصبر أولى العزم من الرسل وقد تقدم ذكر ذلك
قالوا وقد دل الدليل على أن الزهد في الدنيا والتقلل منها مهما أمكن من الاستكثار منها والزهد فيها حال الصابر والاستكثار منها حال الشاكر قالوا وقد سئل المسيح صلوات الله وسلامه عليه عن رجلين مرا بكنز فتخطاه أحدهما ولم يلتفت اليه وأخذه الاخر وأنفقه في طاعة الله تعالى أيهما أفضل فقال الذى لم يلتفت اليه وأعرض عنه أفضل عند الله
قالوا ويدل على صحة هذا أن النبي عرضت عليه مفاتيح كنوز الأرض فلم يأخذها وقال بل أجوع يوما وأشبع يوما ولو أخذها لأنفقها في مرضاة الله وطاعته فآثر مقام الصبر عنها والزهد فيها قالوا وقد علم أن الكمال الانسانى في ثلاثة أمور علوم يعرفها

ص -114- وأعمال يعمل بها وأحوال ترتب له على علومه وأعماله وأفضل العلم والعمل والحال العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله والعمل بمرضاته وانجذاب القلب إليه بالحب والخوف والرجاء فهذا أشرف ما في الدنيا وجزاؤه أشرف ما في الاخرة وأجل المقاصد معرفة الله ومحبته والأنس بقربه والشوق إلى لقائه والتنعم بذكره وهذا أجل سعادة الدنيا والآخرة وهذا هو الغاية التى تطلب لذاتها وانما يشعر العبد تمام الشعور بأن ذلك عين السعادة اذا انكشف له الغطاء وفارق الدنيا ودخل الاخرة والا فهو في الدنيا وان شعر بذلك بعض الشعور فليس شعوره به كاملا للمعارضات التى عليه والمحن التى امتحن بها والا فليست السعادة في الحقيقة سوى ذلك وكل العلوم والمعارف تبع لهذه المعرفة مرادة لأجلها وتفاوت العلوم في فضلها بحسب افضائها إلى هذه المعرفة وبعدها فكل علم كان أقرب افضاء إلى العلم بالله وأسمائه وصفاته فهو أعلى مما دونه وكذلك حال القلب فكل حال كان أقرب إلى المقصود الذى خلق له فهو أشرف مما دونه وكذلك الاعمال فكل عمل كان أقرب إلى تحصيل هذا المقصود كان أفضل من غيره ولهذا كانت الصلاة والجهاد من أفضل الأعمال وأفضلها لقرب افضائها إلى المقصود وهكذا يجب أن يكون فإن كل ما كان الشيء أقرب إلى الغاية كان أفضل من البعيد عنها فالعمل المعد للقلب المهيئ له لمعرفة الله وأسمائه وصفاته ومحبته وخوفه ورجائه أفضل مما ليس كذلك واذا أشتركت عدة أعمال في هذا الافضاء فأفضلها أقربها إلى هذا المفضى ولهذا اشتركت الطاعات في هذا الإفضاء فكانت مطلوبة لله واشتركت المعاصى في حجب القلب وقطعه عن هذه الغاية فكانت منهيا عنها وتأثير الطاعات والمعاصى بحسب درجاتها
وها هنا أمر ينبغى التفطن له وهو أنه قد يكون العمل المعين أفضل منه في حق غيره فالغنى الذى بلغ له مال كثير ونفسه لا تسمح ببذل شئ منه فصدقته وايثاره أفضل له من قيام الليل وصيام النهار نافلة والشجاع الشديد

الذى يهاب العدو سطوته وقوفه في الصف ساعة وجهاده أعداء الله

ص -115- أفضل من الحج والصوم والصدقة والتطوع والعالم الذى قد عرف السنة والحلال والحرام وطرق الخير والشر مخالطته للناس وتعليمهم ونصحهم في دينهم أفضل من اعتزاله وتفريغ وقته للصلاة وقراءة القرآن والتسبيح وولى الامر الذى قد نصبه الله للحكم بين عباده جلوسه ساعة للنظر في المظالم وانصاف المظلوم من الظالم واقامة الحدود ونصر المحق وقمع المبطل أفضل من عبادة سنين من غيره ومن غلبت عليه شهوة النساء فصومه له أنفع وأفضل من ذكر غيره وصدقته وتأمل تولية النبي لعمرو بن العاص وخالد بن الوليد وغيرهما من أمرائه وعماله وترك تولية ابى ذر بل قال له: "إنى أراك ضعيفا وانى أحب لك ما أحب لنفسى لا تؤمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم" وأمره وغيره بالصيام وقال: "عليك بالصوم فانه لا عدل له" وأمر آخر بأن لا يغضب وأمر ثالثا بأن لا يزال لسانه رطبا من ذكر الله ومتى أراد الله بالعبد كمالا وفقه لاستفراغ وسعه فيما هو مستعد له قابل له قد هيئ له فاذا استفرغ وسعه على غيره وفاق الناس فيه كما قيل
ما زال يسبق حتى قال حاسده هذا طريق إلى العلياء مختصر
وهذا كالمريض الذى يشكو وجع البطن مثلا اذا استعمل دواء ذلك الداء انتفع به واذا استعمل دواء وجع الرأس لم يصادف داءه فالشح المطاع مثلا من المهلكات ولا يزيله صيام مائة عام ولا قيام ليلها وكذلك داء اتباع الهوى والاعجاب بالنفس لا يلائمه كثرة قراءة القرآن واستفراغ الوسع في العلم والذكر والزهد وانما يزيله اخراجه من القلب بضده ولو قيل ايما افضل الخبز أو الماء لكان الجواب أن هذا في موضعه أفضل وهذا في موضعه أفضل
واذا عرفت هذه القاعدة فالشكر ببذل المال عمل صالح يحصل به للقلب حال فهو دواء للداء الذى في القلب يمنعه من المقصود وأما

ص -116- الفقير الزاهد فقد استراح من هذا الداء والدواء وتوفرت قوته على استفراغ الوسع في حصول المقصود
ثم أوردوا على أنفسهم سؤالا فقالوا فإن قيل فقد حث الشرع على الاعمال وانفصلوا عنه بأن قالوا الطبيب اذا أثنى على الدواء لم يدل على أن الدواء يراد لعينه ولا أنه أفضل من الشفاء الحاصل به ولكن الاعمال علاج لمرض القلوب ومرض القلوب مما لا يشعر به غالبا فوقع الحث على العمل المقصود وهو شفاء القلب فالفقير الآخذ لصدقتك يستخرج منك داء البخل كالحجام يستخرج منك الدم المهلك
قالوا واذا عرف هذا عرف أن حال الصابر حال المحافظ على الصحة والقوة وحال الشاكر حال المتداوى بأنواع الأدوية لإزالة مواد السقم فصل قال الشاكرون لقد تعديتم طوركم وفضلتم مقاما غيره أفضل منه وقدمتم الوسيلة على الغاية والمطلوب لغيره على المطلوب لنفسه والعمل الكامل على الأكمل والفاضل على الأفضل ولم تعرفوا للشكر حقه ولا وفيتموه مرتبته وقد قرن تعالى ذكره الذى هو المراد من الخلق بذكره وكلاهما هو المراد بالخلق والأمر والصبر خادم لهما ووسيلة اليهما وعونا عليهما قال تعالى اذكرونى أذكركم واشكروا لى ولا تكفرون
وقرن سبحانه الشكر بالإيمان وأخبر أنه لا غرض له في عذاب خلقه إن شكروا وآمنوا به فقال {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} أى ان وفيتم ما خلقتم له وهو الشكر والايمان فما أصنع بعذابكم
هذا وأخبر سبحانه أن أهل الشكر هم المخصوصون بمنته عليهم من بين عباده فقال {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ

ص -117- عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} وقسم الناس إلى شكور وكفور فأبغض الأشياء اليه الكفر وأهله وأحب الأشياء اليه الشكر وأهله قال تعالى في الانسان {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً}
وقال نبيه سليمان {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} وقال تعالى {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} وقال تعالى {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} وهذا كثير في القرآن يقابل سبحانه بين الشكر والكفر فهو ضده قال تعالى {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} والشاكرون هم الذين ثبتوا على نعمة الايمان فلم ينقلبوا على أعقابهم وعلق سبحانه المزيد بالشكر والمزيد منه لا نهاية له كما لا نهاية لشكره وقد وقف سبحانه كثيرا من الجزاء على المشيئة كقوله {فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ} وقوله في الاجابة {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ} وقوله في الرزق {يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ} وفي المغفرة {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ} والتوبة {وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} وأطلق جزاء الشكر اطلاقا حيث ذكر كقوله وسنجزى الشاكرين وسيجزى الله الشاكرين ولما عرف عدو الله ابليس قدر مقام الشكر وأنه من أجل المقامات وأعلاها جعل غايته أن يسعى في قطع الناس عنه فقال {ثُمَّ

لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} ووصف الله سبحانه الشاكرين بأنهم قليل من عباده فقال تعالى {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}.

ص -118- وذكر الامام أحمد عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه سمع رجلا يقول اللهم اجعلنى من الاقلين فقال ما هذا فقال يا أمير المؤمنين ان الله قال وما آمن معه الا قليل وقال تعالى {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} وقال { إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} فقال عمر صدقت وقد أثنى الله سبحانه وتعالى على أول رسول بعثه إلى أهل الارض بالشكر فقال ذرية من حملنا مع نوح انه كان عبدا شكورا وفي تخصيص نوح ها هنا بالذكر وخطاب العباد بأنهم ذريته اشارة إلى الاقتداء به فانه أبوهم الثانى فان الله تعالى لم يجعل للخلق بعد الغرق نسلا الا من ذريته كما قال تعالى وجعلنا ذريته هم الباقين فأمر الذرية أن يتشبهوا بأبيهم في الشكر فانه كان عبدا شكورا
وقد أخبر سبحانه انما يعبده من شكره فمن لم يشكره لم يكن من أهل عبادته فقال واشكروا الله ان كنتم اياه تعبدون وأمر عبده موسى ان يتلقى ما آتاه من النبوة والرسالة والتكليم بالشكر فقال تعالى يا موسى انى اصطفيتك على الناس برسالاتى وبكلامى فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين وأول وصية وصى الله بها الانسان بعد ماعقل عنه بالشكر له وللوالدين فقال ووصينا الانسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لى ولوالديك إلى المصير
وأخبر أن رضاه في شكره فقال تعالى وان تشكروا يرضه لكم وأثنى سبحانه على خليله ابراهيم بشكر نعمه فقال ان ابراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم فأخبر عنه سبحانه بأنه أمة أى قدوة يؤتم به في الخير وانه قانتا لله والقانت هو

المطيع المقيم على طاعته والحنيف هو المقبل على الله المعرض عما سواه ثم ختم له بهذه

ص -119- الصفات بأنه شاكر لأنعمه فجعل الشكر غاية خليله
وأخبر سبحانه أن الشكر هو الغاية من خلقه وأمره بل هو الغاية التى خلق عبيده لأجلها والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والابصار والافئدة لعلكم تشكرون فهذه غاية الخلق وغاية الأمر فقال ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون ويجوز أن يكون قوله لعلكم تشكرون تعليلا لقضائه لهم بالنصر ولأمره لهم بالتقوى ولهما معا وهو الظاهر فالشكر غاية الخلق والامر وقد صرح سبحانه بأنه غاية أمره وارساله الرسول في قوله تعالى كما ارسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون فاذكرونى أذكركم واشكروا لى ولا تكفرون قالوا فالشكر مراد لنفسه والصبر مراد لغيره والصبر انما حمد لافضائه وايصاله إلى الشكر فهو خادم الشكر وقد ثبت في الصحيحين عن النبي أنه قام حتى تفطرت قدماه فقيل له أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال: "أفلا أكون عبدا شكورا" وثبت في المسند والترمذى أن النبي قال لمعاذ: "والله انى لأحبك فلا تنسى أن تقول دبر كل صلاة: اللهم أعنى على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك".
وقال ابن أبى الدنيا حدثنا اسحاق بن اسماعيل حدثنا أبو معاويه وجعفر بن عون عن هشام بن عروة قال كان من دعاء النبي: "اللهم أعنى على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك".قال وحدثنا محمود بن غيلان حدثنا المؤمل بن اسماعيل حدثنا حماد بن سلمه حدثنا حميد الطويل عن طلق بن حبيب عن ابن عباس رضى الله عنهما أن رسول الله قال: "أربع من أعطيهن فقد أعطى خير الدنيا والآخرة: قلبا شاكرا ولسانا

ص -120- ذاكرا وبدنا على البلاء صابرا وزوجة لا تبغيه خونا في نفسها ولا في ماله" وذكر ايضا من حديث القاسم بن محمد عن عائشة عن النبي قال: "ما أنعم الله على عبد نعمة فعلم أنها من عند الله الا كتب الله له شكرها وما علم الله من عبد ندامة على ذنب إلا غفر الله له قبل أن يستغفره وإن الرجل يشترى الثوب بالدينار فيلبسه فيحمد الله فما يبلغ ركبتيه حتى يغفر له".
وقد ثبت في صحيح مسلم عنه أنه قال: "إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكله فيحمده عليها ويشرب الشربه فيحمده عليها" فكان هذا الجزاء العظيم الذى هو أكبر أنواع الجزاء كما قال تعالى ورضوان من الله أكبر في مقابلة شكره بالحمد وذكر ابن أبى الدنيا من حديث عبد الله بن صالح حدثنا أبو زهير يحيى بن عطارد القرشى عن أبيه قال قال رسول الله: "لا يرزق الله عبدا الشكر فيحرمه الزيادة" لأن الله تعالى يقول لئن شكرتم لأزيدنكم وقال الحسن البصرى: "إن الله ليمتع بالنعمة ما شاء فإذا لم يشكر عليها قلبها عذابا" ولهذا كانوا يسمون الشكر الحافظ لأنه يحفظ النعم الموجودة والجالب لأنه يجلب النعم المفقودة وذكر ابن أبى الدنيا عن على بن أبى طالب رضى الله عنه أنه قال لرجل من همذان: "إن النعمة موصولة بالشكر والشكر يتعلق بالمزيد وهما مقرونان في قرن فلن ينقطع المزيد من الله حتى ينقطع الشكر من العبد"
وقال عمر بن عبد العزيز قيدوا نعم الله بشكر الله وكان يقال الشكر قيد النعم وقال مطرف بن عبد الله "لأن أعافى فأشكر أحب إلى من أن ابتلى فأصبر" وقال الحسن "أكثروا من ذكر هذه النعم فإن ذكرها شكر" وقد أمر الله تعالى نبيه أن يحدث بنعمة ربه فقال وأما بنعمة ربك فحدث والله تعالى يحب من عبده أن يرى عليه أثر نعمته فإن ذلك شكرها بلسان الحال وقال على بن الجعدى سمعت

ص -121- سفيان الثورى يقول إن داود عليه الصلاة والسلام قال الحمد لله حمدا كما ينبغى لكرم وجهه وعز جلاله فأوحى الله اليه يا داود أتعبت الملائكة
وقال شعبة حدثنا المفضل بن فضالة عن أبى رجاء العطاردى قال خرج علينا عمران بن الحصين وعليه مطرف خز لم نره عليه قبل ولا بعد فقال ان رسول الله قال: "إذا أنعم الله على عبد نعمة يحب أن يرى أثر نعمته على عبده" وفي صحيفة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي قال: "كلوا واشربوا وتصدقوا في غير مخيلة ولا سرف فإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده".
وذكر شعبة عن أبى اسحاق عن أبى الأحوص عن أبيه قال: "أتيت رسول الله وأنا قشف الهيئة فقال هل لك من مال قال قلت نعم قال من أى المال قلت من كل المال قد آتانى الله من الابل والخيل والرقيق والغنم قال فإذا آتاك الله مالا فليرى عليك".
وفي بعض المراسيل "ان الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده في مأكله ومشربه" وروى عبد الله بن يزيد المقرى عن أبى معمر عن بكير بن عبد الله رفعه: "من أعطى خيرا فرؤى عليه سمى حبيب الله محدثا بنعمة الله ومن أعطى خيرا ولم ير عليه سمى بغيض الله معاديا لنعمة الله" وقال فضيل بن عياض كان يقال من عرف نعمة الله بقلبه وحمده بلسانه لم يستتم ذلك حتى يرى الزيادة لقول الله تعالى ولئن شكرتم لأزيدنكم وقال من شكر النعمة أن يحدث بها وقد قال تعالى: "يا ابن آدم إذا كنت تتقلب في نعمتى وأنت تتقلب في معصيتى فاحذرنى لأصرعك بين معاصى يا ابن آدم اتقنى ونم حيث شئت".

ص -122- وقال الشعبى الكشر نصف الايمان واليقين الايمان كله وقال أبو قلابة لا تضركم دنيا شكرتموها وقال الحسن إذا أنعم الله على قوم سألهم الشكر فإذا شكروه كان قادرا على أن يزيدهم وإذا كفروه كان قادرا على أن يبعث نعمته عليهم عذابا وقد ذم الله سبحانه الكنود وهو الذى لا يشكر نعمه قال الحسن {إِنَّ الإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} يعد المصائب وينسى النعم وقد أخبر النبي إن النساء أكثر أهل النار بهذا السبب قال: "لو أحسنت إلى إحداههن الدهر ثم رأت منك شيئا قالت ما رأيت منك خيرا قط" فإذا كان هذا بترك شكر نعمة الزوج وهى في الحقيقة من الله فكيف بمن ترك شكر نعمة الله
يا أيها الظالم في فعله والظلم مردود على من ظلم
إلى متى أنت وحتى متى تشكو المصيبات وتنسى النعم
ذكر ابن أبى الدنيا من حديث أبى عبد الرحمن السلمي عن الشعبى عن النعمان بن بشير قال قال رسول الله: "التحدث بالنعمة شكر وتركها كفر ومن لا يشكر القليل لا يشكر الكثير ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله والجماعة بركة والفرقة عذاب" وقال مطرف بن عبد الله نظرت في العافية والشكر فوجدت فيهما خير الدنيا والآخرة ولأن أعافى أعافي فأشكر أحب إلى من أن أبتلى فأصبر ورأى بكر بن عبد الله المزنى حمالا عليه حمله وهو يقول الحمد الله أستغفر الله قال فأنتظرته حتى وضع ما على ظهره وقلت له أما تحسن غير هذا قال بلى أحسن خيرا كثيرا أقرأ كتاب الله غير أن العبد بين نعمة وذنب فأحمد الله على نعمه السابغة وأستغفره لذنوبى فقلت الحمال أفقه من بكر.
وذكر الترمذى من حديث جابر بن عبد الله رضى الله عنهما قال: "خرج رسول الله على أصحابه فقرأ عليهم سورة الرحمن من أولها إلى آخرها فسكتوا فقال قرأتها على الجن ليلة الجن فكانوا أحسن ردا منكم كنت كلما أتيت على قوله {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} قالوا لا بشئ من

ص -123- نعمك ربنا نكذب فلك الحمد" وقال مشعر لما قيل لآل داود {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً} لم يأت على القوم ساعة الا وفيهم مصل
وقال عون بن عبد الله قال بعض الفقهاء انى رأيت في أمرى لم أر خيرا الا شر معه الا المعافاة والشكر فرب شاكر في بلائه ورب معافى غير شاكر فإذا سألتم الله فاسألوهما جميعا وقال أبو معاويه لبس عمر بن الخطاب قميصا فلما بلغ ترقوته قال الحمد لله الذى كسانى ما أوارى به عورتى وأتجمل به في حياتى ثم مد يديه فنظر شيئا يزيد على يديه فقطعه ثم أنشأ يحدث قال سمعت رسول الله يقول: "من لبس ثوبا أحسبه جديدا فقال حين يبلغ ترقوته أو قال قبل أن يبلغ ركبتيه مثل ذلك ثم عمد إلى ثوبه الخلق فكسا به مسكينا لم يزل في جوار الله وفي ذمة الله وفي كنف الله حيا وميتا ما بقى من ذلك الثوب سلك".
وقال عون بن عبد الله لبس رجل قميصا جديدا فحمد الله فغفر له فقال رجل ارجع حتى أشترى قميصا فألبسه وأحمد الله وقال شريح ما أصيب عبد بمصيبة الا كان لله عليه فيها ثلاث نعم ألا تكون كانت في دينه وألا تكون أعظم مما كانت وأنها لا بد كائنه فقد كانت
وقال عبد الله بن عمر بن عبد العزيز ما قلب عمر بن عبد العزيز بصره إلى نعمة أنعم الله بها عليه الا قال اللهم انى أعوذ بك أن أبدل نعمتك كفرا وأن أكفرها بعد أن عرفتها وأن أنساها ولا أثنى بها وقال روح بن القاسم تنسك رجل فقال لا آكل الخبيص لا أقوم بشكره فقال الحسن هذا أحمق وهل يقوم بشكر الماء البارد
وفي بعض الآثار الالهية يقول الله عزوجل: "ابن آدم خيرى اليك نازل وشرك إلى صاعد أتحبب اليك بالنعم وتتبغض إلى بالمعاصى ولا يزال ملك كريم قد عرج إلى منك بعمل قبيح".
قال ابن أبى الدنيا حدثنى أبو على قال كنت أسمع جارا لي يقول في

ص -124- الليل: "يا الهى خيرك على نازل وشرى اليك صاعد كم من ملك كريم قد صعد اليك منى بعمل قبيح وأنت مع غناك عنى تتحبب إلى بالنعم وأنا مع فقرى اليك وفاقتى أتمقت اليك بالمعاصى وأنت في ذلك تجبرنى وتسترنى وترزقنى وكان أبو المغيرة اذا قيل له كيف أصبحت يا أبا محمد أصبحنا مغرقين في النعم عاجزين عن الشكر يتحبب الينا ربنا وهو غنى عنا ونتمقت اليه ونحن اليه محتاجون وقال عبد الله بن ثعلبة الهى من كرمك أنك تطاع ولا تعصى ومن حلمك أنك تعصى وكأنك لا ترى وأى زمن لم يعصك فيه سكان أرضك وأنت بالخير عواد وكان معاوية بن قرة اذا لبس ثوبا جديدا قال بسم الله والحمد لله وقال أنس بن مالك ما من عبد توكل بعبادة الله الا عزم الله السموات والارض تعبر رزقه فجعله في أيدى بنى آدم يعملونه حتى يدفع عنه اليه فإن العبد قبله أوجب عليه الشكر وان أباه وجد الغنى الحميد عبادا فقراء يأخذون رزقه ويشكرون له".
وقال يونس بن عبيد: "قال رجل لأبى تميمة كيف أصبحت قال أصبحت بين نعمتين لا أدرى أيتهما أفضل ذنوب سترها الله فلا يستطيع أن يعيرنى بها أحد ومودة قذفها الله في قلوب العباد لا يبلغها عملى".
وروى ابن أبى الدنيا عن سعيد المقبرى عن أبيه عن عبد الله بن سلام أن موسى عليه السلام قال: "يارب ما الشكر الذى ينبغى لك قال لا يزال لسانك رطبا من ذكرى" وروى سهيل بن أبى صالح عن أبيه عن أبى هريرة رضى الله عنه قال دعا رجل من الأنصار من أهل قباء النبي فانطلقنا معه فلما طعم وغسل يديه قال الحمد لله الذى يطعم ولا يطعم من علينا فهدانا وأطعمنا وسقانا وكل بلاء حسن أبلانا الحمد لله غير مودع ربى ولا مكافأ ولا مكفور ولا مستغنى عنه الحمد لله الذى أطعم من الطعام وسقى من الشراب وكسى من العرى وهدى من الضلالة وبصر من العمى وفضل على كثير من خلقه تفضيلا الحمد لله رب العالمين.

ص -125- وفي مسند الحسن بن الصلاح من حديث أنس بن مالك رضى الله عنه قال قال رسول الله: "ما أنعم الله على عبد نعمة في أهل ولا مال أو ولد فيقول ما شاء الله لا قوة إلا بالله فيرى فيه آفة دون الموت ويذكر عن عائشة رضى الله عنها أن النبي دخل عليها فرآى كسرة ملقاة فمسحها وقال يا عائشة أحسنى جوار نعم الله فإنها فلما نفرت عن أهل بيت فكادت أن ترجع اليهم" ذكره ابن أبى الدنيا.
وقال الإمام أحمد حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا صالح عن أبى عمران الجونى عن أبى الخلد قال قرأت في مسألة داود أنه قال: "يا رب كيف لى أن أشكر وأنا لا أصل إلى شكرك الا بنعمك" قال فأتاه الوحى: "يا داود أليس تعلم أن الذى بك من النعم منى قال بلى يا رب قال فإنى نرضى بذلك منك شكرا".
وقال عبد الله بن أحمد حدثنا أبو موسى الانصارى حدثنا أبو الوليد عن سعيد ابن عبد العزيز قال كان من دعاء داود سبحان مستخرج الشكر بالعطاء ومستخرج الدعاء بالبلاء وقال الإمام أحمد حدثنا أبو معاوية حدثنى الأعمش عن المنهال عن عبد الله بن الحارث قال أوحى الله إلى داود أحبنى وأحب عبادتى وحببنى إلى عبادى قال يا رب هذا حبك وحب عبادتك فكيف أحببك إلى عبادك قال تذكرنى عندهم فإنهم لا يذكرون منى إلا الحسن فجل جلال ربنا وتبارك اسمه وتعالى جده وتقدست أسماؤه وجل ثناؤه ولا اله غيره
وقال أحمد حدثنا عبد الرزاق بن عمران قال سمعت وهبا يقول وجدت في كتاب آل داود بعزتى ان من اعتصم بى فإن كادته السموات بمن فيهن والأرضون بمن فيهن فإنى أجعل له من بين ذلك مخرجا ومن لم يعتصم بى فإنى أقطع يديه من أسباب السماء وأخسف به من تحت قدميه الأرض فأجعله في الهواء ثم أكله إلى نفسه كفي بى لعبدى مالا اذا كان

ص -126- عبدى في طاعتى أعطيته قبل أن يسألنى وأجبته قبل أن يدعونى وإنى أعلم بحاجته التى ترفق به من نفسه.
وقال أحمد حدثنا يسار حدثنا حفص حدثنا ثابت قال كان داود عليه السلام قد جزأ ساعات الليل والنهار على أهله فلم يكن ساعة من ليل أو نهار الا وانسان من آل داود قائم يصلى فيها قال فعمهم تبارك وتعالى في هذه الآية {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}
قال أحمد وحدثنا جابر بن زيد عن المغيرة بن عيينة قال داود يا رب هل بات أحد من خلقك الليلة أطول ذكرا لك منى فأوحى الله اليه نعم الضفدع وأنزل الله عليه {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} قال يا رب كيف أطيق شكرك وأنت الذى تنعم على ثم ترزقنى على النعمة الشكر ثم تزيدنى نعمة بعد نعمة فالنعم منك والشكر منك فكيف أطيق شكرك قال الآن عرفتنى يا داود قال أحمد وحدثنا عبد الرحمن حدثنا الربيع بن صبيح عن الحسن قال نبى الله داود: "الهى لو أن لكل شعرة منى لسانين يسبحانك الليل والنهار والدهر ما وفيت حق نعمة واحدة".
وذكر ابن أبى الدنيا عن أبى عمران الجونى عن أبى الخلد قال قال موسى يا رب كيف لى أن أشكرك وأصغر نعمة وضعتها عندى من نعمك لا يجازى بها عملى كله قال فأتاه الوحى يا موسى الآن شكرتنى
قال بكر بن عبد الله ما قال عبد قط الحمد لله الا وجبت عليه نعمة بقوله الحمد لله فجزاء تلك النعمة أن يقول الحمد لله فجاءت نعمة أخرى فلا تنفد نعم الله وقال الحسن سمع نبى الله رجلا يقول الحمد لله بالاسلام فقال انك لتحمد الله على نعمة عظيمة وقال خالد بن معدان سمعت عبد الملك بن مروان يقول: "ما قال عبد كلمة أحب إلى الله وأبلغ في الشكر عنده من أن يقول الحمد لله الذى أنعم علينا وهدانا للإسلام".

ص -127- وقال سليمان التيمى ان الله سبحانه أنعم على عبده على قدره وكلفهم الشكر على قدرتهم وكان الحسن اذا ابتدأ حديثه يقول الحمد لله اللهم ربنا لك الحمد بما خلقتنا ورزقتنا وهديتنا وعلمتنا وأنقذتنا وفرجت عنا لك الحمد بالاسلام والقرآن ولك الحمد بالأهل والمال والمعافاة كبت عدونا وبسطت رزقنا وأظهرت أمننا وجمعت فرقتنا وأحسنت معافاتنا ومن كل ما سألناك ربنا أعطيتنا فلك الحمد على ذلك حمدا كثيرا لك الحمد بكل نعمة أنعمت بها علينا في قديم أو حديث أو سر أو علانية أو خاصة أو عامة أو حى أو ميت أو شاهد أو غائب لك الحمد حتى ترضى ولك الحمد اذا رضيت
وقال الحسن قال موسى يا رب كيف يستطيع آدم أن يؤدى شكر ما صنعت اليه خلقته بيدك ونفخت فيه من روحك وأسكنته جنتك وأمرت الملائكة فسجدوا له فقال يا موسى علم أن ذلك منى فحمدنى عليه فكان ذلك شكر ما صنعت اليه وقال سعد بن مسعود الثقفي انما سمى نوح عبدا شكورا لأنه لم يلبس جديدا ولم يأكل طعاما الا حمد الله وكان على بن أبى طالب اذا خرج من الخلاء مسح بطنه بيده وقال يا لها من نعمة لو يعلم العباد شكرها
وقال مخلد بن الحسين كان يقال الشكر ترك المعاصى وقال أبو حازم كان نعمة لا تقرب من الله فهى بلية وقال سليمان ذكر النعم يورث الحب لله وقال حماد بن زيد حدثنا ليث عن أبى بردة قال قدمت المدينة فلقيت عبد الله بن سلام فقال لى ألا تدخل بيتا دخله النبي ونطعمك سويقا وتمرا ثم قال ان الله اذا جمع الناس غدا ذكرهم بما أنعم عليهم فيقول العبد ما آية ذلك فيقول آية ذلك انك كنت في كربة كذا وكذا قد دعوتنى فكشفتها وآية ذلك أنك كنت في سفر كذا وكذا فاستصحبتنى فصحبتك قال يذكره حتى يذكر فيقول آية ذلك أنك خطبت فلانة بنت فلان وخطبها معك خطاب فزوجتك ورددتهم يقف

ص -128- عبده بين يديه فيعدد عليه نعمه فبكى ثم بكى ثم قال انى لأرجو الله أن لا يقعد الله عبدا بين يديه فيعذبه
وروى ليث بن أبى سليم عن عثمان عن ابن سيرين عن أنس بن مالك قال قال رسول الله: "يؤتى بالنعم يوم القيامة والحسنات والسيئات فيقول الله عزوجل لنعمة من نعمه خذى حقك من حسناته فما تترك له من حسنة الا ذهبت بها".
وقال بكر بن عبد الله المزنى ينزل بالعبد الامر فيدعو الله فيصرف عنه فيأتيه الشيطان فيضعف شكره يقول ان الامر كان أيسر مما تذهب اليه قال أو لا يقول العبد كان الامر أشد مما أذهب اليه ولكن الله صرفه عنى وذكر ابن أبى الدنيا عن صدقة بن يسار قال بينا داود عليه السلام في محرابه اذ مرت به ذره فنظر اليها وفكر في خلقها وعجب منها وقال ما يعبؤ الله بهذه فأنطقها الله فقالت يا داود أتعجبك نفسك فو الذى نفسى بيده لأنا على ما آتانى الله من فضله أشكر منك على ما آتاك الله من فضله
وقال أيوب ان من أعظم نعمة الله على عبده أن يكون مأمونا على ماجاء به النبي وقال سفيان الثورى كان يقال ليس بفقيه من لم يعد البلاء نعمة والرخاء معصيبة وقال زازان مما يجب لله على ذى النعمة بحق نعمته أن لا يتوصل بها إلى معصية قال ابن أبي الدنيا أنشدنى محمود الوراق:
اذا كان شكرى نعمة الله نعمة فكيف وقوع الشكر الا بفضله
على له في مثلها يجب الشكر اذا مس بالسراء عم سرورها
وان طالت الايام واتصل العمر وما منهما الا له فيه منة
وان مس بالضراء أعقبها الاجر تضيق بها الاوهام والبر والبحر
وقد روى الدراوردى عن عمرو بن أبى عمرو عن سعيد المقبرى عن أبى

ص -129- هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله يعنى قال الله عز وجل: "ان المؤمن عندى بمنزلة كل خير يحمدنى وأنا أنزع نفسه من بين جنبيه" ومر محمد بن المنكدر بشاب يغامز امرأة فقال يا فتى ما هذا جزاء نعم الله عليك وقال حماد بن سلمة عن ثابت قال قال أبو العاليه انى لأرجو أن لا يهلك عبد بين اثنتين نعمة يحمد الله عليها وذنب يستغفر منه
وكتب ابن السماك إلى محمد بن الحسن حين ولى القضاء بالرقة أما بعد فلتكن التقوى من بالك على كل حال وخف الله من كل نعمة أنعم بها عليك من قلة الشكر عليها مع المعصية بها فان في النعم حجة وفيها تبعة فأما الحجة بها فالمعصية بها وأما التبعة فيها فقلة للشكر عليها فعفى الله عنك كلما ضيعت من شكر أو ركبت من ذنب أو قصرت من حق ومر الربيع بن أبى راشد برجل به زمانة فجلس يحمد الله ويبكى قيل له ما يبكيك قال ذكرت أهل الجنة وأهل النار فشبهت أهل الجنة بأهل العافية وأهل النار بأهل البلاء فذلك الذى أبكانى
وقد روى أبو هريرة رضى الله عنه عن النبي: "إذا أحب أحدكم أن يرى قدر نعمة الله عليه فلينظر إلى من تحته ولا ينظر إلى من فوقه" قال عبد الله بن المبارك أخبرنى يحيى بن عبد الله قال سمعت أبى هريرة فذكره
وقال ابن المبارك حدثنا يزيد بن ابراهيم عن الحسن قال قال أبو الدرداء من لم يعرف نعمة الله عليه إلا في مطعمه ومشربه فقد قل عمله وحضر عذابه قال ابن المبارك أخبرنا مالك بن أنس عن اسحق بن عبد الله بن أبى طلحة عن أنس رضى الله قال سمعت عمر بن الخطاب رضى الله عنه سلم على رجل فرد عليه السلام فقال عمر للرجل كيف أنت قال الرجل أحمد اليك الله قال هذا أردت منك قال ابن المبارك وأخبرنا مسعود عن علقمة بن مرقد عن ابن عمر رضى الله عنهما قال لعلنا نلتقى في اليوم مرارا يسأل بعضنا عن بعض ولم يرد بذلك إلا

ص -130- ليحمد الله عزوجل وقال مجاهد في قوله تعالى {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} قال لا إله الا الله وقال ابن عيينة ما أنعم الله على العباد نعمة أفضل من أن عرفهم لا إله إلا الله قال وان لا اله الا الله لهم في الآخرة كالماء في الدنيا وقال بعض السلف في خطبته يوم عيد أصبحتم زهرا وأصبح الناس غبرا أصبح الناس ينسجون وأنتم تلبسون واصبح الناس يعطون وأنتم تأخذون وأصبح الناس ينتجون وأنتم تركبون واصبح الناس يزرعون وأنتم تأكلون فبكى وأبكاهم
وقال عبد الله بن قرط الأزدى وكان من الصحابة على المنبر وكان يوم أضحى ورأى على الناس ألوان الثياب يا لها من نعمة ما أشبعها ومن كرامة ما أظهرها ما زال عن قوم شيئا أشد من نعمة لا يستطيعون ردها وانما تثبت النعمة بشكر المنعم عليه للمنعم
وقال سلمان الفارسى رضى الله عنه ان رجلا بسط له من الدنيا فانتزع ما في يديه فجعل يحمد الله ويثنى عليه حتى لم يكن له فراش الا بارية قال فجعل يحمد الله ويثنى عليه حتى لم يكن له فراش إلا بارية قال فجعل يحمد الله ويثني عليه وبسط لآخر من الدنيا فقال لصاحب البارية أرأيتك أنت على ما تحمد الله قال أحمده على ما لو أعطيت به ما أعطى الخلق لم أعطهم اياه قال وما ذاك قال أرأيتك بصرك أرأيتك لسانك أرأيتك يديك أرايتك رجليك وجاء رجل إلى يونس بن عبيد يشكو ضيق حاله فقال له يونس أيسرك ببصرك هذه مائة ألف درهم قال الرجل لا قال فبيديك مائه ألف قال لا فبرجليك مائة الف قال لا قال فذكره نعم الله عليه فقال يونس أرى عندك مئين الالوف وأنت تشكو الحاجه وكان ابو الدرداء يقول الصحة الملك
وقال جعفر بن محمد رضى الله عنه فقد ابى بغلة له فقال ان ردها الله على لأحمدنه بمحامد يرضاها فما لبث أن أتى بسرجها ولجامها فركبها فلما

ص -131- استوى عليها وضم اليه ثيابه رفع رأسه إلى السماء فقال الحمد لله لم يزد عليها فقيل له في ذلك فقال هل تركت وأبقيت شيئا جعلت الحمد كله لله
وروى ابن أبى الدنيا من حديث سعد بن اسحاق بن كعب بن عجرة عن أبيه عن جده قال: "بعث رسول الله بعثا من الانصار وقال ان سلمهم الله وغنمهم فإن لله على في ذلك شكرا قال فلم يلبثوا أن غنموا وسلموا فقال بعض أصحابه سمعناك تقول ان سلمهم الله وغنمهم فإن لله على في ذلك شكرا قال قد فعلت اللهم لك الحمد شكرا ولك المن فضلا".
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال محمد بن المنكدر لأبى حازم يا أبا حازم ما أكثر من يلقانى فيدعو لى بالخير ما أعرفهم وما صنعت اليهم خيرا قط فقال أبو حازم لا تظن أن ذلك من قبلك ولكن انظر إلى الذى ذلك من قبله فاشكره وقرأ أبو عبد الرحمن {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} وقال على بن الجعد حدثنا عبد العزيز بن أبى سلمة الماجشون حدثنى من أصدقه أن أبا بكر الصديق رضى الله عنه كان يقول في دعائه أسألك تمام النعمة في الاشياء كلها والشكر لك عليها حتى ترضى وبعد الرضا والخيرة في جميع ما تكون فيه الخيرة بجميع ميسر الامور كلها لا معسورها يا كريم
وقال الحسن ما أنعم الله على عبد نعمة فقال الحمد لله الا كان ما أعطى أكثر مما أخذ قال ابن أبى الدنيا وبلغنى عن سفيان بن عيينة أنه قال هذا خطأ لا يكون فعل العبد أفضل من فعل الله ثم قال وقال بعض أهل العلم انما تفسير هذا أن الرجل اذا أنعم الله عليه نعمة وهو ممن يجب عليه أن يحمده عرفه ما صنع به فيشكر الله كما ينبغى له أن يشكره فكان الحمد له أفضل
قلت لا يلزم الحسن ما ذكر عن ابن عيينة فإن قوله الحمد

ص -132- لله نعمة من نعم الله والنعمة التى حمد الله عليها ايضا نعمة من نعم الله وبعض النعم أجل من بعض فنعمة الشكر أجل من نعمة المال والجاه والولد والزوجة ونحوها والله أعلم وهذا لا يستلزم أن يكون فعل العبد أفضل من فعل الله وان دل على أن فعل العبد للشكر قد يكون أفضل من بعض مفعول الله وفعل العبد هو مفعول الله ولا ريب أن بعض مفعولاته أفضل من بعض
وقال بعض أهل العلم لنعم الله علينا فيما زوى عنا من الدنيا أفضل من نعمه علينا فيما بسط لنا منها وذلك أن الله لم يرض لنبيه الدنيا فإن أكون فيما رضى الله لنبيه وأحب له أحب إلى من أن أكون فيما كره له وسخطه
وقال ابن أبى الدنيا بلغنى عن بعض العلماء أنه قال ينبغى للعالم أن يحمد الله على ما زوى عنه من شهوات الدنيا كما يحمده على ما أعطاه وأين يقع ما أعطاه الله والحساب يأتى عليه إلى ما عافاه الله ولم يبتله به فيشغل قلبه ويتعب جوارحه فيشكر الله على سكون قلبه وجمع همه
وحدث عن ابن أبى الحوارى قال جلس فضيل بن عياض وسفيان بن عيينة ليلة إلى الصباح يتذاكران النعم فجعل سفيان يقول أنعم الله علينا في كذا وكذا أنعم الله علينا في كذا فعل بنا كذا وحدثنا عبد الله بن داود عن سفيان في قوله {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} قال يسبغ عليهم النعم ويمنعهم الشكر وقال غير سفيان كلما أحدثوا ذنبا أحدث لهم نعمة وسئل ثابت البنانى عن الاستدراج فقال ذلك مكر الله بالعباد المضيعين وقال يونس في تفسيرها ان العبد اذا كانت له عند الله منزلة فحفظها وبقى عليها ثم شكر الله بما أعطاه أعطاه أشرف منها واذا هو ضيع الشكر استدرجه الله وكان تضييعه الشكر استدراجا وقال أبو حازم نعمة الله فيما زوى عنى من الدنيا أعظم من نعمته فيما أعطانى منها انى رأيته أعطاها أقواما فهلكوا

ص -133- وكل نعمة لا تقرب من الله فهى بلية واذا رأيت الله يتابع عليك نعمه وأنت تعصيه فاحذره
وذكر كاتب الليث عن هقل عن الاوزاعى أنه وعظهم فقال في موعظته أيها الناس تقووا بهذه النعم التى أصبحتم فيها على الهرب من نار الله الموقدة التى تتطلع على الأفئدة فإنكم في دار الثوى فيها قليل وأنتم فيها مرجون خلائف من بعد القرون الذين استقبلوا من الدنيا أنفعها وزهرتها فهم كانوا أطول منكم أعمارا وأمد أجساما وأعظم آثارا فقطعوا الجبال وجابوا الصخور ونقبوا في البلاد مؤيدين ببطش شديد وأجسام كالعماد فما لبثت الايام والليالى أن طوت مددهم وعفت آثارهم وأخوت منازلهم وأنست ذكرهم فما تحس منهم من أحد ولا تسمع لهم ركزا كانوا يلهون آمنين لبيات قوم غافلين أو لصباح قوم نادمين ثم أنكم قد علمتم الذى نزل بساحتهم بياتا من عقوبة الله فأصبح كثير منهم في دارهم جاثمين واصبح الباقون ينظرون في آثارهم نقمة وزوال نعمة ومساكن خاويه فيها آية للذين يخافون العذاب الاليم وعبرة لمن يخشى وأصبحتم من بعدهم في أجل منقوص ودنيا مقبوضه وزمان قد ولى عفوه وذهب رخاؤه فلم يبق منه الا حماة شر وصبابة كدر وأهاويل عبر وعقوبات غير وارسال فتن وتتابع زلازل ورذلة خلف بهم ظهر الفساد في البر والبحر ولا تكونوا أشباها لمن خدعه الامل وغره طول الاجل وتبلغ بطول الامانى نسأل الله أن يجعلنا واياكم ممن وعى انذاره وعقل بشره فمهد لنفسه
وكان يقال الشكر ترك المعصيه وقال ابن المبارك قال سفيان ليس بفقيه فمن لم يعد البلاء نعمه والرخاء مصيبه وكان مروان بن الحكم اذا ذكر الاسلام قال بنعمة ربى وصلت اليه لا بما قدمت يدى ولا بإرادتى انى كنت خاطئا
وكم من مدخل لو مت فيه لكنت فيه نكالا في العشيرة
وقيت السوء والمكروه فيه وظفرت بنعمة منه كبيرة

ص -134- وكم من نعمة لله تمسى وتصبح في العيان وفي السريرة

ودعى عثمان بن عفان رضى الله عنه إلى قوم على ريبة فانطلق ليأخذهم فتفرقوا قبل أن يبلغهم فأعتق رقبة شكرا لله أن لا يكون جرى على يديه خزى مسلم قال يزيد بن هرون أخبرنا أصبغ بن يزيد أن نوحا عليه السلام كان اذا خرج من الخلاء قال الحمد لله الذى أذاقنى لذته وأبقى منفته في جسدى وأذهب عنى أذاه فسمى عبدا شكورا وقال ابن أبى الدنيا حدثنى العباس بن جعفر عن الحارث بن شبل قال حدثتنا أم النعمان أن عائشة حدثتها عن النبي أنه لم يقم عن خلاء قط الا قاله وقال رجل لأبى حازم ما شكر العينين يا أبا حازم قال ان رأيت بهما خيرا أعلنته وان رأيت بهما شرا سترته قال فما شكر الاذنين قال ان سمعت بهما خيرا وعيته وان سمعت بهما شرا دفعته قال فما شكر اليدين قال لا تأخذ بهما ما ليس لهما ولا تمنع حقا لله هو فيهما قال فما شكر البطن قال أن يكون أسفله طعاما وأعلاه علما قال فما شكر الفرج قال قال الله {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} قال فما شكر الرجلين قال ان علمت ميتا تغبطه استعملت بهما عمله وان مقته رغبت عن عمله وأنت شاكر لله
وأما من شكر بلسانه ولم يشكر بجميع أعضائه فمثله كمثل رجل له كساء فأخذ بطرفه ولم يلبسه فما ينفعه ذلك من الحر والبرد والثلج والمطر
وذكر عبد الله بن المبارك أن النجاشى أرسل ذات يوم إلى جعفر وأصحابه فدخلوا عليه وهو في بيت عليه خلقان جالس على التراب قال جعفر فأشفقنا منه حين رأيناه على تلك الحال فلما رأى ما في وجوهنا قال انى أبشركم بما يسركم انه جاءنى من نحو أرضكم عين لى فأخبرنى أن الله قد نصر نبيه وأهلك عدوه وأسر فلان وفلان وقتل فلان وفلان التقوا بواد يقال له بدر كثير الاراك كأنى أنظر اليه كنت أرعى به لسيدى رجل من

ص -135- بنى ضمرة فقال له جعفر ما بالك جالسا على التراب ليس تحتك بساط وعليك هذه الاخلاق قال انا نجد فيما أنزل الله على عيسى عليه السلام ان حقا على عباد الله أن يحدثوا لله تواضعا عندما أحدث الله لهم من نعمه فلما أحدث الله لى نصر نبيه أحدثت لله هذا التواضع
وقال حبيب بن عبيد ما ابتلى الله عبدا ببلاء إلا كان له عليه فيه نعمة ألا يكون أشد منه وقال عبد الملك بن اسحاق ما من الناس إلا مبتلى بعافية لينظر كيف شكره أو بلية لينظر كيف صبره
وقال سفيان الثورى لقد أنعم الله على عبد في حاجة أكثر من تضرعه اليه فيها وكان رسول الله اذا جاءه أمر يسره خر لله ساجدا شكرا له عزوجل ذكره أحمد وقال عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه: "خرج علينا النبي فتوجه نحو صدقته فدخل فاستقبل القبلة فخر ساجدا فأطال السجود فقلت يا رسول الله سجدت سجدة حسبت أن يكون الله قد قبض نفسك فيها فقال ان جبريل أتانى فبشرنى أن الله عز وجل يقول لك من صلى عليك صليت عليه ومن سلم عليك سلمت عليه فسجدت لله شكرا" ذكره أحمد
وعن سعد بن أبى وقاص رضى الله عنه قال خرجنا مع النبي من مكة نريد المدينة فلما كنا قريبا من عزور نزل ثم رفع يديه ودعا الله ساعة ثم خر ساجدا فمكث طويلا ثم قام فرفع يديه ساعة ثم خر ساجدا فعله ثلاثا وقال انى سألت ربى وشفعت لأمتى فأعطانى ثلث أمتى فخررت ساجدا شكرا لربى ثم رفعت رأسى فسألت ربى لأمتى فأعطانى ثلث أمتى فخررت ساجدا لربى ثم رفعت رأسى فسألت ربى ربى فأعطانى الثلث الآخر فخررت ساجدا لربى رواه أبو داود
وذكر محمد بن اسحاق في كتاب الفتوح قال لما جاء المبشر يوم بدر بقتل أبى جهل استحلفه رسول الله ثلاثة أيمان بالله الذى لا اله الا هو لقد رأيته قتيلا فحلف له فخر رسول الله ساجدا.

ص -136- وذكر سعيد بن منصور أن ابى بكر الصديق رضى الله عنه سجد حين جاءه قتل مسيلمة وذكر أحمد أن عليا رضى الله عنه سجد حين وجد ذا الثدية في الخوارج وسجد كعب بن مالك في عهد النبي لما بشر بتوبة الله عليه والقصة في الصحيحين
فإن قيل فنعم الله دائما مستمرة على العبد فما الذى اقتضى تخصيص النعمة الحادثة بالشكر دون الدائمة وقد تكون المستدامة أعظم قيل الجواب من وجوه أحدها أن النعمة المتجددة تذكر بالمستدامة والانسان موكل بالأدنى
الثاني أن هذه النعمة المتجددة تستدعي عبودية مجددة وكان أسهلها على الانسان وأحبها إلى الله السجود شكرا له
الثالث أن المتجددة لها وقع في النفوس والقلوب بها أعلق ولهذا يهنى بها ويعزى بفقدها
الرابع أن حدوث النعم توجب فرح النفس وانبساطها وكثيرا ما يجر ذلك إلى الأشر والبطر والسجود ذل لله وعبودية وخضوع فإذا تلقى به نعمته لسروره وفرح النفس وانبساطها فكان جديرا بدوام تلك النعمة وإذا تلقاها بالفرح الذى لا يحبه الله والاشر والبطر كما يفعله الجهال عندما يحدث الله لهم من النعم كانت سريعة الزوال وشيكة الانتقال وانقلبت نقمة وعادت استدراجا وقد تقدم أمر النجاشى فان الله اذا احدث لعبده نعمة أحب أن يحدث لها تواضعا وقال العلاء بن المغيرة بشرت الحسن بموت الحجاج وهو مختف فخر لله ساجدا
فصل ومن دقيق نعم الله على العبد التى لا يكاد يفطن لها انه يغلق عليه بابه فيرسل الله اليه من يطرق عليه الباب يسأله شيئا من القوت ليعرفه نعمته عليه وقال سلام بن أبى مطيع دخلت على مريض أعوده فاذا هو يئن

ص -137- فقلت له أذكر المطروحين على الطريق أذكر الذين لا مأوى لهم ولا لهم من يخدمهم قال ثم دخلت عليه بعد ذلك فسمعته يقول لنفسه أذكرى المطروحين في الطريق اذكرى من لا مأوى له ولا له من يخدمه
وقال عبد الله بن أبى نوح قال لى رجل على بعض السواحل كم عاملته تبارك اسمه بما يكره فعاملك بما تحب قلت ما أحصى ذلك كثرة قال فهل قصدت اليه في أمر كربك فخذلك قلت لا والله ولكنه أحسن إلى وأعاننى قال فهل سألته شيئا فلم يعطكه قلت وهل منعنى شيئا سألته ما سألته شيئا قط الا أعطانى ولا استعنت به الا أعاننى قال أرأيت لو أن بعض بنى آدم فعل بك بعض هذه الخلال ما كان جزاؤه عندك قلت ما كنت أقدر له مكافأة ولا جزاء قال فربك أحق وأحرى أن تدأب نفسك له في أداء شكره وهو المحسن قديما وحديثا اليك والله لشكره أيسر من مكافأة عباده انه تبارك وتعالى رضى من العباد بالحمد شكرا وقال سفيان الثورى ما كان الله لينعم على عبد في الدنيا فيفضحه في الآخرة ويحق على المنعم أن يتم النعمة على من أنعم عليه
وقال ابن أبى الحوارى قلت لأبى معاوية ما أعظم النعمة علينا في التوحيد نسأل الله أن لا يسلبنا اياه قال يحق على المنعم أن يتم النعمة على من أنعم عليه والله أكرم من أن ينعم بنعمة الا أتمها ويستعمل بعمل الا قبله وقال ابن ابى الحوارى قالت لى امرأة أنا في بيتى قد شغل قلبى قلت وما هو قالت أريد أن أعرف نعم الله على في طرفة عين أو أعرف تقصيرى عن شكر النعمة على في طرفة عين قلت تريدين مالا تهتدى اليه عقولنا
وقال ابن زيد انه ليكون في المجلس الرجل الواحد يحمد الله عز وجل فيقضى لذلك المجلس حوائجهم كلهم قال وفي بعض الكتب التى أنزلها الله تعالى أنه قال: "سروا عبدى المؤمن فكان لا يأتيه شئ الا قال الحمد لله ما شاء الله قال روعوا عبدى المؤمن فكان لا يطلع عليه طليعة

ص -138- من طلائع المكروه الا قال الحمد لله الحمد لله فقال الله تبارك وتعالى ان عبدى يحمدنى حين روعته كما يحمدنى حين سررته أدخلوا عبدى دار عزى كما يحمدنى على كل حالاته".
وقال وهب عبد الله عابد خمسين عاما فأوحى الله اليه انى قد غفرت لك قال أى رب وما تغفر لى ولم أذنب فأذن الله لعرق في عنقه يضرب عليه فلم ينم ولم يصل ثم سكن فنام ثم أتاه ملك فشكا اليه فقال ما لقيت من ضربان العرق فقال الملك ان ربك يقول ان عبادتك خمسين سنة تعدل سكون العرق
وذكر ابن أبى الدنيا ان داود قال يارب أخبرنى ما أدنى نعمك على فأوحى الله اليه يا داود تنفس فتنفس قال هذا أدنى نعمى عليك
فصل: وبهذا يتبين معنى الحديث الذى رواه أبو داود من حديث زيد ابن ثابت وابن عباس "ان الله لو عذب اهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو عير ظالم لهم ولو رحمهم لكانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم" والحديث الذى في الصحيح "لن ينجى أحدا منكم عمله قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا الا أن يتغمدنى الله برحمة منه وفضل فإن اعمال العبد لا توافي نعمة من نعم الله عليه".
أما قول بعض الفقهاء ان من حلف أن يحمد الله بأفضل أنواع الحمد كان بر يمينه أن يقول الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده فهذا ليس بحديث عن رسول الله ولا عن أحد من الصحابة وانما هو اسرائيلى عن آدم وأصح منه الحمد لله غير مكفي ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا ولا يمكن حمد العبد وشكره أن يوافي نعمة من نعم الله فضلا عن موافاته جميع نعمه ولا يكون فعل العبد وحمده مكافئا للمزيد ولكن يحمل على وجه يصح وهو أن الذى يستحقه الله سبحانه من الحمد حمدا يكون موافيا لنعمه ومكافئا لمزيده وان لم يقدر العبد أن يأتى به كما اذا قال الحمد لله ملء السموات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شئ

ص -139- بعد وعدد الرمال والتراب والحصى والقطر وعدد أنفاس الخلائق وعدد ما خلق الله وما هو خالق فهذا اخبار عما يستحقه من الحمد لا عما يقع من العبد من الحمد
فصل وقال أبو المليح قال موسى يا رب ما أفضل الشكر قال أن تشكرنى على كل حال وقال بكر بن عبد الله قلت لأخ لى أوصنى فقال ما أدرى ما أقول غير أنه ينبغى لهذا العبد أن لا يفتر من الحمد والاستغفار فان ابن آدم بين نعمة وذنب ولا تصلح النعمة الا بالحمد والشكر ولا يصلح الذنب الا بالتوبة والاستغفار فأوسعنى علما ما شئت
وقال عبد العزيز بن ابى داود رأيت في يد محمد بن واسع قرحة فكأنه رأى ما شق على منها فقال لى أتدرى ماذا لله على في هذه القرحة من نعمة حين لم يجعلها في حدقتى ولا طرف لسانى ولا على طرف ذكرتى فهانت على قرحته
وروى الجريرى عن أبى الورد عن الحلاج عن معاذ بن جبل رضى الله عنه أن رسول الله أتى على رجل وهو يقول: "اللهم انى أسألك تمام النعمة فقال ابن آدم هل تدرى ما تمام النعمة قال يارسول الله دعوت دعوة أرجو بها الخير فقال ان تمام النعمة فوز من النار ودخول في الجنة".
وقال سهم بن سلمة حدثت أن الرجل اذا ذكر اسم الله على أول طعامه وحمده على آخره لم يسأل عن نعيم ذلك الطعام
فصل: ويدل على فضل الشكر على الصبر أن الله سبحانه يحب أن يسأل العافية وما يسأل شيئا أحب اليه من العافية كما في المسند عن ابى صالح عن أبى هريرة رضى الله عنه قال قام أبو بكر رضى الله عنه على المنبر ثم قال: "سلوا الله العافية فإنه لم يعط عبدا بعد اليقين خيرا من العافية".
وفي حديث آخر إن الناس لم يعطوا في هذه الدنيا شيئا أفضل من

ص -140- العفو والعافية فسلوهما الله عز وجل وقال لعمه العباس يا عم أكثر من الدعاء بالعافية وفي الترمذى قلت يا رسول الله علمنى شيئا أسأله الله قال سل الله العافية فمكثت أياما ثم جئت فقلت علمنى شيئا أسأله الله فقال لى يا عباس يا عم رسول الله سل الله العافية في الدنيا والآخرة وقال في دعائه يوم الطائف ان لم يكن بك على غضب فلا أبالى غير أن عافيتك أوسع لى فلاذ بعافيته كما استعاذ بها في قوله أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك
وفي حديث آخر "سلوا الله العفو والعافية والمعافاة" وهذا السؤال يتضمن العفو عما مضى والعافية في الحال والمعافاة في المستقبل بدوام العافية واستمرارها وكان عبد الأعلى التيمى يقول أكثروا من سؤال الله العافية فإن المبتلى وان اشتد بلاؤه ليس بأحق بالدعاء من المعافي الذى لا يأمن البلاء وما المبتلون اليوم إلا من أهل العافية بالأمس وما المبتلون بعد اليوم إلا من أهل العافية اليوم ولو كان البلاء يجر إلى خير ما كنا من رجال البلاء انه رب بلاء قد أجهد في الدنيا وأخزى في الاخرة فما يؤمن من أطال المقام على معصية الله أن يكون قد بقى له في بقية عمره من البلاء ما يجهده في الدنيا ويفضحه في الاخرة ثم يقول بعد ذلك الحمد لله الذى إن نعد نعمه لا نحصيها وإن ندأب له عملا لا نجزيها وإن نعمر فيها لا نيليها ومر رسول الله برجل يسأل الله الصبر فقال لقد سألت البلاء فاسأل العافية وفي صحيح مسلم أنه عاد رجلا قد هفت أى هزل فصار مثل الفرخ فقال هل كنت تدعو الله بشئ أو تسأله اياه قال نعم كنت أقول اللهم ما كنت معاقبنى به في الاخرة فعجله لى في الدنيا فقال رسول الله سبحانه لا تطيقه ولا تستطيعه أفلا قلت اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الاخرة حسنة وقنا عذاب النار فدعا الله له فشفاه وفي الترمذى من حديث أبى هريرة رضى الله عنه قال دعاء حفظته من رسول الله لا أدعه: "اللهم اجعلنى

أعظم شكرك وأكثر ذكرك وأتبع نصيحتك وأحفظ وصيتك".

ص -141- وقال شيبان كان الحسن اذا جلس مجلسا يقول لك الحمد بالاسلام ولك الحمد بالقرآن ولك الحمد بالأهل والمال بسطت رزقنا وأظهرت أمننا وأحسنت معافاتنا ومن كل ما سألناك أعطيتنا فلك الحمد كثيرا كما تنعم كثيرا أعطيت خيرا كثيرا وصرفت شرا كثيرا فلوجهك الجليل الباقى الدايم الحمد وكان بعض السلف يقول اللهم ما أصبح بنا من نعمة أو عافية أو كرامة في دين أو دنيا جرت علينا فيما مضى وهى جارية علينا فيما بقى فانها منك وحدك لا شريك لك فلك الحمد بذلك علينا ولك المن ولك الفضل ولك الحمد عدد ما أنعمت به علينا وعلى جميع خلقك لا اله الا أنت
وقال مجاهد اذا كان ابن عمر في سفر فطلع الفجر رفع صوته ونادى سمع سامع بحمد الله ونعمه وحسن بلائه علينا ثلاثا اللهم صاحبنا فأفضل علينا عائذ بالله من النار ولا حول ولا قوة الا بالله ثلاثا
وذكر الامام أحمد أن الله سبحانه أوحى إلى موسى بن عمران عليه السلام يا موسى كن يقظان مرتادا لنفسك أخدانا وكل خدن لا يواتيك على مسرتى فلا تصحبه فإنه عدو لك وهو يقسى قلبك وأكثر من ذكرى حتى تستوجب الشكر وتستكمل المزيد وقال الحسن خلق الله آدم حين خلقه فأخرج أهل الجنة من صفحته اليمنى وأخرج أهل النار من صفحته اليسرى فدبوا على وجه الارض منهم الاعمى والاصم والمبتلى فقال آدم يا رب ألا سويت بين ولدى قال يا آدم انى أريد أن أشكر
وفي السنن عنه من قال حين يصبح: "اللهم ما أصبح بى من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك فلك الحمد ولك الشكر الا أدى شكر ذلك اليوم ومن قال ذلك حين يمسى فقد أدى شكر ليلته" ويذكر عن النبي من ابتلى فصبر وأعطى فشكر وظلم فغفر وظلم فاستغفر أولئك لهم الامن وهم مهتدون ويذكر عنه أنه أوصى رجلا بثلاث فقال أكثر من ذكر الموت يشغلك عما سواه وعليك بالدعاء

ص -142- فإنك لا تدرى متى يستجاب لك وعليك بالشكر فإن الشكر زيادة
ويذكر عنه أنه كان إذا أكل قال: "الحمد لله الذى أطعمنى وسقانى وهدانى وكل بلاء حسن أبلانى الحمد لله الرازق ذى القوة المتين اللهم لا تنزع منا صالحا أعطيتنا ولا صالحا رزقتنا واجعلنا لك من الشاكرين"
ويذكر عنه أنه إذا أكل قال: "الحمد لله الذى أطعم وسقى وسوغه وجعل له مخرجا" وكان عروة بن الزبير إذا أتى بطعام لم يزل مخمرا حتى يقول هذه الكلمات: "الحمد لله الذى هدانا وأطعمنا وسقانا ونعمنا الله أكبر اللهم ألفتنا نعمتك ونحن بكل شر فأصبحنا وأمسينا بخير نسألك تمامها وشكرها لا خير إلا خيرك ولا إله غيرك اله الصالحين ورب العالمين الحمد لله لا اله الا الله ما شاء الله لا قوة الا بالله اللهم بارك لنا فيما رزقتنا وقنا عذاب النار".
وقال وهب بن منبه رءوس النعم ثلاثة فأولها نعمة الاسلام التى لا تتم نعمه الا بها والثانية نعمة العافية التى لا تطيب الحياة الا بها والثالثة نعمة الغنى التى لا يتم العيش الا به
وقدم سعيد الجريرى من الحج فجعل يقول: "أنعم الله علينا في سفرنا بكذا وكذا ثم قال تعداد النعم من الشكر" ومر وهب بمبتلى أعمى مجذوم مقعد عريان به وضح وهو يقول "الحمد لله على نعمه فقال رجل كان مع وهب أى شئ بقى عليك من النعمة تحمد الله عليها فقال له المبتلى ارم ببصرك إلى أهل المدينة فانظر إلى كثرة أهلها أفلا أحمد الله أنه ليس فيها أحد يعرفه غيرى".
ويذكر عن النبي أنه قال: "اذا أنعم الله على عبد نعمة فحمده عندها فقد أدى شكرها" وذكر على بن أبى طالب رضى الله عنه أن بختنصر أتى بدانيال فأمر به فحبس في جب وأضرى أسدين ثم خلى بينهما

ص -143- وبينه ثم فتح عليه بعد خمسة أيام فوجده قائما يصلى والأسدان في ناحية الجب لم يعرضا له فقال له ما قلت حين دفع عليك قال قلت الحمد لله الذى لا ينسى من ذكره والحمد الله الذى لا يخيب من رجاه والحمد لله الذى لا يكل من توكل عليه إلى غيره والحمد لله الذى هو ثقتنا حين تنقطع عنا الحيل والحمد لله الذى هو رجاؤنا حين يسوء ظننا بأعمالنا والحمد لله الذى يكشف عنا ضرنا بعد كربتنا والحمد لله الذى يجزى بالاحسان احسانا والحمد لله الذى يجزى بالصبر نجاة
ويذكر عنه انه كان اذا نظر في المرآة قال: "الحمد لله الذى أحسن خلقى وخلقى وزان منى ما شان من غيرى"
وقال ابن سيرين: "كان ابن عمر يكثر النظر في المرآة وتكون معه في الاسفار فقلت له ولم قال أنظر فما كان في وجهى زين فهو في وجه غيرى شين أحمد الله عليه" وسئل أبو بكر بن أبى مريم ما تمام النعمة قال أن تضع رجلا على الصراط ورجلا في الجنة وقال بكر بن عبد الله يا ابن آدم ان أردت أن تعرف قدر ما أنعم الله عليك فغمض عينيك
وقال مقاتل في قوله واسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة } قال أما الظاهرة فالاسلام وأما الباطنة فستره عليكم بالمعاصى
وقال ابن شوذب قال عبدالله يعنى ابن مسعود رضى الله عنه ان لله على أهل النار منة لو شاء أن يعذبهم بأشد من النار لعذبهم
وقال أبو سليمان الدارانى جلساء الرحمن يوم القيامة من جعل فيه خصالا الكرم والسخاء والحلم والرأفة والرحمة والشكر والبر والصبر وقال أبو هريرة رضى الله عنه من رأى صاحب بلاء فقال الحمد لله الذى عافانى مما ابتلاك به وفضلنى عليك وعلى جميع خلقه تفضيلا فقد أدى شكر تلك النعمة وقال عبد الله بن وهب سمعت عبد الرحمن بن زيد يقول الشكر يأخذ بجذم الحمد وأصله وفرعه قال ينظر في نعم الله في بدنه

ص -144- وسمعه وبصره ويديه ورجليه وغير ذلك ليس من هذا شئ الا فيه نعمه من الله حق على العبد أن يعمل في النعمة التى هى في بدنه لله في طاعته ونعمة أخرى في الرزق وحق عليه أن يعمل لله فيما أنعم عليه به من الرزق بطاعته فمن عمل بهذا كان قد أخذ يجذم الشكر وأصله وفرعه
وقال كعب: "ما أنعم الله على عبد من نعمة في الدنيا فشكرها لله وتواضع بها لله الا أعطاه الله نفعها في الدنيا ورفع له بها درجة في الاخرى وما أنعم الله على عبد نعمة في الدنيا فلم يشكرها لله ولم يتواضع بها الا منعه الله نفعها في الدنيا وفتح له طبقات من النار يعذبه ان شاء أو يتجاوز عنه".
وقال الحسن من لا يرى لله عليه نعمة الا في مطعم أو مشرب أو لباس فقد قصر علمه وحضر عذابه وقال الحسن يوما لبكر المزنى هات يا أبا عبد الله دعوات لإخوانك فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي ثم قال والله ما أدرى أى النعمتين أفضل على وعليكم أنعمة المسلك أم نعمة المخرج اذا أخرجه منا قال الحسن انها لمن نعمة الطعام
وقالت عائشة رضى الله عنها ما من عبد يشرب الماء القراح فيدخل بغير أذى ويخرج الاذى الا وجب عليه الشكر قال الحسن يالها من نعمة تدخل كل لذة وتخرج مسرخا لقد كان ملك من ملوك هذه القرية يرى الغلام من غلمانه يأتى الحب فيكتال منه ثم يجرجر قائما فيقول يا ليتنى مثلك ما يشرب حتى يقطع عنه العطش فإذا شرب كان له في تلك الشربة موتات يا لها من نعمة
وكتب بعض العلماء إلى أخ له أما بعد فقد أصبح بنا من نعم الله مالا نحصيه مع كثرة ما نعصيه فما يدرى أيهما نشكر أجميل ما يسر أم قبيح ما ستر وقيل للحسن ها هنا رجل لا يجالس الناس فجاء اليه فسأله عن ذلك فقال انى أمسى وأصبح بين ذنب ونعمة فرأيت أن أشغل نفسى عن الناس بالاستغفار من الذنب والشكر لله على النعمة فقال له الحسن أنت

ص -145- عندى يا عبد الله أفقه من الحسن فالزم ما أنت عليه وقال ابن المبارك سمعت عليا بن صالح يقول في قوله تعالى {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} قال أى من طاعتى والتحقيق أن الزيادة من النعم وطاعته من أجل نعمه وذكر أبن أبى الدنيا أن محارب بن دثار كان يقوم بالليل ويرفع صوته أحيانا أنا الصغير الذى ربيته فلك الحمد وأنا الضعيف الذى قويته فلك الحمد وأنا الفقير الذى أغنيته فلك الحمد وأنا الصعلوك الذى مولته فلك الحمد وأنا العزب الذى زوجته فلك الحمد وأنا الساغب الذى أشبعته فلك الحمد وأنا العارى الذى كسوته فلك الحمد وأنا المسافر الذى صاحبته فلك الحمد وأنا الغائب الذى رددته فلك الحمد وأنا الراجل الذى حملته فلك الحمد وأنا المريض الذى شفيته فلك الحمد وأنا السائل الذى أعطيته فلك الحمد وأنا الداعى الذى أجبته فلك الحمد ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا
وكان بعض الخطباء يقول في خطبته اختط لك الأنف فأقامه وأتمه فأحسن تمامه ثم أدار منك الحدقة فجعلها بجفون مطبقه وبأشفار معلقه ونقلك من طبقة إلى طبقه وحنن عليك قلب الوالدين برقة ومقة فنعمه عليك مورقة وأياديه بك محدقة
وكان بعض العلماء يقول في قوله تعالى {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} سبحان من لم يجعل لحد معرفة نعمه الا العلم بالتقصير عن معرفتها كما لم يجعل لحد ادراكه أكثر من العلم أنه لا يدرك فجعل معرفة نعمه بالتقصير عن معرفتها شكرا كما شكر علم العالمين انهم لا يدركونه فجعله ايمانا علما منه أن العباد لا يتجاوزون ذلك
وقال عبد الله بن المبارك أخبرنا مثنى بن الصباح عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال سمعت رسول الله يقول خصلتان من كانتا فيه كتبه الله صابرا شاكرا ومن لم يكونا فيه لم يكتبه الله صابرا شاكرا من نظر في دينه إلى من هو فوقه فاقتدى به ومن نظر في دنياه إلى من هو دونه

ص -146- فحمد الله على ما فضله به عليه كتبه الله صابرا شاكرا ومن نظر في دينه إلى من هو دونه ونظر في دنياه إلى من هو فوقه فأسف على ما فاته منه لم يكتبه الله صابرا شاكرا وبهذا الإسناد عن عبد الله ابن عمرو موقوفا عليه أربع خصال من كن فيه بنى الله له بيتا في الجنة من كان عصمة أمره لا اله الا الله واذا أصابته مصيبه قال انا لله وانا اليه راجعون واذا أعطى شيئا قال الحمد لله واذا أذنب قال استغفر الله
وقال ابن المبارك عن شبل عن أبى نجيح عن مجاهد في قوله تعالى {إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً} قال لم يأكل شيئا إلا حمد الله عليه ولم يشرب شرابا قط الا حمد الله عليه ولم يبطش بشيء قط الا حمد الله عليه فأثنى الله عليه انه كان عبدا شكورا وقال محمد بن كعب كان نوح إذا أكل قال الحمد لله وإذا شرب قال الحمد لله وإذا لبس قال الحمد لله وإذا ركب قال الحمد لله فسماه الله عبدا شكورا وقال ابن أبى الدنيا بلغنى عن بعض الحكماء قال لو لم يعذب الله على معصيته لكان ينبغى أن لا يعصى لشكر نعمته
فصل: "ولله تبارك وتعالى على عبده نوعان من الحقوق لا ينفك عنهما أحدهما أمره ونهيه اللذين هما محض حقه عليه والثانى شكر نعمه التى أنعم بها عليه فهو سبحانه يطالبه بشكر نعمه وبالقيام بأمره فمشهد الواجب عليه لا يزال يشهده تقصيره وتفريطه وأنه محتاج الى عفو الله ومغفرته فإن لم يداركه بذلك هلك وكلما كان أفقه في دين الله كان شهوده للواجب عليه أتم وشهوده لتقصيره أعظم وليس الدين بمجرد ترك المحرمات الظاهرة بل بالقيام مع ذلك بالأوامر المحبوبة لله واكثر الديانين لا يعبأون منها الا بما شاركهم فيه عموم الناس
وأما الجهاد والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والنصيحه لله ورسوله وعباده ونصرة الله ورسوله ودينه وكتابه فهذه الواجبات لا تخطر ببالهم فضلا عن أن يريدوا فعلها وفضلا عن أن يفعلوها وأقل الناس دينا

ص -147- وأمقتهم الى الله من ترك هذه الواجبات وان زهد فى الدنيا جميعها وقل أن ترى منهم من يحمر وجهه ويمعره لله ويغضب لحرماته ويبذل عرضه فى نصرة دينه وأصحاب الكبائر أحسن حالا عند الله من هؤلاء وقد ذكر أبو عمر وغيره أن الله تعالى أمر ملكا من الملائكة أن يخسف بقريه فقال يا رب ان فيهم فلانا العابد الزاهد قال به فابدأ وأسمعنى صوته انه لم يتمعر وجهه فى يوم قط
فصل: وأما شهود النعمه فإنه لا يدع له رؤية حسنة من حسناته أصلا ولو عمل أعمال الثقلين فإن نعم الله سبحانه أكثر من أعماله وأدنى نعمه من نعمه تستنفذ عمله فينبغى للعبد ألا يزال ينظر فى حق الله عليه
قال الامام أحمد حدثنا حجاج حدثنا جرير بن حازم عن وهب قال بلغنى أن نبى الله موسى عليه السلام مر برجل يدعو ويتضرع فقال يا رب ارحمه فإنى قد رحمته فأوحى الله اليه لو دعانى حتى تنقطع قواه ما استجبت له حتى ينظر فى حقى عليه
فمشاهدة العبد النعمه والواجب لا تدع له حسنة يراها ولا يزال مزريا على نفسه ذاما لها وما اقربه من الرحمه اذا أعطى هذين المشهدين حقهما والله المستعان

عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين

الباب الحادي والعشرون في الحكم بين الفريقين والفصل بين الطائفتين
الباب الحادى والعشرون: فى الحكم بين الفريقين والفصل بين الطائفتين
فنقول كل أمرين طلبت الموازنة بينهما ومعرفة الراجح منهما على المرجوح فإن ذلك لا يمكن إلا بعد معرفة كل منهما وقد ذكرنا حقيقة الصبر وأقسامه وأنواعه ونذكر حقيقة الشكر وماهيته
قال فى الصحاح الشكر الثناء على المحسن بما أولاكه من المعروف

ص -148- يقال شكرته وشكرت له واللام أفصح وقوله تعالى {لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً} يحتمل أن يكون مصدرا كالقعود وأن يكون جميعا كالبرود والكفور والشكران خلاف الكفران وتشكرت له مثل شكرت له والشكور من الدواب ما يكفيه العلف القليل واشتكرت السماء اشتد وقع مطرها واشتكر الضرع امتلأ لبنا تقول منه شكرت الناقة بالكسر تشكر شكرا فهى شكرة وشكرت الشجرة تشكر شكرا إذا خرج منها الشكير وهو ما ينبت حول الشجرة من أصلها
فتأمل هذا الاشتقاق وطابق بينه وبين الشكر المأمور به وبين الشكر الذى هو جزاء الرب الشكور كيف نجد فى الجميع معنى الزيادة والنماء ويقال أيضا دابة شكور اذا أظهرت من السمن فوق ما تعطى من العلف
وشكر العبد يدور على ثلاثة أركان لا يكون شكورا الا بمجموعها أحدها اعترافه بنعمة الله عليه والثانى الثناء عليه بها والثالث الاستعانة بها على مرضاته
وأما قول الناس فى الشكر فقالت طائفة هو الاعتراف بنعمه المنعم على وجه الخضوع وقيل الشكر هو الثناء على المحسن بذكر احسانه اليه فشكر العبد ثناؤه عليه بذكر احسانه اليه وقيل شكر النعمة مشاهدة المنة وحفظ الحرمة والقيام بالحدمة وقيل شكر النعمة أن ترى نفسك فيها طفيليا وقيل الشكر معرفه العجز عن الشكر ويقال الشكر على الشكر أتم من الشكر وذلك أن ترى شكرك بتوفيقه وذلك التوفيق من أجل النعم عليك تشكر على الشكر ثم تشكره على الشكر الا ترى نفسك للنعمه

أهلا وقيل الشكر استفراغ الطاقه فى الطاعه وقيل الشاكر الذى يشكر على الموجود والشكور الذى يشكر على المفقود وقيل الشاكر الذى يشكر على الرفد والشكور الذى يشكر على الرد وقيل الشاكر الذى

ص -149- يشكر على النفع والشكور الذى يشكر على المنع وقيل الشاكر الذى يشكر على العطاء والشكور الذى يشكر على البلاء
وقال الجنيد كنت بين يدى السرى ألعب وأنا ابن سبع سنين وبيننا جماعة يتكلمون فى الشكر فقال لى ياغلام ما الشكر فقلت ألا تعصى الله بنعمه فقال يوشك أن يكون حظك من الله لسانك فلا أزال أبكى على هذه الكلمة التى قالها السرى وقال الشبلى الشكر رؤية المنعم لا رؤية النعم وهذا ليس بجيد بل من تمام الشكر أن تشهد النعمة من المنعم وقيل الشكر قيد الموجود وصيد المفقود وقال أبو عثمان شكر العامة على المطعم والملبس وشكر الخواص على ما يرد على قلوبهم من المعانى
وحبس السلطان رجلا فأرسل اليه صاحبه أشكر الله فضرب فارسل اليه أشكر الله فجيء بمحبوس مجوسى مبطون فقيد وجعل حلقة من قيده فى رجله وحلقة فى الرجل المذكور فكان المجوسى يقوم بالليل مرات فيحتاج الرجل أن يقف على راسه حتى يفرغ فكتب اليه صاحبه أشكر الله فقال له الى متى تقول أشكر الله وأى بلاء فوق هذا فقال ولو وضع الزنار الذى فى وسطه فى وسطك كما وضع القيد الذى فى رجله فى رجلك ماذا كنت تصنع فاشكر الله ودخل رجل على سهل ابن عبدالله فقال اللص دخل داري وأخذ متاعى فقال أشكر الله فلو دخل اللص قلبك وهو الشيطان وافسد عليك التوحيد ماذا كنت تصنع؟.
وقيل الشكر التلذذ بثنائه على ما لم يستوجبه من عطائه وقيل اذا قصرت يدك عن المكافأة فليطل لسانك بالشكر وقيل اربعة لا ثمرة لهم مشاورة الاصم ووضع النعمة عند من لا يشكرها والبذر فى السباح والسراج فى الشمس
والشكر يتعلق بالقلب واللسان والجوارح فالقلب للمعرفة والمحبة

ص -150- واللسان للثناء والحمد والجوارح لاستعمالها فى طاعة المشكور وكفها عن معاصيه وقال الشاعر
أفادتكم النعماء منى ثلاثة يدى ولسانى والضمير المحجبا
والشكر أخص بالافعال والحمد أخص بالاقوال وسبب الحمد أعم من سبب الشكر ومتعلق الشكر وما به الشكر أعم مما به الحمد فما يحمد الرب تعالى عليه أعم مما يشكر عليه فانه يحمد على أسمائه وصفاته وأفعاله ونعمه ويشكر على نعمه وما يحمد به أخص مما يشكر به فانه يشكر بالقلب واللسان والجوارح ويحمد بالقلب واللسان
فصل: اذا عرف هذا فكل من الصبر والشكر داخل فى حقيقة الآخر لا يمكن وجوده الا به وانما يعبر عن أحدهما باسمه الخاص به باعتبار الاغلب عليه والاظهر منه والا فحقيقة الشكر انما يلتئم من الصبر والارادة والفعل فان الشكر هو العمل بطاعة الله وترك معصيته والصبر أصل ذلك فالصبر على الطاعة وعن المعصية هو عين الشكر واذا كان الصبر مأمورا به فأداؤه هو الشكر
فان قيل فهذا يفهم منه اتحاد الصبر والشكر وانهما اسمان لمسمى واحد وهذا محال عقلا ولغة وعرفا وقد فرق الله سبحانه بينهما
قيل بل هما معنيان متغايران وانما بينا تلازمهما وافتقار كل واحد منهما فى وجود ماهيته الى الآخر ومتى تجرد الشكر عن الصبر بطل كونه شكرا واذا تجرد الشكر عن الصبر بطل كونه صبرا أما الاول فظاهر وأما الثانى اذا تجرد عن الشكر كان كافورا ومنافاة الكفور للصبر أعظم من منافاة السخوط
فان قيل بل ها هنا قسم آخر وهو أن لا يكون كفورا ولا شكورا بل صابرا على مضض وكراهة شديدة فلم يأت بحقيقة الشكر ولم يخرج عن ماهية الصبر

ص -151- قيل: كلامنا فى الصبر المأمور به الذى هو طاعة لا فى الصبر الذى هو تجلد كصبر البهائم وصبر الطاعة لا يأتي به إلا شاكر ولكن اندرج شكره في صبره فكان الحكم للصبر كما اندرج صبر الشكور فى شكره فكان الحكم للشكر فمقامات الايمان لا تعدم بالتنقل فيها بل تندرج وينطوى الادنى فى الاعلى كما يندرج الايمان فى الاحسان وكما يندرج الصبر فى مقامات الرضا لا أن الصبر يزول ويندرج الرضا فى التفويض ويندرج الخوف والرجاء فى الحب لا أنهما يزولان فالمقدور الواحد يتعلق به الشكر والصبر سواء كان محبوبا أو مكروها فالفقر مثلا يتعلق به الصبر وهو أخص به لما فيه من الكراهة ويتعلق به الشكر لما فيه من النعمة فمن غلب شهود نعمته وتلذذ به واستراح واطمأن اليه عده نعمة يشكر عليها ومن غلب شهود ما فيه من الابتلاء والضيق والحاجة عده بلية يصبر عليها وعكسه الغنى
على أن الله سبحانه ابتلى العباد بالنعم كما ابتلاهم بالمصائب وعد ذلك كله ابتلاء فقال {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} وقال {فَأَمَّا الإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} وقال إنا جعلنا ما على الارض زينا لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا وقال {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} وقال وهو الذى خلق السموات والارض فى ستة ايام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا فاخبر سبحانه أنه خلق العالم العلوى والسفلى وقدر أجل الخلق وخلق ما على الارض للابتلاء والاختبار وهذا الابتلاء انما هو ابتلاء صبر العباد وشكرهم فى الخير والشر والسراء والضراء فالابتلاء من النعم من الغنى والعافية والجاه والقدرة وتأتى الاسباب أعظم الابتلائين والصبر على طاعة الله أشق الصبرين كما قال الصحابة

رضى الله عنهم ابتلينا بالضراء فصبرنا وابتلينا بالسراء فلم نصبر والنعمة بالفقر والمرض وقبض الدنيا وأسبابها وأذى الخلق قد يكون

ص -152- أعظم النعمتين وفرض الشكر عليها أوجب من الشكر على أضدادها فالرب تعالى يبتلى بنعمه وينعم بابتلائه غير أن الصبر والشكر حالتان لازمتان للعبد فى أمر الرب ونهيه وقضائه وقدره لا يستغنى عنهما طرفة عين والسؤال عن أيهما أفضل كالسؤال عن الحس والحركة أيهما أفضل وعن الطعام والشراب أيهما أفضل وعن خوف العبد ورجائه أيهما أفضل فالمأمور لا يؤدى الا بصبر وشكر والمحظور لا يترك الا بصبر وشكر وأما المقدور الذى يقدر على العبد من المصائب فمتى صبر عليه اندرج شكره فى صبره كما يندرج صبر الشاكر فى شكره
ومما يوضح هذا أن الله سبحانه امتحن العبد بنفسه وهواه وأوجب عليه جهادهما فى الله فهو فى كل وقت فى مجاهدة نفسه حتى تأتى بالشكر المأمور به ويصبر عن الهوى المنهى عن طاعته فلا ينفك العبد عنهما غنيا كان أو فقيرا معافى أو مبتلى وهذه هى مسألة الغنى الشاكر والفقير الصابر أيهما أفضل وللناس فيها ثلاثة أقوال وهى التى حكاها أبو الفرج ابن الجوزى وغيره فى عموم الصبر والشكر أيهما أفضل وقد احتجت كل فرقة بحجج وأدلة على قولها
والتحقيق أن يقال أفضلهما أتقاهما لله تعالى فان فرض استوائهما فى التقوى استويا فى الفضل فان الله سبحانه لم يفضل بالفقر والغنى كما لم يفضل بالعافيه والبلاء وانما فضل بالتقوى كما قال تعالى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} وقد قال لا فضل لعربى على عجمى ولا فضل لعجمى على عربى الا بالتقوى الناس من آدم وآدم من تراب والتقوى مبنيه على أصلين الصبر والشكر وكل من الغنى والفقير لا بد له منهما فمن كان صبره وشكره أتم كان أفضل
فان قيل فاذا كان صبر الفقير أتم وشكر الغنى أتم فأيهما أفضل؟.
قيل أتقاهما لله فى وظيفته ومقتضى حاله ولا يصح التفضيل بغير

ص -153- هذا البته فان الغنى قد يكون أتقى لله فى شكره من الفقير فى صبره وقد يكون الفقير أتقى لله فى صبره من الغنى فى شكره فلا يصح أن يقال هذا بغناه أفضل ولا هذا بفقره أفضل ولا يصح أن يقال هذا بالشكر أفضل من هذا بالصبر ولا بالعكس لأنهما مطيتان للايمان لا بد منهما بل الواجب أن يقال أقومهما بالواجب والمندوب هو الافضل فان التفضيل تابع لهذين الأمرين كما قال تعالى فى الاثر الالهى: "ما تقرب الى عبدى بمثل مداومة ما افترضت عليه ولا يزال عبدى يتقرب الى بالنوافل حتى أحبه" فأى الرجلين كان أقوم بالواجبات وأكثر نوافل كان أفضل
فان قيل: فقد ثبت عن النبى أنه قال" يدخل فقراء أمتى الجنة قبل أغنيائهم بنصف يوم وذلك خمسمائة عام" قيل هذا لا يدل على فضلهم على الاغنياء فى الدرجة وعلو المنزلة وان سبقوهم بالدخول فقد يتأخر الغنى والسلطان العادل فى الدخول لحسابه فاذا دخل كانت درجته أعلى ومنزلته أرفع كسبق الفقير القفل فى المضائق وغيرها ويتأخر صاحب الاحمال بعده فان قيل فقد قال النبى للفقراء لما شكوا اليه زيادة عمل الاغنياء عليهم بالعتق والصدقه: "ألا أدلكم على شئ اذا فعلتموه أدركتم به من سبقكم" فدلهم على التسبيح والتحميد والتكبير عقب كل صلاة فلما سمع الاغنياء ذلك عملوا به فذكروا ذلك للنبى فقال: "ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء" وهذا يدل على ترجيح حال الغنى الشاكر قيل هذا حجة للقول الذى نصرناه وهو أن أفضلهما أكثرهما نوافل فإن استويا استويا وها هنا قد ساوى الأغنياء الفقراء فى أعمالهم المفروضه والنافلة وزادوا عليهم بنوافل العتق والصدقه وفضلوهم بذلك فساووهم فى صبرهم على الجهاد والأذى فى الله والصبر على المقدور وزادوا عليهم بالشكر بنوافل المال فلو كان للفقراء بصبرهم نوافل تزيد على نوافل الأغنياء لفضلوهم بها
فإن قيل: إن النبى عرضت عليه مفاتيح كنوز الدنيا فردها

ص -154- وقال: "بل اشبع يوما وأجوع يوما" وقال هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضى الله عنهما قالت: "خرج رسول الله من الدنيا ولم يشبع من خبز البر ومات ودرعه مرهونه عند يهودى على طعام أخذه لأهله".
وقال الامام أحمد حدثنا وكيع حدثنا الاعمش عن عبادة بن القعقاع عن ابى زرعه عن أبى هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله: "اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا" وقال الامام أحمد حدثنا اسماعيل بن محمد حدثنا عباد بن عباد حدثنا مجالد بن سعيد عن الشعبى عن مسروق عن عائشة رضى الله عنها قالت دخلت على امرأة من الانصار فرأت فراش النبى عباءة مثنيه فرجعت الى منزلها فبعثت الى بفراش حشوه الصوف فدخل على رسول الله فقال: "ما هذا؟ فقلت فلانه الانصاريه دخلت على فرأت فراشك فبعثت إلى بهذا فقال رديه فلم أرده وأعجبنى أن يكون فى بيتى حتى قال لى ذلك ثلاث مرات فقال ياعائشة رديه فوالله لو شئت لأجرى الله معى جبال الذهب والفضه فرددته" ولم يكن الله سبحانه ليختار لرسوله الا الافضل هذا مع أنه لو أخذ الدنيا لأنفقها كلها فى مرضاة الله ولكان شكره بها فوق شكر جميع العالمين
قيل احتج بحال رسول الله كل واحدة من الطائفتين والتحقيق أن الله سبحانه وتعالى جمع له بين المقامين كليهما على أتم الوجوه وكان سيد الاغنياء الشاكرين وسيد الفقراء الصابرين فحصل له من الصبر على الفقراء ما لم يحصل لأحد سواه ومن الشكر على الغنى ما لم يحصل لغنى سواه ومن تأمل سيرته وجد الأمر كذلك فكان أصبر الخلق فى مواطن الصبر وأشكر الخلق فى مواطن الشكر وربه تعالى كمل له مراتب الكمال فجعله فى أعلى رتب الأغنياء الشاكرين وفى أعلى مراتب الفقراء الصابرين قال

ص -155- تعالى {وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} وأجمع المفسرون أن العائل هو الفقير يقال عال الرجل يعيل إذا افتقر وأعال يعيل إذا صار ذا عيال مثل لبن وأثمر وأثرى إذا صار ذا لبن وثمر وثروة وعال يعول إذا جار ومنه قوله تعالى ذلك أدنى أن لا تعولوا وقيل المعنى ألا تكثر عيالكم والقول هو الأول لوجوه
أحدها: أنه لا يعرف فى اللغة عال يعول إذا كثر عياله وانما المعروف فى ذلك عال يعيل وأما عال يعول فهو بمعنى الجور ليس إلا هذا الذى ذكره أهل اللغة قاطبة
الثانى: أنه سبحانه قابل ذلك بالعدل الذى نقلهم عند خوفهم من فقده الى الواحدة والتسرى بما شاءوا من ملك أيمانهم ولا يحسن هنا التعليل بعدم العيال
يوضحه الوجه الثالث أنه سبحانه نقلهم عند الخوف من عدم القسط فى نكاح اليتامى إلى من سواهن من النساء لئلا يقعوا فى ظلم أزواجهم اليتامى وجوز لهم نكاح الواحدة وما فوقها إلى الأربع ثم نقلهم عند خوف الجور وعدم العدل فى القسمة إلى الواحدة أو النوع الذى لا قسمة عليهم فى الاستمتاع بهنوهن الإماء فانتظمت الآية ببيان الجائز من نكاح اليتامى والبوالغ والأولى من ذينك القسمين عند خوف العدل فما لكثرة العيال مدخل ها هنا البتة
يوضحه الوجه الرابع: انه لو كان المحذور كثرة العيال لما نقلهم الى ما شاءوا من كثرة الاماء بلا عدد فإن العيال كما يكونون من الزوجات يكونون من الإماء ولا فرق فإنه لم ينقلهم الى اماء الاستخدام بل الى إماء الاستفراش
يوضحه الوجه الخامس: أن كثرة العيال ليس أمرا محذورا مكروها للرب تعالى كيف وخير هذه الأمة أكثرها نساء وقد قال النبى:

ص -156- "تزوجوا الودود الولود فإنى مكاثر بكم الامم" فأمر بنكاح الولود ليحصل منها ما يكاثر به الامم يوم القيامة
والمقصود أنه سبحانه جعل نبيه غنيا شاكرا بعد أن كان فقيرا صابرا فلا تحتج به طائفة لحالها إلا كان للطائفة الأخرى أن تحتج به ايضا لحالها فإن قيل فقد كان عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه من الشاكرين وقد قال الامام أحمد فى مسنده حدثنا عبد الصمد حدثنا عمارة عن ثابت عن أنس رضى الله عنه قال بينما عائشة فى بيتها سمعت صوتا فى المدينة فقالت ما هذا فقالوا عير لعبد الرحمن قدمت من الشام تحمل من كل شئ قال وقد كانت سبعمائة بعير فارتجت المدينة من الصوت فقالت عائشة سمعت رسول الله يقول: "رأيت عبد الرحمن بن عوف يدخل الجنة حبوا" فبلغ ذلك عبد الرحمن فقال إن استطعت لأدخلنها قائما فجعلها بأحمالها وأقتابها كلها فى سبيل الله
قيل قد قال الامام أحمد هذا الحديث كذب منكر قالوا او عمارة يروى أحاديث مناكير وقال أبو حاتم الرازى عمارة بن زاذان لا يحتج به
قال أبو الفرج وقد روى الجراح بن منهال باسناده عن عبد الرحمن بن عوف أن النبى قال له: "يا ابن عوف إنك من الأغنياء وإنك لا تدخل الجنة إلا زحفا فأقرض ربك يطلق قدميك" قال أبو عبد الرحمن النسائى هذا حديث موضوع والجراح متروك الحديث وقال يحيى ليس حديث الجراح بشئ وقال ابن المدينى لا يكتب حديثه وقال ابن حبان كان يكذب وقال الدارقطنى متروك
فإن قيل فما تصنعون بالحديث الذى رواه البيهقى من حديث أحمد بن على بن اسماعيل بن محمد حدثنا سليمان بن عبد الرحمن أخبرنى خالد بن يزيد بن أبى مالك عن أبيه عن عطاء بن أبى رباح عن

ص -157- إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه عن رسول الله أنه قال: "يا ابن عوف إنك من الاغنياء ولن تدخل الجنة إلا زحفا فأقرض الله يطلق قدميك" قال وما الذى أقرض يا رسول الله قال تتبرأ مما أمسيت فيه قال أمن كله أجمع يا رسول الله قال نعم فخرج وهو يهتم بذلك فأتاه جبريل فقال مر ابن عوف فليضف الضيف وليطعم المساكين وليبدأ بمن يعول وليعط السائل فاذا فعل ذلك كان تزكية ما هو فيه".
قيل هذا حديث باطل لا يصح عن رسول الله فان أحد رواته خالد بن يزيد بن أبى مالك قال الامام أحمد ليس بشيء وقال ابن معين واه وقال النسائى غير ثقة وقال الدارقطنى ضعيف وقال يحيى بن معين لم يرض أن يكذب على أبيه حتى كذب على الصحابة
فان قيل فما تصنعون بالحديث الذى قاله الامام أحمد حدثنا الهذيل بن ميمون عن مطرح بن يزيد عن عبيد الله بن زحر عن على بن يزيد عن القاسم عن أبى أمامة قال قال رسول الله: "دخلت الجنة فسمعت خشفة بين يدى قلت ما هذا قال بلال فمضيت فاذا أكثر أهل الجنة فقراء المهاجرين وذرارى المسلمين ولم ار فيها أحدا أقل من الاغنياء والنساء قيل لى أما الاغنياء فهم فى الباب يحاسبون ويمحصون وأما النساء فألهاهن الاحمران الذهب والحرير ثم خرجنا من أحد أبواب الجنة الثمانية فلما كنت عند الباب أتيت بكفة فوضعت فيها ووضعت أمتى فى كفة فرجحت بها ثم أتى بأبى بكر فوضع فى كفة وجئ بجميع أمتى فوضعوا فى كفة فرجح أبو بكر ثم اتى بعمر فوضع فى كفة ووضع أمتى فى كفة فرجح عمر وعرضت على أمتى رجلا رجلا فجعلوا يمرون واستبطأت عبد الرحمن ابن عوف ثم جاء بعد الاياس فقلت عبد الرحمن فقال بأبى وأمى يا رسول الله والذي بعثك بالحق ما خلصت إليك حتى ظننت إنى لا أصل إليك الا بعد المشيبات قلت وما ذاك قال من كثرة مالى أحاسب فأمحص".

ص -158- قيل هذا حديث لا يحتج باسناده وقد أدخله أبو الفرج هو والذى قبله فى كتاب الموضوعات وقال أما عبيد بن زحر فقال يحيى ليس بشئ وعلى بن يزيد متروك وقال ابن حبان عبيد الله يروى الموضوعات عن الاثبات واذا روى عن على بن يزيد أتى بالطامات واذا اجتمع فى اسناد خبر عبيد الله بن زحر وعلى بن يزيد والقاسم ابن عبد الرحمن لم يكن متن ذلك الخبر الا مما عملته أيديهم
قال أبو الفرج وبمثل هذا الحديث الباطل يتعلق جملة المتزهدين ويرون ان المال مانع من السبق الى الخير ويقولون اذا كان ابن عوف يدخل الجنة زحفا لأجل ماله كفى ذلك فى ذم المال والحديث لا يصح وحاشا عبد الرحمن المشهود له بالجنة أن يمنعه ماله من السبق لان جمع المال مباح وانما المذموم كسبه من غير وجهه ومنع الحق الواجب فيه وعبد الرحمن منزه عن الحالين وقد خلف طلحة ثلاثمائة حمل من الذهب وخلف الزبير وغيره ولو علموا أن ذلك مذموم لأخرجوا الكل وكم قاص يتسوف بمثل هذا الحديث يحث على الفقر ويذم الغنى فلله در العلماء الذين يعرفون الصحيح ويفهمون الأصول ا هـ
قلت وقد بالغ فى رد هذا الحديث وتجاوز الحد فى إدخاله فى الأحاديث الموضوعة المختلقة على رسول الله وكأنه استعظم احتباس عبد الرحمن بن عوف وهو أحد السابقين الأولين المشهود لهم عن السبق اليها ودخول الجنة حبوا ورأى ذلك مناقضا لسبقه ومنزلته التى أعدها الله له فى الجنة وهذا وهم منه رحمه الله
وهب أنه وجد السبيل الى الطعن فى هذين الخبرين أفيجد سبيلا الى القدح فى حديث أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله قال: "يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل أغنيائهم بنصف يوم وهو خمسمائة عام" قال الترمذى حديث حسن صحيح وفى حديث ابن عمر الذى رواه مسلم فى

ص -159- صحيحه عن النبى: "إن فقراء المهاجرين يسبقون الاغنياء يوم القيامة بأربعين خريفا"
وفى مسند الامام أحمد عنه عن النبى: "هل تدرون أول من يدخل الجنة قالوا الله ورسوله أعلم قال فقراء المهاجرين الذين يتقى بهم المكاره يموت أحدهم وحاجته فى صدره لا يستطيع لها قضاء".
وفى جامع الترمذى من حديث جابر رضى الله عنه عن النبى أنه قال: "يدخل فقراء أمتى الجنة قبل الاغنياء بأربعين خريفا" فهذا الحديث وأمثاله صحيح صريح فى سبق فقراء الصحابة الى الجنة لأغنيائهم وهم فى السبق متفاوتون فمنهم من يسبق خمسمائة عام ومنهم من يسبق بأربعين عاما ولا يقدح ذلك فى منزلة المتأخرين فى الدخول فإنهم قد يكونون أرفع منزلة ممن سبقهم الى الدخول وان تأخروا بعدهم للحساب فان الامام العادل يوقف للحساب ويسبقه من لم يل شيئا من أمور المسلمين الى الجنة فاذا دخل الامام العادل بعده كانت منزلته أعلى من منزلة الفقير بل يكون أقرب الناس من الله منزلة كما فى صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر رضى الله عنه عن النبى قال: "المقسطون عند الله يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون فى حكمهم وأهليهم وما ولوا" وفى الترمذى من حديث أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه عن النبى: "أن أحب الناس الى الله يوم القيامة واقربهم منه مجلسا امام عادل وأبغض الناس الى الله يوم القيامة وأشدهم عذابا امام جائر"
فالامام العادل والغنى قد يتأخر دخول كل منهم للحساب ويكون بعد الدخول ارفع منزلة من الفقير السابق ولا يلزم من احتباس عبد الرحمن بن عوف لكثرة ماله حتى يحاسبه عليه ثم يلحق برسول الله وأصحابه غضاضة عليه ولا نقص من مرتبته ولا يضاد ذلك سبقه وكونه مشهودا له بالجنة وأما حديث دخوله الجنة زحفا فالامر كما قال فيه الامام أحمد رحمه الله انه كذب منكر وكما قال النسائى انه موضوع ومقامات عبد

ص -160- الرحمن وجهاده ونفقاته العظيمة وصدقاته تقتضى دخوله مع المارين كالبرق أو كالطرف أو كأجاويد الخيل ولا يدعه يدخلها زحفا
فصل: والله سبحانه كما هو خالق الخلق فهو خالق ما به غناهم وفقرهم فخلق الغنى والفقر ليبتلى بهما عباده أيهم أحسن عملا وجعلهما سببا للطاعة والمعصية والثواب والعقاب قال تعالى {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}
قال ابن عباس رضى الله عنهما بالشدة والرخاء والصحة والسقم والغنى والفقر والحلال والحرام وكلها بلاء
وقال ابن يزيد نبلوكم بما تحبون وما تكرهون لننظر كيف صبركم وشكركم فبما تحبون وما تكرهون وقال الكلبى بالشر بالفقر والبلاء والخير بالمال والولد فأخبر سبحانه أن الغنى والفقر مطيتا الابتلاء والامتحان وقال تعالى {فَأَمَّا الإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ كَلاَّ} فأخبر سبحانه أنه يبتلى عبده بإكرامه له وبتنعيمه له وبسط الرزق عليه كما يبتليه بتضييق الرزق وتقديره عليه وان كليهما ابتلاء منه وامتحان ثم أنكر سبحانه على من زعم أن بسط الرزق وتوسعته اكرام من الله لعبده وان تضييقه عليه اهانة منه له فقال كلا أى ليس الامر كما يقول الانسان بل قد أبتلى بنعمتى وأنعم ببلائى
واذا تأملت ألفاظ الآية وجدت هذا المعنى يلوح على صفحاتها ظاهرا للمتأمل وقال تعالى وهو الذى جعلكم خلائف الارض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم وقال تعالى {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} فأخبر سبحانه أنه زين الارض بما عليها من المال وغيره للابتلاء والامتحان كما أخبر أنه خلق الموت والحياة لذلك وخلق السموات والارض لهذا الابتلاء أيضا

ص -161- فهذه ثلاثة مواضع فى القرآن يخبر فيها سبحانه أنه خلق العالم العلوى والسفلى وما بينهما وأجل العالم وأجل أهله وأسباب معائشهم التى جعلها زينة للأرض من الذهب والفضة والمساكن والملابس والمراكب والزروع والثمار والحيوان والنساء والبنين وغير ذلك كل ذلك خلقه للابتلاء والامتحان ليختبر خلقه أيهم أطوع له وارضى فهو الاحسن عملا
وهذا هو الحق الذى خلق به وله السموات والارض وما بينهما وغايته الثواب والعقاب وفواته وتعطيله هو العبث الذى نزه نفسه عنه وأخبر أنه يتعالى عنه وأن ملكه الحق وتفرده بالالهية وحده وبربوبية كل شئ ينفى هذا الظن الباطل والحساب الكاذب كما قال تعالى {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} فنزه سبحانه نفسه عن ذلك كما نزهها عن الشريك والولد والصاحبة وسائر العيوب والنقائص من السنة والنوم واللغوب والحاجة واكتراثه بحفظ السموات والارض وتقدم الشفعاء بين يديه بدون اذنه كما يظنه أعداؤه المشركون يخرجون عن علمه جزئيات العالم أو شيئا منها فكما أن كماله المقدس وكمال أسمائه وصفاته يأبى ذلك ويمنع منه فكذلك يبطل خلقه لعباده عبثا وتركهم سدى لا يأمرهم ولا ينهاهم ولا يردهم اليه فيثيب محسنهم بإحسانه ومسيئهم باساءته ويعرف المبطلون منهم انهم كانوا كاذبين ويشهدهم أن رسله وأتباعهم كانوا اولى بالصدق والحق منهم فمن أنكر ذلك فقد انكر إلهيته وربوبيته وملكه الحق وذلك عين الجحود والكفر به سبحانه كما قال المؤمن لصاحبه الذى حاوره فى المعاد وأنكره {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً} فأخبر أن انكاره للمعاد كفر بذات الرب سبحانه وقال تعالى وان تعجب فعجب قولهم أإذا كنا ترابا إنا لفى خلق جديد أولئك الذين كفروا بربهم

وذلك أن انكار المعادى يتضمن انكار قدرة الرب وعلمه وحكمته وملكه الحق وربوبيته والهيته كما أن تكذيب رسله وجحد رسالتهم يتضمن ذلك ايضا فمن كذب رسله وجحد

ص -162- المعاد فقد أنكر ربوبيته سبحانه ونفى أن يكون رب العالمين
والمقصود أنه سبحانه وتعالى خلق الغنى والفقر مطيتين للابتلاء والامتحان ولم ينزل المال لمجرد الاستمتاع به كما فى المسند عنه قال: يقول الله تعالى: "انا نزلنا المال لاقام الصلاة وايتاء الزكاة ولو كان لابن آدم واد من مال لابتغى اليه ثانيا ولو كان له ثان لابتغى له ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم الا التراب" فأخبر سبحانه انه أنزل المال ليستعان به على إقامة حقه بالصلاة واقامة حق عباده بالزكاة لا للاستمتاع والتلذذ كما تأكل الانعام فاذا زاد المال عن ذلك أو خرج عن هذين المقصودين فان الغرض والحكمة التى أنزل لها كان التراب أولى به فرجع هو والجوف الذى امتلأ به بما خلق له من الايمان والعلم والحكمة فانه خلق لان يكون وعاء لمعرفة ربه وخالقه والايمال به ومحبته وذكره وانزل عليه من المال ما يستعين به على ذلك فعطل الجاهل بالله وبأمر الله وبتوحيد الله وبأسمائه وصفاته جوفه عما خلق له وملأه بمحبة المال الفانى الذاهب الذى هو ذاهب عن صاحبه أو بالعكس وجمعه والاستكثار منه ومع ذلك فلم يمتلىء بل ازداد فقرا وحرصا الى أن امتلأ جوفه بالتراب الذى خلق منه فرجع الى مادته الترابية التى خلق منها هو وماله ولم تتكمل مادته بامتلاء جوفه من العلم والايمان الذى بهما كماله وفلاحه وسعادته فى معاشه ومعاده فالمال ان لم ينفع صاحبه ضره ولا بد وكذلك العلم والملك والقدرة كل ذلك ان لم ينفعه ضره فان هذه الامور وسائل لمقاصد يتوسل بها اليها فى الخير والشر فان عطلت عن التوسل بها الى المقاصد والغايات المحمودة توسل بها الى أضدادها
فأربح الناس من جعلها وسائل الى الله والدار الآخرة وذلك الذى ينفعه فى معاشه ومعاده وأخسر

الناس من توسل بها الى هواه ونيل شهواته وأغراضه العاجلة فخسر الدنيا والآخرة فهذا لم يجعل الوسائل مقاصد ولو جعلها كذلك لكان خاسرا لكنه جعلها وسائل الى ضد ما جعلت له فهو

ص -163- بمثابة من توسل بأسباب اللذة الى أعظم الآلام أدوائها
فالأقسام أربعة لا خامس لها أحدها معطل الاسباب معرض عنها الثانى مكب عليها واقف مع جمعها وتحصيلها الثالث متوصل بها الى ما يضره ولا ينفعه فى معاشه ومعاده فهؤلاء الثلاثة فى الخسران الرابع متوصل بها الى ما ينفعه فى معاشه ومعاده وهو الرابح قال تعالى {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
وقد أشكل فهم هذه الآية على كثير من الناس حيث فهموا منها أن من كان له ارادة فى الدنيا وزينتها فله هذا الوعيد ثم اختلفوا فى معناها فقالت طائفة منهم ابن عباس من كان يريد تعجيل الدنيا فلا يؤمن بالبعث ولا بالثواب ولا بالعقاب قالوا والآية فى الكفار خاصة على قول ابن عباس
وقال قتادة من كانت الدنيا همه وسدمه ونيته وطلبه جازاه الله فى الدنيا بحسناته ثم يفضى الى الآخرة وليس له حسنة يجازى بها وأما المؤمن فيجزى فى الدنيا بحسناته ويثاب عليها فى الآخرة قال هؤلاء فالآية فى الكفار بدليل قوله {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} قالوا المؤمن من يريد الدنيا والآخرة فأما من كانت ارادته مقصورة على الدنيا فليس بمؤمن
وقال ابن عباس رضى الله عنهما فى رواية أبى صالح عنه نزلت فى أهل القبلة قال مجاهد هم اهل الرياء وقال الضحاك من عمل صالحا من أهل الايمان من غير تقوى عجل له ثواب عمله فى الدنيا

واختار الفراء هذا القول وقال من أراد بعمله من أهل القبلة ثواب الدنيا عجل له ثوابه ولم يبخس وهذا القول ارجح ومعنى الآية على هذا من كان يريد بعمله

ص -164- الحياة الدنيا وزينتها وهذا لا يكون مؤمنا البتة فإن العاصى والفاسق ولو بالغا فى المعصية والفسق فإيما يحملهما على أن يعملا أعمال البر لله فيريدان بأعمال البر وجه الله وان عملا بمعصيته
فأما من لم يرد بعمله وجه الله وانما اراد به الدنيا وزينتها فهذا لا يدخل فى دائرة أهل الايمان وهذا هو الذى فهمه معاوية من الآية واستشهد بها على حديث أبى هريرة الذى رواه مسلم فى صحيحه فى الثلاثة الذين هم اول من تسعر بهم النار يوم القيامة القارئ الذى قرأ القرآن ليقال فلان قارئ والمتصدق الذى أنفق أمواله ليقال فلان جواد والغازى الذى قتل فى الجهاد ليقال هو جرئ
وكما أن خيار خلق الله هم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون فشرار الخلق من تشبه بهم وليس منهم فمن تشبه بأهل الصدق والاخلاص وهو مراء كمن تشبه بالانبياء وهو كاذب
وقال ابن أبى الدنيا حدثنى محمد بن ادريس قال أخبرنى عبد الحميد بن صالح حدثنا قطن بن الحباب عن عبد الوارث عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال قال رسول الله: "اذا كان يوم القيامة صارت أمتى ثلاث فرق فرقة يعبدون الله عز وجل للدنيا وفرقة يعبدون رياء وسمعة وفرقة يعبدونه لوجهه ولداره فيقول للذين كانوا يعبدونه للدنيا بعزتى وجلالى ومكانى ما أردتم بعبادتى فيقولون بعزتك وجلالك ومكانك الدنيا فيقول انى لم أقبل من ذلك شيئا اذهبوا بهم الى النار ويقول للذين كانوا يعبدون رياء وسمعة بعزتى وجلالى ومكانى ما أردتم بعبادتى فيقولون بعزتك وجلالك ومكانك رياء وسمعة فيقول انى لم أقبل من ذلك شيئا اذهبوا بهم الى النار ويقول للذين كانوا يعبدونه لوجهه وداره بعزتى وجلالى ومكانى ما أردتم بعبادتى فيقولون بعزتك وجلالك وجهك ودارك فيقول صدقتم اذهبوا بهم الى الجنة" هذا

حديث غنى عن الاسناد والقرآن والسنة شاهدان بصدقه ويدل على

ص -165- صحة هذا القول فى الآية قوله تعالى {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} وذلك على أنها فى قوم لهم أعمال لم يريدوا بها وجه الله وانما أرادوا بها الدنيا ولها عملوا فوفاهم الله ثواب أعمالهم فيها من غير بخس وأفضوا الى الآخرة بغير عمل يستحقون عليه الثواب وهذا لا يقع ممن يؤمن بالآخرة الا كما يقع منه كبائر الاعمال وقوعا عارضا يتوب منه ويراجع التوحيد
وقال ابن الانبارى فعلى هذا القول المعنى فى قوم من أهل الاسلام يعملون العمل الحسن لتستقيم به دنياهم غير متفكرين فى الآخرة وما ينقلبون اليه فهؤلاء يجعل لهم جزاء حسناتهم فى الدنيا فإذا جاءت الاخرة كان جزاؤهم عليها النار اذا لم يريدوا بها وجه الله ولم يقصدوا التماس ثوابه وأجره
ثم أورد صاحب هذا القول على أنفسهم سؤالا قالوا فإن قيل الاية الثانية على هذا القول توجب تخليد المؤمن المريد بعمله الدنيا فى النار وأجابوا عنه بأن ظاهر الاية يدل على أن من راءى بعمله ولم يلتمس به ثواب الاخرة بل كانت نيته الدنيا فان الله يبطل ايمانه عند الموافاة فلا يوافى ربه بالايمان قالوا ويدل عليه قوله {وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وهذا يتناول أصل الايمان وفروعه
وأجابت فرقة أخرى بأن الاية لا تقتضى الخلود الابدى فى النار وانما تقتضى أن الذى يستحقونه فى الاخرة النار وأنهم ليس لهم عمل صالح يرجون به النجاة فإذا كان مع أحدهم عمود التوحيد فإنه يخرج به من النار مع من يخرج من أصحاب الكبائر الموحدين وهذا هو جواب ابن الانبارى وغيره
والآية بحمد الله لا اشكال فيها والله سبحانه ذكر جزاء من يريد بعمله الحياة الدنيا وزينتها وهو النار وأخبر بحبوط عمله وبطلانه فاذا أحبط ما ينجو به وبطل لم يبق معه ما ينجيه فان كان معه ايمان لم يرد به الدنيا وزينتها بل أراد الله به والدار

الاخرة لم يدخل هذا الايمان فى العمل الذى حبط وبطل وأنجاه ايمانه من الخلود فى النار وان دخلها بحبوط

ص -166- عمله الذى به النجاة المطلقة والايمان ايمانان ايمان يمنع من دخول النار وهو الايمان الباعث على أن تكون الاعمال لله يبتغى بها وجهه وثوابه وايمان يمنع الخلود فى النار وان كان مع المرائى شئ منه والا كان من أهل الخلود فالاية لها حكم نظائرها من آيات الوعيد والله الموفق وذلك قوله {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} ومنه قوله {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً}
فهذه ثلاث مواضع من القرآن يشبه بعضها بعضا ويصدق بعضها بعضا وتجتمع على معنى واحد وهو أن من كانت الدنيا مراده ولها يعمل فى غاية سعيه لم يكن له فى الاخرة نصيب ومن كانت الاخرة مراده ولها عمل وهى غاية سعيه فهى له
بقى أن يقال: فما حكم من يريد الدنيا والاخرة فانه داخل تحت حكم الارادتين فبأيهما يلحق قيل من ها هنا نشأ الاشكال وظن من ظن من المفسرين أن الاية فى حق الكافر فانه هو الذى يريد الدنيا دون الاخرة وهذا غير لازم طردا ولا عكسا فان بعض الكفار قد يريد الاخرة وبعض المسلمين قد لا يكون مراده الا الدنيا والله تعالى قد علق السعادة بإرادة الاخرة والشقاوة بإرادة الدنيا فاذا تجردت الارادتان تجرد موجبهما ومقتضاهما وان اجتمعتا فحكم اجتماعهما حكم اجتماع البر والفجور والطاعة والمعصية والايمان والشرك فى العبد وقد قال تعالى لخير الخلق بعد الرسل {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَة} وهذا خطاب للذين شهدوا معه الوقعة ولم يكن فيهم منافق ولهذا قال عبد الله بن مسعود رضى الله عنه

ما شعرت أن أحد أصحاب رسول الله يريد الدنيا حتى كان يوم أحد ونزلت هذه الاية

ص -167- والذين أريدوا فى هذه الاية هم الذين أخلوا مركزهم الذى أمرهم رسول الله بحفظه وهم من خيار المسلمين ولكن هذه ارادة عارضة حملتهم على ترك المركز والاقبال على كسب الغنائم بخلاف من كان مراده بعمله الدنيا وعاجلها فهذه الارادة لون وارادة هؤلاء لون
وها هنا أمر يجب التنبيه له وهو أنه لا يمكن ارادة الدنيا وعاجلها بأعمال البر دون الاخرة مع الايمان بالله ورسوله ولقائه أبدا فان الايمان بالله والدار الاخرة يستلزم ارادة العبد لرحمة الله والدار الاخرة بأعماله فحيث كان مراده بها الدنيا فهذا لا يجامع الايمان أبدا وان جامع الاقرار والعلم فالايمان وراء ذلك والاقرار والمعرفة حاصلان لمن شهد الله سبحانه له بالكفر مع هذه المعرفة كفرعون وثمود واليهود الذين شاهدوا رسول الله وعرفوه كما عرفوا أبناءهم وهم من أكفر الخلق بإرادة الدنيا وعاجلها بالاعمال قد تجامع هذه المعرفة والعلم ولكن الايمان الذى هو وراء ذلك لا بد أن يريد صاحبه بأعماله الله والدار الآخرة والله المستعان
فصل: والمقصود أنه سبحانه جعل الغنى والفقر ابتلاءا وامتحانا للشكر والصبر والصدق والكذب والاخلاص والشرك قال تعالى {لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} وقال تعالى {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} وقال تعالى {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} فجعل الدنيا عرضا عاجلا ومتاع غرور وجعل الآخرة دار جزاء وثواب وحف الدنيا بالشهوات وزينها بها كما قال تعالى {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ

مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} فأخبر سبحانه أن هذا الذى زين به الدنيا

ص -168- من ملاذها وشهواتها وما هو غاية أمانى طلابها ومؤثريها على الآخرة وهو سبعة أشياء النساء اللاتى هن أعظم زينتها وشهواتها وأعظمها فتنة والبنين الذين بهم كمال الرجل وفخره وكرمه وعزه والذهب والفضة اللذين هما مادة الشهوات على اختلاف أجناسها وأنواعها والخيل المسومة التى هى عز أصحابها وفخرهم وحصونهم وآلة قهرهم لأعدائهم فى طلبهم وهربهم والأنعام التى منها ركوبهم وطعامهم ولباسهم وأثاثهم وأمتعتهم وغير ذلك من مصالحهم والحرث الذى هو مادة قوتهم وقوت أنعامهم ودوابهم وفاكهتهم وأدويتهم وغير ذلك
ثم أخبر سبحانه أن ذلك كله متاع الحياة الدنيا ثم شوق عباده الى متاع الآخرة وأعلمهم أنه خير من هذا المتاع وأبقى فقال {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}
ثم ذكر سبحانه من يستحق هذا المتاع ومن هم أهله الذين هم أولى به فقال { الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ } فأخبر سبحانه أن ما أعد لأوليائه المتقين من متاع الآخرة خير من متاع الدنيا وهو نوعان ثواب يتمتعون به وأكبر منه وهو رضوانه عليهم قال تعالى {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ

الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً} فأخبر سبحانه عن حقيقة الدنيا بما جعله مشاهدا لأولى البصائر وانها لعب ولهب تلهو بها النفوس وتلعب بها الابدان واللعب واللهو لا حقيقة لهما وأنهما مشغلة للنفس مضيعة للوقت يقطع بها الجاهلون فيذهب ضائعا فى غير شئ ثم أخبر أنها زينة زينت للعيون وللنفوس فأخذت بالعيون

ص -169- والنفوس استحسانا ومحبة ولو باشرت القلوب معرفة حقيقتها ومآلها ومصيرها لأبغضتها ولآثرت عليها الاخرة ولما آثرتها على الآجل الدائم الذى هو خير وأبقى
قال الامام حدثنا وكيع حدثنا المسعودى عن عمرو بن مرة عن ابراهيم عن علقمة عن عبدالله رضى الله عنه عن النبى قال: "مالى وللدنيا انما مثلى ومثل الدنيا كمثل راكب قال فى ظل شجرة فى يوم صائف ثم راح وتركها".
وفى جامع الترمذى من حديث سهل بن سعد قال قال رسول الله لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء قال الترمذى + حديث صحيح + وفى صحيح مسلم من حديث المستورد بن شداد قال رسول الله: "ما الدنيا فى الآخرة الا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه فى اليم فلينظر بم يرجع وأشار بالسبابة".
وفى الترمذى من حديثه قال: "كنت مع الركب الذين وقفوا مع رسول الله على السخلة الميتة فقال رسول الله أترون هذه هانت على أهلها حتى ألقوها قالوا ومن هوانها ألقوها يا رسول الله قال فالدنيا أهون على الله من هذه على أهلها" وفى الترمذى أيضا من حديث أبى هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله: "الدنيا ملعونة ملعون ما فيها الا ذكر الله وما والاه وعالما أو متعلما" والحديثان حسنان قال الامام أحمد حدثنا هيثم بن خارجة أنبأنا اسماعيل بن عياش بن عبد الله بن دينار النهرانى قال قال عيسى عليه السلام للحواريين بحق أقول لكم إن حلاوة الدنيا مرارة الاخرة وإن مرارة الدنيا حلاوة الآخرة وأن عباد الله ليسوا بالمتنعمين بحق أقول لكم إن

شركم عملا عالم يحب الدنيا ويؤثرها على الآخرة انه لو يستطيع جعل الناس كلهم فى عمله مثله.

ص -170- وقال أحمد حدثنا يحيى بن إسحق قال أخبرنى سعيد بن عبد العزيز عن مكحول قال قال عيسى بن مريم عليه السلام يا معشر الحواريين أيكم يستطيع أن يبنى على موج البحر دارا قالوا يا روح الله ومن يقدر على ذلك قال إياكم والدنيا فلا تتخذوها قرارا وفى كتاب الزهد لأحمد أن عيسى بن مريم عليه السلام كان يقول بحق أقول لكم ان أكل الخبز وشرب الماء العذب ونوما على المزابل مع الكلاب كثير لمن يريد أن يرث الفردوس
وفى المسند عنه: "إن الله ضرب طعام ابن آدم مثلا للدنيا وان قزحه وملحه فلينظر الى ماذا يصير".
فصل: ثم أخبر سبحانه وتعالى عنها انها يفاخر بعضنا بعضا بها فيطلبها ليفخر بها على صاحبه وهذا حال كل من طلب شيئا للمفاخرة من مال أو جاه أو قوة أو علم أو زهد والمفاخرة نوعان مذمومة ومحمودة فالمذمومة مفاخرة أهل الدنيا بها والمحمودة أن يطلب المفاخرة فى الاخرة فهذه من جنس المنافسة المأمور بها وهى أن الرجل ينفس على غيره بالشيء ويغار أن يناله دونه ويأنف من ذلك ويحمى أنفه له يقال نفست عليه الشيء أنفسه نفاسة اذا ضننت به ولم تحب أن يصير اليه دونك والتنافس تفاعل من ذلك كأن كل واحد من المتنافسين يريد أن يسبق صاحبه اليه وحقيقة المنافسة الرغبة التامة والمبادرة والمسابقة الى الشئ النفيس
فصل: ثم أخبر تعالى عنها أنها تكاثر فى الاموال والاولاد فيحب كل واحد أن يكاثر بنى جنسه فى ذلك ويفرح بأن يرى نفسه أكثر من غيره

ص -171- مالا وولدا وأن يقال فيه ذلك وهذا من أعظم ما يلهى النفوس عن الله والدار الاخرة كما قال تعالى { أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ } والتكاثر فى كل شئ فكل من شغله وألهاه التكاثر بأمر من الامور عن الله والدار الاخرة فهو داخل فى حكم هذه الاية فمن الناس من يلهيه التكاثر بالمال ومنهم من يلهيه التكاثر بالجاه أو بالعلم فيجمعه تكاثرا وتفاخرا وهذا أسوأ حالا عند الله ممن يكاثر بالمال والجاه فإنه جعل أسباب الاخرة للدنيا وصاحب المال والجاه استعمل أسباب الدنيا لها وكاثر بأسبابها
فصل: ثم أخبر سبحانه عن مصير الدنيا وحقيقتها وأنها بمنزلة غيث أعجب الكفار نباته والصحيح ان شاء الله أن الكفار هم الكفار بالله وذلك عرف القرآن حيث ذكروا بهذا النعت فى كل موضع ولو أراد الزراع لذكرهم باسمهم الذى يعرفون به كما ذكرهم به فى قوله يعجب الزراع وانما خص الكفار به لأنهم أشد اعجابا بالدنيا فإنها دارهم التى لها يعملون ويكدحون فهم أشد اعجابا بزينتها وما فيها من المؤمنين
ثم ذكر سبحانه عاقبة هذا النبات وهو اصفراره ويبسه وهذا آخر الدنيا ومصيرها ولو ملكها العبد من أولها الى آخرها فنهايتها ذلك فإذا كانت الاخرة انقلبت الدنيا واستحالت الى عذاب شديد أو مغفرة من الله وحسن ثوابه وجزائه كما قال على بن أبى طالب الدنيا دار صدق لمن صدقها ودار عافية لمن فهم عفها ومطلب نجح لمن سالم فيها مساجد انبياء الله ومهبط وحيه ومصلى ملائكته ومتجر أوليائه فيها اكتسبوا الرحمة وربحوا فيها العافية فمن ذا يذمها وقد آذنت بنيها ونعت نفسها وأهلها فتمثلت ببلائها وشوقت بسرورها الى السرور تخويفا وتحذيرا وترغيبا فذمها قوم غداة الندامة وحمدها آخرون ذكرتهم فذكروا ووعظتهم فاتعظوا فيا أيها الذام للدنيا المغتر بتغريرها متى استذمت اليك بل متى غرتك أبمنازل آبائك فى

الثرى أم بمضاجع أمهاتك فى البلاء كم رأيت

ص -172- موروثا كم عللت بكفيك عليلا كم مرضت مريضا بيديك تبتغى له الشفاء وتستوصف له الأطباء ثم لم تنفعه شفاعتك ولم تسعفه طلبتك مثلت لك الدنيا غداة مصرعه مصرعك ومضجعه مضجعك ثم التفت الى المقابر فقال يا أهل الغربة ويا أهل التربة أما الدور فسكنت وأما الاموال فقسمت وأما الأزواج فنكحت فهذا خبر ما عندنا فهاتوا خبر ما عندكم ثم التفت الينا فقال أما لو أذن لهم لأخبروكم ان خير الزاد التقوى
فالدنيا فى الحقيقة لا تذم وانما يتوجه الذم الى فعل العبد فيها وهى قنطرة أو معبر إلى الجنة أو الى النار ولكن لما غلبت عليها الشهوات والحظوظ والغفلة والإعراض عن الله والدار الآخرة فصار هذا هو الغالب على أهلها وما فيها وهو الغالب على اسمها صار لها اسم الذم عند الاطلاق والا فهى مبنى الاخرة ومزرعتها ومنها زاد الجنة وفيها اكتسبت النفوس الايمان ومعرفة الله ومحبته وذكره ابتغاء مرضاته وخير عيش ناله أهل الجنة فى الجنة انما كان بما زرعوه فيها وكفى بها مدحا وفضلا لأولياء الله فيها من قرة العيون وسرور القلوب وبهجة النفوس ولذة الارواح والنعيم الذى لا يشبهه نعيم بذكره ومعرفته ومحبته وعبادته والتوكل عليه والانابة اليه والانس به والفرح بقربه والتذلل له ولذة مناجاته والاقبال عليه والاشتغال به عمن سواه وفيها كلامه ووحيه وهداه وروحه الذى ألقاه من أمره فأخبر به من شاء من عباده ولهذا فضل ابن عقيل وغيره هذا على نعيم الجنة وقالوا هذا حق الله عليهم وذاك حظهم ونعيمهم وحقه أفضل من حقهم قالوا والايمان والطاعة أفضل من جزائه والتحقيق أنه لا يصح التفضيل بين أمرين فى دارين مختلفين ولو أمكن اجتماعهما فى دار واحدة لأمكن طلب التفضيل والايمان والطاعة فى هذه الدار أفضل ما فيها ودخول الجنة والنظر إلى وجه الله جل جلاله وسماع كلامه والفوز برضاه أفضل ما فى الاخرة فهذا أفضل ما فى هذه الدار

وهذا أفضل ما فى الدار الاخرى ولا يصح أن يقال فأى الامرين أفضل فهذا أفضل الاسباب وهذا أفضل الغايات وبالله التوفيق

ص -173- فصل: ولما وصف سبحانه حقيقة الدنيا وبين غايتها ونهايتها وانقلابها فى الاخرة الى عذاب شديد ومغفرة من الله وثواب أمر عباده بالمسابقة والمبادرة إلى ما هو خير وأبقى وأن يؤثروه على الفانى المنقطع المشوب بالانكاد والتنغيص ثم أخبر أن ذلك فضله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم وقال تعالى {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً}
ثم ذكر سبحانه أن المال والبنين زينة الحياة الدنيا وأن الباقيات الصالحات وهى الاعمال والاقوال الصالحة التى يبقى ثوابها ويدوم جزاؤها خير ما يؤمله العبد ويرجو ثوابه وقال تعالى {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}
ولما أخبر عباده عن آفات هذه الدار دعا عباده الى دار السلام التى سلمت من التغير والاستحالة والزوال والفناء وعم عباده بالدعوة اليها عدلا وخص من شاء بالهداية الى طريقها فضلا
وأخبر سبحانه أن الاموال والاولاد لا تقرب الخلق اليه وانما يقربهم اليه تقوى الله ومعاملته فيهم وحذر سبحانه عباده أن تلهيهم أموالهم وأولادهم عن ذكره وأخبر أن من ذلك فعل فهو الخاسر حقيقة لا من قل ماله وولده فى الدنيا ونهى نبيه أن يمد

عينيه الى ما متع به أهل الدنيا فيها فتنة لهم واختبارا وأخبر أن رزقه الذى أعده له فى الاخرة خير وأبقى من هذا الذى متعوا به
وأخبر سبحانه انه آتاه السبع المثانى والقرآن العظيم وذلك خير وأفضل مما متع به أهل الدنيا فى دنياهم وجعل ما آتاه مانعا له من مد

ص -174- عينيه الى ذلك فهذا العطاء فى الدنيا وما ادخر له من رزق الآخرة خير مما متع به أهل الدنيا فلا تمدن عينيك
فصل: وإذا عرف أن الغنى والفقر والبلاء والعافية فتنة وابتلاء من الله لعبده تمتحن بها صبره وشكره علم أن الصبر والشكر مطيتان للايمان لا يحمل إلا عليهما ولا بد لكل مؤمن منهما وكل منهما فى موضعه أفضل فالصبر فى مواطن الصبر أفضل والشكر فى مواضع الشكر أفضل هذا إن صح مفارقة كل واحد منهما للآخر وأما إذا كان الصبر جزء مسمى الشكر والشكر جزء مسمى الصبر وكل منهما حقيقة مركبة من الأمرين معا كما تقدم بيانه فالتفضيل بينهما لا يصح الا اذا جرد أحدهما عن الاخر وذلك فرض ذهنى يقدره الذهن ولا يوجد فى الخارج ولكن يصح على وجه وهو أن العبد قد يغلب صبره على شكره الذى هو قدر زائد على مجرد الصبر من الاقوال والاعمال الظاهرة والباطنة فلا يبقى فيه اتساع لغير صبر النفس على ما هو فيه لقوة الوارد وضيق المحل فتنصرف قواه كلها الى كف النفس وحبسها لله وقد يغلب شكره بالاقوال والاعمال الظاهرة والباطنة على قوة كفه لنفسه وحبسها لله فتكون قوة إرادته وعمله أقوى من قوة امتناعه وحبس نفسه
واعتبر هذا بشخصين أحدهما حاكم على نفسه متمكن من حبسها عن الشهوات قليل التشكى للمصيبات وذلك جل عمله وآخر كثير الاعطاء لفعل الخير القاصر والمتعدى سمح النفس ببذل المعروف وآخر ضعيف النفس عن قوة الصبر فللنفس قوتان قوة الصبر والكف وامساك النفس وقوة البذل وفعل الخير والاقدام على فعل ما تكمل به وكمالها باجتماع هاتين القوتين فيها والناس فى ذلك أربع طبقات فأعلاهم من اجتمعت له القوتان

وسفلتهم من عدم القوتين ومنهم من قوة صبره أكمل من قوة فعله وبذله ومنهم من هو بالعكس فى ذلك فإذا فضل الشكر على الصبر فإما أن يكون باعتبار ترجيح مقام على مقام واما أن

ص -175- يكون باعتبار تجريد كل من الامرين عن الاخر وقطع النظر عن اعتباره وتمام ايضاح هذا بمسالة الغنى الشاكر والفقير الصابر فلنذكر لها بابا يخصها ويكشف عن الصواب فيها.

عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين

الباب الثاني والعشرون في اختلاف الناس في الغنى الشاكر والفقير الصابر أيهما أفضل وما هو الصواب في ذلك
الباب الثانى والعشرون: فى اختلاف الناس فى الغنى الشاكر والفقير الصابر أيهما أفضل وما هو الصواب فى ذلك
هذه مسألة كثر فيها النزاع بين الاغنياء والفقراء واحتجت كل طائفة على الاخرى بما لم يمكنها دفعه من الكتاب والسنة والآثار والاعتبار ولذلك يظهر للمتأمل تكافؤ الطائفتين فإن كلا منهما أدلت بحجج لا تدفع والحق لا يعارض بعضه بعضا بل يجب اتباع موجب الدليل أين كان وقد أكثر الناس فى المسألة من الجانبين وصنفوا فيها من الطرفين وتكلم الفقهاء والفقراء والاغنياء والصوفية وأهل الحديث والتفسير لشمول معناها وحقيقتها للناس كلهم وحكوا عن الامام أحمد فيها روايتان ذكرهما أبو الحسين فى كتاب التمام فقال مسألة الفقير الصابر أفضل من الغنى الشاكر فى أصح الروايتين وفيه رواية ثانية الغنى الشاكر أفضل وبها قال جماعة منهم ابن قتيبة ووجه الاولى واختارها أبو اسحاق بن شاقلا والوالد السعيد قوله تعالى {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا}
قال محمد بن على بن الحسين الغرفة الجنة بما صبروا قال على الفقر فى الدنيا وروى أنس عن النبى: "قال اللهم أحينى مسكينا وأمتنى مسكينا واحشرنى فى زمرة المساكين يوم القيامة "فقالت عائشة ولم يا رسول الله قال انهم يدخلون الجنة قبل الاغنياء بأربعين خريفا يا عائشة لا تردى المسكين ولو بشق تمرة يا عائشة أحبى المساكين وقربيهم فان الله يقربك يوم القيامة"
قلت لا حجة له فى واحدة من الحجتين أما الاية فالصبر فيها

ص -176- يتناول صبر الشاكر على طاعته وصبره عن مصيبته وصبر المبتلى بالفقر وغيره على بلائه ولو كان المراد بها الصبر على الفقر وحده لم يدل رجحانه على الشكر فإن القرآن كما دل على جزاء الصابرين دل على جزاء الشاكرين أيضا كما قال تعالى وسنجزى الشاكرين وسيجزى الله الشاكرين بل قد أخبر أن رضاه فى الشكر ورضاه أكبر من جزائه بالجنات وما فيها واذا جزى الله الصابرين الغرفة بما صبروا لم يدل ذلك على أنه لا يجزى الشاكرين الغرفة بما شكروا وأما الحديث فلا حجة فيه لوجهين أحدهما أنه لا يحتج بإسناده فانه من رواية محمد بن ثابت الكوفى عن الحارث بن النعمان والحارث هذا لم يحتج به أصحاب الصحيح بل قال فيه البخارى منكر الحديث ولذلك لم يصحح الترمذى حديثه هذا ولا حسنه ولا سكت عنه بل حكم بغرابته
الجواب الثانى: إن الحديث لو صح لم يدل على مطلوبهم فان المسكنة التى يحبها الله من عبده ليست فقر المال بل مسكنة القلب وهى انكساره وذله وخشوعه وتواضعه لله وهذه المسكنة لا تنافى الغنى ولا يشترط لها الفقر فان انكسار القلب لله ومسكنته لعظمته وجلاله وكبريائه وأسمائه وصفاته أفضل وأعلى من مسكنة عدم المال كما أن صبر الواجد عن معاصى الله طوعا واختيارا وخشية من الله ومحبة له أعلى من صبر الفقير العاجز وقد آتى الله جماعة من أنبيائه ورسله الغنى والملك ولم يخرجهم ذلك عن المسكنة لله
قال الامام أحمد حدثنا يزيد بن هرون أنبأنا الجريرى عن أبى السليل قال كان داود النبى عليه السلام يدخل فينظر أغمص حلقة من بنى إسرائيل فيجلس اليهم ثم يقول مسكين بين ظهرانى مساكين هذا مع ما آتاه الله من الملك والغنى والبسطة زيادة على النبوة
قال أبو الحسين وروى أبو برزة الاسلمى قال قال رسول الله:

ص -177- "إن فقراء المسلمين ليدخلون الجنة قبل أغنيائهم بمقدار أربعين خريفا حتى يتمنى أغنياء المسلمين يوم القيامة أنهم كانوا فقراء فى الدنيا"
قلت هذا الحديث ثابت عن النبى من رواية جماعة من الصحابة منهم أبو هريرة وعبد الله بن عمر وجابر بن عبدالله وروى عن أبى سعيد وأنس بن مالك ولا يدل ذلك على علو درجتهم اذا دخلوا الجنة قبل الاغنياء بل انما يدل على السبق لعدم ما يحاسبون عليه ولا ريب أن ولي الأمر العادل يتأخر دخوله للحساب وكذلك الغنى الشاكر ولا يلزهم من تأخر دخولهما نزول درجتهما عن درجة الفقير كما تقدم وانما تمنى الأغنياء أنهم كانوا فى الدنيا فقراء فان صحت هذه اللفظة لم تدل على انحطاط درجتهم كما يتمنى القاضى العادل فى بعض المواطن يوم القيامة أن لم يقض بين اثنين فى تمرة لما يرى من شدة الامر فمنزلة الفقر والخمول ومنزلة السلامة ومنزلة الغنى والولاية ومنزلة الغنيمة أو العطب قال أبو الحسن وروى ابن عمر أن النبى قام فى أصحابه فقال: "أى الناس خير فقال بعضهم غنى يعطى حق نفسه وماله فقال: نعم الرجل هذا وليس به ولكن خير الناس مؤمن فقير يعطى على جهد".
قلت لم يذكر لهذا الحديث إسناد فينظر فيه وحديث لا يعلم حاله لا يحتج به ولو صح لم يكن فيه دليل لأنه تضمن تفضيل فقير يتصدق من جهد فمعه فقر الصابرين وغنى الشاكرين فقد جمع بين موجب التفضيل وسببه ولا ريب أن هذا أفضل الاقسام الثلاثة ودرهمه الواحد يسبق مائة الف درهم من غيره كما قال النبى: "سبق درهم مائة ألف درهم" قالوا يا رسول الله كيف سبق درهم مائة ألف درهم قال رجل كان له درهمان فأخذ أحدهما فتصدق به وآخر له مال كثير فأخذ من عرضه مائة الف فتصدق بها" رواه النسائى من حديث صفوان بن عيسى حدثنا بن عجلان عن زيد بن أسلم عن ابى صالح عن أبى هريرة رضى الله عنه
وذكر البيهقى من حديث الثورى عن أبى اسحاق عن الحارث عن

ص -178- على رضى الله عنه قال جاء ثلاثة نفر الى النبى فقال أحدهم كانت لى مائة أوقية فتصدقت منها بعشر أواق وقال الآخر كانت لى مائة دينار فتصدقت منها بعشر دنانير وقال الاخر كان لى عشرة دنانير فتصدقت منها بدينار فقال كلكم فى الاجر سواء كلكم قد تصدق بعشر ماله
وقال أبو سعيد بن الاعرابى حدثنا ابن أبى العوام حدثنا يزيد بن هرون حدثنا أبو الاشهب عن الحسن قال قال رجل لعثمان بن عفان رضى الله عنه ذهبتم يا أصحاب الاموال بالخير تتصدقون وتعتقون وتحجون وتنفقون فقال عثمان وإنكم لتغبطوننا وانا لنغبطكم قال فوالله لدرهم ينفقه أحد من جهد خير من عشرة آلاف درهم غيض من فيض
وفى سنن أبى داود من حديث الليث عن ابى الزبير عن يحيى بن جعدة عن ابى هريرة أنه قال يا رسول الله أى الصدقة أفضل قال جهد المقل وابدأ بمن تعول وفى المسند وصحيح ابن حبان من حديث أبى ذر رضى الله عنه قال قلت يا رسول الله أى الصدقة أفضل قال جهد من مقل وفى سنن النسائى من حديث الاوزاعى عن عبيد بن عمير عن عبد الله بن حبشى أن النبى سئل أى الاعمال أفضل قال ايمان لا شك فيه وجهاد لا غلول فيه وحجة مبرورة قيل فأى الصلاة افضل قال طول القيام قيل فأى الصدقة افضل قال جهد من مقل قيل فأى الهجرة أفضل قال من هجر ما حرم الله عليه قيل فأى الجهاد أفضل قال من أهريق دمه وعقر جواده
وهذه الاحاديث كلها تدل على أن صدقة جهد المقل أفضل من صدقة كثير المال ببعض ماله الذى لا يتبين أثر نقصانه عليه وان كان كثيرا لأن الاعمال تتفاضل عند الله بتفاضل ما فى القلوب لا بكثرتها وصورها بل بقوة الداعى وصدق الفاعل واخلاصه وإيثاره الله على نفسه فأين

ص -179- صدقة من آثر الله على نفسه برغيف هو قوته الى صدقة من أخرج مائة ألف درهم من بعض ماله غيضا من فيض فرغيف هذا درهمه فى الميزان اثقل من مائة ألف هذا والله المستعان
فصل: واحتجوا بما رواه ابن عدى من حديث سليمان بن عبد الرحمن حدثنا خالد بن يزيد عن أبيه عن عطاء سمع أبا سعيد الخدرى يقول سمعت رسول الله يقول: "اللهم توفنى فقيرا ولا توفنى غنيا" وهذا الحديث لا يصح فان خالد بن يزيد بن عبد الرحمن بن مالك الدمشقى أجمعوا على ضعفه وعدم الاحتجاج بحديثه قال أحمد ليس بشئ وقال أبن معين واه ونسبه يحيى الى الكذب وقد تقدم فيه وقد سئل شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله عن هذه المسألة فقال قد تنازع كثير من المتأخرين فى الغنى الشاكر والفقير الصابر أيهما أفضل فرجح هذا طائفة من العلماء والعباد ورجح هذا طائفة أخرى من العلماء والعباد وحكى فى ذلك عن الامام أحمد روايتان وأما الصحابة والتابعون رضى الله عنهم فلم ينقل عن أحد منهم تفضيل أحد الصنفين على الآخر وقد قالت طائفة ثالثة ليس لأحدهما على الاخرى فضيلة الا بالتقوى فإيهما أعظم ايمانا وتقوى كان افضل فإن استويا فى ذلك استويا فى الفضيله قال وهذا أصح الاقوال لأن نصوص الكتاب والسنة انما تفضل بالايمان والتقوى وقد قال تعالى {إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} وقد كان فى الانبياء والسابقين الاولين من الاغنياء من هو أفضل من أكثر الفقراء وكان فيهم من الفقراء من هو أفضل من أكثر الاغنياء والكاملون يقومون بالمقامين فيقومون بالشكر والصبر على التمام كحال نبينا وحال أبى بكر وعمر رضى الله عنهما
ولكن قد يكون الفقر لبعض الناس أنفع والغنى لآخرين أنفع كما تكون الصحة لبعضهم أنفع والمرض لبعضهم أنفع كما فى الحديث الذى رواه البغوى وغيره عن النبى فيما يروى عن ربه تبارك وتعالى: "ان

ص -180- من عبادى من لا يصلحه الا الغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك وان من عبادى من لا يصلحه الا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك وان من عبادى من لا يصلحه الا الصحة ولو أسقمته لأفسده ذلك وان من عبادى من لا يصلحه الا السقم ولو أصححته لأفسده ذلك انى أدبر عبادى انى بهم خبير بصير".
وقد صح عن النبى أنه قال: "ان فقراء المسلمين يدخلون الجنة قبل الاغنياء" وفى الحديث الآخر لما علم الفقراء الذكر عقب الصلاة سمع بذلك الاغنياء فقالوا مثل ما قالوا فذكر ذلك الفقراء للنبى فقال {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} فالفقراء يتقدمون فى دخول الجنة لخفة الحساب عليهم والاغنياء يؤخرون لأجل الحساب عليهم ثم اذا حوسب أحدهم فإن كانت حسناته أعظم من حسنات الفقير كانت درجته فى الجنة فوقه وان تأخر فى الدخول كما أن السبعين الفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب ومنهم عكاشه بن محصن قد يدخل الجنة بحساب من يكون أفضل من أحدهم فى الدرجات لكن أولئك استراحوا من تعب الحساب فهذا فى الفقر المذكور فى الكتاب والسنة وهو ضد الغنى الذى يبيح أخذ الزكاة أو الذى لا يوجب الزكاة
ثم قد صار فى اصطلاح كثير من الناس الفقر عبارة عن الزهد والعبادة والاخلاق ويسمون من اتصف بذلك فقيرا وان كان ذا مال ومن لم يتصف بذلك قالوا ليس بفقير وان لم يكن له مال وقد يسمى هذا المعنى تصوفا ومن الناس من يفرق بين مسمى الفقير والصوفى ثم من هؤلاء من يجعل مسمى الفقير أفضل ومنهم من يجعل مسمى الصوفى أفضل والتحقيق فى هذا الباب أنه لا ينظر الى الالفاظ المحدثة بل ينظر الى ما جاء به الكتاب والسنة من الاسماء والمعانى والله قد جعل وصف أوليائه الايمان والتقوى فمن كان نصيبه من ذلك أعظم كان أفضل والاغنياء بما سوى ذلك والله أعلم

عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين

الباب الثالث والعشرون في ذكر ما احتجت به الفقراء من الكتاب والسنة والآثار والاعتبار
ص -181- الباب الثالث والعشرون: فى ذكر ما احتجت به الفقراء من الكتاب والسنة والآثار والاعتبار
قالت الفقراء لم يذكر الله سبحانه الغنى والمال فى القرآن الا على أحد وجوه الأول على وجه الذم كقوله تعالى {كَلاَّ إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} وقوله {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْض} وقوله {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} وقال تعالى {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} وقال تعالى {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وقال {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} الاية ونظائر ذلك كثير
الوجه الثانى: أن يذكره على وجه الابتلاء والامتحان كما قال تعالى {أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} وقال تعالى {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ} وقال تعالى مخبرا عن ابتلائه بالغنى كما ابتلى بالفقر {فَأَمَّا الإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ}

الاية وقال تعالى {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}
الوجه الثالث: اخباره سبحانه وتعالى أن الاموال والاولاد لا تقرب اليه شيئا
وانما يقرب اليه الايمان والعمل الصالح كما قال {وَمَا أَمْوَالُكُمْ

ص -182- وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ}
الوجه الرابع: إخباره أن الدنيا والغنى والمال انما جعلها متعة لمن لا نصيب له فى الاخرة وأن الآخرة جعلها للمتقين فقال تعالى {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} وقال تعالى {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} وإلى هذا المعنى أشار النبى بقوله "لعمر أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة" وسيأتى الحديث
الوجه الخامس: أنه سبحانه لم يذكر المترفين وأصحاب الثروة إلا بالذم كقوله {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} وقوله {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} وقوله تعالى {لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ}
الوجه السادس أنه سبحانه ذم محب المال فقال وتأكلون التراث أكلا لما وتحبون المال حبا جما فذمهم بحب المال وعيرهم به
الوجه السابع: أنه سبحانه ذم متمنى الدنيا والغنى والسعة فيها ومدح من أنكر عليهم وخالفهم فقال تعالى عن أغنى أهل زمانه فخرج على قومه فى زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا ياليت لنا مثل ما أوتى قارون انه لذو حظ عظيم وقال

الذين أوتو العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها الا الصابرون فأخبروا أن ما عند الله خير من الدنيا لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقى هذه الوصية وهى الكلمة التى تكلم بها الذين أوتوا العلم أو المثوبة والجنة التى دل عليها قوله ثواب الله خير والسيرة والطريقة التى دل عليها قوله لمن آمن وعمل

ص -183- صالحا وعلى كل حال لا يلقى ذلك إلا الصابرون على الفقر وعن الدنيا وشهواتها وما أترف فيه الاغنياء وقد شهد الله سبحانه لهم أنهم من أهل العلم دون الذين تمنوا الدنيا وزينتها
الوجه الثامن: انه سبحانه أنكر على من ظن أن التفضيل يكون بالمال الذى يحتاج اليه لاقامة الملك فكيف بما هو زيادة وفضلة فقال تعالى {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} فرد الله سبحانه قولهم وأخبر سبحانه أن الفضل ليس بالمال كما توهموه وأن الفضل بالعلم لا بالمال وقال سبحانه قال بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون ففضله ورحمته العلم والايمان والقرآن والذى يجمعونه هو المال وأسبابه ومثله قوله تعالى أهم يقسمون رحمة ربك الى قوله ورحمة ربك خير مما يجمعون
الوجه التاسع: انه سبحانه أخبر أن التكاثر فى جمع المال وغيره ألهى الناس وشغلهم عن الآخرة والاستعداد لها وتوعدهم على ذلك فقال تعالى {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} فأخبر سبحانه أن التكاثر شغل أهل الدنيا وألهاهم عن الله والدار الآخرة حتى حضرهم الموت فزاروا المقابر ولم يفيقوا من رقدة من ألهاهم التكاثر وجعل الغاية زيارة المقابر

دون الموت ايذانا بأنهم غير مستوطنين ولا مستقرين فى القبور وأنهم فيها بمنزلة الزائرين يحضرونها مدة ثم يظعنون عنها كما كانوا فى الدنيا زائرين لها غير مستقرين فيها ودار القرار هى الجنة أو النار ولم يعين سبحانه المتكاثر به بل ترك ذكره اما لأن المذموم هو نفس التكاثر بالشئ لا المتكاثر به كما يقال شغلك اللعب واللهو ولم يذكر ما يلعب ويلهو به واما ارادة الاطلاق وهو كل ما تكاثر به العبد غيره من أسباب الدنيا من مال أو جاه أو عبيد أو اماء أو

ص -184- بناء أو غراس أو علم لا ينبغى به وجه الله أو عمل لا يقربه الى الله فكل هذا من التكاثر الملهى عن الله والدار الآخرة
وفى صحيح مسلم من حديث عبد الله بن الشخير أنه قال: "انتهيت الى النبى وهو يقرأ ألهاكم التكاثر قال يقول ابن آدم مالى مالى وهل لك من مالك الا ما تصدقت فأمضيت أو أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت"، ثم أوعد سبحانه من ألهاه التكاثر وعيدا مؤكدا اذا عاين تكاثره هباء منثورا وعلم دنياه التى كاثر بها انما كانت خدعا وغرورا فوجد عاقبة تكاثره عليه لا له وخسر هنالك تكاثره كما خسر أمثاله وبدا له من الله ما لم يكن فى حسابه وصار تكاثره الذى شغله عن الله والدار الآخرة من أعظم أسباب عذابه فعذب بتكاثره فى دنياه ثم عذب به فى البرزخ ثم يعذب به يوم القيامة فكان أشقى بتكاثره اذ أفاد منه العطب دون الغنيمة والسلامة فلم يفز من تكاثره الا بأن صار من الأقلين ولم يحفظ به من علوه به فى الدنيا بأن حصل مع الاسفلين فيا له تكاثرا ما أقله ورزءا ما أجله ومن غنى جالبا لكل فقر وخيرا توصل به الى كل شر يقول صاحبه اذا انكشف عنه غطاؤه يا ليتنى قدمت لحياتى وعملت فيه بطاعة الله قبل وفاتى رب ارجعونى لعلى أعمل صالحا فيما تركت كلا انها كلمة هو قائلها تلك كلمة يقولها فلا يعول عليها ورجعة يسألها فلا يجاب إليها
وتأمل قوله أولا { رَبّ } استغاث بربه ثم التفت الى الملائكة الذين أمروا بإحضاره بين يدى ربه تبارك وتعالى فقال أرجعونى ثم ذكر سبب سؤال الرجعة وهو أن يستقبل العمل الصالح فيما ترك خلفه من ماله وجاهه وسلطانه وقوته وأسبابه فيقال له كلا لا سبيل لك الى الرجعى وقد عمرت ما يتذكر فيه من تذكر
ولما كان شأن الكريم الرحيم أن يجيب من استغاث وأن يفسح له فى المهلة لتيذكر مافاته أخبر سبحانه أن سؤال هذا المفرط الرجعة كلمة هو

ص -185- قائلها لا حقيقة تحتها وأن سجيته وطبيعته تأبى أن تعمل صالحا لو أجيب وانما ذلك شئ يقوله بلسانه وأنه لو رد لعاد لما نهى عنه وأنه من الكاذبين فحكمه أحكم الحاكمين وعزته وعلمه وحمده يأبى اجابته الى ما سأل فإنه لا فائدة فى ذلك ولو رد لكانت حالته الثانية مثل حالته الاولى كما قال تعالى ولو ترى اذ وقفوا على النار قالوا ياليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وانهم لكاذبون
وقد حام أكثر المفسرين حول معنى هذه الآية وما أوردوا فراجع أقوالهم تجدها لا تشفى عليلا ولا تروى غليلا ومعناها أجل وأعظم مما فسروها به ولم يتفطنوا لوجه الاضراب ببل ولا للأمر الذى بدا لهم وكانوا يخفونه وطنوا أن الذى بدا لهم العذاب فلما لم يروا ذلك ملتئما مع قوله {مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ} قد روا مضافا محذوفا وهو خبر ما كانوا يخفون من قبل فدخل عليهم أمر آخر لا جواب لهم عنه وهو أن القوم لم يكونوا يخفون شركهم وكفرهم بل كانوا يظهرونه ويدعون إليه ويحاربون عليه ولما علموا أن هذا وارد عليهم قالوا ان القوم فى بعض موارد القيامة ومواطنها أخفوا شركهم وجحدوه وقالوا والله ربنا ما كنا مشركين فلما وقفوا على النار بدا لهم جزاء ذلك الذى أخفوه قال الواحدى وعلى هذا أهل التفسير ولم يصنع أرباب هذا القول شيئا فإن السياق والاضراب ببل والاخبار عنهم بأنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وقولهم والله ربنا ما كنا مشركين لا يلتئم بهذا الذى ذكروه فتأمله
وقالت طائفة منهم الزجاج بل بدا للاتباع ما أخفاه عنهم الرؤساء من أمر البعث وهذا التفسير يحتاج إلى تفسير وفيه من التكلف ما ليس بخاف واجود من هذا ما فهمه المبرد من الآية قال كأن كفرهم لم يكن باديا لهم اذ خفيت عليهم مضرته ومعنى كلامه أنهم لما خفيت عليهم مضرة عاقبته ووباله فكأنه كان خفيا عنهم لم تظهر لهم حقيقته

فلما عاينوا

ص -186- العذاب ظهرت لهم حقيقته وشره قال وهذا كما تقول لمن كنت حدثته فى أمر قبل وقد ظهر لك الآن ما كنت قلت لك وقد كان ظاهرا له قبل هذا ولا يسهل أن يعبر عن كفرهم وشركهم الذى كانوا ينادون به على رءوس الاشهاد ويدعون اليه كل حاضر وباد بأنهم كانوا يخفونه لخفاء عاقبته عنهم ولا يقال لمن أظهر الظلم والفساد وقتل النفوس والسعى فى الأرض بالفساد أنه أخفى ذلك لجهله بسوء عاقبته وخفائها عليه
فمعنى الآية والله أعلم بما أراد من كلامه أن هؤلاء المشركين لما وقفوا على النار وعاينوها وعلموا أنهم داخلوها تمنوا أنهم يردون الى الدنيا فيؤمنون بالله وآياته ولا يكذبون رسله فأخبر سبحانه أن الأمر ليس كذلك وأنهم ليس فى طبائعهم وسجاياهم الايمان بل سجيتهم الكفر والشرك والتكذيب وأنهم لو ردوا لكانوا بعد الرد كما كانوا قبله وأخبر أنهم كاذبون فى زعمهم أنهم لو ردوا لآمنوا وصدقوا
فإذا تقرر مقصود الآية ومرادها تبين معنى الاضراب ببل وتبين معنى الذى بدا لهم والذى كانوا يخفونه والحامل لهم على قولهم يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا فالقوم كانوا يعلمون أنهم كانوا فى الدنيا على باطل وأن الرسل صدقوهم فيما بلغوهم عن الله وتيقنوا ذلك وتحققوه ولكنهم أخفوه ولم يظهروه بينهم بل تواصوا بكتمانه فلم يكن الحامل لهم على تمنى الرجوع والايمان معرفة ما لم يكونوا يعرفونه من صدق الرسل فإنهم كانوا يعلمون ذلك ويخفونه وظهر لهم يوم القيامة ما كانوا ينطوون عليه من علمهم أنهم على باطل وأن الرسل على الحق فعاينوا ذلك عيانا بعد أن كانوا يكتمونه ويخفونه فلو ردوا لما سمحت نفوسهم بالايمان ولعادوا الى الكفر والتكذيب فإنهم لم يتمنوا الايمان لعلمهم يومئذ أنه هو الحق وأن الشرك باطل وانما تمنوا لما عاينوا العذاب الذى لا طاقة لهم باحتماله وهذا كمن كان يخفى محبة شخص ومعاشرته وهو يعلم أن حبه باطل وأن الرشد فى عدوله عنه فقيل له ان اطلع

عليه وليه عاقبك وهو يعلم

ص -187- ذلك ويكابر ويقول بل محبته ومعاشرته هى الصواب فلما أخذه وليه ليعاقبه على ذلك وتيقن العقوبة تمنى أن يعفى من العقوبة وأنه لا يجتمع به بعد ذلك وفى قلبه من محبته والحرص على معاشرته ما يحمله على المعاوده بعد معاينة العقوبة بل بعد أن مسته وأنهكته فظهر له عند العقوبة ما كان يخفى من معرفته بخطئه وصواب ما نهاه عنه ولو رد لعاد لما نهى عنه
وتأمل مطابقة الاضراب لهذا المعنى وهو نفى قولهم انا لو رددنا لآمنا وصدقنا لأنه ظهر لنا الآن أن ما قاله الرسل هو الحق أى ليس كذلك بل كنتم تعلمون ذلك وتعرفونه وكنتم تخفونه فلم يظهر لكم شئ لتكونوا عالمين به لتعذروا بل ظهر لكم ما كان معلوما وكنتم تتواصون بإخفائه وكتمانه والله أعلم
ولا تستطل هذا الفضل المعترض فى أثناء هذه المسألة فلعله أهم منها وأنفع وبالله التوفيق فلنرجع الى تمام الكلام فيها
وقوله {كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} جوابه محذوف دل عليه ما تقدم أى لما ألهاكم التكاثر وانما وجد هذا التكاثر وإلهاؤه عما هو أولى بكم لما فقد منكم علم اليقين وهو العلم الذى يصل به صاحبه الى حد الضروريات التى لا يشك ولا يمارى فى صحتها وثبوتها ولو وصلت حقيقة هذا العلم الى القلب وباشرته لما ألهاه عن موجبه ويرتب أثره عليه فإن مجرد العلم بقبح الشئ وسوء عواقبه قد لا يكفى فى تركه فإذا صار له علم اليقين كان اقتضاء هذا العلم لتركه أشد فاذا صار عين يقين كجملة المشاهدات كان تخلف موجبه عنه من أندر شئ وفى هذا المعنى قال حسان بن ثابت رضى الله عنه فى أهل بدر:
سرنا وساروا إلى بدر لحتفهم لو يعلمون يقين العلم ما ساروا
وقوله {كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} قيل تأكيد لحصول العلم كقوله {كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ} وقيل ليس

ص -188- تأكيدا بل العلم الأول عند المعاينة ونزول الموت والعلم الثانى فى القبر هذا قول الحسن ومقاتل ورواه عطاء عن ابن عباس ويدل على صحة هذا القول عدة أوجه أحدها أن الفائدة الجديدة والتأسيس هو الأصل وقد أمكن اعتباره مع فخامة المعنى وجلالته وعدم الاخلال بالفصاحة الثانى توسط ثم بين العلمين وهى مؤذنة بتراخى ما بين المرتبتين زمانا وخطرا الثالث ان هذا القول مطابق للواقع فإن المحتصر يعلم عند المعاينة حقيقة ما كان عليه ثم يعلم فى القبر وما بعده ذلك علما هو فوق الأول الرابع أن عليا بن أبى طالب رضى الله عنه وغيره من السلف فهموا من الآية عذاب القبر قال الترمذى حدثنا أبو كريب حدثنا حكام بن سليم الرازى عن عمرو بن أبى قيس عن الحجاج بن المنهال بن عمر عن زر عن على رضى الله عنه قال ما زلنا نشك فى عذاب القبر حتى نزلت الهاكم التكاثر
قال الواحدى: يعنى أن معنى قوله {كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} فى القبر
الخامس: ان هذا مطابق لما بعده من قوله {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} فهذه الرؤية الثانية غير الأولى من وجهين إطلاق الأولى وتقييد الثانية بعين اليقين وتقدم الأولى وتراخى الثانية عنها ثم ختم السورة بالاخبار المؤكد بواو القسم ولام التأكيد والنون الثقيلة عن سؤال النعيم فكل أحد يسأل عن نعيمه الذى كان فيه فى الدنيا هل ناله من حلاله ووجهه أم لا فاذا تخلص من هذا السؤال سئل سؤالا آخر هل شكر الله تعالى عليه فاستعان به على طاعته أم لا فالأول سؤال عن سبب استخراجه والثانى عن محل صرفه كما فى جامع الترمذى من حديث عطاء بن أبى رباح عن ابن عمر عن النبى قال: "لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسئل عن خمس عن عمره فيما أفناه وعن شبابه فيما أبلاه وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه وعن ماذا عمل فيما علم".

ص -189- وفيه أيضا عن أبى برزة قال قال رسول الله: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسئل عن عمره فيما أفناه وعن علمه فيما عمل فيه وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أبلاه" قال هذا حديث صحيح
وفيه أيضا من حديث أبى هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله ان أول ما يسئل عنه العبد يوم القيامة يعنى من النعيم أن يقال له ألم نصح جسمك ونرويك من الماء البارد
وفيه أيضا من حديث الزبير بن العوام رضى الله عنه لما نزلت لتسئلن يومئذ عن النعيم قال الزبير يا رسول الله فأى النعيم نسئل عنه وانما هو الأسودان التمر والماء قال أما انه سيكون قال هذا حديث حسن وعن أبى هريرة نحوه وقال انما هو الاسودان العدو حاضر سيوفنا على عواتقنا قال ان ذلك سيكون وقوله ان ذلك سيكون إما أن يكون المراد به أن النعيم سيكون ويحدث لكم وإما أن يرجع الى السؤال أي ان السؤال يقع عن ذلك وان كان تمرا وماء فانه من النعيم ويدل عليه قوله فى + الحديث الصحيح + وقد أكلوا معه رطبا ولحما وشربوا من الماء البارد "هذا من النعيم الذى تسئلون عنه يوم القيامة" فهذا سؤال عن شكره والقيام بحقه
وفى الترمذى من حديث أنس رضى الله عنه عن النبى قال: "يجاء بالعبد يوم القيامة كأنه بذج فيوقف بين يدى الله تعالى فيقول الله أعطيتك وخولتك وأنعمت عليك فماذا صنعت فيقول يا رب جمعته وثمرته فتركته أوفر ما كان فارجعنى آتيك به فاذا أعيد لم يقدم خيرا فيمضى به الى النار" وفيه من حديث أبى سعيد وأبى هريرة رضى الله عنهما قالا قال رسول الله: "يؤتى بالعبد يوم القيامة فيقول الله ألم أجعل لك سمعا وبصرا ومالا وولدا وسخرت لك الأنعام والحرث وتركتك ترأس

ص -190- وترتع أفكنت تظن أنك ملاق يومك هذا فيقول لا فيقول له اليوم أنساك كما نسيتنى" قال هذا حديث صحيح
وقد زعم طائفة من المفسرين أن هذا الخطاب خاص بالكفار وهم المسؤلون عن النعيم وذكر ذلك عن الحسن ومقاتل واختار الواحدى ذلك واحتج بحديث ابى بكر لما نزلت هذه الآية قال رسول الله أرأيت أكلة أكلتها معك ببيت أبى الهيثم بن النبهان من خبز شعير ولحم وبسر قد ذنب وماء عذب أتخاف علينا أن يكون هذا من النعيم الذى نسأل عنه فقال رسول الله انما ذلك للكفار ثم قرأ وهل نجازى إلا الكفور قال الواحدى والظاهر يشهد بهذا القول لأن السورة كلها خطاب للمشركين وتهديد لهم والمعنى أيضا يشهد بهذا القول وهو أن الكفار لم يؤدوا حق النعيم عليهم حيث اشركوا به وعبدوا غيره فاستحقوا أن يسئلوا عما أنعم به عليهم توبيخا لهم هل قاموا بالواجب فيه أم ضيعوا حق النعمة ثم يعذبون على ترك الشكر بتوحيد المنعم قال وهذا معنى قول مقاتل وهو قول الحسن قال لا يسئل عن النعيم الا أهل النار
قلت ليس فى اللفظ ولا فى السنة الصحيحة ولا فى أدلة العقل ما يقتضى اختصاص الخطاب بالكفار بل ظاهر اللفظ وصريح السنة والاعتبار يدل على عموم الخطاب لكل من اتصف بإلهاء التكاثر له فلا وجه لتخصيص الخطاب ببعض المتصفين بذلك ويدل على ذلك قول النبى عند قراءة هذه السورة يقول ابن آدم مالى مالى وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فابليت الحديث وهو فى صحيح مسلم وقائل ذلك قد يكون مسلما وقد يكون كافرا ويدل عليه أيضا الأحاديث التى تقدمت وسؤال الصحابة النبى وفهمهم العموم حتى قالوا له وأى نعيم نسئل عنه وانما هو الاسودان فلو كان الخطاب مختصا

ص -191- بالكفار لبين لهم ذلك وقال ما لكم ولها انما هى للكفار فالصحابة فهموا التعميم والأحاديث صريحة فى التعميم والذى أنزل عليه القرآن أقرهم على فهم العموم
وأما حديث ابى بكر الذى أحتج به أرباب هذا القول فحديث لا يصح والحديث الصحيح فى تلك القصة يشهد ببطلانه ونحن نسوقه بلفظه ففى صحيح مسلم عن ابى هريرة قال: "خرج رسول الله ذات يوم أو ليلة فإذا هو بأبى بكر وعمر فقال ما أخرجكما من بيوتكما فى هذه الساعة قالا الجوع يا رسول الله قال وأنا والذى نفسى بيده لأخرجنى الذى أخرجكما قوما فقاما معه فأتى رجلا من الأنصار فإذا هو ليس فى بيته فلما رأته امرأته قالت مرحبا وأهلا فقال لها رسول الله وأين فلان قالت ذهب يستعذب لنا من الماء إذ جاء الأنصارى فنظر الى رسول الله وصاحبيه فقال الحمد لله ما أحد اليوم أكرم أضيافا منى قال فانطلق فجاءهم بعذق فيه بسر وتمر ورطب فقال كلوا من هذا فأخذ المدية فقال له رسول الله إياك والحلوبة فذبح لهم فأكلوا من الشاة ومن ذلك العذق وشربوا فلما أن شبعوا ورووا قال رسول الله لابى بكر وعمر والذى نفسى بيده لتسئلن عن هذا النعيم يوم القيامة أخرجكم من بيوتكم الجوع ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم" فهذا الحديث الصحيح صريح فى تعميم الخطاب وأنه غير مختص بالكفار
وايضا فالواقع يشهد بعدم اختصاصه وأن الالهاء بالتكاثر واقع من المسلمين كثيرا بل أكثرهم قد الهاه التكاثر وخطاب القرآن عام لمن بلغه وان كان أول من دخل فيه المعاصرين لرسول الله فهو متناول لمن بعدهم وهذا معلوم بضرورة الدين وان نازع فيه من لا يعتد بقوله من المتأخرين فنحن اليوم ومن قبلنا ومن بعدنا داخلون تحت قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} ونظائره كما دخل

ص -192- تحته الصحابة بالضرورة المعلومة من الدين فقوله ألهاكم التكاثر خطاب لكل من اتصف بهذا الوصف وهم فى الالهاء والتكاثر درجات لا يحصيها الا الله
فإن قيل فالمؤمنون لم يلههم التكاثر ولهذا لم يدخلوا فى الوعيد المذكور لمن الهاه قيل هذا هو الذى أوجب لأرباب هذا القول تخصيصه بالكفار لأنه لم يمكنهم حمله على العموم ورأوا أن الكفار أحق بالوعيد فخصوهم به وجواب هذا أن الخطاب للانسان من حيث هو إنسان على طريقة القرآن فى تناول الذم له من حيث هو إنسان كقوله {وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً} {وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُوراً} {إِنَّ الإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} {إِنَّ الإِنْسَانَ لَكَفُورٌ} ونظائره كثيرة فالانسان من حيث هو عار عن كل خير من العلم النافع والعمل الصالح وانما الله سبحانه هو الذى يكمله بذلك ويعطيه إياه وليس له ذلك من نفسه بل ليس له من نفسه إلا الجهل المضاد للعلم والظلم المضاد للعدل وكل علم وعدل وخير فيه فمن ربه لا من نفسه فإلهاء التكاثر طبيعته وسجيته التى هى له من نفسه ولا خروج له عن ذلك الا بتزكية الله له وجعله مريدا للآخرة مؤثرا لها على التكاثر بالدنيا فان أعطاه ذلك وإلا فهو ملته بالتكاثر فى الدنيا ولا بد
وأما احتجاجه بالوعيد على اختصاص الخطاب بالكفار فيقال الوعيد المذكو مشترك وهو العلم عند معاينة الآخرة فهذا أمر يحصل لكل أحد لم يكن حاصلا له فى الدنيا وليس فى قوله {سَوْفَ تَعْلَمُون} ما يقتضى دخول النار فضلا عن التخليد فيها وكذلك رؤية الجحيم لا يستلزم دخولها لكل من رآها فان أهل الموقف يرونها ويشاهدونها عيانا وقد اقسم الرب تبارك وتعالى أنه لا بد أن يراها الخلق كلهم مؤمنهم وكافرهم وبرهم وفاجرهم فليس فى جملة هذه السورة ما ينفى عموم خطابها وأما

ص -193- ما ذكره عن الحسن أنه لا يسأل عن النعيم الا أهل النار فباطل قطعا اما عليه واما منه والاحاديث الصحيحة الصريحة ترده وبالله التوفيق
ولا يخفى أن مثل هذه السورة مع عظم شأنها وشدة تخويفها وما تضمنته من تحذير الملهى وانطباق معناها على أكثر الخلق يأبى اختصاصها من أولها الى آخرها بالكفار ولا يليق ذلك بها ويكفى فى ذلك تأمل الاحاديث المرفوعة فيها والله أعلم
وتأمل ما فى هذا العتاب الموجع لمن استمر على الهاء التكاثر له مدة حياته كلها الى أن زار القبور ولم يستيقظ من نوم الالهاء بل أرقد التكاثر قلبه فلم يستفق منه الا وهو فى عسكر الأموات وطابق بين هذا وبين حال أكثر الخلق يتبين لك أن العموم مقصود وتأمل تعليقه سبحانه الذم والوعيد على مطلق التكاثر من غير تقييد بمتكاثر به ليدخل فيه التكاثر بجميع أسباب الدنيا على اختلاف أجناسها وأنواعها وأيضا فان التكاثر تفاعل وهو طلب كل من المتكاثرين أن يكثر صاحبه فيكون أكثر منه فيما يكاثره به والحامل له على ذلك توهمه أن العزة للكاثر كما قيل:
ولست بالأكثر منهم حصى وانما العزة للكاثر
فلو حصلت له الكثرة من غير تكاثر لم تضره كما كانت الكثرة حاصلة لجماعة من الصحابة ولم تضرهم اذ لم يتكاثروا بها وكل من كاثر انسانا فى دنياه أو جاهه أو غير ذلك شغلته مكاثرته عن مكاثرة أهل الآخرة فالنفوس الشريفة العلوية ذات الهمم العالية انما تكاثر بما يدوم عليها نفعه وتكمل به وتزكو وتصير مفلحة فلا تحب أن يكثرها غيرها فى ذلك وينافسها فى هذه المكاثرة ويسابقها اليها فهذا هو التكاثر الذى هو غاية سعادة العبد وضده تكاثر أهل الدنيا بأسباب دنياهم فهذا تكاثر مله عن الله والدار الاخرة هو صائر الى غاية القلة فعاقبة هذا التكاثر قل وفقر وحرمان والتكاثر بأسباب السعادة الاخروية تكاثر لا يزال بذكر بالله ولقائه وعاقبته الكثرة الدائمة التى لا تزول ولا تفنى وصاحب هذا

ص -194- التكاثر لا يهون عليه أن يرى غيره أفضل منه قولا وأحسن منه عملا وأغزر علما واذا رأى غيره أكثر منه فى خصلة من خصال الخير يعجز عن لحاقه فيها كاثره بخصلة أخرى هو قادر على المكاثرة بها وليس هذا التكاثر مذموما ولا قادحا فى اخلاص العبد بل هو حقيقة المنافسة واستباق الخيرات
وقد كانت هذه حال الاوس مع الخزرج رضى الله عنهم فى تصاولهم بين يدى رسول الله ومكاثرة بعضهم لبعض فى اسباب مرضاته ونصره وكذلك كانت حال عمر مع أبى بكر رضى الله عنهما فلما تبين له مدى سبقه له قال والله لا أسابقك الى شئ أبدا
فصل: ومن تأمل حسن موقع كلا فى هذا الموضع فانها تضمنت ردعا لهم وزجرا عن التكاثر ونفيا وابطالا لما يؤملونه من نفع التكاثر لهم وعزتهم وكمالهم به فتضمنت اللفظة نهيا ونفيا وأخبرهم سبحانه أنهم لا بد أن يعلموا عاقبة تكاثرهم علما بعد علم وأنهم لا بد أن يروا دار المكاثرين بالدنيا التى ألهتهم عن الاخرة رؤية بعد رؤية وأنه سبحانه لا بد أن يسألهم عن اسباب تكاثرهم من أين استخرجوها وفيما صرفوها
فلله ما أعظمها من سورة وأجلها وأعظمها فائدة وأبلغها موعظة وتحذيرا واشدها ترغيبا فى الآخرة وتزهيدا فى الدنيا على غاية اختصارها وجزالة ألفاظها وحسن نظمها فتبارك من تكلم بها حقا وبلغها رسوله عنه وحيا
فصل: وتأمل كيف جعلهم عند وصولهم الى غاية كل حى زائرين غير مستوطنين بل هم مستودعون فى المقابر مدة وبين أيديهم دار القرار فإذا كانوا عند وصولهم الى الغاية زائرين فكيف بهم وهم فى الطريق فى هذه الدار فهم فيها عابرو سبيل الى محل الزيارة ثم منتقلون من محل الزيارة إلى المستقر فهنا هنا ثلاثة أمور عبور السبيل فى هذه الدنيا وغايته زيارة القبور وبعدها النقلة إلى دار القرار.

ص -195- فصل: فلنرجع الى تمام المناظرة قالوا فالله تعالى حمى أولياءه عن الدنيا وصانهم عنها ورغب بهم عنها تكريما لهم وتطهيرا عن أدناسها ورفعة عن دناءتها وذمهالهم وأخبرهم بهوانها عليه وسقوط قدرها عنده وأعلمهم أن بسطها فتنة وأنه سب الطغيان والفساد فى الارض وإلهاء التكاثر بها عن طلب الاخرة وأنها متاع الغرور وذم محبيها ومؤثريها وأخبر أن من أرادها أو أراد زينتها وحرثها فليس له فى الاخرة من نصيب واخبر أن بسطها فتنة وابتلاء لا كرامة ومحبة وإن إمداد أهلها بها ليس مسارعة لهم فى الخيرات وأنها لا تقرب اليه ولا تزلف لديه وأنه لولا تتابع الناس فى الكفر لأعطى الكفار منها فوق مناهم ووسعها عليهم أعظم التوسعة بحيث يجعل سقوف بيوتهم وأبوابهم ومعارجهم وسررهم كلها من فضة وأخبر أنه زينها لأعدائه ولضعفاء العقول الذين لا نصيب لهم فى الاخرة ونهى رسوله عن مد عينيه اليها والى مامتع به أهلها وذم من أذهب طيباته فيها واستمتع بها وقال لنبيه ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون وفى هذا تعزية لما منعه أولياءه من التمتع بالدنيا وكثرة الأكل فيها وتأديب لمن بسط له فيها ألا يطغى فيها ولا يعطى نفسه شهواتها ولا يتمتع بها ولام سبحانه محبيها المفتخرين بها المكاثرين بها الظانين أن الفضل والكرامة فى سعتها وبسطها فأكذبهم الله سبحانه
واخبر أنه ليس كما قالوه ولا توهموه ومثلها لعباده بالأمثلة التى تدعو كل لبيب عاقل الى الزهد فيها وعدم الوثوق بها والركون اليها فأحضر صورتها وحقيقتها فى قلوبهم بما ضربه لها مثلا كماء أنزله من السماء فخالط نبات الأرض فلما أخذت به الارض زخرفها وتزينت بأنواع النبات أتاها أمره فجعل تلك الزينة يبسا هشيما تذروه الرياح كأن لم يكن قط منه شيء
وأخبر سبحانه عن فنائها وسرعة انقضائها وأنه اذا عاين العبد الأخرة فكأنه لبث فيها ساعة من نهار أو يوما أو بعض يوم ونهى سبحانه عباده

ص -196- أن يغتروا بها واخبرهم أنها لهو ولعب وزينة وتفاخر وتكاثر ومتاع غرور وطريق ومعبر الى الاخرة وأنها عرض عاجل لابقاء له ولم يذكر مريدها بخير قط بل حيث ذكره ذمه وأخبر أن مريدها مخالف لربه تعالى فى ارادته فالله يريد شيئا ومريد الدنيا يريد خلافه فهو مخالف لربه بنفس ارادته كفى بهذا بعدا عنه سبحانه واخبر سبحانه عن أهل النار انهم انما دخلوها بسبب غرور الدنيا وأمانيها لهم قالوا وهذا كله تزهيد لهم منه سبحانه فيها وترغيب فى التقلل منها ما أمكن
قالوا وقد عرضها سبحانه وعرض مفاتيح كنوزها على أحب الخلق اليه وأكرمهم عليه عبده ورسوله محمد فلم يردها ولم يخترها ولو أثرها وارادها لكان أشكر الخلق بما اخذه منها وأنفقه كله فى مرضاة الله وسبيله قطعا بل اختار التقلل منها وصبر على شدة العيش فيها
قال الامام أحمد حدثنا اسماعيل بن محمد حدثنا عباد يعنى ابن عباد حدثنا مجالد بن سعيد عن الشعبى عن مسروق عن عائشة رضى الله عنها قالت: "دخلت على امرأة من الأنصار فرأت فراش رسول الله عباءة مثنية فرجعت الى منزلها فبعثت إلى بفراش حشوه الصوف فدخل على رسول الله فقال ما هذا فقلت فلانة الانصارية دخلت على فرأت فراشك فبعثت الى بهذا فقال رديه فلم أرده وأعجبنى أن يكون فى بيتى حتى قال ذلك ثلاث مرات فقال يا عائشة رديه والله لو شئت لأجرى الله معى جبال الذهب والفضة"
وعرض عليه مفاتيح كنوز الدنيا فلم يأخذها وقال بل أجوع يوما وأشبع يوما فاذا جعت تضرعت اليك وذكرتك وإذا شبعت حمدتك وشكرتك وسأل ربه أن يجعل رزق أهله قوتا كما فى الصحيحين من حديث أبى هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله: "اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا" وفيهما عنه قال: "والذى نفس أبى هريرة بيده ما شبع نبى الله وأهله ثلاثة أيام تباعا من خبز حنطة حتى فارق الدنيا".

ص -197- وفى صحيح البخارى عن أنس رضى الله عنه ما أعلم أن رسول الله رأى رغيفا مرققا ولا شاة سميطا قط حتى لحق بربه وفى صحيحه أيضا عنه قال خرج رسول الله ولم يشبع من خبز الشعير وفى الصحيحين عن عائشة رضى الله عنها: "ما شبع آل محمد منذ قدم المدينة من طعام البر ثلاث ليال تباعا حتى قبض" وفى صحيح مسلم عن عمر رضى الله عنه: "لقد رأيت رسول الله يظل اليوم ما يجد دقلا يملأ بطنه"
وفى المسند والترمذى عن ابن عباس رضى الله عنهما كان رسول الله يبيت الليالى المتتابعات طاويا وأهله لا يجدون عشاء وكان أكثر خبزهم خبز الشعير قال الترمذى هذا حديث حسن صحيح وفى الترمذى من حديث أبى أمامة ما كان يفضل أهل بيت رسول الله خبز الشعير وفى المسند عن عائشة رضى الله عنها والذى بعث محمدا بالحق ما رأى منخلا ولا أكل خبزا منخولا منذ بعثه الله عز وجل الى أن قبض قال عروة فقلت فكيف كنتم تأكلون الشعير قالت كنا نقول أف أى ننفخه فيطير ما طار ونعجن الباقى
وفى صحيح البخارى عن أنس قال: "لقد رهن رسول الله درعه بشعير ولقد سمعته يقول ما أصبح لآل محمد صاع ولا أمسى وانهم لتسعة ابيات" وفى مسند الحارث عن أبى أسامة عن أنس: "أن فاطمة رضى الله عنها جاءت بكسرة خبز الى النبى فقال ما هذه الكسرة يا فاطمة قالت قرص خبزته فلم تطب نفسى حتى أتيتك بهذه الكسرة فقال أما إنه أول طعام دخل فى فم أبيك منذ ثلاثة أيام".
وقال الإمام أحمد حدثنا وكيع حدثنا عبد الواحد بن أيمن عن ابيه عن جابر رضى الله عنه قال لما حفر رسول الله الخندق أصابهم جهد شديد حتى ربط النبى على بطنه حجرا من الجوع
وقد أسرف أبو حاتم بن حبان فى تقاسيمه فى رد هذا الحديث وبالغ

ص -198- فى إنكاره وقال المصطفى أكرم على ربه من ذلك وهذا من وهمه وليس فى هذا ما ينقص مرتبته عند ربه بل ذلك رفعة له وزيادة فى كرامته وعبرة لمن بعده من الخلفاء والملوك وغيرهم وكأن أبا حاتم لم يتأمل سائر الاحاديث فى معيشة النبى وهل ذلك إلا من أعظم شواهد صدقه فإنه لو كان كما يقول أعداؤه وأعداء ربه أنه ملك طالب ملك ودنيا لكان عيشه عيش الملوك وسيرته سيرتهم ولقد توفاه الله وان درعه مرهونة عند يهودى على طعام أخذه لأهله وقد فتح الله عليه بلاد العرب وجبيت اليه الاموال ومات ولم يترك درهما واحدا ولا دينارا ولا شاة ولا بعيرا ولا عبدا ولا أمة
قال الامام أحمد حدثنا حسين بن محمد بن مطرف عن أبى حازم عن عروة أنه سمع عائشة تقول كان يمر بنا هلال وهلال ما يوقد فى بيت من بيوت رسول الله نار قلت يا خالة فعلى أى شئ كنتم تعيشون قالت على الأسودين التمر والماء وقد تقدم حديث أبى هريرة فى قصة أبى الهيثم ابن النبهان وانه خرج رسول الله من بيته فرأى أبا بكر وعمر رضى الله عنهما فقال ما أخرجكما قالا الجوع قال وأنا والذى نفسى بيده لأخرجنى الذى أخرجكما
وذكر أحمد من حديث مسروق قال: "دخلت على عائشة فدعت لى بطعام وقالت ما أشبع من طعام فأشاء أن أبكى الا بكيت قال قلت لم قالت أذكر الحال التى فارق عليها رسول الله الدنيا والله ما شبع فى يوم مرتين من خبز البر حتى قبض" وفيه عنها: "ما شبع رسول الله من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض" والحديثان صحيحان وفيه ايضا عنها ما شبع آل محمد من خبز مأدوم ثلاثة أيام حتى لحق بالله عزوجل وفى الصحيحين عن أبى هريرة: "ما شبع رسول الله وأهله ثلاثا أتباعا من خبز البر حتى فارق الدنيا"
وفى الترمذى عن ابن عباس رضى الله عنهما قال كان النبى يبيت الليالى طاويا وأهله لا يجدون عشاء وكان أكثر خبزهم خبز الشعير

ص -199- وفيه أيضا عن أنس عنه: "لقد اخفت فى الله وما يخاف أحد ولقد أوذيت فى الله وما يؤذى أحد ولقد أتت على ثلاثون من بين يوم وليلة ومالى ولبلال طعام يأكله ولبد إلا شئ يواريه إبط بلال" والحديثان صحيحان وفيه ايضا عن أنس بن مالك رضى الله عنه عن أبى طلحة رضى الله عنه قال: "شكونا الى رسول الله الجوع ورفعنا عن بطوننا حجرا حجرا فرفع رسول الله عن بطنه حجرين" وفيه أيضا عن علقمة عن عبدالله رضى الله عنه قال: "نام رسول الله على حصير فقام وقد اثر فى جنبه فقلنا يا رسول الله لو اتخذنا لك وطاء فقال مالى وللدنيا ما أنا فى الدنيا الا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها" حديث صحيح وفيه عن على رضى الله عنه قال: "خرجت فى يوم شات من بيت رسول الله وقد أخذت اهابا معطونا فجوبت وسطه وأدخلته فى عنقى فشددت به وسطى فحزمته بخوص من النخل وانى لشديد الجوع ولو كان فى بيت رسول الله طعام لطعمت منه فخرجت التمس شيئا فمررت بيهودى فى مال له وهو يسقى ببكرة له فاطلعت عليه من ثلمة من الحائط فقال مالك يا أعرابى وهل لك فى كل دلو بتمرة قلت نعم فافتتح الباب حتى أدخل ففتح فدخلت فأعطانى دلوه فكلما نزعت دلوا أعطانى تمرة حتى امتلأت كفى أرسلت دلوه وقلت حسبى فأكلتها ثم جرعت من الماء فشربت ثم جئت الماء فوجدت رسول الله فيه وقال سعد بن ابى وقاص رضى الله عنه لقد رأيتنا نغزو مع رسول الله ما لنا طعام الا الحبلة وهذا السمر والحبلة ثمر العضاة ذات الشوك" وهو حديث صحيح
وكان يصلى من الليل أحيانا وعليه كساء صوف بعضه عليه وبعضه على عائشة قال الحسن أثمان ستة دراهم أو سبعة وقال أحمد حدثنا أبو سعيد حدثنا أبو زائدة حدثنا عطاء عن أبيه عن على قال جهز رسول الله فاطمة فى خميل وقربة ووسادة من أدم حشوها ليف والخميل الكساء الذى خمل قال وحدثنا بهز بن اسد حدثنا سليمان بن المغيرة عن حميد قال قال أبو بردة دخلت على عائشة فأخرجت إلينا إزارا غليظا

مما

ص -200- يصنع باليمن وكساء من هذه التى تدعونها الملبدة فقالت قبض رسول الله فى هذين الثوبين
قالوا ولو كان الغنى مع الشكر افضل من الفقر مع الصبر لاختاره رسول الله إذ عرضت عليه الدنيا ولأمره ربه أن يسأله إياه كما أمره أن يسأله زيادة العلم ولم يكن رسول الله ليختار الا ما اختاره الله له ولم يكن الله ليختار له الا الافضل اذ كان افضل خلقه وأكملهم
قالوا وقد أخبر النبى أن خير الرزق ما كان بقدر كفاية العبد فلا يعوزه ما يضره ولا يفضل عنه ما يطغيه ويلهيه
قال الامام أحمد حدثنا ابن مهدى حدثنا همام عن قتادة عن خليد العصرى عن أبى الدرداء قال قال رسول الله: "ما طلعت شمس قط الا بعث بجنبيها ملكان يناديان يسمعان أهل الأرض الا الثقلين يا أيها الناس هلموا الى ربكم فإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى ولا آبت شمس قط الا بعث بجنبيها ملكان يناديان يسمعان أهل الأرض الا الثقلين اللهم أعط منفقا خلفا واعط ممسكا تلفا"
وقال الامام أحمد حدثنا وكيع حدثنا أسامة بن زيد عن محمد بن عبد الرحمن ابن ابى لبيبة عن سعد بن مالك رضى الله عنه قال قال رسول الله: "خير الرزق ما يكفى وخير الذكر الخفى".
وتأمل جمعه فى هذا الحديث بين رزق القلب والبدن رزق الدنيا والآخرة واخباره أن خير الرزقين ما لم يتجاوز الحد فيكفى من الذكر اخفاؤه فإن زاد على الاخفاء خيف على صاحبه الرياء والتكبر به على الغافلين وكذلك رزق البدن اذا زاد على الكفاية خيف على صاحبه الطغيان والتكاثر
قالوا وقد غبط رسول الله المتقلل من الدنيا ما لم يغبط به الغنى
قال الامام أحمد حدثنا وكيع حدثنا على بن صالح عن أبى

ص -201- المهلب عن عبيد الله ابن زحر عن على بن يزيد عن القاسم عن أبى أمامة رضى الله عنه قال قال رسول الله: "ان أغبط أوليائى عندى مؤمن خفيف الحاذ ذو حظ من صلاة أحسن عبادة ربه وكان غامضا فى الناس لا يشار اليه بالاصابع فعجلت منيته وقل تراثه وقلت بواكيه" قال عبد الله بن أحمد سألت أبى ما تراثه قال ميراثه
قالوا وحمية الله لعبده المؤمن عن الدنيا انما هو من محبته له وكرامته قال الامام أحمد حدثنا أبو سعيد حدثنا سليمان بن بلال عن عمرو بن أبى عمرو عن عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد رضى الله عنه أن رسول الله قال: "ان الله تبارك وتعالى يحمى عبده المؤمن من الدنيا وهو يحبه كما تحمون مرضاكم الطعام والشراب تخافون عليهم" قالوا وقل أن يقع اعطاء الدنيا وتوسعتها الا استدراجا من الله لا اكراما ومحبة لمن أعطاه
قال الامام أحمد حدثنا يحيى بن غيلان حدثنا رشد بن سعد عن حرملة بن عمران النجبى عن عقبة بن مسلم عن عقبة بن عامر رضى الله عنه عن النبى قال: "اذا رأيت الله يعطى العبد من الدنيا على معاصيه وما يحب فإنما هو استدراج" ثم تلا قوله تعالى فلما نسو ما ذكروا به فتحنا عليهم ابواب كل شيء الآية قالوا ولهوان الدنيا على الله منعها أكثر أوليائه وأحبائه
قال الامام أحمد حدثنا أبو معاوية حدثنا الاعمش عن سالم بن ابى الجعد قال قال رسول الله: "ان من أمتى لو أتى باب احدكم فسأله دينارا لم يعطه اياه ولو سأله فلسا لم يعطه اياه ولو سأل الله تعالى الجنة لأعطاها اياه ولو سأله الدنيا لم يعطها اياه وما يمنعها اياه لهوانه عليه ذو طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره" وهذا يدل على انه انما يمنعه اياها لهوانها عليه لا لهوانه هو عليه ولهذا يعطيه أفضل منها وأجل فإن الله تعالى يعطى الدنيا من يحب ومن لا يحب ولا يعطى الآخرة الا من يحب.

ص -202- قالوا وقد اخبرهم النبى أن أقربهم منه مجلسا ذووا التقلل من الدنيا الذين لم يستكثروا منها قال الامام أحمد حدثنا يزيد بن هرون أخبرنا محمد بن عمرو قال سمعت عراك بن مالك يقول قال ابو ذر: "إنى لأقربكم مجلسا من رسول الله يوم القيامة وذلك إنى سمعته يقول ان أقربكم منى مجلسا يوم القيامة من خرج من الدنيا كهيئة ما تركته فيها وانه والله ما منكم من أحد الا وقد تشبث منها بشيء غيرى" قالوا وقد غبط النبى من كان عيشه كفافا وأخبر بفلاحه قال الامام أحمد حدثنا عبد الله بن يزيد حدثنا حيوة قال أخبرنى أبو هانى أن أبا على الحبشى أخبره أنه سمع فضاله بن عبيد يقول أنه سمع رسول الله يقول: "طوبى لمن هدى الى الاسلام وكان عيشه كفافا وقنع".
وذكر أيضا من حديث عبد الله بن عمر أن رسول الله قال: "قد أفلح من اسلم ورزق كفافا وقنعه الله بما آتاه" قالوا ولو لم يكن فى التقلل الا خفة الحساب لكفى به فضلا على الغنى قال عبد الله بن الامام أحمد حدثنا بيان بن الحكم حدثنا محمد بن حاتم قال حدثنى بشر بن الحارث حدثنا عيسى بن يونس عن هشام عن الحسن قال قال رسول الله: "ثلاثة لا يحاسب بهن العبد ظل خص يستظل به وكسرة يشد بها صلبه وثوب يوارى عورته"
وقال الامام أحمد حدثنا سيار حدثنا جعفر حدثنا ليث عن أبى عثمان قال لما افتتح المسلمون جوجى دخلوا يمشون فيها وأكداس الطعام فيها أمثال الجبال وكان رجل يمشى الى جنب سلمان فقال يا أبا عبد الله ألا ترى الى ما فتح الله علينا ألا ترى الى ما أعطانا الله فقال سلمان وما يعجبك مما ترى الى جنب كل حبة مما ترى حساب
قالوا وقد شهد النبى لأصحابه أنهم يوم فقرهم وفاقتهم خير منهم يوم غناهم وبسط الدنيا عليهم قال الامام أحمد حدثنا عبد الصمد أبو الاشهب عن الحسن قال قال نبى الله: "يا أهل الصفة كيف أنتم"

ص -203- قالوا نحن بخير قال أنتم اليوم خير أم يوم تغدو على أحدكم جفنة وتروح أخرى ويغدو فى حلة ويروح فى أخرى وتسترون فى بيوتكم مثل أستار الكعبة قالوا يا نبى الله نحن يومئذ خير يعطينا ربنا تبارك وتعالى فنشكر قال: "بل أنتم اليوم خير" فهذا صريح فى أنهم فى وقت صبرهم على فقرهم خير منهم فى وقت غناهم مع الشكر
وقال عبد الله بن أحمد حدثنا أبن ذر حدثنا حفص بن غياث عن داود بن أبى هند عن أبى حرب بن أبى الاسود عن طلحة البصرى قال قدمت المدينة ولم يكن لى بها معرفة فكان يجرى علينا مد من تمر بين اثنين فصلى بنا رسول الله صلاة فهتف به هاتف من خلفه فقال يا رسول الله قد حرق بطوننا التمر وعرفت عنا الكنف فخطب فحمد الله وأثنى عليه وقال: "والله لو أجد لكم اللحم والخبز لأطعمتكموه وليأتين عليكم زمان تغدو على أحدكم الجفان وتراح ولتلبسن بيوتكم مثل أستار الكعبة قالوا يا رسول الله نحن اليوم خير منا أو يومئذ قال بل أنتم اليوم خير منكم يومئذ أنتم اليوم خير منكم يومئذ يضرب بعضكم رقاب بعض"
قال الامام أحمد وحدثنا عبد الوهاب عن سعيد عن قتادة قال ذكر لنا أن نبى الله دخل على أهل الصفة فذكر نحوه
قالوا ولو لم يكن فى الغنى والمال الا أنه فتنة وقل من سلم من اصابتها له وتأثيرها فى دينه كما قال تعالى {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} وفى الترمذى من حديث كعب ابن عياض قال سمعت رسول الله يقول ان لكل أمة فتنة وفتنة أمتى المال قال هذا حديث + حسن صحيح + قالوا والمال يدعو الى النار والفقر يدعو الى الجنة قال الامام أحمد حدثنا يزيد حدثنا أبو الاشهب حدثنا سعيد بن أيمن مولى كعب بن سور قال بينا رسول الله يحدث أصحابه اذ جاء رجل من الفقراء فجلس الى جنب رجل من الاغنياء فكأنه قبض من ثيابه عنه فقال

ص -204- رسول الله: "أخشيت يا فلان أن يغدو وغناك عليه أو يغدو فقره عليك قال يا رسول الله وشر الغنى قال نعم ان غناك يدعوك الى النار وان فقره يدعوه الى الجنة قال فما ينجينى منه قال تواسيه قال اذن افعل فقال الآخر لا أرب لى فيه قال فاستغفر وادع لأخيك"
قالوا وحق الغنى أعظم من أن يقوم العبد بشكره وقد روى الترمذى فى جامعه من حديث عثمان بن عفان رضى الله عنه أن النبى قال ليس لابن آدم حق فى سوى هذه الخصال بيت يسكنه وثوب يوارى به عورته وجلف الخبز والماء قال هذا حديث حسن صحيح وفى صحيح مسلم عن أبى أمامة رضى الله عنه قال قال رسول الله: "يا ابن آدم انك ان تبذل الفضل خير لك وأن تمسكه شر لك ولا تلام على كفاف وابدأ بمن تعول واليد العليا خير من اليد السفلى".
وفى صحيحه أيضا من حديث أبى نضرة عن أبى سعيد رضى الله عنه قال بينما نحن فى سفر مع رسول الله اذ جاء رجل على راحلة له فجعل يضرب يمينا وشمالا فقال رسول الله: "من كان معه فضل من ظهر فليعد به على من لا ظهر له ومن كان عنده فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له قال فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى ظننا أنه لا حق لأحد منا فى فضل".
قالوا فهذا موضع النظر فى تفضيل الغنى الشاكر ببذل الفضل كله وأما غنى يمتع بأنواع الفضل ويشكر بالواجب وبعض المستحب فكيف يفضل على فقير صابرا راض عن الله فى فقره قالوا وقد أقسم رسول الله لأصحابه وهم أئمة الشاكرين أنه لا يخاف عليهم الفقر وانما يخاف عليهم الغنى ففى الصحيحين من حديث عمرو بن عوف وكان شهد بدرا أن رسول الله بعث أبا عبيدة بن الجراح الى البحرين يأتى بجزيتها وكان رسول الله صالح أهل البحرين وأمر عليهم العلاء بن الحضرمى فقدم أبو عبيدة بمال من البحرين فسمعت الانصار بقدوم أبى عبيدة فوافوا صلاة

ص -205- الفجر مع رسول الله فلما صلى رسول الله انصرف فتعرضوا له فتبسم رسول الله حين رآهم ثم قال: "أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشئ من البحرين فقالوا أجل يا رسول الله قال أبشروا وأملوا ما يسركم فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكنى أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتتنافسوا فيها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم".
قال الامام أحمد حدثنا روح حدثنا هشام عن الحسن قال قيل لأبى ثعلبة الخشنى أين دنياكم والتى كنتم تعدون يا أصحاب محمد قال ليبشر الآخر بدنيا قد ظلت تأكل والله الذى لا اله الا هو الايمان كما تأكل النار الحطب الجزل وقال أحمد حدثنا يزيد حدثنا هشام بن حسان قال سمعت الحسن يقول: "والله ما أحد من الناس بسط الله له دنياه فلم يخف أن يكون قد مكر به فيها الا كان قد نقص علمه وعجز رأيه وما أمسكها الله عن عبد فلم يظن أنه قد خير له فيها إلا كان قد نقص علمه وعجز رأيه".
قالوا وقد مر على النبى فقير وغنى فقال عن الفقير: "هذا خير من ملء الأرض مثل هذا" وروى البخارى فى صحيحه عن سهل بن سعد رضى الله عنه قال مر رجل على رسول الله فقال: "ما تقولون فى هذا فقالوا جرى ان خطب أن ينكح وان شفع أن يشفع وان قال أن يسمع قال ثم سكت فمر رجل من فقراء المسلمين فقال ما تقولون فى هذا قالوا حرى ان خطب أن لا ينكح وان يشفع الأيشفع وان قال ان لا يسمع لقوله فقال رسول الله هذا خير من ملء الارض مثل هذا".
وقد بشر رسول الله الفقراء الصابرين بما لم يبشر به الأغنياء ففى الترمذى من حديث فضالة بن عبيد أن رسول الله: "كان إذا صلى بالناس يخر رجال من قامتهم فىالصلاة من الخصاصة وهم أصحاب الصفة حتى يقول الاعراب هؤلاء مجانين فإذا صلى رسول الله انصرف اليهم وقال لو تعلمون ما لكم عند الله لأحببتم أن تزدادوا فاقة وحاجة" قال فضالة وأنا يومئذ مع رسول الله وبشرهم بسبقهم الاغنياء الى الجنة.

ص -206- وقد اختلفت الروايات فى مدة هذا السبق ففى صحيح مسلم عن عبد الله ابن عمر أنه جاء ثلاثة نفر فقالوا يا أبا محمد والله ما نقدر على شئ لا نفقة ولا دابة ولا متاع فقال لهم ما شئتم ان شئتم رفعتم الينا فأعطيناكم ما يسر الله لكم وان شئتم ذكرنا أمركم للسلطان وان شئتم صبرتم فإنى سمعت رسول الله يقول: "ان فقراء المهاجرين يسبقون الاغنياء يوم القيامة بأربعين خريفا قالوا نصبر ولا نسأل شيئا".
وقال الامام أحمد حدثنا عفان حدثنا حماد بن بن سلمة عن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله قال: "يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل أغنيائهم بنصف يوم وهو خمسمائة عام" قال الترمذى حديث حسن صحيح وفى الترمذى أيضا من حديث أبى سعيد قال قال رسول الله: "فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بخمسمائة سنة" وهو حديث حسن وفيه وأيضا من حديث جابر بن عبد الله رضى الله عنه عن النبى قال: "يدخل فقراء أمتى الجنة قبل أغنيائهم بأربعين خريفا" وهو حديث حسن وهو موافق لحديث عبد الله بن عمر ولحديث أنس الذى فى الترمذى: "ان المساكين يدخلون قبل الاغنياء باربعين خريفا".
فهؤلاء ثلاثة جابر وأنس وعبد الله بن عمر وقد اتفقوا على الاربعين وهذا أبو هريرة وأبو سعيد قد اتفقا على التقدير بخمسمائة سنة ولا تعارض بين هذه الاحاديث إذ التأخر والسبق درجات بحسب الفقر والغنى فمنهم من يسبق باربعين ومنهم من يسبق بخمسمائة ولا يتقيد السبق بهذا المقدار بل يزيد عليه وينقص.
وقد روى أبو داود فى سننه من حديث أبى هريرة عن النبى: "أن أول الامة دخولا الى الجنة أبو بكر الصديق رضى الله عنه" ومعلوم أن المدة التى بينه وبين اخوانه من فقراء المهاجرين لا تطول وانها أطول مدة بين دخوله وبين دخول آخر من يدخل الجنة
وقد روى الامام أحمد فى مسنده من حديث عبد الله بن عمر رضى

ص -207- الله عنه عن النبى أنه قال: "هل تدرون أول من يدخل الجنة قالوا الله ورسوله أعلم قال فقراء المهاجرين الذين تتقى بهم المكاره يموت أحدهم وحاجته فى صدره لا يستطيع لها قضاء تقول الملائكة يا ربنا ملائكتك وخزنتك وسكان سماواتك لا تدخلهم الجنة قبلنا فيقول عبادى لا يشركون بى شيئا يتقى بهم المكاره يموت أحدهم وحاجته فى صدره لا يستطيع لها قضاء فعند ذلك تدخل عليهم الملائكة من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار".
وقال الامام أحمد حدثنا حسين بن محمد ثنا دويد عن مسلم بن بشير عن عكرمة عن ابن عباس رضى الله عنهما قال قال رسول الله: "التقى مؤمنان على باب الجنة مؤمن غنى ومؤمن فقير كانا فى الدنيا فأدخل الفقير الجنة وحبس الغنى ما شاء الله أن يحبس ثم أدخل الجنة فلقيه الفقير فيقول أى أخى ماذا حبسك والله لقد احتبست حتى خفت عليك فيقول أى أخى انى حبست بعدك محبسا فظيعا كريها ما وصلت اليك حتى سال منى من العرق ما لو ورده ألف بعير كلها أكلت حمصا لصدرت عنه رواء" وقال الطبرانى فى معجمه حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمى وعلى بن سعيد الرازى قالا حدثنا على بن بهرام العطار حدثنا عبد الملك ابن أبى كريمة عن الثورى عن محمد بن زيد عن أبى حازم عن أبى هريرة رضى الله عنه قال سمعت رسول الله يقول: "إن فقراء المؤمنين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بنصف يوم وذلك خمسمائة سنة فقال رجل أمنهم أنا يا رسول الله قال إن تغديت رجعت على عشاء وإذا تعشيت يبيت معك غداء قال نعم قال لست منهم فقام رجل فقال أمنهم أنا يارسول الله قال هل سمعت ما قلنا لهذا قال نعم ولست كذلك قال هل تجد ثوبا ستيرا سوى ما عليك قال نعم قال فلست منهم فقام آخر فقال أمنهم أنا يا رسول الله فقال هل سمعت ما قلت لهذين قبلك قال نعم قال هل تجد قرضا كلما شئت أن تستقرض قال نعم قال فلست منهم فقام

ص -208- آخر فقال أمنهم أنا يارسول الله فقال هل سمعت ما قلت لهؤلاء قال نعم قال تقدر ان تكتسب قال نعم قال فلست منهم قال فقام خامس فقال أنا منهم يا رسول الله فقال هل سمعت ما قلت لهؤلاء قال نعم قال هل تمسى عن ربك راضيا وتصبح كذلك قال نعم قال فأنت منهم قال النبى ان سادات المؤمين فى الجنة من اذا تغدى لم يجد عشاء واذا تعشى لم يبت عنده غداء وان استقرض لم يجد قرضا وليس له فضل كسوة إلا ما يوارى به مالا يجد منه بدا ولا يقدر على أن يكتسب ما يعشيه ويمسى عن الله راضيا ويصبح راضيا أولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا" قال الطبرانى هذا حديث غريب من حديث سفيان الثورى عن محمد بن زيد يقال هو العبدى تفرد به عبد الملك
قلت محمد هذا هو العبدى وثقه قوم وضعفه آخرون قال الداقطنى ليس بالقوى وقال أبو حاتم صالح الحديث وذكره ابن حبان فى الثقات وروى له الترمذى وابن ماجه وفى هذه الطبقة محمد بن زيد الشامى يروى عن أبى سلمة بن عبد الرحمن وهو متروك ونخاف أن يكون هذا هو الثورى لم ينسبه وانما يقال هو العبدى والله أعلم
وقال الامام أحمد حدثنا اسماعيل بن ابراهيم حدثنا هشام الدستوائى عن يحيى ابن أبى كثير عن عامر العقيلى عن أبيه عن أبى هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله: "عرض على أول ثلاثة يدخلون الجنة وأول ثلاثة يدخلون النار فأما أول ثلاثة يدخلون الجنة فالشهيد وعبد مملوك لم يشغله رق الدنيا عن طاعة ربه وفقير متعفف ذو عيال وأما أول ثلاثة يدخلون النار فأمير مستلط وذو ثروة من مال لا يؤدى حق الله فى ماله وفقير فخور" وروى الترمذى منه ذكر الثلاثة الذين يدخلون الجنة فقط
قالوا ويكفى فى فضل الفقير أن عامة أهل الجنة الفقراء وعامة أهل النار الاغنياء قال الامام أحمد حدثنا عبد الله بن محمد بن أبى شيبة حدثنا

ص -209- شريك عن ابى اسحاق عن السائب بن مالك عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما قال قال رسول الله: "أطلعت فى الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء واطلعت فى النار فرأيت أكثر اهلها الأغنياء والنساء".
وفى صحيح البخارى عن أبى رجاء قال جاء عمران بن حصين الى امرأته من عند رسول الله فقالت حدثنا ما سمعت من النبى فقال انه ليس من حديث فلم تدعه أو قال فأغضبته فقال سمعت رسول الله يقول: "نظرت فى الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء ونظرت فى النار فرأيت أكثر أهلها النساء".
وفى الصحيحين من حديث أسامة بن زيد أن رسول الله قال: "قمت على باب الجنة فإذا عامة من دخلها المساكين وقمت على باب النار فإذا عامة من دخلها النساء" وفى صحيح مسلم عن ابن عباس: "أن النبى اطلع فى النار فرأى أكثر أهلها النساء واطلع فى الجنة فرأى أكثر أهلها الفقراء".
قالوا ويكفى فى فضل الفقر أن كل أحد يتمناه يوم القيامة من الاغنياء قال الامام احمد حدثنا عبد الله بن نمير حدثنا اسماعيل يعنى ابن خالد عن نفيع عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال قال رسول الله ما من أحد يوم القيامة غنى ولا فقير الا ود أن ما كان أوتى فى الدنيا قوتا قال البخارى يتكلمون فى نفيع وهذا أليق ما قيل فيه
قالوا وقد صرح رسول الله فى تفضيل الفقراء فى غير حديث فمنها ما تقدم من حديث سهل بن سعد وقال الإمام أحمد حدثنا أبو معاويه حدثنا الاعمش عن زيد بن وهب عن أبى ذر رضى الله عنه قال قال رسول الله: "يا أبا ذر ارفع بصرك فانظر أرفع رجل تراه فى المسجد قال فنظرت فإذا رجل جالس عليه حلة له قال فقلت هذا قال فقال يا أبا ذر ارفع بصرك فانظر أوضع رجل تراه في المسجد قال

ص -210- فنظرت فاذا رجل ضعيف عليه أخلاق قال فقلت هذا قال فقال رسول الله والذى نفسى بيده لهذا أفضل عند الله يوم القيامة من قراب الارض من هذا".
قال حدثنا وكيع ووافقه زائد حدثنا الاعمش عن سليمان بن يسار عن خرشة ابن الحر عن أبى ذر فذكره وقال لهذا خير عند الله يوم القيامة من ملء الارض مثل هذا قال الامام أحمد وحدثنا أبو معاوية ووافقه يعلى قال حدثنا الاعمش عن زيد بن وهب عن أبى ذر فذكره
قالوا والذى يفصل بيننا فى هذه المسألة ويشفى العليل أن الفقر يوفر أجر صاحبه ومنزلته عند الله والغنى ولو شكر فإن ما ناله فى الدنيا بغناه يحسب عليه من ثوابه يوم القيامة وان تناوله بأحل وجه فقليل الفضل فى الدنيا ناقص من كثير الآخرة وفى صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمر أن رسول الله قال: "ما من غازية تغزو فى سبيل الله فيصيبون الغنيمة إلا تعجلوا ثلثى أجرهم من الآخرة ويبقى لهم الثلث وان لم يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم".
وفى الصحيحين عن خباب بن الارت رضى الله عنه قال: "هاجرنا مع رسول الله نلتمس وجه الله فوقع أجرنا على الله فمنا من مات لم يأكل من أجره شيئا منهم مصعب بن عمير رضى الله عنه قتل يوم أحد وترك بردة فكنا اذا غطينا بها رأسه بدت رجلاه وإذا غطينا رجلاه بدا رأسه فأمرنا رسول الله أن نغطى رأسه ونجعل على رجليه شيئا من الاذخر ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهديها" وفى الصحيحين عن قيس بن أبى حازم قال دخلنا على خباب نعوده وقد اكتوى سبع كيات فقال ان أصحابنا الذين سلفوا مضوا ولم تنقصهم الدنيا وذكر الحديث وقال سعيد بن منصور حدثنا معاوية عن الاعمش عن مجاهد عن ابن عمر رضى الله عنهما قال: "ما أوتى عبد من الدنيا شيئا إلا نقص من درجاته عند الله وان كان عليه كريما".

ص -211- وفى صحيح البخارى عن ابراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال: "أوتى عبد الرحمن رضى الله عنه بطعام وكان صائما فقال قتل مصعب بن عمير وهو خير منى وكفن فى بردة ان غطى رأسه بدت رجلاه وان غطى رجلاه بدا رأسه وقتل حمزة رضى الله عنه وهو خير منى فلم يوجد له كفن إلا بردة ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط أو قال أعطينا من الدنيا ما أعطينا وقد خشيت أن تكون عجلت لنا طيباتنا فى حياتنا الدنيا ثم جعل يبكى حتى ترك الطعام".
قال أبو سعيد بن الاعرابى وليس عبد الرحمن بن عوف وخباب قالا ذلك دون غيرهما لقد قاله الأكابر من أصحاب رسول الله وكرهوا ما فتح الله عليهم من الدنيا وأشفقوا منه وعلموا أن ما اختاره الله لنبيه كان أفضل وأن ما أخروا له كان أنقص منهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلى وأبو عبيدة وعمار بن ياسر وسلمان وعبد الله بن مسعود وعائشة أم المؤمنين وأبو هاشم بن عتبة وجماعة لم نذكرهم للاختصار رضى الله عنهم
فأما أبو بكر رضى الله عنه فحدثنا ابن ابى الدنيا حدثنا عبد الرحمن بن ابان الطائى حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث حدثنا عبد الواحد بن زيد حدثنى سلمان عن مرة عن زيد بن أرقم رضى الله عنه قال كنا مع أبى بكر الصديق رضى الله عنه فدعا بشراب فأتى بماء وعسل فلما أدناه من فيه بكى وبكى حتى أبكى أصحابه فسكتوا وما سكت ثم عاد وبكى حتى ظنوا أنهم لم يقدروا على مسألته قال ثم مسح عينيه فقالوا يا خليفة رسول الله ما أبكاك فقال كنت مع رسول الله فرأيته يدفع عن نفسه شيئا ولم أر معه أحدا فقلت يا رسول الله ما الذى تدفع عن نفسك قال هذه الدنيا مثلت لى فقلت لها اليك عنى ثم رجعت فقالت انك ان أفلت منى فلن يفلت منى من بعدك
وذكر ليث عن ابن سعد عن صالح بن كيسان عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه أن أبا بكر رضى الله عنه قال فى مرضه الذى

ص -212- مات فيه إنى وليت أمركم وانى لست بخيركم وكلكم ورم أنفه من ذلك أن يكون هذا الامر له وذلك لما رأيت الدنيا قد أقبلت وأقبلت ولم تقبل حتى يتخذوا نضائد الحرير وستور الديباج وحتى يألم أحدكم من الاضطجاع على الصوف كما يألم من الاضطجاع على الحسك والسعدان ثم أنتم أول ضال بالناس تصفقون يمينا وشمالا ما هذا الطريق أخطأت انما هو البحر أو الفجر والله لئن يقدم أحدكم فتضرب عنقه فى غير حد خير له من أن يخوض غمرات الدنيا
وذكر محمد بن عطاء بن خباب قال كنت جالسا مع أبى بكر فرأى طائرا فقال طوبى لك يا طائر تأكل من هذا الشجر ثم تبعر ثم لا تكون شيئا وليس عليك حساب وددت أنى مكانك فقلت له أتقول هذا وأنت صديق رسول الله
وأما عمر رضى الله عنه فإنه لما اتى بكنوز كسرى بكى فقال له عبد الرحمن ابن عوف ما الذى يبكيك يا أمير المؤمنين فوالله ان هذا ليوم شكر ويوم سرور ويوم فرح فقال عمر ان هذا لم يعطه قوم الا ألقى الله بينهم العداوة والبغضاء ودخل عليه أبو سنان الدؤلى وعنده نفر من المهاجرين فأرسل عمر الى سفط أتى به من قلعة بالعراق وكان فيه خاتم فأخذه بعض ولده فأدخله فى فيه فانتزعه عمر منه ثم بكى فقال له من عنده لم تبكى وقد فتح الله لك وأظهرك وأقر عينك فقال سمعت رسول الله يقول: "لا تفتح الدنيا على أحد الا ألقى الله بينهم العداوة والبغضاء الى يوم القيامة وأنا مشفق من ذلك".
قال أبو سعيد وجدت فى كتاب بخط يدى عن أبى داود قال حدثنا محمد بن عبيد حدثنا حماد حدثنا يونس عن الحسن أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أتى بقلنسوة بغزوة كسرى بين يديه وفى القوم سراقة بن مالك فألقى اليه سوارى كسرى فجعلهما فى يديه فبلغا منكبيه فلما رآهما فى يد سراقة قال الحمد لله سوارا كسرى بن هرمز فى يد سراقة بن مالك بن جعشم

ص -213- أعرابى من بنى مدلج ثم قال اللهم قد علمت أن رسولك قد كان يحب أن يصيب مالا فينفقه فى سبيلك وعلى عبادك فزويت ذلك عنه نظرا منك له واختيارا اللهم انى أعوذ بك أن يكون هذا مكر منك بعمر ثم قال {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ}
والمقصود أن سعة الدنيا وبسطها تعجيل من أجل الآخرة وتضييق من سعتها قال عبد الرزاق أنبأنا معمر عن الزهرى عن ابن أبى صغيرة عن جابر بن عبدالله رضى الله عنهما: "قال لما كان يوم أحد أشرف النبى على الشهداء الذين قتلوا يومئذ فقال انى شهيد على هؤلاء فزملوهم بدمائهم" قال معمر وأخبره فيمن سمع الحسن يقول قال النبى: "هؤلاء قد مضوا وقد شهدت عليهم لم يأكلوا من أجورهم شيئا وانكم قد أكلتم من أجوركم وانى لا أدرى ما تحدثون بعدى".
وقال ابن المبارك أخبرنا جرير بن حازم قال سمعت الحسن يقول: "خرج رسول الله بأصحابه الى بقيع الغرقد فقال السلام عليكم يا أهل القبور لو تعلمون ما نجاكم الله منه مما هو كائن بعدكم ثم أقبل على أصحابه فقال هؤلاء خير منكم فقالوا يا رسول الله اخواننا أسلمنا كما أسلموا وهاجرنا كما هاجروا وجاهدنا كما جاهدوا وأتوا على آجالهم فمضوا فيها وبقينا فى آجالنا فما يجعلهم خيرا منا فقال ان هؤلاء خرجوا من الدنيا ولم يأكلوا من أجورهم شيئا وخرجوا وأنا شهيد عليهم وأنتم قد أكلتم من أجوركم ولا أدرى ما تحدثون بعدى قال فلما سمعها القوم والله عقلوها وانتفعوا بها فقالوا وانا لمحاسبون بما أصبنا من الدنيا بعدهم وانه لمنتقص به من أجورنا فأكلوا طيبا وأنفقوا قصدا وقدموا فضلا".
وقال عبد الله بن أحمد قرأت على ابى هذا الحديث حدثنا اسود بن

ص -214- عامر حدثنا اسرائيل عن ثوير عن مجاهد عن ابن عمر قال: "ما أعطى رجل من الدنيا الا نقص من درجته".
قالوا وقد صرح سادات الاغنياء بأنهم ابتلو بالضراء فصبروا وابتلوا بالسراء فلم يبصروا قال ذلك عبد الرحمن وغيره وكان هذا مصداقا لما رواه مصعب بن سعد عن ابيه قال قال رسول الله: "لأنا من فتنة السراء أخوف عليكم من فتنة الضراء أنكم ابتليتم بالضراء فصبرتم وان الدنيا حلوة خضرة".
قالوا وها هنا قضيتان صادقتان بهما يتبين الفضل احداهما أن الاكثرين هم الاقلون وقد تقدم الدليل عليها بما فيه الكفاية
وأما الثانية ففى الصحيحين من حديث أبى ذر رضى الله عنه قال: "خرجت ليلة من الليالى فإذا رسول الله يمشى وحده ليس معه انسان قال فظننت أنه يكره أن يمشى معه أحد فجعلت أمشى فى ظل القمر فالتفت فرآنى فقال من هذا قلت أبو ذر جعلنى الله فداك قال يا أبا ذر تعال فمشيت معه ساعة فقال ان المكثرين هم المقلون يوم القيامة الا من أعطاه الله خيرا فنفخ فيه يمينه وشماله وبين يديه ووراءه وعمل فيه خيرا" وذكر الحديث
قالوا ولو كان الغنى افضل من الفقر لما حض الله رسوله على الزهد فى الدنيا والاعراض عنها وذم الحرص عليها والرغبة فيها بل كان ينبغى أن يحض عليها وعلى اكتسابها والاكثار منها كما حض على اكتساب الفضائل التى بها كمال العبد من العلم والعمل فلما حض على الزهد فيها والتقلل دل على أن الزاهدين فيها المتقللين منها أفضل الطائفتين وقد أخبر أنها لو ساوت عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء وأنها أهون على الله من السخلة الميتة على أهلها وان مثلها فى الآخرة كمثل ما يعلق بأصبع من أدخل أصبعه فى البحر وأنها ملعونة ملعون ما فيها الا

ص -215- ذكر الله وما والاه وعالم ومتعلم وأنها سجن المؤمنين وجنة الكافرين وأمر العبد أن يكون فيها كأنه غريب أو عابر سبيل ويعد نفسه من أهل القبور واذا أصبح فلا ينتظر المساء واذا أمسى فلا ينتظر الصباح ونهى عن اتخاذ ما يرغب فيها ولعن عبد الدينار وعبد الدرهم ودعا عليه بالتعس والانتكاس وعدم اقالة العثرة بالانتقاش
وأخبر أنها خضرة حلوة أى تأخذ العيون بخضرتها والقلوب بحلاوتها وأمر باتقائها والحذر منها كما يتقى النساء ويحذر منهن وأخبر أن الحرص عليها وعلى الرياسة والشرف يفسد الدين كإفساد الذئبين الضاربين اذا ارسلا فى زريبة غنم أو أشد افسادا وأخبر أنه فى الدنيا كراكب استظل تحت شجرة فى يوم صائف ثم راح وتركها
وهذه في الحقيقة حال سكان الدنيا كلهم ولكن هو شهد هذه الحال وعمى عنها بنو الدنيا ومر بهم وهم يعالجون خصا لهم قد وهى فقال: "ما أرى الأمر ألا أعجل من ذلك" وأمر بستر على بابه فنزع وقال انه يذكرنى الدنيا وأعلم الناس أنه ليس لأحد منهم حق فى سوى بيت يسكنه وثوب يوارى عورته وقوت يقيم صلبه وأخبر أن الميت يتبعه أهله وماله وعمله فيرجع أهله وماله ويبقى عمله وأخبر أن للمتخوض فيما شاءت نفسه من مال الله بغير حق النار يوم القيامة وأقسم أنه لا يخاف الفقر على أصحابه وانما يخاف عليهم الدنيا وتنافسهم فيها وإلهائها لهم وأخبر أنه ليس لابن آدم من ماله إلا ما أكل فأفنى أو لبس فأبلى أو تصدق فأمضى وأخبر أن حسب ابن آدم من الدنيا لقيمات يقمن صلبه فإن لم يقتصر عليها فثلث بطنه لطعامه وثلثه لشرابه وثلثه لنفسه وفى هذا الحديث الارشاد إلى صحة القلب والبدن والدين والدنيا
وأخبر أن غنى العبد فيها غنى نفسه لا كثرة عرضه وسأل الله أن يجعل رزقه فيها قوتا وغبط من كان رزقه فيها كفافا بعد أن هدى للاسلام وأخبر أن من كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه وشتت
=====

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق